عدد المشاهدات:
حقيقة الزهد وفضل الزاهدين
معرفة الزهد متوقفة على معرفة الدنيا أي شيء هي، فقد قال الناس في الزهد أشياء كثيرة، ونحن غير متحاجين إلى ذكر أقوالهم بما بين الله تعالى وأغنى بكتابه الذي جعل فيه الشفاء والغنى، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (وهو الحبل المتين والصراط المستقيم، من طلب الهدى في غيره أضله الله)، وقال سبحانه )وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ )(الشورى: من الآية10)، وقال عز وجل )فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ )(البقرة: من الآية213). فقد ذكر الله جل اسمه في كتابه.
1- أن الدنيا سبعة أشيـاء وهو قوله تعالى )زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ) (آل عمران: من الآية14) ثم قال تعالى في آخرها ) ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ). فحصل من تدبر الخطاب أن هذه السبعة جملة الدنيا. وأن هذه الأوصاف السبعة، وما تفرع من الشهوات رد إلى أصل من هذه الجمل، فمن أحب جميعها فقد أحب جملة الدنيا نهاية الحب، ومن أحب أصلا منها أو فرعا من أصل فقد أحب بعض الدنيا ، فعلمنا بنص الكلام أن الشهوة دنيا، وفهمنا من دليله أن الحاجات ليست بدنيا لأنها تقع ضرورات، فإذا لم تكن الحاجة دنيا دل أنها لا تسمى شهوة، وإن كانت قد تشتهي لأن الشهوة دنيا. واستند ذلك لخبر عن الله تعالى في الإسرائيليات (إن إبراهيم عليه السلام أصابته حاجة، فذهب إلى صديق يستقرض منه شيئا فلم يقرضه، فرجع مغموما، فأوحى الله إليه: لو سألت خليلك لأعطاك، فقال: يا رب عرفت مقتك للدنيا فخشيت أن أسألك منها فتمقتني، فأوحى الله تعالى إليه: ليس الحاجة من الدنيا).
2- ورد سبحانه وتعالى في آية أخرى السبعة أوصاف المتقدمة إلى خمسة بقوله جل وعلا )اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ )(الحديد: من الآية20) فهذه الخمسة هي وصف من أحب تلك السبعة.
3- ثم اختصر سبحانه الخمسة في معنيين هما جامعان للسبعة فقال )إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ )(محمد: من الآية36).
4- وقد رد الجميع إلى صف واحد بقوله : ) وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) (النازعـات40 :41)فصارت الدنيا طاعة النفس للهوى بدليل قوله تعالى )فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى) (النازعـات37 :39) ، فلما كانت الجنة ضد الجحيم كان الهوى هو الدنيا، لأن النهى عنه ضد الإيثار لـه. فمن نهى نفسه عن الهوى فإنه لم يؤثر الدنيا، وإذا لم يؤثر الدنيا فهو الزاهد وكانت لـه الجنة التي هي ضد الجحيم، فصارت الدنيا هي طاعة الهوى وإيثاره في كل شيء.
فينبغي أن كون الزهد مخالفة الهوى في كل شيء، فمن زهد في الحياة الفانية وفي ماله المجموع بالجهاد للنفس والإنفاق في سبيل الله فقد زهد الدنيا، ومن زهد في الدنيا أحبه الله تعالى كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك صار الجهاد أفضل الأعمال لأنه حقيقة الزهد في الدنيا ولأن الله تعالى يحب من زهد في الدنيا. ثم كانت مخالفة الهوى من أفضل الجهاد لأنه هو حقيقة الرغبة في الدنيا، وقد عبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الزهد في الدنيا فقال : (أزهد في الدنيا يحبك الله تعالى).
فالزاهد في الدنيا حبيب ربه تعالى، والراغب في حب البقاء لنفسه منافق في دين ربه تعالى، ومنه الخبر الذي جاء: (من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شبعة من نفاق)، وبه كشف الله تعالى الكاذبين ووصفهم بمرض القلوب فقال سبحانه وتعالى ) فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ )(محمد: من الآية20)يعني نفاقا (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ)(محمد: من الآية20) تهديد ووعيد أي وليهم العذاب وقرب منهم، ثم قال )طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ )(محمد: من الآية21) أي يظهر منهم طاعة وقول معروف ) فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ ) وحققت الحقائق كذبوا ونكثوا ) فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ) في الوفاء ) لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ)(محمد: من الآية21).
ولما حقق الله الزهد بغنى النفس وإخراج المال في ذكر المبيع والمشترى في قوله ) يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ )(التوبة: من الآية111)، وكان الزهد هو ترك طاعة الهوى وبيع النفس بنهيها عنه من المولى، وكان العرض من ذلك الجنة.. كان الزاهد هو الخائف مقام ربه البائع نفسه طوعا قبل أن يخرج نفسه إليه كرها، وكان الله تبارك وتعالى هو المحبوب لـه القريب منه، فصار العبد محبا لـه فجعله من المقربين عنده تعالى. وإذا كانت الدنيا هي طاعة الهوى وحب الحياة الدنيئة لمتعة النفس الشهوانية، كان الراغب في ذلك آمنا لمكر الله تعالى، مشتريا للحياة الدنيا، بائعا بذلك الحياة العليا فلم يكن محبا لـه، وكان من المبعدين عنه بسوء اختياره، وحق عليه الخسران والجحيم في الآخرة، لأنه ضد الزاهد المقرب الظافر بدار القرب في جوار الحبيب القريب.
تفصيل حقيقة الزهد:
1- إذا كان الشيء موجودا عندك وأنت ممسكه لنفسك ثم توهمت أنك زاهد فيه لخواطر الإرادة أو لإرادة الزهد فقد كذبت على نفسك بتسميتك إياها زاهدا، أو كذبك وجدك على العلم جهلا منك بربك عز وجل، أو موهت على نفس غيرك ممن لا يعرف الزهد، وهذا زهد منك في الزهد، ورغبة منك أيضا في الدنيا حتى يخرج الشيء الذي تظن أنك زهدت فيه وتعتاض محبة إليه تعالى وطلب مرضاته تبارك وتعالى أو ما عنده من ثوابه، فحينئذ يصح زهدك فيه على العلم وعند العلماء فتكون صادقا، فهناك وصفك الزاهد بالزاهد وسماك الزاهدون زاهدا.
2- أما إذا لم يكن الشيء موجودا لك، فإن زهدك فيما لا تملك لا يصح. والزهد في معلوم باطل من قبل أن تصرفك لا يصح فيما لا تملك، فكذلك لا يصح زهدك فيه، ولعله لو كان موجودا تغير قلبك به وتقلب فيه إذ ليس الخبر كالمعاينة، لأن الخبر قد يشتبه ويوهم، والمعاينة تكشف الحقيقة وتحكم على الخلقة، ولأن النفس ذات بدوات لما طبعت عليه من حب المتعة بالرفاهية، فكذلك لا يجعل ظنا معدوما كيقين موجود، إذ لو كان- كيف يكون الأمر؟
ولكن قد يكون لك مقام من المعدود في المعدوم بقيامك بشرطه وهو أن لا تحب وجود الشيء ولا تأس على فقده، أو تكون مغتبطا بعدمك مسرورا بفقرك، يعلم الله ذلك من غيبك ويطلع على سرك أنك لا تفرح بوجوده لو وجدته وتخرجه إن دخل عليك، وإن قلبك قانع بالله سبحانه، راض عن الله سبحانه وتعالى بحالك التي هي العدم من الدنيا، غير محب للاستبدال بها من الغنى بصدق يقينك بفضيلة الزهد.. فإذا كنت بهذا الوصف حسب لك جميع ذلك زاهدا، وكان لك بأحد هذه المعاني ثواب الزاهدين وإن لم تكن للدنيا واجدا.
وصف الزهد وفضله:
قوة الزهد الذي لابد منه وبه تظهر صفة الزاهد- وينفصل به عن الراغب هو:
1- أن لا يفرح بعاجل موجود من حظ النفس.
2- لا يحزن على مفقود من ذلك.
3- أن يأخذ الحاجة من كل شئ عند الحاجة إلى الشيء.
4- لا يطلب الشيء قبل الحاجة.
أول الزهــد
دخول غم الآخرة في القلب، ثم وجود حلاوة المعاملة لله تعالى. ولا يدخل غم الآخرة إلا بعد خروج هم الدنيا، ولا تدخل حلاوة المعاملة حتى تخرج حلاوة الهوى. وكل من تاب من ذنب ولم يجد حلاوة الطاعة لم يؤمن عليه الرجوع فيه، ومن ترك الدنيا ولم يذق حلاوة الزهد رجع في الدنيا، ولا يذوق حلاوة المعاملة حتى يخرج حلاوة الهوى.
خالـص الزهــد
هو إخراج الموجود من القلب، ثم إخراج ما خرج من القلب عن اليد، وهو عدم الموجود على الاستصغار لـه، والاحتقار والتقالل لهوان الدنيا عنده وصغرها في عينه، فبهذا يتم الزهد. ثم ينسى زهده في زهده، فيكون حينئذ زاهدا في زهده لرغبته في مزهده، وبهذا يكمل الزهد.
لبـه وحقيقتـه
وهو أعز الأحوال في مقامات اليقين، وهو الزهد في النفس لا الزهد لأجل النفس، ولا للرغبة في الزهد للزهد، وهذه مشاهدة الصديقين وزهد المقربين عن وجد عين اليقين. ودون هذا مقامات إخراج المرغوب فيه عن اليد مع نظراته إليه، وعلى مجاهدة النفس فيه وهو زهد المؤمنين وذلك العمل بالزهد عقد وعمل إذا كان الزهد عن الإيمان، والإيمان قول وعمل، وكذلك الزهد عقد وعمل، فالعقد خروج حب الدنيا من القلب بدخول حب الآخرة في القلب، والفعل بالزهد إخراج المحبوب من اليد في سبيل الله معتاضا منه ما عنده سبحانه وتعالى من وجهه الكريم جل وتعالى أو أقرب جواره في داره. وقد روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (أن الله تعالى يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من يحب)، والذي يحبه الله تعالى ممن أعطاه الدنيا لا يخالف حبيبيه إلى هواه، ولا يؤثر نفسه على محبة مولاه تبارك وتعالى، إذ قد تولاه فيما أعطاه وتحدث رضي الله عنه مبينا رؤية أهل الله للدنيا، وأنها لا تدم لذاتها، وأنها محمودة عند الأبرار، وهي الموطن الثاني للأخيار، لا يلههم آثارها عن أنوار تجليات الحق
معرفة الزهد متوقفة على معرفة الدنيا أي شيء هي، فقد قال الناس في الزهد أشياء كثيرة، ونحن غير متحاجين إلى ذكر أقوالهم بما بين الله تعالى وأغنى بكتابه الذي جعل فيه الشفاء والغنى، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (وهو الحبل المتين والصراط المستقيم، من طلب الهدى في غيره أضله الله)، وقال سبحانه )وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ )(الشورى: من الآية10)، وقال عز وجل )فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ )(البقرة: من الآية213). فقد ذكر الله جل اسمه في كتابه.
1- أن الدنيا سبعة أشيـاء وهو قوله تعالى )زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ) (آل عمران: من الآية14) ثم قال تعالى في آخرها ) ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ). فحصل من تدبر الخطاب أن هذه السبعة جملة الدنيا. وأن هذه الأوصاف السبعة، وما تفرع من الشهوات رد إلى أصل من هذه الجمل، فمن أحب جميعها فقد أحب جملة الدنيا نهاية الحب، ومن أحب أصلا منها أو فرعا من أصل فقد أحب بعض الدنيا ، فعلمنا بنص الكلام أن الشهوة دنيا، وفهمنا من دليله أن الحاجات ليست بدنيا لأنها تقع ضرورات، فإذا لم تكن الحاجة دنيا دل أنها لا تسمى شهوة، وإن كانت قد تشتهي لأن الشهوة دنيا. واستند ذلك لخبر عن الله تعالى في الإسرائيليات (إن إبراهيم عليه السلام أصابته حاجة، فذهب إلى صديق يستقرض منه شيئا فلم يقرضه، فرجع مغموما، فأوحى الله إليه: لو سألت خليلك لأعطاك، فقال: يا رب عرفت مقتك للدنيا فخشيت أن أسألك منها فتمقتني، فأوحى الله تعالى إليه: ليس الحاجة من الدنيا).
2- ورد سبحانه وتعالى في آية أخرى السبعة أوصاف المتقدمة إلى خمسة بقوله جل وعلا )اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ )(الحديد: من الآية20) فهذه الخمسة هي وصف من أحب تلك السبعة.
3- ثم اختصر سبحانه الخمسة في معنيين هما جامعان للسبعة فقال )إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ )(محمد: من الآية36).
4- وقد رد الجميع إلى صف واحد بقوله : ) وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) (النازعـات40 :41)فصارت الدنيا طاعة النفس للهوى بدليل قوله تعالى )فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى) (النازعـات37 :39) ، فلما كانت الجنة ضد الجحيم كان الهوى هو الدنيا، لأن النهى عنه ضد الإيثار لـه. فمن نهى نفسه عن الهوى فإنه لم يؤثر الدنيا، وإذا لم يؤثر الدنيا فهو الزاهد وكانت لـه الجنة التي هي ضد الجحيم، فصارت الدنيا هي طاعة الهوى وإيثاره في كل شيء.
فينبغي أن كون الزهد مخالفة الهوى في كل شيء، فمن زهد في الحياة الفانية وفي ماله المجموع بالجهاد للنفس والإنفاق في سبيل الله فقد زهد الدنيا، ومن زهد في الدنيا أحبه الله تعالى كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك صار الجهاد أفضل الأعمال لأنه حقيقة الزهد في الدنيا ولأن الله تعالى يحب من زهد في الدنيا. ثم كانت مخالفة الهوى من أفضل الجهاد لأنه هو حقيقة الرغبة في الدنيا، وقد عبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الزهد في الدنيا فقال : (أزهد في الدنيا يحبك الله تعالى).
فالزاهد في الدنيا حبيب ربه تعالى، والراغب في حب البقاء لنفسه منافق في دين ربه تعالى، ومنه الخبر الذي جاء: (من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شبعة من نفاق)، وبه كشف الله تعالى الكاذبين ووصفهم بمرض القلوب فقال سبحانه وتعالى ) فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ )(محمد: من الآية20)يعني نفاقا (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ)(محمد: من الآية20) تهديد ووعيد أي وليهم العذاب وقرب منهم، ثم قال )طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ )(محمد: من الآية21) أي يظهر منهم طاعة وقول معروف ) فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ ) وحققت الحقائق كذبوا ونكثوا ) فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ) في الوفاء ) لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ)(محمد: من الآية21).
ولما حقق الله الزهد بغنى النفس وإخراج المال في ذكر المبيع والمشترى في قوله ) يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ )(التوبة: من الآية111)، وكان الزهد هو ترك طاعة الهوى وبيع النفس بنهيها عنه من المولى، وكان العرض من ذلك الجنة.. كان الزاهد هو الخائف مقام ربه البائع نفسه طوعا قبل أن يخرج نفسه إليه كرها، وكان الله تبارك وتعالى هو المحبوب لـه القريب منه، فصار العبد محبا لـه فجعله من المقربين عنده تعالى. وإذا كانت الدنيا هي طاعة الهوى وحب الحياة الدنيئة لمتعة النفس الشهوانية، كان الراغب في ذلك آمنا لمكر الله تعالى، مشتريا للحياة الدنيا، بائعا بذلك الحياة العليا فلم يكن محبا لـه، وكان من المبعدين عنه بسوء اختياره، وحق عليه الخسران والجحيم في الآخرة، لأنه ضد الزاهد المقرب الظافر بدار القرب في جوار الحبيب القريب.
تفصيل حقيقة الزهد:
1- إذا كان الشيء موجودا عندك وأنت ممسكه لنفسك ثم توهمت أنك زاهد فيه لخواطر الإرادة أو لإرادة الزهد فقد كذبت على نفسك بتسميتك إياها زاهدا، أو كذبك وجدك على العلم جهلا منك بربك عز وجل، أو موهت على نفس غيرك ممن لا يعرف الزهد، وهذا زهد منك في الزهد، ورغبة منك أيضا في الدنيا حتى يخرج الشيء الذي تظن أنك زهدت فيه وتعتاض محبة إليه تعالى وطلب مرضاته تبارك وتعالى أو ما عنده من ثوابه، فحينئذ يصح زهدك فيه على العلم وعند العلماء فتكون صادقا، فهناك وصفك الزاهد بالزاهد وسماك الزاهدون زاهدا.
2- أما إذا لم يكن الشيء موجودا لك، فإن زهدك فيما لا تملك لا يصح. والزهد في معلوم باطل من قبل أن تصرفك لا يصح فيما لا تملك، فكذلك لا يصح زهدك فيه، ولعله لو كان موجودا تغير قلبك به وتقلب فيه إذ ليس الخبر كالمعاينة، لأن الخبر قد يشتبه ويوهم، والمعاينة تكشف الحقيقة وتحكم على الخلقة، ولأن النفس ذات بدوات لما طبعت عليه من حب المتعة بالرفاهية، فكذلك لا يجعل ظنا معدوما كيقين موجود، إذ لو كان- كيف يكون الأمر؟
ولكن قد يكون لك مقام من المعدود في المعدوم بقيامك بشرطه وهو أن لا تحب وجود الشيء ولا تأس على فقده، أو تكون مغتبطا بعدمك مسرورا بفقرك، يعلم الله ذلك من غيبك ويطلع على سرك أنك لا تفرح بوجوده لو وجدته وتخرجه إن دخل عليك، وإن قلبك قانع بالله سبحانه، راض عن الله سبحانه وتعالى بحالك التي هي العدم من الدنيا، غير محب للاستبدال بها من الغنى بصدق يقينك بفضيلة الزهد.. فإذا كنت بهذا الوصف حسب لك جميع ذلك زاهدا، وكان لك بأحد هذه المعاني ثواب الزاهدين وإن لم تكن للدنيا واجدا.
وصف الزهد وفضله:
قوة الزهد الذي لابد منه وبه تظهر صفة الزاهد- وينفصل به عن الراغب هو:
1- أن لا يفرح بعاجل موجود من حظ النفس.
2- لا يحزن على مفقود من ذلك.
3- أن يأخذ الحاجة من كل شئ عند الحاجة إلى الشيء.
4- لا يطلب الشيء قبل الحاجة.
أول الزهــد
دخول غم الآخرة في القلب، ثم وجود حلاوة المعاملة لله تعالى. ولا يدخل غم الآخرة إلا بعد خروج هم الدنيا، ولا تدخل حلاوة المعاملة حتى تخرج حلاوة الهوى. وكل من تاب من ذنب ولم يجد حلاوة الطاعة لم يؤمن عليه الرجوع فيه، ومن ترك الدنيا ولم يذق حلاوة الزهد رجع في الدنيا، ولا يذوق حلاوة المعاملة حتى يخرج حلاوة الهوى.
خالـص الزهــد
هو إخراج الموجود من القلب، ثم إخراج ما خرج من القلب عن اليد، وهو عدم الموجود على الاستصغار لـه، والاحتقار والتقالل لهوان الدنيا عنده وصغرها في عينه، فبهذا يتم الزهد. ثم ينسى زهده في زهده، فيكون حينئذ زاهدا في زهده لرغبته في مزهده، وبهذا يكمل الزهد.
لبـه وحقيقتـه
وهو أعز الأحوال في مقامات اليقين، وهو الزهد في النفس لا الزهد لأجل النفس، ولا للرغبة في الزهد للزهد، وهذه مشاهدة الصديقين وزهد المقربين عن وجد عين اليقين. ودون هذا مقامات إخراج المرغوب فيه عن اليد مع نظراته إليه، وعلى مجاهدة النفس فيه وهو زهد المؤمنين وذلك العمل بالزهد عقد وعمل إذا كان الزهد عن الإيمان، والإيمان قول وعمل، وكذلك الزهد عقد وعمل، فالعقد خروج حب الدنيا من القلب بدخول حب الآخرة في القلب، والفعل بالزهد إخراج المحبوب من اليد في سبيل الله معتاضا منه ما عنده سبحانه وتعالى من وجهه الكريم جل وتعالى أو أقرب جواره في داره. وقد روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (أن الله تعالى يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من يحب)، والذي يحبه الله تعالى ممن أعطاه الدنيا لا يخالف حبيبيه إلى هواه، ولا يؤثر نفسه على محبة مولاه تبارك وتعالى، إذ قد تولاه فيما أعطاه وتحدث رضي الله عنه مبينا رؤية أهل الله للدنيا، وأنها لا تدم لذاتها، وأنها محمودة عند الأبرار، وهي الموطن الثاني للأخيار، لا يلههم آثارها عن أنوار تجليات الحق