آخر الأخبار
موضوعات

الاثنين، 3 أكتوبر 2016

- كيف تهاجر من الدنيا إلى الاخرة ؟

عدد المشاهدات:
هجرة الدُّنيا والدَنَايا
-----------------
إذا استطاع الإنسان أن يهاجر هذه الهجرة فيرتقى منها إلي هجرة أعظم، فيرتقى إلي هجرة بفضل الله من الدنيا إلي الآخرة، فيرى الأعمال التي وصفها الله في القرآن بأنها هي الدنيا ولا يأخذ منها إلا الضرورات متأسياً بحبيب الله ومصطفاه، وهمه يكون كله في الأعمال التي توصله إلي رضوان الله في الدار الآخرة، ما الدنيا يا ربّ؟
قال:  اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلَادِ  [20 الحديد].
لَعِبٌ : .............
لو أنني في لعب إذاً أنا في الدنيا، كمن يجلسون علي المقهى يلعبون الطاولة أو الدومينو للتسالي - ليس علي مال فهو قمار - فهؤلاء في الدنيا، والحُكم في ذلك حَكَمَ به النبيُّ صلي الله عليه وسلم فقال: {اللاَّعِبُ بالنَّرْدِ – قماراً - كآكِلِ لحمِ الخِنْزِيرِ، واللاَّعِبُ بِهَا عن غيرِ قمارٍ كالمُدَّهِنِ بِوَدَكِ الخِنْزِيرِ } (سنن البيهقي الكبرى عن عبد الله بن عمر).
الخنزير نجس، إذاً لماذا يضع الإنسان يده في هذه النجاسات!! فبدلاً من أن أمسك الزهر أمسك بالمسبحة فأستغفر الله، أو أذكر الله، أو أصلي علي رسول الله، فأدخل في قول الله: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً [46الكهف]
وَلَهْوٌ ................
وكذلك اللهو، كالذهاب إلي السينمات والمسارح!
الترويح مطلوب وحبب النبي صلي الله عليه وسلم فيه وقال: {ثَلاَثٌ يَجْلِينَ الْبَصَرَ: النَّظَرُ إِلي الْخُضْرَةِ ، وَإِلي الْمَاءِ الْجَارِي، وَإِلي الْوَجْهِ الْحَسَنِ} (ورد في جامع المسانيد والأحاديث (ك) في تاريخهِ عن عليّ وعن ابنِ عمروٍ (أَبو نعيم ) في الطُّب عن عائشةَ (الْخرائطي في اعتِلاَلِ الْقلوب ) عن أَبي سعيدٍ رضيَ اللَّهُ عنهُ).
فإذا تنزه الإنسان في حديقة يكون دائماً في خاطره: قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [101يونس]، ينظر ليعتبر: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ [190آل عمران].
فيكون كل نظره للعبرة، فأي شئ ينظر إليه يجد فيه عبرة ويجد فيه ذكرى ويجد فيه عظة بليغة، لكن لا يُضيع وقته في مثل هذا اللهو، الكل مطالب أن يمارس رياضة، لكن مشاهدة القنوات الرياضية ما الفائدة منها؟!!
**** الذين يلعبون يكسبون ولو تأخر عنهم المكسب لما لعبوا لأنها أصبحت حرفة، لكن ما مكسبي أنا؟!! يجب علي المؤمن دائماً أن يستغل كل نَفَس فيما يحقق له ربحاً إما في الدنيا أو الآخرة، فبدلاً من الجلوس لمدة ساعتين لمشاهدة مباراة أنظر في كتاب الله، أو أقرأ باب من العلم النافع، أو غير ذلك من هذا القبيل، لكن لا بأس من ممارسة الرياضة، والأصعب من ذلك هو التعصب للأندية فتجد الحوارات والنقاشات التي لا فائدة منها، إلا أنه قطع الوقت فيما لا يفيد، وهذا اسمه اللغو، فاللغو هو الكلام الذي لا يفيد، وما صفة المؤمنون يا ربّ؟ قال: وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُون [3المؤمنون].
لكن لو غيبة أو نميمة فإن لها محاضر فورية، ولا يتم حفظ أي محضر إلا بمصالحة صاحب المحضر نفسه ليتنازل عن القضية!!
فالمؤمن ليس عنده وقت للغو ولا للهو ولا للسهو، وإنما دائماً وأبداً ذاكرٌ لمولاه، وخاصة أن الله قال لنا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا [41الأحزاب]،
و ... (كثيراً): ليس لها حدود!!.
وَزِينَةٌ ، ..............
والزينة: هي التي تشغل عن الله، لكن كونك مؤمن فأنت مطالب أن تتجمل: {إِنَّ الله يُحِبُّ أَنْ يرَى أَثَرُ نِعْمَتِهِ عَلي عَبْدِهِ} (مسند الإمام أحمد عن أبى هريرة).
لكن لا يجب علي الإنسان أن يهتم بمظهره زيادة عن اللزوم وينشغل به حتى عن عمله: {إِنَّ الله جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ} (رواه مسلم عن بن مسعود رضي الله عنه، ونص الحديث: «لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ» قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنا، وَنَعْلُهُ حَسَنَةً. قَالَ: «إِنَّ الله جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ. الْكِبْرُ: بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ»).
ولكن بشرط ألا يشغل البال، كيف؟!! قال رجل لأحد الصالحين: أريد أن أُحضر لك ثوباً، قال له: لا مانع بشرط أن تأتيني بثوب يخدمني لا ثوباً أخدمه!! فالمؤمن نظيف يحب النظافة وجميل يحب الجمال ولكن بشرط ألا تشغل الإنسان هذه الأشياء عن طاعة الله وذكر الله والإقبال علي الله، وإلا ستكون من الحياة الدنيا، سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم كان ذات مرة علي المنبر، وكان قد لبس خاتماً جديداً، وإذا به يخلع الخاتم ويرمى به، فقالوا له: ما هذا يا رسول الله؟ قال ما معناه: {هذا شغلني عنكم!! مرة أنظر إلى الخاتم ومرة أنظر إليكم فخلعته}
وقال في ذلك رجل من الصالحين: (كل ما شغل الإنسان عن الله من مال أو ولد فهو مشئوم ) (جامع العلوم والحكم). أقوم للولد بواجبي نحوه، لكن لا يشغلني عن طاعة الله وعن عبادة الله وعن رضا الله جلَّ في علاه.
وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ، .....
بعض المجالس لا يكون الحديث فيها إلا عن الأنساب والعائلات، هل المؤمن عنده وقت لهذا الكلام؟!! نحن لو تكلمنا نتكلم عن ديننا، وعن الله، وعن نبيِّنا، وعن صحابة نبينا. فهذه أحاديثنا، قال صلي الله عليه وسلم: {إنَّ اللَّهَ أَوْحَى إلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لاَ يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلي أَحَدٍ} (رواه مسلم في الصحيح عن أبي عمار).
لكن بِمَ تفتخر؟ افتخر بأخلاقك وعباداتك وأعمالك الصالحة، لكن أبي وأمي رحمهم الله وأفضوا إلي رحمة الله عزَّ وجلَّ، فما دورك أنت؟!! هذا هو الأساس. فنهى الله عزَّ وجلَّ عن التفاخر، حيث كانت هناك مجالس للتفاخر في مِنَى فقال لهم الله: فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا [200البقرة].
كذلك كلام الموظفين في المكاتب كلُّه في هذا القبيل، إما أن يفتخر الإنسان بمن مات أو بأولاده الموجودين!! ابنك لو لم يهده الهادي هل تستطيع هدايته؟! لو لم يوفقه الموفق عزَّ وجلَّ هل تستطيع إجباره علي عمل؟! فعندما تنظر إلي ذلك انظر إلي توفيق الله أولاً!!
كذلك الفلاحين يتفاخرون بزراعاتهم، فيقول أحدهم زراعتي أفضل من فلان لأني عملت لها كذا وكذا، هل نسيت المحسن الذي أحسن إليك في هذه الزراعة؟! أنت تضع البذرة فقط، والبذرة هو الذي أتاك بها، وجاءك بالماء والهواء والغذاء، ويرعاها ويتولاها، لو لم يحفظ الحفيظ هذه الزراعة فإنها ستنتهي!!
إذن توفيق الله هو الذي مع الإنسان في كل شأن، وكذلك الحال بالنسبة للأولاد: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [56القصص]. لو الهداية بيد إنسان لكان ملكها الأنبياء، لكن هل استطاع النبيُّ أن يهدى ابنه؟! فقل: أولاً فضل الله عليَّ كذا وكذا، فتذكر فضل الله عليك حتى لا تُشغل بالتفاخر بما ليس لك!!! وإنما لله جلَّ في علاه.
كذلك الذي يفتخر بنفسه، إن كان بقوته أو بعينيه أو بشكله!! والسيدات لهن باع واسع في هذا المجال، فمثلاً تأتى بطفل لها وتقول لمن حولها: مَن يستطيع أن ينجب مثل هذا الطفل؟!! هذا رزق ساقه الله عزَّ وجلَّ!! مَنْ صنع العينين؟! ومَنْ صوَّر الوجه؟! ومَنْ لون الشعر؟! ومَنْ له دخلٌ في أي أمر ظاهر أو باطن بالنسبة لأي ولد أو بنت؟!! الفضل كله لله عزَّ وجلَّ، فلا ينشغل الإنسان بهذه الأمور، لأن الشغل بها من الدنيا.
وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ .............
إذاً لا نسعى لذلك؟ لا، بل يجب أن نسعى لنتحقق بقوله صلي الله عليه وسلم: {نِعْمَ المَالُ الصَّالِحُ مَعَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ} (ابن حبان عن عمرو بن العاص رضي الله عنهما). وذلك بأن أسعى في طريق حلال أحله شرع الله، ووسيلة التحصيل التي أستخدمها يوافق عليها شرع الله، وأُخرج منه حق الله عزَّ وجلَّ إذا كان عليه زكاة، ولا أنشغل به عن حقوق الله وطاعة الله، فلا يجوز أن أجمع الصلوات مع بعضها بحجة عدم وجود وقت!! هل هذا عذر يقبله الله من الإنسان يوم لقياه؟!! لا، لو لم تؤدى الفرائض في وقتها وجمعت الدنيا بأكملها في يديك، ماذا ستصنع بها عندما ترحل من هنا؟! ستُسأل عنها وتتركها لغيرك ليتمتع بها.
إذن يجب علي المسلم أن يُحصل المال ليغنى نفسه عن سؤال اللئيم وعن الحاجة إلي الخلق، لأن الحاجة فيها مذلة وهوان، والمسلم دائماً عزيز: .......وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ [8المنافقون].
**** فلابد للمسلم أن يعزَّ نفسه بأن يكون معه ما يُغنيه عن الخلق، مع أداء الفرائض والطاعات في وقتها، في هذه الحالة يصبح المال الذي جمعه عبادة ويدخل في قول رسول الله صلي الله عليه وسلم: {مَنْ بَـاتَ كالاًّ مِنْ عَمَلِهِ بَـاتَ مَغْفُوراً لَهُ} (ابن عساكر عن المقدام بن معديكرب رضيَ اللَّهُ عنهُ).
*** وكذلك الأولاد، لو تركت الصلاة في المسجد لأبقى معهم لأنهم في الثانوية أو غير ذلك!! هل بقاؤك معهم هو الذي سينجِّحُهم؟!! من الجائز أن يكون دعاؤك لهم هو سبب التوفيق لهم، لأن الامتحانات توفيق، فكما أن أولادك يريدون منك أن تتابعهم، كذلك يريدون منك أن تكون علي صلة بالله عزَّ وجلَّ حتى تدعو لهم، لأن الدعاء أزكى لهم وأنفع. وإذا أردتهم أن يكونوا صالحين حتى عندما تنتقل إلي الله يبقى لك ولد صالح يدعو لك.
**** كذلك نجد الآن انتشار المدارس والكليات الأجنبية، والناس تُدخل أولادها فيها، إذا كانوا سيذهبون إلي هذه المدارس أو الكليات وسيحافظون علي الدين فلا بأس. لكن إذا لم يحافظوا علي الدين وفهموا أنه لا مانع من صداقة المسلم للمسيحية والمسلمة للمسيحي، وتعلموا العلمانية البحتة لأنه ليس هناك ناحية دينية من بعيد أو قريب في هذه الأماكن إلا شكليات لا طائل منها، فهنا أكون قد قصَّرت في حقِّهم، حتى لو تخرج واشتغل في أرقى المناصب!! لأني ضيعت عليه الدين، وأنا المسئول الأول لقول ربِّ العالمين عزَّ وجلَّ: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [132طه].
*** فالأساس كله أن أوفيهم وأوفي لهم الناحية الدينية، ولا يضيعوني لإرضاء رغباتهم أن أكسب من الحرام، كأخذ الرشاوى أو الحصول علي أشياء ينكرها شرع الله لأكفي لهم حاجاتهم، المؤمن يمشى علي قدر وسعة الحلال الذي أحلَّه له ذو الجلال والإكرام، قال صلي الله عليه وسلم: {إذا كان يوم القيامة يشكو أهل الرجل الرجل إلي الله، يقولون: يا ربنا خذ لنا بحقنا من هذا، فيقول رب العزة: وما ذاك؟ فيقولون: كان يطعمنا من الحرام ولم يعلمنا أحكام ديننا} (تفسير روح البيان وإحياء علوم الدين –كتاب آداب النكاح).
**** إذن أنت مطالب أمام أولادك بشيئين، أولهما: الحرص علي أن تكون كل طلباتهم من الحلال. وثانيهما: أن أربيهم علي الخلق والدين، حتى أجد ولد صالح أو بنت صالحة تدعوا لي عندما أفارق الدنيا وأكون بين يدي ربِّ العالمين، إذا هاجر الإنسان من هذه الأمور إلي أعمال الآخرة وبضاعة الآخرة: وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [197البقرة]
فهذه هجرة عالية.
الهجرة إلي الله
--------------
*** وهناك هجرة أعلي منها وهى أن يهاجر من الكونين إلي مكون الأكوان عزَّ وجلَّ ، وهى الهجرة بتوفيق الله من الدنيا والآخرة إلي وجه الله، فهي هجرة قلبية، أي بالنية، أي أن الإنسان لا يقصد عند نية أي عمل دنيا كالشهرة والسمعة والرياء، ولا يقصد به ثواب ولا جنات في الآخرة، ولكن يقصد به وجه الله، وهذه المعاملة الأعلى التي ذكر الله فيها أهل الصُفة وقال فيهم لحبيبه ومصطفاه عليه أفضل الصلاة وأتم السلام: ... وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [28الكهف].
عملهم كله طلباً لوجه الله، وهذه المعاملة الأجمل والأكمل والأعلى، وهى هجرة الأفراد الذين فروا إلي الله: .... فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ [50الذاريات].
إذن يجب علي الإنسان في بداية كل عام هجري أن يراجع هجرته لينظر ماذا فعل فيها، ويرجع مرة أخرى ليهاجر من جديد، فلو هجرت في كل عام خُلُقاً سيئاً واحداً ولم تعد إليه أبداً يا هناك، فلو هجرت في عام الكذب مثلاً ولم أعد إليه مرة أخرى، ثم هجرت خلقا آخر وهكذا فسيأتي يوم أكون تخلقت فيه بأخلاق الحبيب: (فحافظ علي منهج المختار في العقد تنسق) ويدخل في: ... مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ [29الفتح]
**** لكن من يترك نفسه هملاً ... لا يراجع أخلاقه ولا أعماله ولا نياته فهذا سيندم وعند نفَسه الأخير سيقول: أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللهِ [56الزمر]
**** فلابد للإنسان أن يراجع سلوكياته وأخلاقه، ونواياه وطواياه، وأعماله وأحواله، حتى يزنُها بميزان رسول الله صلي الله عليه وسلم.
المهاجر إيماناً
-------------
{وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ}: من المهاجر إلي يوم القيامة؟
الذي هجر المحرمات، والذي هجر المعاصي، والذي هجر الفواحش، والذي هجر الإثم، والذي هجر الوقوع في الذنب، والذي هجر الأفعال التي تُغضب الله كلها إن كان كبائر أو صغائر، وهجر الأقوال التي تُغضب الخلق كلها إن كانت سباً أو شتماً أو لعناً أو غيبة أو نميمة أو قذف أو سحر أو ما شاكل ذلك.
يسلم الناس منه جميعاً لأنه هجر كل ما يؤدى إلي غضب الله عزَّ وجلَّ عليه، أو كل ما يؤدى إلي إغضاب الخلق منه لشر فعله نحوهم أو سوء أصابهم به حتى ولو كان لا يدرى لأن المؤمن لا يفعل ولا يقول إلا ما يُرضى الله عزَّ وجلَّ عنه، فهذه هى الهجرة، أن يهجر الإنسان كل ما نهى الله عنه.
ولذلك يجب علي كل واحد منا مع بداية العام الهجري أن يراجع نفسه، ماذا هجرت من المعاصي؟ وماذا تبقى لكي أهجره من المعاصي؟ وإذا أردت أن أكون أعلي في المقام، فيكون ماذا هجرت من الأخلاق القبيحة حتى أتجمل بالأخلاق الكريمة؟
** هجرت سوء الظن مثلاً! هجرت الكذب! هجرت الأثرة والأنانية! هجرت النظر إلي المسلمين بعين تتطلع إلي ما في أيديهم وإلي ما عندهم من خيرات وتتمنى زوالها، أو الحصول عليها ومنعها منهم ..... فكل هذه الأشياء تحتاج إلي هجرة.
هِجْرَةُ المَنْهِيَّات
-----------------------------
ولذلك قال العلماء العاملون رضي الله عنهم: الهجرةُ في هذا المقام - لمن أراد أن يهاجر - ثلاثُ هجرات: {هجرة بأمر الله، وهجرة بفضل الله، وهجرة بتوفيق الله}.
**** أما الهجرة بأمر الله فهي أن يُنفذ كل ما أمره به مولاه، ولكي يُنفذ ما أمره به مولاه لابد أن يهجر ما نهى عنه مولاه، فلابد أن يهجر المعاصي حتى يفعل الطاعات، ويهجر الحرام حتى يحصل علي الحلال، ويهجر الذنوب والآثام حتى يُطيع الملك العلام، فهذه الهجرة بأمر الله. أي فعل ما يأمره به مولاه بعد أن يترك ما نهى عنه الله. وهذه الهجرة - الآية الجامعة لها في كتاب الله هي قول الله: مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا [7الحشر]
** والمصيبة التي وقع فيها كثير من المسلمين في هذا الزمان أنهم جمعوا بين الاثنين، فكثير منهم يظن أن المطلوب منه لإرضاء ربِّه القيام بالعبادات، أما المعاملات فيمشى فيها علي حسب هواه، وإن كان يعلم علم اليقين أنه يخالف شرع الله!! فمثلاً التاجر قد يذهب إلي الحج كل عام، ويذهب إلي العمرة مرات في العام، لكن في تجارته لا مانع عنده من أن يغش في الكيل أو الوزن، أو يغش في الثمن، أو يغش في الصنف. فيرى أنه ليس عليه شئ في هذه الأشياء!!
** هذه الثنائية هل يوافق عليها الدين؟ لا، فالشرط الأول أن يهجر ما نهى عنه الله، فقد نهى الله عن التطفيف، فيجب ألا يُطفف في كيل ولا ميزان، لأن الله قال: وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ [1المطففين]
** نهى الله عزَّ وجلَّ عن الغش علي لسان حبيبه ومصطفاه: {مَنْ غَشَّنا فَلَيسَ مِنَّا} (صحيح ابن حبان عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم).
** نهى عن أي غش إن كان في الصنف أو السلعة أو غير ذلك، فمشاكلنا في مجتمعنا سببها التفريق بين المعاملات والعبادات!! مع أن الدين كله واحد، ولابد للإنسان أن يأخذه بجملته، فلا يجوز له أن يعمل بشيء ويترك أشياء ويظن أنه علي صواب!! لأنه نَهْى عن كل ما نهى عنه الله، ثم بعد ذلك قيام بكل ما أمر به الله.
** كثير من الناس يحرص علي الفرائض، ولبيان مدى حرصه علي الفرائض في وقت عمله يترك العمل قبل الظهر بوقت كبير ويذهب للمسجد ليستعد لصلاة الظهر ويظن أنه أدى العبادة كما ينبغي!!
** عبادتك في عملك ومكتبك، وإذا كان عملك يتعلق بخدمة الجماهير فتكون الصلاة بعد نهاية العمل إلا إذا وجدت فرصة وتعود سريعاً، وإذا كان العمل لا يتعلق بالجماهير فاذهب للصلاة أثناء إقامة الصلاة، والذي يُصلي بهم يراعى ذلك فلا يطيل في الصلاة، لكن المتنطعين يظنون أنهم علي صواب، وبعضهم يقوم بعمل درس بعد صلاة الظهر، أين العمل؟
ويسوِّلون ذلك علي أنه من الدين!! وهذه هي الطامة الكبرى التي أساءت إلي دين الإسلام في نظر غير المسلمين لأنهم رأوا أن ما يصنعه المتنطعين – لأن صوتهم عالي – هو هذا الدين!! مع أنهم بعيدين عن نهج الدين بالكلية، الدين: { أَعْطِ كُلَّ ذِي حَقَ حَقَّهُ } ( رواه ابن حبان والبيهقي عن أبي جحيفة عن أبيه).
** حق العمل لا أفرط فيه، وحق الله محفوظ**.
----------------------
*** فنحن نحتاج في هذه الأيام الكريمة أن نبين لأنفسنا ونمشى علي هذا المنهاج، وإن كان في نظر كثير من المتنطعين شاذ، لكن هذا هو المنهج الحق الذي ارتضاه سيد الخلق صلي الله عليه وسلم، وهو أن نهجر المعاصي بالكلية ثم نبدأ العبادات لرب البرية عزَّ وجلَّ ، ولو أن الإنسان انتهى عن المعاصي ثم لم يقم إلا بالفرائض فقط أفلح كما قال صلي الله عليه وسلم ودخل الجنة لأنه ليس عليه شئ.
** فالأساس أن يحفظ الإنسان نفسه من الذنوب والآثام ثم يطيع الملك الحق عزَّ وجلَّ رغبة في الهجرة إلي الطاعات والقُربات المبثوثة في كتاب الله والتي بينها بفعله وقوله وحاله سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم.
** يحتاج المسلمون جميعهم في هذا الزمان إلي هذه الهجرة، فمثلاً نجد الفلاح يذهب ليصلي الفجر في وقته، وعندما يؤذن الظهر يترك عمله ويسارع للصلاة، ثم بعد ذلك يريد أن يكسب سريعاً فيضع في زراعته الهرمونات والكيماويات والمبيدات المحظورات ليستعجل الأرزاق، ويظن أن هذا شئ والعبادة شئ! لابد من هجر هذا للغش أولاً!!!!
** ثم بعد ذلك لو لم تصلي إلا الفرائض في وقتها سيكفيك هذا! وقس علي ذلك بقية الأمور!!
فتلك مصيبة حلت بمجتمعنا لأننا تأثرنا فيه بالمجتمعات الأجنبية، وأخذنا نظرية المنفعة وإن كنا لا نشعر بها وجعلناها هي أساس حياتنا، إذا كانت المنفعة في ميزان المعاملات لا نوزنُها بميزان الحلال والحرام، قال صلي الله عليه وسلم: { لا تَكُونُوا إِمَّعةً تَقُولُونَ إِن أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ، إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وإِنْ أسَاءُوا فَلاَ تَظْلمُوا } (سنن الترمذي عن حذيفة رضي الله عنه).
-----------------------
**** الهجرة الأولي التي هجرها كل أصحاب رسول الله - سواء في المدينة أو خارج المدينة - هي هجرة المعاصي بالكلية، وهجروا المحرمات الواردة كلها جملة واحدة، والمعاصي التي لا يعتبرها المسلمون الآن معاصي ويتسلون بأدائها فهذه مصيبة المصائب!!
** مَن في المسلمين الآن يعُد الكذب معصية؟!! الأغلبية يعتبرونه فهلوة وشطارة.
** ومَن مِن المسلمين الآن يعتبر أن الغيبة والنميمة وقيعة ينبغي عليه الإقلاع عنها؟!! قلَّ وندر، تسالي الناس في هذا الزمان في القيل والقال.
** فلابد من هجرة كل ذلك، وننفذ ما أمرنا به الله عزَّ وجلَّ ، وحتى ندخل في قوله صلي الله عليه وسلم: { وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ }.
------------------------------------------------------

وصلي الله علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم
************
من كتاب: (ثاني اثنين) - فضيلة الشيخ فوزى محمد أبوزيد
-------------
حمل الكتاب مجانا

التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:




شارك فى نشر الخير