عدد المشاهدات:
التوكل هو تسليم الأقدار كلها للقادر و اعتقاد أن جميعها قضاؤه و قدره ، و قبل أن نتكلم على علوم التوكل و فضائلها و مشاهدة المتوكلين أذكر مقدمة أبين فيها ما اختلف الناس من سر التوكل .
جهل الناس حقيقة التوكل فظنوا أن التوكل ترك الأسباب جملة واحدة توكلاً على الله الوكيل ، و ليس هذا من التوكل في شيء لأن الله تعالى قادر حكيم فأظهر أشياء عن وصف القدرة و أجرى أشياء عن معاني الحكمة فإذا كوشف المؤمن بغرائب تصريف القدرة و شهد ظهور كل شيء عن قدرة القادر رأى لجهله بحكمة الحكيم أن الأسباب كالعمل للكسب و الادخار و التداوي و المحافظة على الصحة و القيام بحقوق الشريعة ينافي التوكل أو يقدح في التوحيد ، و القيام بالأعمال التي اقتضتها الحكمة من السعي للنفع و استعمال الأسباب لجلب المنفعة له و لجميع المسلمين و دفع المضرة عنه و عنهم هو عين التوكل و حقيقة التوحيد ،
فالمتوكل لا يسقط ما أثبته الله تعـالى مـن حكمته لأجل ما شهد هو من قدرته لأن الله تعالى حكيم فالحكمة صفته و لا يشهد المتوكل الأشياء التي أجرتها الحكمة جاعلة نافعة ضارة بنفسها فيشرك في توحيده من جهة أن الله قادر و القدرة صفته و أنه حاكم جاعل نافع ضار لا شريك له في أسمائه و لا معين له في حكمه كما قال تعالى ﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّلِلّهِ أَمَرَأَلاَّتَعْبُدُواْإِلاَّإِيَّاهُ﴾ (1)
فالمتوكل حقيقة هو الذي شاهد قدرة الله على الأشياء و أنه منفرد بالتقدير و التدبير قائم بالملك و المملوك و علم مع تلك المشاهدة وجوه الحكمة في التصريف و التقليب بإظهار الأسباب لإظهار الأشخاص و الأشباح لحكمة إيقاع الحكم على المحكوم و عود الثواب و العقاب على المرسوم من حيث أن المتوكل مطالب أن يقوم بأحكام الشريعة و مطالبات العلم مع تسليمه الحكم الأول لله و اعتقاده أن كل شيء بقدر الله لأنه سمع الله تعالى يقول ﴿لَايُسْأَلُ عَمَّايَفْعَلُوَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ (2)، هذا و إن الله تعالى أخفى قدرته في جميع ما أظهر في حكمه فظهرت حكمته في الأشياء لعود الأحكام على من ظهرت على أيديهم و بطنت قدرته في الأشياء لرجوع الأمر كله إليه و لإتقان الصنعة الظاهرة لصنع الباطن فلذلك قال تعالى ﴿ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ (3)أي صنعه الباطن أتقن صنعه الظاهر ، ثم قال سبحانه ﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُكُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾ (4) إليه يرجع كل من الظاهر و الباطن فتوكل عليه في جميع ذلك .
فللعارف بالله تعالى المتوكل على جنابه العلي في سر تصريف القدرة في الباطن شهادة هي مقامه و هو قائم بها و له في الحكمة الظاهرة علم شرع و تسليم اسم و رسم هو عامل به و هذا هو شهادة التوحيد و مقام العلماء الربانيين و كل مؤمن متوكل على الله تعالى ،
و توكل كل عبد على قدر يقينه ، فالعارف توكله ما ذكرناه من مشاهدة القدرة و علم الحكمة و معاني الرضا ، و توكل العموم صحة الإيمان بالأقدار خيرهـا و شرها من الله تعالى ،
و قد قال الله تعالى ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ (1) فقرن بين هذه الأربع في قرن واحد مع ترتيب الحكمة و القدرة ، فكيف يختلف حكمها أو يتبعض وصفها لظهور الأسباب و الأواسط ، أنت ترى أباك سبباً في خلقك فهل تقول خلقني أبي ، و ترى فلاناً سبباً في إحيائك و أماتك فهل تقول أماتني فلان أو أحياني إذا قتلك أو أنقذك من ظالم ، لا تقول ذلك لأنك تراه شركاً فلِم تنزعج نفسك من أن تقول خلقني أبي أو أحياني فلان أو أماتني و هم أسباب في تلك المعاني و لا تنزعج عندما تقول فلان رزقني و هو سبب مع أن الله تعالى قرن الرزق مع الإحياء و الإماتة و الخلق ؟
فإذا كنت ترى نسبة الخلق لأبيك أو الإحياء و الإماتة لفلان كفراً فنسبة الرزق لغير الله كفر و إنما هم أواسط لإظهار الحكمة ، و قد أضاف الله تعالى الإمناء إلينا و الحرث و أضاف الخلق و الزرع إليه لأن الإمناء و الحرث أعمال و نحن عبيد عمال و هي صفاتنا و أحكامها عائدة علينا و أضاف الخلق و الرزق إليه سبحانه لأنها آيات عن قدرته و حكمته و الله هو القادر الحكيم قال تعالى ﴿ أَفَرَأَيْتُم مَّاتَحْرُثُونَ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُأَ مْنَحْنُ الزَّارِعُونَ﴾ (2) و قال تعالى ﴿ أَفَرَأَيْتُم مَّاتُمْنُونَ أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْنَحْنُ الْخَالِقُونَ﴾ (3)، فأضاف إلينا ما لنا و أضاف إليه ما له سبحانه و تعالى ، و قد أضاف القرآن الكريم إلى الجوارح المجترحة و نسب إلى الأدوات المكتسبة كل الأعمال و الاكتساب مما أجراه عن معاني الحكمة ، و وصف نفسه بكل ما كان من القدرة و الإرادة لأنه المريد الأول و القادر الأعلى ، فمن فهم عن الله خطابه فاز برضاه و من لم يفهم عن الله خطابه زاغ قلبه فيما تشابه .
و معنى قوله تعالى ﴿ يَمْحُواللّهُ مَايَشَاءوَيُثْبِتُ﴾ (4) يمحو الأسباب من قلوب العارفين و يثبت القدرة و يمحو الغفلة من قلوب الغافلين و يثبت الأسباب ، فالعارفون يعتبرون بالأسباب و يعجبون من التسبب فيزدادون بذلك هدى و إيماناً بشهودهم المعطي المانع واحداً في العطاء و المنع ، و لمعرفتهم بجريان الحكمة فيما جاءت به الشريعة ثبتت له مقامات الشكر له سبحانه و تعالى و الصبر عليه ، و الغافلون يضطربون و لوقوفهم عند الأسباب يثبتون النفع و الضر و الرزق للأسباب فيمدحون الناس و يذمون الناس لغفلتهم ، فالعارف لا تلهيه التجارة و لا البيع و لا الزراعة و لا الصناعة عن ذكر الله و إقام الصلاة لقيامه بشهادته أنوار القدرة و علمه أسرار الحكمة ، فقد أثبت الله تعالى الأواسط إظهارا للحكمة و نفاها إظهارا للقدرة ، فأثبتها في قوله تعالى ﴿ فَاقْتُلُواْالْمُشْرِكِينَ﴾ (1) و قال سبحانه و تعالى ﴿ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ﴾ (2) ثم قال في التوحيد ﴿ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ﴾ (3) و قال في إثبات الأسباب ﴿ الَّذِي عَلَّمَبِ الْقَلَمِ﴾ (4) ثم قال في إثبات مشاهدة القدرة ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ﴾ (5) و قال سبحانه في تثبيت الأملاك و بيعها منه بالأعواض كرماً منه و فضلاً ﴿ إِنَّاللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم﴾ (6) و قال تعالى ﴿ أَوْمَامَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ (7).
فالمتوكل حقاً يشاهد بعين بصيرته الأشياء كلها عن تصريف القدرة و إلا كان مشركاً و يعمل بالأحكام عن علم الشريعة و فهم الحكمة فيكون عاملا من عمال الله متوكلاً على الله قائماً بأحكام الله و هو المتوكل حقاً لا تحجبه الأسباب عن المسبب فيكون مشركاً و لا يحجبه شهود القدرة عن أسرار الحكمة و القيام بأحكام الشريعة فيكون متعدياُ لحدود الله تعالى .
الأسباب و التصرف في المعايش بهما شهود التوكل ، إذا تحقق باطناً بمشاهدة القدرة و ظاهراً بعلم الحكمة ، و يكون على مزيد من علم التوحيد و مزيد من حاله ، قال تعالى ﴿ وَجَعَلْنَاالنَّهَارَمَعَاشًا﴾ (1) و قال الله تعالى ﴿ وَلَقَدْمَكَّنَّاكُمْ فِيالأَرْضِوَجَعَلْنَالَكُمْفِيهَامَعَايِشَ﴾ (2)، و قال r ( أحل ما أكل العبد من كسب يده ، و كل بيع مبرور ) ، و قال ابن مسعود : إني لأكره أن يكون الرجل بطالاً ليس في عمل دنيا و لا في عمل أخرى .
و المتوكلون ثلاثة أنواع : رجل حسن توكله على الله تعالى فأقامه في الأسباب فهو يعمل مشاهداً المسبب الأول بلطائف قلبه و سر حكمته بظاهره و قلبه ساكن إلى الله تعالى لم يلابسه السبب فيشغله عن الحق ، هذا من الأبرار القائمين بأحكام الله الناهجين على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
و رجل جذبه اليقين الحق بكمال التصديق عن شهود الوكيل سبحانه و تعالى و التحقق بولايته تنزهت ذاته ، فاقتطعه بكله إلى جناب الوكيل سبحانه و تعالى و حضرة الولي تقدست ذاته ، ففر من الكون إلى الله مستأنساً بما استوحش به أهل الغرة ، فرحاً بما أحزن أهل البعد ، راضياً بما كرهه أهل الحجاب ، تجلت له أنوار الوكيل الولي فرضي به وكيلاً و فوض إليه جميع أموره، و قد كان سبعون أو تسعون أو أكثر من أهل الصفة أقامهم الله تعالى مقام التجريد في عمل الآخرة فكان الرجل منهم يتصرع من شدة الجوع آنساً و راضياً فرحاً مبتهجاً و هم في صحبة سيد الرسل الكرام ، و كان أنسهم به و خلوته معهم و بسطه بهم ، و هذا مقام المقربين من خاصة المحبوبين المتمكنين من حقيقة التوكل على الله المتحققين بكمال التفويض إلى الله ، و قليل ما هم .
الثالث رجل أقام نفسه في التجريد ميلاً إلى الراحة من عناء الأسباب و رغبة فيما في أيدي الناس ، و هو المتكلف لا الواجد ، و ليس هذا من التوكل في شيء ، و أهل هذا النوع قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لأن يأخذ أحدكم فأسه و حبله فيذهب إلى الجبل فيحتطب و يأكل و يتصدق خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه ) ، و قال صلى الله عليه وسلم ( استغنوا عن الناس و لو بشوص سواك ) يعني مضغة .
و تفصيل هذه المسألة أن أهل الأسباب المتمكنين في مشاهداتهم على السنة القويمة السمحاء ، و من أنكر عليهم فقد أنكر على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، و أهل التجريد المتمكنين في تمكين من مشاهدة التوحيد و مزيد من أنوار الولي الحميد لا ينكر عليهم إلا قادح في التوحيد شاك في ضمان الرزاق الكريم ، أما أهل الدعاوي من أهل الأسباب و التجريد ممن وقفوا عند الأسباب و احتجبوا عن المسبب و ممن تجردوا من ألأسباب لحظ عاجل فهم كالأنعام بل هم أضل سبيلاً . و الحجة في ذلك عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه r بعثه الله للناس و منهم المتجرد و المتسبب ، فلم ينكر على نوع منهم و لكنه صلى الله عليه وسلم بين كل الوجوه التي ينهج عليها كل نوع حتى يكون ناهجاً على الصراط المستقيم .
و المتوكل إما أن يكون ذا عيال أو منفرداً ، فإن كان منفرداً و كان من أهل التوحيد الكامل فالادخار حسن له إذا ادخر مالاً أو طعاماً أو ملبساً بعد إخراج حق الله منه من فرض و مندوب ، فإنما هو خزانة الله تعالى و هو خليفة الله على خزانته ينفق منها إذا أمره مالك السماوات و الأرض و من في السماوات و الأرض و ما في السماوات و الأرض بالإنفاق على نفسه و على غيره من منفعة للمسلمين أو خدمة للدين ، و لا يقدح ادخاره في توكله و توحيده ، و ما ورد من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بلالاً بترك الادخار و أمر غيره فذلك ليبين لأهل المقامات العلية ما به كمال قربهم و صحة توحيدهم . و إن كان المتوكل ذا عيال و أهل فالأكمل له الادخار ليسكن قلبه إلى الله تعالى و يقبل بكله عليه سبحانه ، قال الله تعالى ﴿ وَلاَتَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةًإِلَى عُنُقِكَ وَلاَتَبْسُطْهَا كُل ا لْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومً امَّحْسُورًا﴾ (1)، فنهانا الله تعالى عن كل البسط الذي ينفد به كل ما في أيدينا ،
و عمل رسول صلى الله عليه وسلم هو الحجة البالغة و المحجة الواضحة فقد ادخر رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهله قوت سنة و انتقل إلى الرفيق الأعلى و له ثوبان ينسجان . فالمتوكل الكامل الحسن له أن يدخر إذا كان منفرداً و الأحسن أن يدخر إذا كان ذا عيال و أهل ، فإن المال إذا كان في أيدي أهل التوكل الموحدين كان كنوزاً للإسلام و المسلمين يبذل بعد بذل النفس لسد ثغور الدين و إحياء السنة و إعلاء كلمة رب العالمين .
و إذا كان أهل مشاهدات التوحيد الموقنون المتوكلون لم يدخروا و صارت الأموال في أيدي عباد الدرهم و الدينار لا تقوم قائمة الدين و لا نحفظ ثغور المسلمين و لا تفتح الفتوحات و خصوصاً في هذا الزمان ، فيتعين على أهل التوحيد المحبين لله و رسوله أن يدخروا أكثر أموالهم عملاً بقوله تعالى ﴿ وَأَعِدُّواْلَهُم مَّااسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ﴾ (1)، وأهل المقامات في كل زمان بحسب مقتضيات زمانهم .
بعض المتوكلين ممن يجهل السنة يرى أن التداوي قدح في التوحيد ، و هو من التوحيد لأنك تشهد في الداء سر اسم الشافي المعافي و هو سبحانه الذي خلق الداء و خلق الدواء ، و قد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدواء و الرقي هل يرد من قدر فقال ( هي من قدر الله ) ، فالتداوي أكمل للمتوكل لأنه السنة العملية و القولية ، و الأولى للمريض أن يعلم الطبيب بمرضه و يكتم عن الناس خشية من شكوى الله للناس .
و المتوكل مسارع إلى الأفضل و الأكمل لحاله ، فإن كان المسلمون في أمن و غنى بمزارعهم و متاجرهم و قوة سلطانهم و نفوذ كلمتهم على غيرهم فالأكمل للمتوكل الإقبال على الله تعالى بكليته ، و قد استحسن هذا كثير من السلف بل و من الصحابة كأبي ذر الغفاري رضى الله عنه و غيره و الحسن البصري و كثير من أهل طبقته و جنيد القواريري و كثير من أهل زمانه ، و إذا تغير الحال فالأكمل للمتوكل أن تكون عبادته في الأسباب التي بها يكون المسلمون كما كانوا ليكون عاملاً من عمال الله بمقتضى الوقت .
التوكل من أعلى مقامات اليقين و أشرف أحوال المقربين ، قال الحق المبين ﴿ فَإِذَاعَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِإِنَّاللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ (2)، فجعل المتوكل حبيبه و ألقى عليه محبته ، و قال عـز و جل ﴿ وَعَلَى اللّهِ فَـلْيَتَوَكَّل الْمُتَوَكِّـلُونَ﴾ (3) فرفـع المتكلمين إليه و جعل مزيدهم منه ، و قال جلت قدرته ﴿ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُـوَحَسْبُهُ﴾ (1) أي كافية مما سواه و من الله كافيه فهو شافيه معافيه ، فقد صار المتوكل على الله من عباد الرحمن الذين أضافهم إلى وصف الرحمة و من عباد التخصيص الذين ضمن لهم الكفاية و هم الذين كفاهم الله في هذه الدار المهمات و وقاهم بتفويضهم إليه السيئات بقوله تعالى ﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾ (2)،
و قال بعض الصحابة وغيرهم : التوكل نظام التوحيد و جماع الأمر ، و قال لقمان لابنه : و من الإيمان بالله عز و جل التوكل على الله ، فإن التوكل على الله يحبب العبد ، و إن التفويض إلى الله من هدى الله و بهدى الله يوافق العبد رضوان الله و بموافقة رضوان الله يستوجب العبد كرامة الله .
و قال لقمان أيضاً : من يتوكل على الله و يسلم لقضاء الله و يفوض إلى الله و يرضى بقدر الله فقد أقام الدين و فرغ يديه و رجليه لكسب الخير و أقام الأخلاق الصالحة التي تصلح للعبد أمره .
و قال أبو يعقوب السوسي : لا تطعنوا على أهل التوكل فإنهم خاصة الله الذين خصوا بالخصوصية فسكنوا إلى الله و اكتفوا به و استراحوا من هموم الدنيا و الآخرة ، و قال : من طعن في التوكل فقد طعن في الإيمان لأنه مقرون به ، و من أحب أهل التوكل فقد أحب الله تعالى .
و أول التوكل المعرفة بالوكيل و أنه عزيز حكيم يعطي لعزه و يمنع لحكمه فيعتز العبد يعزه و يرضى بحكمه و كذلك أخبر عن نفسه فقال تعالى منبهاً للمتوكلين ﴿ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَىاللّهِ فَإِنَّ اللّهَ عَزِيزٌحَكِيمٌ﴾ (3) عز من أعز بعطيته و نظر لمن منعه بحكمته ، فإذا شهد العبد الذليل الملك الجليل قائماً بالقسط و التدبير و التقدير عنده خزائن كل شيء و لا ينزله إلا بقدر معلوم و شهد الوكيل قابضاً على نواصي المماليك له خزائن الأرض من الأيدي و القلوب و الأسباب المشاهدات فخزائن السماوات ما قسمه من الرزق و خزائن الأرض ما جعله على أيدي الخلق فأيقن العبد أن في يده ملـكوت كل شيء و أنه يملك السمع و الأبصار و يقلب القلوب و الأيدي تقـليب الليل
و النهار و أنه حسن التدبير و الإحكام للموقنين و أنه أحكم الحاكمين و خير الرازقين عندها نظر العبد الذليل إلى سيده العزيز فقوي بنظره إليه و عز بقوته به و استغنى بقربه منه و شرف بحضوره عنده ، و كذلك جاء في الخبر ( كفى باليقين غنى ) ، حينئذ نظر إليه في كل شيء و وثق به و اعتمد عليه دون كل شيء و قنع منه بأدنى شيء و صبر عليه و رضي عنه إذ لا بد له منه ، فثم لا يطمع في سواه و لا يرجو إلا إياه و لا يشهد في العطاء إلا يده و لا يرى في المنع إلا حكمته و لا يعاين في القبض و البسط إلا قدرته ، هناك حقت عبادته و خلص توحيده فعرف الخلق من معرفة خالقه و طلب الرزق عند معبوده و رازقه و قام بشهادة ما قال تعالى ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَايَمْلِكُونَلَكُمْ رِزْقًافَابْتَغُواعِندَاللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ﴾ (1)، فعندها لم يحمد خلقاً و لم يذمه و لم يمدحه لأجل أنه منعه أو أنه أعطاه إذ كان الله هو الأول المعطي و لم يشكره إلا لأن مولاه مدحه و أمره بالشكر له تخلقاً بأخلاقه و إتباعاً لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإن ذمه أو مقته فلأجل مخالفته لمولاه بموافقته هواه لأنه تعالى قد مدح المنفقين و ذم الباخلين ،
و الفرق بين الحمد و الشكر أن الحمد مفرد لا ينبغي إلا لله و هو الاعتراف بأن النعمة من الله عز و جل و حسن المعاملة بها لوجه الله لا شريك له فيها و لذلك قال ﴿ الْحَمْدُللّهِ رَبِّالْعَالَمِينَ﴾ (2) أي الحمد كله لا يكون و لا ينبغي إلا لله لأنه رب العالمين ، و في الخبر ( الحمد رداء الرحمن عز و جل ) . و الشكر إظهار الثناء و إسرار الدعاء للأواسط فهو مشترك يدخل فيه الوالدان ، و هو أيضاً مخصوص لمن هو أهل أن يشكر من الناس .
و روينا عن عمر رضى الله عنه عن النبي rصلى الله عليه وسلم ( من اعتز بالعبيد أذله الله ) و في خبر آخر ( لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدوا خِماصاً و تروح بِطاناً ، و لزالت بدعائكم الجبال ) ، و يقال : لا يدخر من الدواب إلا ثلاث ، النملة و الفأرة و ابن آدم . و قال أبو يعقوب السوسي : المتوكلون على الله تجري أرزاقهم بعلم الله و اخـتياره على يد خصوص عـباده بلا شغل و لا تعـب و غيرهم مكددون
مشغولون ، و قال أيضاً : المتوكل إذا رأى السبب أو مدح أو ذم غافلاً فهو مدع لا يصح له التوكل ، و أول التوكل ترك الاختيار ، و المتوكل على صحة قد رفع أذاه عن الخلق ، لا يشكو ما به إليهم و لا يذم أحداً منهم ، لأنه يرى المنع و الإعطاء من واحد فقد شغله عما سواه ، قال الله تعالى ﴿ وَمَامِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّعَلَى اللّهِ رِزْقُهَا﴾ (1)و قال سبحانه و تعالى ﴿ وَكَأَيِّنمِن دَابَّةٍلَاتَحْمِلُ رِزْقَهَااللَّهُ يَرْزُقُهَاوَإِيَّاكُمْ وَهُوَالسَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ (2).
فالمتوكل قد علم بيقينه أن كل ما يناله من العطاء من ذرة فما فوقها أن ذلك رزقه من خالقه و أن رزقه هو له و أن ما له واصل إليه لا محالة على أي حال كان ، و أن ما له لا يكون لغيره أبداً و كذلك ما لغيره من القسم و العطاء لا يكون له أبداً ، فقد نظر إلى قسمه و نصيبه من مولاه بعين يقينه الذي به تولاه من إحدى ثلاث مشاهدات ، و إن دنت مشاهدته نظر إلى قسمه من العطاء في الصحيفة التي كتبت له عند تصوير خلقه فكتب فيها رزقه و أجله و أثره و شقي أو سعيد ، فكما لا يقدر أحد من الخلق أن يجعله سعيداً إن كان قسمه شقياً و لا يقدر أحد أن يجعله شقياً إن كان قسمه سعيداً كذلك لا يقدر أحد أن يمنعه ما أعطاه الله من القسمة فيجعله محروماً و لا يعطيه ما منعه من الحكم فيجعله مرزوقاً لأن ذلك قد كتب كتباً واحدة و جعل مجعلاً سواء ، و روي عنه صلى الله عليه وسلم ( إن الرزق ليطلب العبد كما يطلبه أجله ) ، و قال صلى الله عليه وسلم( و إن لكل عبد رزقاً هو آتيه لا محالة ، فمن قنع به و رضي بورك له فيه ، و من لم يقنع به و لم يرض لم يبارك له فيه و لم يسعه ) . و يقال : لو هرب العبد من رزقه كما لو هرب من الموت لأدركه . و في وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس ( إذا سألت فاسأل الله ، و إذا استعنت فاستعن بالله ، و اعلم أن الخلائق لو جهدوا أن ينفعوك بما لم يكتبه الله سبحانه لك لم يقدروا على ذلك ، طويت الصحف و جفت الأقلام ) . فمن كانت هذه مشاهدته في القسم سقط عنه جملة من الهموم و استراح من النظر إلى الخلق و استراح الخلق من أذاه و شغل عنهم بخدمة مولاه .
جهل الناس حقيقة التوكل فظنوا أن التوكل ترك الأسباب جملة واحدة توكلاً على الله الوكيل ، و ليس هذا من التوكل في شيء لأن الله تعالى قادر حكيم فأظهر أشياء عن وصف القدرة و أجرى أشياء عن معاني الحكمة فإذا كوشف المؤمن بغرائب تصريف القدرة و شهد ظهور كل شيء عن قدرة القادر رأى لجهله بحكمة الحكيم أن الأسباب كالعمل للكسب و الادخار و التداوي و المحافظة على الصحة و القيام بحقوق الشريعة ينافي التوكل أو يقدح في التوحيد ، و القيام بالأعمال التي اقتضتها الحكمة من السعي للنفع و استعمال الأسباب لجلب المنفعة له و لجميع المسلمين و دفع المضرة عنه و عنهم هو عين التوكل و حقيقة التوحيد ،
فالمتوكل لا يسقط ما أثبته الله تعـالى مـن حكمته لأجل ما شهد هو من قدرته لأن الله تعالى حكيم فالحكمة صفته و لا يشهد المتوكل الأشياء التي أجرتها الحكمة جاعلة نافعة ضارة بنفسها فيشرك في توحيده من جهة أن الله قادر و القدرة صفته و أنه حاكم جاعل نافع ضار لا شريك له في أسمائه و لا معين له في حكمه كما قال تعالى ﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّلِلّهِ أَمَرَأَلاَّتَعْبُدُواْإِلاَّإِيَّاهُ﴾ (1)
فالمتوكل حقيقة هو الذي شاهد قدرة الله على الأشياء و أنه منفرد بالتقدير و التدبير قائم بالملك و المملوك و علم مع تلك المشاهدة وجوه الحكمة في التصريف و التقليب بإظهار الأسباب لإظهار الأشخاص و الأشباح لحكمة إيقاع الحكم على المحكوم و عود الثواب و العقاب على المرسوم من حيث أن المتوكل مطالب أن يقوم بأحكام الشريعة و مطالبات العلم مع تسليمه الحكم الأول لله و اعتقاده أن كل شيء بقدر الله لأنه سمع الله تعالى يقول ﴿لَايُسْأَلُ عَمَّايَفْعَلُوَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ (2)، هذا و إن الله تعالى أخفى قدرته في جميع ما أظهر في حكمه فظهرت حكمته في الأشياء لعود الأحكام على من ظهرت على أيديهم و بطنت قدرته في الأشياء لرجوع الأمر كله إليه و لإتقان الصنعة الظاهرة لصنع الباطن فلذلك قال تعالى ﴿ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ (3)أي صنعه الباطن أتقن صنعه الظاهر ، ثم قال سبحانه ﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُكُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾ (4) إليه يرجع كل من الظاهر و الباطن فتوكل عليه في جميع ذلك .
فللعارف بالله تعالى المتوكل على جنابه العلي في سر تصريف القدرة في الباطن شهادة هي مقامه و هو قائم بها و له في الحكمة الظاهرة علم شرع و تسليم اسم و رسم هو عامل به و هذا هو شهادة التوحيد و مقام العلماء الربانيين و كل مؤمن متوكل على الله تعالى ،
و توكل كل عبد على قدر يقينه ، فالعارف توكله ما ذكرناه من مشاهدة القدرة و علم الحكمة و معاني الرضا ، و توكل العموم صحة الإيمان بالأقدار خيرهـا و شرها من الله تعالى ،
و قد قال الله تعالى ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ (1) فقرن بين هذه الأربع في قرن واحد مع ترتيب الحكمة و القدرة ، فكيف يختلف حكمها أو يتبعض وصفها لظهور الأسباب و الأواسط ، أنت ترى أباك سبباً في خلقك فهل تقول خلقني أبي ، و ترى فلاناً سبباً في إحيائك و أماتك فهل تقول أماتني فلان أو أحياني إذا قتلك أو أنقذك من ظالم ، لا تقول ذلك لأنك تراه شركاً فلِم تنزعج نفسك من أن تقول خلقني أبي أو أحياني فلان أو أماتني و هم أسباب في تلك المعاني و لا تنزعج عندما تقول فلان رزقني و هو سبب مع أن الله تعالى قرن الرزق مع الإحياء و الإماتة و الخلق ؟
فإذا كنت ترى نسبة الخلق لأبيك أو الإحياء و الإماتة لفلان كفراً فنسبة الرزق لغير الله كفر و إنما هم أواسط لإظهار الحكمة ، و قد أضاف الله تعالى الإمناء إلينا و الحرث و أضاف الخلق و الزرع إليه لأن الإمناء و الحرث أعمال و نحن عبيد عمال و هي صفاتنا و أحكامها عائدة علينا و أضاف الخلق و الرزق إليه سبحانه لأنها آيات عن قدرته و حكمته و الله هو القادر الحكيم قال تعالى ﴿ أَفَرَأَيْتُم مَّاتَحْرُثُونَ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُأَ مْنَحْنُ الزَّارِعُونَ﴾ (2) و قال تعالى ﴿ أَفَرَأَيْتُم مَّاتُمْنُونَ أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْنَحْنُ الْخَالِقُونَ﴾ (3)، فأضاف إلينا ما لنا و أضاف إليه ما له سبحانه و تعالى ، و قد أضاف القرآن الكريم إلى الجوارح المجترحة و نسب إلى الأدوات المكتسبة كل الأعمال و الاكتساب مما أجراه عن معاني الحكمة ، و وصف نفسه بكل ما كان من القدرة و الإرادة لأنه المريد الأول و القادر الأعلى ، فمن فهم عن الله خطابه فاز برضاه و من لم يفهم عن الله خطابه زاغ قلبه فيما تشابه .
و معنى قوله تعالى ﴿ يَمْحُواللّهُ مَايَشَاءوَيُثْبِتُ﴾ (4) يمحو الأسباب من قلوب العارفين و يثبت القدرة و يمحو الغفلة من قلوب الغافلين و يثبت الأسباب ، فالعارفون يعتبرون بالأسباب و يعجبون من التسبب فيزدادون بذلك هدى و إيماناً بشهودهم المعطي المانع واحداً في العطاء و المنع ، و لمعرفتهم بجريان الحكمة فيما جاءت به الشريعة ثبتت له مقامات الشكر له سبحانه و تعالى و الصبر عليه ، و الغافلون يضطربون و لوقوفهم عند الأسباب يثبتون النفع و الضر و الرزق للأسباب فيمدحون الناس و يذمون الناس لغفلتهم ، فالعارف لا تلهيه التجارة و لا البيع و لا الزراعة و لا الصناعة عن ذكر الله و إقام الصلاة لقيامه بشهادته أنوار القدرة و علمه أسرار الحكمة ، فقد أثبت الله تعالى الأواسط إظهارا للحكمة و نفاها إظهارا للقدرة ، فأثبتها في قوله تعالى ﴿ فَاقْتُلُواْالْمُشْرِكِينَ﴾ (1) و قال سبحانه و تعالى ﴿ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ﴾ (2) ثم قال في التوحيد ﴿ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ﴾ (3) و قال في إثبات الأسباب ﴿ الَّذِي عَلَّمَبِ الْقَلَمِ﴾ (4) ثم قال في إثبات مشاهدة القدرة ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ﴾ (5) و قال سبحانه في تثبيت الأملاك و بيعها منه بالأعواض كرماً منه و فضلاً ﴿ إِنَّاللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم﴾ (6) و قال تعالى ﴿ أَوْمَامَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ (7).
فالمتوكل حقاً يشاهد بعين بصيرته الأشياء كلها عن تصريف القدرة و إلا كان مشركاً و يعمل بالأحكام عن علم الشريعة و فهم الحكمة فيكون عاملا من عمال الله متوكلاً على الله قائماً بأحكام الله و هو المتوكل حقاً لا تحجبه الأسباب عن المسبب فيكون مشركاً و لا يحجبه شهود القدرة عن أسرار الحكمة و القيام بأحكام الشريعة فيكون متعدياُ لحدود الله تعالى .
الأسباب و التصرف في المعايش بهما شهود التوكل ، إذا تحقق باطناً بمشاهدة القدرة و ظاهراً بعلم الحكمة ، و يكون على مزيد من علم التوحيد و مزيد من حاله ، قال تعالى ﴿ وَجَعَلْنَاالنَّهَارَمَعَاشًا﴾ (1) و قال الله تعالى ﴿ وَلَقَدْمَكَّنَّاكُمْ فِيالأَرْضِوَجَعَلْنَالَكُمْفِيهَامَعَايِشَ﴾ (2)، و قال r ( أحل ما أكل العبد من كسب يده ، و كل بيع مبرور ) ، و قال ابن مسعود : إني لأكره أن يكون الرجل بطالاً ليس في عمل دنيا و لا في عمل أخرى .
و المتوكلون ثلاثة أنواع : رجل حسن توكله على الله تعالى فأقامه في الأسباب فهو يعمل مشاهداً المسبب الأول بلطائف قلبه و سر حكمته بظاهره و قلبه ساكن إلى الله تعالى لم يلابسه السبب فيشغله عن الحق ، هذا من الأبرار القائمين بأحكام الله الناهجين على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
و رجل جذبه اليقين الحق بكمال التصديق عن شهود الوكيل سبحانه و تعالى و التحقق بولايته تنزهت ذاته ، فاقتطعه بكله إلى جناب الوكيل سبحانه و تعالى و حضرة الولي تقدست ذاته ، ففر من الكون إلى الله مستأنساً بما استوحش به أهل الغرة ، فرحاً بما أحزن أهل البعد ، راضياً بما كرهه أهل الحجاب ، تجلت له أنوار الوكيل الولي فرضي به وكيلاً و فوض إليه جميع أموره، و قد كان سبعون أو تسعون أو أكثر من أهل الصفة أقامهم الله تعالى مقام التجريد في عمل الآخرة فكان الرجل منهم يتصرع من شدة الجوع آنساً و راضياً فرحاً مبتهجاً و هم في صحبة سيد الرسل الكرام ، و كان أنسهم به و خلوته معهم و بسطه بهم ، و هذا مقام المقربين من خاصة المحبوبين المتمكنين من حقيقة التوكل على الله المتحققين بكمال التفويض إلى الله ، و قليل ما هم .
الثالث رجل أقام نفسه في التجريد ميلاً إلى الراحة من عناء الأسباب و رغبة فيما في أيدي الناس ، و هو المتكلف لا الواجد ، و ليس هذا من التوكل في شيء ، و أهل هذا النوع قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لأن يأخذ أحدكم فأسه و حبله فيذهب إلى الجبل فيحتطب و يأكل و يتصدق خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه ) ، و قال صلى الله عليه وسلم ( استغنوا عن الناس و لو بشوص سواك ) يعني مضغة .
و تفصيل هذه المسألة أن أهل الأسباب المتمكنين في مشاهداتهم على السنة القويمة السمحاء ، و من أنكر عليهم فقد أنكر على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، و أهل التجريد المتمكنين في تمكين من مشاهدة التوحيد و مزيد من أنوار الولي الحميد لا ينكر عليهم إلا قادح في التوحيد شاك في ضمان الرزاق الكريم ، أما أهل الدعاوي من أهل الأسباب و التجريد ممن وقفوا عند الأسباب و احتجبوا عن المسبب و ممن تجردوا من ألأسباب لحظ عاجل فهم كالأنعام بل هم أضل سبيلاً . و الحجة في ذلك عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه r بعثه الله للناس و منهم المتجرد و المتسبب ، فلم ينكر على نوع منهم و لكنه صلى الله عليه وسلم بين كل الوجوه التي ينهج عليها كل نوع حتى يكون ناهجاً على الصراط المستقيم .
و المتوكل إما أن يكون ذا عيال أو منفرداً ، فإن كان منفرداً و كان من أهل التوحيد الكامل فالادخار حسن له إذا ادخر مالاً أو طعاماً أو ملبساً بعد إخراج حق الله منه من فرض و مندوب ، فإنما هو خزانة الله تعالى و هو خليفة الله على خزانته ينفق منها إذا أمره مالك السماوات و الأرض و من في السماوات و الأرض و ما في السماوات و الأرض بالإنفاق على نفسه و على غيره من منفعة للمسلمين أو خدمة للدين ، و لا يقدح ادخاره في توكله و توحيده ، و ما ورد من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بلالاً بترك الادخار و أمر غيره فذلك ليبين لأهل المقامات العلية ما به كمال قربهم و صحة توحيدهم . و إن كان المتوكل ذا عيال و أهل فالأكمل له الادخار ليسكن قلبه إلى الله تعالى و يقبل بكله عليه سبحانه ، قال الله تعالى ﴿ وَلاَتَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةًإِلَى عُنُقِكَ وَلاَتَبْسُطْهَا كُل ا لْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومً امَّحْسُورًا﴾ (1)، فنهانا الله تعالى عن كل البسط الذي ينفد به كل ما في أيدينا ،
و عمل رسول صلى الله عليه وسلم هو الحجة البالغة و المحجة الواضحة فقد ادخر رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهله قوت سنة و انتقل إلى الرفيق الأعلى و له ثوبان ينسجان . فالمتوكل الكامل الحسن له أن يدخر إذا كان منفرداً و الأحسن أن يدخر إذا كان ذا عيال و أهل ، فإن المال إذا كان في أيدي أهل التوكل الموحدين كان كنوزاً للإسلام و المسلمين يبذل بعد بذل النفس لسد ثغور الدين و إحياء السنة و إعلاء كلمة رب العالمين .
و إذا كان أهل مشاهدات التوحيد الموقنون المتوكلون لم يدخروا و صارت الأموال في أيدي عباد الدرهم و الدينار لا تقوم قائمة الدين و لا نحفظ ثغور المسلمين و لا تفتح الفتوحات و خصوصاً في هذا الزمان ، فيتعين على أهل التوحيد المحبين لله و رسوله أن يدخروا أكثر أموالهم عملاً بقوله تعالى ﴿ وَأَعِدُّواْلَهُم مَّااسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ﴾ (1)، وأهل المقامات في كل زمان بحسب مقتضيات زمانهم .
بعض المتوكلين ممن يجهل السنة يرى أن التداوي قدح في التوحيد ، و هو من التوحيد لأنك تشهد في الداء سر اسم الشافي المعافي و هو سبحانه الذي خلق الداء و خلق الدواء ، و قد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدواء و الرقي هل يرد من قدر فقال ( هي من قدر الله ) ، فالتداوي أكمل للمتوكل لأنه السنة العملية و القولية ، و الأولى للمريض أن يعلم الطبيب بمرضه و يكتم عن الناس خشية من شكوى الله للناس .
و المتوكل مسارع إلى الأفضل و الأكمل لحاله ، فإن كان المسلمون في أمن و غنى بمزارعهم و متاجرهم و قوة سلطانهم و نفوذ كلمتهم على غيرهم فالأكمل للمتوكل الإقبال على الله تعالى بكليته ، و قد استحسن هذا كثير من السلف بل و من الصحابة كأبي ذر الغفاري رضى الله عنه و غيره و الحسن البصري و كثير من أهل طبقته و جنيد القواريري و كثير من أهل زمانه ، و إذا تغير الحال فالأكمل للمتوكل أن تكون عبادته في الأسباب التي بها يكون المسلمون كما كانوا ليكون عاملاً من عمال الله بمقتضى الوقت .
التوكل من أعلى مقامات اليقين و أشرف أحوال المقربين ، قال الحق المبين ﴿ فَإِذَاعَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِإِنَّاللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ (2)، فجعل المتوكل حبيبه و ألقى عليه محبته ، و قال عـز و جل ﴿ وَعَلَى اللّهِ فَـلْيَتَوَكَّل الْمُتَوَكِّـلُونَ﴾ (3) فرفـع المتكلمين إليه و جعل مزيدهم منه ، و قال جلت قدرته ﴿ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُـوَحَسْبُهُ﴾ (1) أي كافية مما سواه و من الله كافيه فهو شافيه معافيه ، فقد صار المتوكل على الله من عباد الرحمن الذين أضافهم إلى وصف الرحمة و من عباد التخصيص الذين ضمن لهم الكفاية و هم الذين كفاهم الله في هذه الدار المهمات و وقاهم بتفويضهم إليه السيئات بقوله تعالى ﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾ (2)،
و قال بعض الصحابة وغيرهم : التوكل نظام التوحيد و جماع الأمر ، و قال لقمان لابنه : و من الإيمان بالله عز و جل التوكل على الله ، فإن التوكل على الله يحبب العبد ، و إن التفويض إلى الله من هدى الله و بهدى الله يوافق العبد رضوان الله و بموافقة رضوان الله يستوجب العبد كرامة الله .
و قال لقمان أيضاً : من يتوكل على الله و يسلم لقضاء الله و يفوض إلى الله و يرضى بقدر الله فقد أقام الدين و فرغ يديه و رجليه لكسب الخير و أقام الأخلاق الصالحة التي تصلح للعبد أمره .
و قال أبو يعقوب السوسي : لا تطعنوا على أهل التوكل فإنهم خاصة الله الذين خصوا بالخصوصية فسكنوا إلى الله و اكتفوا به و استراحوا من هموم الدنيا و الآخرة ، و قال : من طعن في التوكل فقد طعن في الإيمان لأنه مقرون به ، و من أحب أهل التوكل فقد أحب الله تعالى .
و أول التوكل المعرفة بالوكيل و أنه عزيز حكيم يعطي لعزه و يمنع لحكمه فيعتز العبد يعزه و يرضى بحكمه و كذلك أخبر عن نفسه فقال تعالى منبهاً للمتوكلين ﴿ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَىاللّهِ فَإِنَّ اللّهَ عَزِيزٌحَكِيمٌ﴾ (3) عز من أعز بعطيته و نظر لمن منعه بحكمته ، فإذا شهد العبد الذليل الملك الجليل قائماً بالقسط و التدبير و التقدير عنده خزائن كل شيء و لا ينزله إلا بقدر معلوم و شهد الوكيل قابضاً على نواصي المماليك له خزائن الأرض من الأيدي و القلوب و الأسباب المشاهدات فخزائن السماوات ما قسمه من الرزق و خزائن الأرض ما جعله على أيدي الخلق فأيقن العبد أن في يده ملـكوت كل شيء و أنه يملك السمع و الأبصار و يقلب القلوب و الأيدي تقـليب الليل
و النهار و أنه حسن التدبير و الإحكام للموقنين و أنه أحكم الحاكمين و خير الرازقين عندها نظر العبد الذليل إلى سيده العزيز فقوي بنظره إليه و عز بقوته به و استغنى بقربه منه و شرف بحضوره عنده ، و كذلك جاء في الخبر ( كفى باليقين غنى ) ، حينئذ نظر إليه في كل شيء و وثق به و اعتمد عليه دون كل شيء و قنع منه بأدنى شيء و صبر عليه و رضي عنه إذ لا بد له منه ، فثم لا يطمع في سواه و لا يرجو إلا إياه و لا يشهد في العطاء إلا يده و لا يرى في المنع إلا حكمته و لا يعاين في القبض و البسط إلا قدرته ، هناك حقت عبادته و خلص توحيده فعرف الخلق من معرفة خالقه و طلب الرزق عند معبوده و رازقه و قام بشهادة ما قال تعالى ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَايَمْلِكُونَلَكُمْ رِزْقًافَابْتَغُواعِندَاللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ﴾ (1)، فعندها لم يحمد خلقاً و لم يذمه و لم يمدحه لأجل أنه منعه أو أنه أعطاه إذ كان الله هو الأول المعطي و لم يشكره إلا لأن مولاه مدحه و أمره بالشكر له تخلقاً بأخلاقه و إتباعاً لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإن ذمه أو مقته فلأجل مخالفته لمولاه بموافقته هواه لأنه تعالى قد مدح المنفقين و ذم الباخلين ،
و الفرق بين الحمد و الشكر أن الحمد مفرد لا ينبغي إلا لله و هو الاعتراف بأن النعمة من الله عز و جل و حسن المعاملة بها لوجه الله لا شريك له فيها و لذلك قال ﴿ الْحَمْدُللّهِ رَبِّالْعَالَمِينَ﴾ (2) أي الحمد كله لا يكون و لا ينبغي إلا لله لأنه رب العالمين ، و في الخبر ( الحمد رداء الرحمن عز و جل ) . و الشكر إظهار الثناء و إسرار الدعاء للأواسط فهو مشترك يدخل فيه الوالدان ، و هو أيضاً مخصوص لمن هو أهل أن يشكر من الناس .
و روينا عن عمر رضى الله عنه عن النبي rصلى الله عليه وسلم ( من اعتز بالعبيد أذله الله ) و في خبر آخر ( لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدوا خِماصاً و تروح بِطاناً ، و لزالت بدعائكم الجبال ) ، و يقال : لا يدخر من الدواب إلا ثلاث ، النملة و الفأرة و ابن آدم . و قال أبو يعقوب السوسي : المتوكلون على الله تجري أرزاقهم بعلم الله و اخـتياره على يد خصوص عـباده بلا شغل و لا تعـب و غيرهم مكددون
مشغولون ، و قال أيضاً : المتوكل إذا رأى السبب أو مدح أو ذم غافلاً فهو مدع لا يصح له التوكل ، و أول التوكل ترك الاختيار ، و المتوكل على صحة قد رفع أذاه عن الخلق ، لا يشكو ما به إليهم و لا يذم أحداً منهم ، لأنه يرى المنع و الإعطاء من واحد فقد شغله عما سواه ، قال الله تعالى ﴿ وَمَامِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّعَلَى اللّهِ رِزْقُهَا﴾ (1)و قال سبحانه و تعالى ﴿ وَكَأَيِّنمِن دَابَّةٍلَاتَحْمِلُ رِزْقَهَااللَّهُ يَرْزُقُهَاوَإِيَّاكُمْ وَهُوَالسَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ (2).
فالمتوكل قد علم بيقينه أن كل ما يناله من العطاء من ذرة فما فوقها أن ذلك رزقه من خالقه و أن رزقه هو له و أن ما له واصل إليه لا محالة على أي حال كان ، و أن ما له لا يكون لغيره أبداً و كذلك ما لغيره من القسم و العطاء لا يكون له أبداً ، فقد نظر إلى قسمه و نصيبه من مولاه بعين يقينه الذي به تولاه من إحدى ثلاث مشاهدات ، و إن دنت مشاهدته نظر إلى قسمه من العطاء في الصحيفة التي كتبت له عند تصوير خلقه فكتب فيها رزقه و أجله و أثره و شقي أو سعيد ، فكما لا يقدر أحد من الخلق أن يجعله سعيداً إن كان قسمه شقياً و لا يقدر أحد أن يجعله شقياً إن كان قسمه سعيداً كذلك لا يقدر أحد أن يمنعه ما أعطاه الله من القسمة فيجعله محروماً و لا يعطيه ما منعه من الحكم فيجعله مرزوقاً لأن ذلك قد كتب كتباً واحدة و جعل مجعلاً سواء ، و روي عنه صلى الله عليه وسلم ( إن الرزق ليطلب العبد كما يطلبه أجله ) ، و قال صلى الله عليه وسلم( و إن لكل عبد رزقاً هو آتيه لا محالة ، فمن قنع به و رضي بورك له فيه ، و من لم يقنع به و لم يرض لم يبارك له فيه و لم يسعه ) . و يقال : لو هرب العبد من رزقه كما لو هرب من الموت لأدركه . و في وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس ( إذا سألت فاسأل الله ، و إذا استعنت فاستعن بالله ، و اعلم أن الخلائق لو جهدوا أن ينفعوك بما لم يكتبه الله سبحانه لك لم يقدروا على ذلك ، طويت الصحف و جفت الأقلام ) . فمن كانت هذه مشاهدته في القسم سقط عنه جملة من الهموم و استراح من النظر إلى الخلق و استراح الخلق من أذاه و شغل عنهم بخدمة مولاه .