آخر الأخبار
موضوعات

السبت، 29 أكتوبر 2016

- حاجة المجتمع إلى علم الآخرة وعلمائها

عدد المشاهدات:
حاجة المجتمع إلى علم الآخرة وعلمائها
إن احتياج المجتمع إلى العلم والعلماء فوق احتياجه ‘إلي الخبز والهواء والماء، وليس العلم الذي هو ضروري للإنسان ما يحصله لينال به جاها فى دنياه، ومنزلة عند الوزراء والأمراء، وتيسير لكمالياته، فإن هذا لا يسمي علما، بل هو فن أو حرفة، وكل فرد من بني الإنسان ينافس فى تلك القصود فوق منافسة الأسود لاغتيال الحيوانات الداجنة، وعندي أن متقن الفن، ومحسن الحرفة خير للمجتمع حسا ومعني، ممن حصل ما يسمونه علما لجلب الدنيا، لأنه أضر على المجتمع من الوحوش الكاسرة، وكيف لا، وكل واحد منهم يتفنن فى إسقاط الآخر بكل ما يمكنه من إيقاع به، أو نشر ما يضره عنه، بأساليب الكيد والحسد، والغيبة والنميمة والكذب، ليفرح بالانتقام من نظيره، ويسره باستيلائه على ما فى يده من جاه أو منصب أو صلة بعظيم؟ فهم علماء نعم، ولكن بطرق الوصول إلى الدنيا، وحكماء نعم، ولكن بأساليب العظماء، والاستيلاء على أفكارهم، وأعني بالعلم العلم النافع، الذي به سعادة المجتمع فى الدنيا والآخرة، وهو العلم الذي يكسب الإنسان صدقا فى لهجته، والقلب إخلاصا فى نواياه، وخشوعا من هيبة المعلوم، والجسم زهدا فيما يكرهه الله، والعقل ترفعا عن أن ينخدع بالحس ومقتضياته، والنفس رهبة من الله وسكونا إليه، وهذا هو العلم الذي أثني الله على أهله، وفرض طلبه.

 علم الدنيا وعلماؤها

وإنا والحمد لله أصبحنا وقد توفرت لدينا معاهد العلوم التى تحصل فيها أدوات الدنيا وآلاتها، وتعددت تلك المعاهد حتى أصبحت لا تحصي عدا، فأصبح للطلب مدرسة، ولبيطرة مدرسة، وللتجارة أخري، وللزراعة مدرسة، ولعلوم الرياضة بأنواعها مدرسة، ولرجال الإدارة مدرسة(مدرسة البوليس)، ولرجال الجهاد مدرسة (مدرسة الحربية)، وللقائمين بالأحكام مدرسة(الحقوق والقضاء)، وللفنون الجميلة أخري، وللصناعة مدارس، وقد انتشرت دور الصناعة(الورش) مع ما للأجانب من الدارس التى يحصل فيها أبناء مصر من العلوم والعوائد والأخلاق، كل ذلك لم يكتف المولعون بالتقليد به، حتى هموا ليخفوا آثار العلم النافع، ويطفئوا أنواره الباقية فى مصدره الحقيقي، ولا ندري أشرا أرادوا أم خيرا بحسب حكمهم، وتقليد عملوا أو اجتهدوا بحسب زعمهم، فجعلوا مدارسهم لتحصيل ما ينفع تلك الدار الدنيا، وينفع عند أهلها، ويكسب الجاه والشهرة والمنافسة فى حطامها، حتى أصبح الطالب يفد عليها: وكله أمل أن يحصل كذا لينال كذا، ويكون مثل فلان، اللهم إلا من كان جوهر نفسه من أنفس الجواهر، وأنه ينفع فيما هو مؤهل له، فإنا نسأل هذا السؤال: هل ما يعلم فرض عين أو فرض كفاية؟ وهل إذا كان فرض كفاية فهل فى الأمة من قام به من خريجي غير الأزهر أم لا؟ وهل إذا قام به رجال حصلوا العلوم فى غير الأزهر فلم لا يكون الأزهر ينبوعا من ينابيع العلم النافع للمجتمع الإسلامي؟ (وأسألهم سؤلا آخر): هل من علم الآخرة علم يقين، وما فيها من النعيم المقيم والعذاب الأليم، وعلم الدنيا علم يقين، وما فيها من العناء، وما هي عليه من الزوال والفناء، وأن لكل نفس سجلا يطوي ينشر يوم القيامة، ينفق أنفاسه، أو يضيع أوقاته مفسدا، أو يسعي للشرف والبزخ والجاه، وجلب الأموال والتزلف إلى الأمراء والعظماء؟ أرجوا أن يكون الجواب سديدا.


وسؤالا ثالث: أرجو أن يبينوا لي قوله تعالى: (إنما يخشي الله من عباده العلماء)(فاطر:28). مع تعريف الخشية ومحلها، والأحوال التى تنتج عنها وهي الحجة على تصديق المدعي لها، وسأشرح بعد حقيقة العلم النافع للناس، والفرق بين علماء الدنيا والآخرة، وفوائد علماء الآخرة للمجتمع، ومضار علماء الدنيا للمجتمع، والله ولي التوفيق.

- الشيطان والإنسان

الإنسان يجهل نفسه، مع أنه هو الإنسان، ويجهل حقيقة ينسب إليها كل الشرور، معتقدا عداوتها، فلا تري إنسانا إلا وهو يلعن الشيطان، وينسب إليه ما يعمله من الشرور.

وما دام الإنسان يجهل نفسه، فهو بعيد عن الفضائل، محروم من نيل الكمالات، وما دام يجهل الشيطان فهو هاو فى مهاوي المقت والعذاب، لأنا نري كثيرا من الناس يتلذذون بالشرور، ويبتهجون بضرر الغير، مفتخرين بتلك الرذائل، فرحين بوقوعها منهم على غيرهم، فإذا قابلهم الغير بمثلها لعنوه، وقالوا: شيطان وشنعوا عليه، وذموه، واستنجدوا بالناس عليه، ليطهروا الأرض منه، فيرون أقبح القبائح من أنفسهم حسناً، ويرون الهفوة من غيرهم أقبح القبائح، كل ذلك لجهلهم بأنفسهم وبالشيطان.


تري الجاهل يذكر فضائل الغير حامدا له، شاكرا متعصبا له، غيورا عليه، ناشرا فضائله، مع أنه إنسان نظيره، يمكنه بسهولة أن يبلغ ما بلغه من الكمالات. هذا وبينما تراه يمدح فضائله يقع فى الرذائل التى هي من صفات الشيطان.



إنك تري الفسقة والفجار والظلمة يهابون الأتقياء، ويعظمونهم، ويتبركون بهم، حبا فى الفضائل، وإكراما للتقوى، ومع ذلك يصرون على الشرور والقبائح، ولو أنهم عرفوا أنفسهم، وعرفوا الشيطان، لتجملوا بتلك الفضائل بسهولة. ولصاروا أئمة هدي، يحبهم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ويحبهم الناس جميعا.


وهنا سألني سائل: كيف أعرف نفسي وأعرف الشيطان؟ أجيبه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من عرف نفسه فقد عرف ربه) (رواه أبو المظفر بن السمعاني عن يحي بن معاذ الرازي، وقال النجم قلت وقع فى أدب الدين والدنيا للماوردي عن السيدة عائشة رضى عنها).

وقال صلى الله عليه وسلم: (أعدي عدوك نفسك التى بين جبينك) ( رواه البيهقي فى الزهد وله شاهد من حديث أنس رضى الله عنه).

وقال الله تعالى: (إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا)(فاطر:6).

وقد وردت الآثار فى كل الكتب السماوية بعداوة الشيطان، مبينة أعماله وطرق التحفظ منه، ولكني أجيب على هذا السؤال : إنك أيها الطالب معرفة نفسك ومعرفة الشيطان طلبت مقصدا عظيما، يجب أن ينال علما وعملا، وطالب السعادة الأبدية يبذل لنيلها أنفاسه النفائس مستقلا لها، فاطلب عارفا بنفسه، عارفا بربه، تعرف الحقائق.

 محادثة العلم والعلماء

طالب جاهد نفسه جهادا أكبر لينال بغيته من العلم، فتحصل على ما مالت نفسه إليه، وناظر شيوخه وأساتذته، حتى ظهرت له المساواة، وكان يعتقد أن أهل العلم لهم درجة عالية بنص قوله سبحانه: (المجادلة:11).

فلم يجد لنفسه درجة فوق ما كان عليه قبل التعلم، ووجد الذي كان عليه فى دار أبيه، من الصلاة والزكاة والصيام لم يزد، وربما حصل التساهل فى تأديتها، فعجب وقال: ما الذي اكتسبته من التعلم؟ وابتهل إلى الله تعالى أن يكشف له الستار عن الحقيقة، وأن يبين له أقرب الطرق الموصلة إليه، وأصفي الموارد المقربة منه سبحانه وتعالي، وجلس متوجها إلى الله بقلبه، وفي هذا التوجه حضر قلبه. فرأي أنه فى مجتمع من أهل الصفا مع الله تعالى، وكأنهم فى مجلس علم، وكأن العلم يبين لهم حقيقته، فأصغي بأذن قلبه، متجردا من هيكله الإنساني ولوازمه، مقبلا بكليته على التلقي، فسمع العلم يقول: إنما يحتاج إلى عند غيبة الحقيقة، لأرسمها على جوهر النفس بمقدار قابلية النفوس، لا بقدر الحقيقة على ما هي عليه، فإذا صفي جوهر النفس، ورسمت عليه صورة الحقيقة، تاقت النفس إلى جلية الأمر وكليته، فارتقت من العلم إلى الذوق، ومن الذوق إلى الشهود وجدا، ومن الشهود إلى العيان وجودا، ومن تلقي العلم فظن أنه بلغ الغاية بالعلم، حرم الرعاية، وهي العمل بالعلم، فإن كمال العلم العمل به، لأن العمل به دليل على حصول علم الرعاية للعالم، ومن حرم الرعاية حرم العلم( أي: لازمه)، وأنا وإن كنت مقصدا عظيما لمن رغبوا فى السعادة إلا إنى  بعد تحصيلي أكون وسيلة لمقصد عظيم، وكل علم لم يكن معلومه الله ورسوله، فهو فى غايته تحصيل ما به حفظ الصحة وبقاء الحياة فى كون الفساد. سأله أحد أهل الصفا الجالسين قائلا: يا أخي، ولو كان علم أحكام الله تعالي؟ قال: نعم فإن من تعلم الأحكام قبل العلم بالحاكم هلك وأهلك. أنظر إلى العلماء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يكرهون الولاية، كسيدنا على ابن أبي طالب رضى الله عنه حين ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فى غزوة تبوك، ومعاذ ابن جبل حين ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم اليمن، حرصا على دوام مواجهة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأبي حنيفة الذي ضرب على الولاية فأبها. وابن أبي ليلي، وابن جريج، ومالك بن أنس الذي ضرب وأوذي رضى الله عنهم أجمعين لأنهم تعلموا الإيمان، ثم تعلموا القرآن، ثم الأحكام.



وسأله آخر قائلا: يا سيدي، إن أكثر العلماء الآن يهتمون بتحصيل علم الأحكام والأخبار والأقاصيص، فقال: أما الذين يتعلمون الأخبار فهم أهل الشهرة، لأنهم يحفظون الأحاديث باختلاف الروايات، ويعلمون التجريح والتعديل، حتى يكون لهم المنزلة العليا، وأما الذين يتعلمون الأقاصيص، فهم الذين يحبون أن يكونوا شيوخا على العامة، لينالوا حظهم، أما العلم الذي هو علم يطلبه أهل الصفا والوفا من خيرة عباد الله فهو العلم بالله، والعلم بأيام الله، والعلم بآداب سلوك طريق الله تعالى، وهذا لا يقبل عليه إلا من سبقت لهم الحسنى من الله تعالى، لأنها عناية أزلية تجذب النفوس إلى ما خلقت له، قال تعالى: (الأحزاب:41،42). وقال تعالى: (البقرة: 282). وقال صلى الله عليه وسلم: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له)(رواه البخاري فى كتاب القدر الباب 4  وكتاب تفسير القرآن "سورة الليل"  الباب 7،5،4،3 وكتاب التوحيد الباب 54، ومسلم فى كتاب القدر الحديث 8،7،6 والترمذي فى كتاب القدر الباب 3 وتفسيره " سورة الليل"، وأحمد فى الجزء الرابع صفحة 67). وليس تحصيل الأحكام بعلم يقرب من الله تعالى، ولكنه يقرب من الملوك، ومن حصل العلم بالأحكام ولم يحصل العلم بالحاكم، كان ممن لم يجعل الله لهم نورا، ولم تحصل التفرقة بين جماعة المسلمين، وخلاف بينهم، إلا من حصلوا العلم بالأحكام، ولم يهبهم الله تعالى العلم به سبحانه وتعالي، قال تعالى: ( فاطر:28)

بأي علم؟ قال: العلماء بالله تعالى، ولكن العلماء بالأحكام لا خشية فى قلوبهم من الله تعالى، وكيف تكون فى قلوبهم الخشية؟! وهم أسرع الناس منافسة فى الوظائف، والتقرب من الملوك والأمراء، والخوف من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومجارة أهل الأهواء لا للمدارة ولكن للمداهنة؟ ولو أن الخشية من الله تعالى فى قلوبهم لرخصت الدنيا فى أعينهم، بل رخصت دماؤهم غيرة للحق، وإن نفسا واحد فى تحصيل العلم بالله تعالى يقوي به اليقين، قوة تبذل به الحياة العزيزة غيرة للحق كما فعل سحرة فرعون الذين قالوا له: (طه: 72). بعد أن ظهرت لهم آية من عجائب قدرة القادر سبحانه وتعالي، وهذا درس لم يتجاوز أنفاسا، كيف أنتج بذل الحياة محافظة على الأدب مع الله سبحانه وتعالي؟! وقد فعل أكثر من ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد عذب بلال، وياسر وزوجته وابنه عمار فى الله تعالى، حتى قتلت ام عمار طعنا بالحربة فى فرجها غيرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسمع فيه ما تكره، ومات سيدنا ياسر وهو مولي من فادح العذاب. وكان ينجيه أن يداري قريشا، وكم عذب فى الله رجال حتى فارقوا أوطانهم وأعراضهم وأموالهم، وأبت خشية الله التى فى قلوبهم أن يداروا، فإذا كان العلم بأحكام الله تعالى ينتج الخشية من الله تعالى لما رضى العلماء أن ينافسوا فى خدمة الملوك والأمراء، على ما هم عليه من البدع المضلة، والأهواء المضرة، وكيف يرضي العالم الذي يخشي الله تعالى أن يشتري بآيات الله ثمنا قليلا، ويبيع الآخرة بالدنيا، ويري معالم الله قد انتهكت، وحدود الله قد عطلت، وشعائر الله قد استهين بها، وهو متلذذ بطعام شهي، وثوب بهي، وفراش وطي، وخدم وحشم،  يداهن الأمراء ويرضيهم فى غضب الله تعالي؟ وكيف يكون عالما من يجعل العلم آلة لجمع الدنيا، أو يتعلم ليتولي رئاسة أو ولاية؟.


سأل آخر فقال: يا سيدي العلم، أليس هؤلاء علماء؟ قال: لا ليسوا علماء، فإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن يكره، ولا يعطي الإيمان إلا من يحب، وإنما هذه فنون صناعية كالصناعات الأخرى، يتحصل عليها المؤمن والكافر بصفته إنسانا. أما العلم النافع فإنه فضل من الله تعالى، يهبه الله تعالى بالفضل لمن يشاء، قال تعالى: (الرحم:1-4). وإني لا أحل قلبا إلا ولزمتني الخشية، ولا ينالني إنسان إلا وسبقتني الرعاية، ولا يتحصل على طالب إلا وتكشف له الدنيا عن حقيقتها، فرغب، وتجافي بجانبه عنها، وسارع إلى مغفرة من ربه عرضها السموات والأرض. والله الموفق

صلي الله على سيدنا محمد وعلي آله وصحبه و سلم.


أول ما يجب على المسلم طلب العلم الذي لابد منه.

فأول واجب طلب علم الإيمان، ويرغب فى تعليم أحكام الصلاة من السنة العشرة من عمره، حني إذا فرضت عليه الصلاة بالبلوغ فرضت عليه أحكام الصلاة، ويرغب فى تحصيل علم الصيام بعد العاشرة من عمره، حتى إذا بلغ فرض عليه تحصيل هذا العلم ليعمل به، ويفرض عليه تحصيل علم الحج إذا توفرت شروطه، وهكذا يتعين عليه تحصيل علم المعاشرة للزواج، ويرغب فى تعليمه قبل ذلك، فالمسلم لا يكمل إيمانه إذا جهل الضروري من الدين مما لابد لكل مسلم منه، علما وعملا، وما كان غير ضروري فمنوط به الأمير مما تدعوا إليه المعاملة وسياسة المجتمع، ودوام الصفا بين جماعة المسلمين وأهل ذمتهم، وكبح جماح النفوس عن تعدي حدود الله تعالى، ورجوعها إلى الوسط. كل ذلك يجب أن يقوم به الأمير، ويتعين على كل مسلم أن يرفعه إليه، فإن ذلك من أحكام الله وحدود شريعته، ومن تكلم فى هذا بين الناس، وأفتي فى مثل هذه الشئون ولم يكن أميرا، وعلم به الأمير آخذه، ودام الأمر على ذلك إلى زمان عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه.

 احتياج الأمراء إلى المفتين


ولما تساهل الأمراء فى تحصيل ما هو فريضة عليهم، اضطروا إلى أن يعينوا له مفتين، يرجعون إلى فتياهم، فكان الأمير يجلس وعلي يمينه مفت، وعلي يساره مفت، وترفع إليه المسائل، وكان من الصحابة رضى الله عنهم لا يمنعون من أفتي فى شأن من شئون الأحكام والحدود، ولكنهم يجلسون أمام العباد والعلماء بالله تعالى يسمعون منهم الحكمة والمعرفة، ويحثون نوابهم فى البلاد، وجماعة المسلمين على التقرب من أهل العبادة والزهد، حتى كتب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه أن اقتربوا من أفواه العباد والزهاد فإنه تجلي لهم حقائق صادقة.



ولما أن احتاج الأمراء إلى المفتين، طلبوا إلى العلماء، ورغبوهم، وكان العلماء رضى الله عنهم، متمسكين بالحق، نظروا إلى الدنيا بعين الإيمان والعلم، كشف لهم العلم عن مبدئها ونهايتها ففروا من الأمراء. دعا أمير المؤمنين أبو جعفر المنصور أبا حنيفة وابن ليلي وأياس ابن وبيضة ليوليهم فأبي أبو حنيفة عليه، حتي أقسم أبو جعفر بالطلاق ليولينه، فلم يقبل أبو حنيفة، فضرب بالسياط مرارا، حتى كادت روحه تزهق، وبعد ذلك ولاه أبو جعفر عدادا لللبن (الطوب) فرضي أن يكون عداد طوب، ولم يرض أن يكون قاضي قضاة المسلمين فى ذلك العصر، ثم أمر ابن أبي ليلي بقبول الولاية، فأقسم بالله العظيم ثلاثا أنه لا يصلح لها، فإن كان صادقا فى يمينه يولي أمير المؤمنين من لا يصلح، وإن كان كاذبا فأمير المؤمنين يولي كاذبا، واستعفاه فقبل منه. وأمر إياس بن وبيضة بقبوله، فقال: يا أمير المؤمنين، إن ابن أبي ليلي تخلص من النار بيمين حنث يصوم لها ثلاثة أيام، فقال أمير المؤمنين: حيث فقهتها فأنت أولي بها منه، وولاه مكرها، ثم نافس الناس فى الدنيا، فتعلموا العلم للفتيا، فتشبهوا بالأمراء والملوك.


وإن المفتي هو أمير الأمراء، لأنه عليه أن يحكم وعليهم أن ينفذوا،  لأنه عالم بأحكام الله تعالى وحدوده، يخشي الله تعالى، ويخاف عذابه، ويرجو نعيمه أكثر من خوفه من الأمراء، فهو إنما يفتي بالحق ولو على نفسه قال الله تعالى: (النساء:135). وقال صلى الله عليه وسلم: ( قاض فى الجنة وقاضيان فى النار). وقال صلى الله عليه وسلم : ( القضاة ثلاثة. قاض قضي بالحق وهو يعلم فذاك فى الجنة، وقاض قضي بالجور وهو يعلم، أو قاضي بالجور وهو لا يعلم فهما فى النار). (رواهما الحاكم فى مستدركه وفي التاريخ عن بريدة رضى الله عنه).


 المفتون والقضاة فى الصدر الأول

قام المفتون والقضاة فى الصدر الأول مع الأمراء قوامين لله بالحق، مثل الإمام أبي يوسف، والإمام يحي بن أكثم، وإياس بن وبيضة، وأهل زمانهم فى جميع الأمصار، يحكم المفتي والقاضي على الأمير فينفذ على نفسه حكمهم، طاعة لأمر الله.

رفع بعض الأعراب إلى قاضي المدينة المنورة ظلم أحد خلفاء بني العباس بأخذ جمالهم ولم يدفعوا لهم ما عاهدوهم عليه من المال، فكتب القاضي إلى الخليفة: إن سنة رسولا الله صلى الله عليه وسلم تدعوك لحق عليك، فتوجه رسول القاضي إلى الخليفة وهو واقف أما روضة رسول الله صلى الله عليه وسلم وناوله الورقة، فأقسم الخليفة فى نفسه أنه إن أراد القاضي بذلك الشهرة والفخر ليقتلنه، وإن أراد بذلك المساواة والعدالة ليرفعه، فتوجه إلى القاضي، فلما وقف بين يديه، نادي خصمه، وقال: أعط لهذا حقه، فسأله أمير المؤمنين عن حقه، فاعترف به أمير المؤمنين، وطلب من القاضي أن يصبر عليه حتى يتوجه إلى داره، ويسلم خصمه حقه، فقال القاضي: لا تخرج من مجلسي هذا حتى تدفع ما عليك، وأمر  خصمه بالجلوس، وأمر الخليفة بالجلوس، فأرسل أمير المؤمنين من أحضر له المال، فلما أن سلمه للقاضي، وسلم القاضي المال للمدعي، أخرجه من المجلس، ثم قام على قدميه غاضا بصره، وقال السلام عليكم يا أمير المؤمنين، وقبل يد الخليفة، ووقف أمامه، فقال الخليفة: أكثر الله فى أمة محمد صلى الله عليه وسلم من أمثالك.


ولما احتضر للموت الإمام أبو يوسف بكي، فقيل : ما يبكيك؟ قال: لذنب عظيم أخافه، قيل: وما هو؟ قال: وقف أمير المؤمنين هارون، وخصم له يهودي أمامي، فتمنيت بقلبي أن يكون الحق لأمير المؤمنين على اليهودي، فكان الحق لليهودي، فحكمت له به على أمير المؤمنين، فأنا أخاف من ذنبي هذا.


التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:




شارك فى نشر الخير