عدد المشاهدات:
إلتقاء موسى بالخضر وسببه :
أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم في حديثه الطويل الذي عرض لنا فيه مجمل هذه القصة وهو الحديث الذي رواه سفيان فقال قال صلى الله عليه وسلم [ إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل، فسئل أي الناس أعلم ؟ فقال أنا، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه فقال : بلى إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك، قال : أي رب ومن لي به ( وربما قال سفيان: أي رب وكيف لي به ؟) قال : تأخذ حوتا وتجعله في مكتل، حيثما فقدت الحوت فهو ثم (وربما قال: فهو ثمة). وأخذ حوتا فجعله في مكتل ثم انطلق هو وفتاه يوشع بن نون، حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رءوسهما فرقد موسى، واضطرب الحوت فخرج فسقط في البحر { فاتخذ سبيله في البحر سربا } فأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار مثل الطاق. فانطلقا يمشيان بقية ليلتهما ويومهما، حتى إذا كان من الغد { قال لفتاه آتنا غذائنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا }، ولم يجد موسى النصب حتى جاوز حيث أمره الله ، قال له فتاه { أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا } فكان للحوت سربا ولهم عجبا. قال له موسى { ذلك ما كنا نبغي فارتدا على آثارهما قصصا }، رجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة فإذا رجل مسجى بثوب :
فسلم موسى، فرد عليه.- فقال: وأنى بأرضك السلام ؟ - قال: أنا موسى.- قال: موسى بني إسرائيل ؟
- قال: نعم .. أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا.
- قال يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه.
قال: هل أتبعك ؟
- قال: { إنك لن تستطيع معي صبرا وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا .. إلى قوله إمرا }. فانطلقا يمشيان على ساحل البحر .. إلى آخر الحديث الطويل الذي رواه البخاري في أحاديث الأنبياء].
أراد الله عز وجل أن يبين لموسى حقيقة العلم الإلهي المستور وراء العلم الظاهر، ودله على العبد، ووصف له الطريق الموصل إلى مكانه، وأعد موسى عدته، وأخذ معه رفيقا لرحلته وهو يوشع بن نون وليأتنس به. سار موسى ومعه رفيق رحلته، وظهرت العلامة التي تدل على قرب الوصول إلى العبد الصالح وهو فقد الغذاء ثم العود للبحث عنه.
وأثناء نوم موسى عند الصخرة : [ تضرب الحوت حتى دخل البحر، فأمسك الله عنه جرية البحر حتى كأن أثره في حجر ]، وقيل أن [ في أصل الصخرة عين يقال لها الحياة لا تصيب من مائها شيء إلا حيي، فأصاب الحوت من ماء تلك العين، فتحرك وانسل من المكتل فدخل البحر ] (أخرجهما البخاري في تفسير القرآن). وهذا هو رمز العلم الذي يحيي القلوب بعد مواتها.
موسى يطلب العلم من الـخضر :
قال موسى بلسان الطالب المتأدب { هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا } (الكهف:66) ؟ والرشد هو الغاية من طلب العلم ولهذا طلبها موسى من الخضر، فالعلم لا يطلب لذاته ولكنه يطلب للعمل بمقتضاه، والعمل بمقتضى العلم يؤدى بالعبد إلى رتبة الرشاد، وقد أثنى الله على الخليل مع علو مقامه فقال { ولقد ءاتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين } (الأنبياء :51) ، وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذه الحقيقة بقوله [ من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ] (أخرجه البخاري) وفي حديث آخر بالجامع الصغير للسيوطي عن البزار قال صلى الله عليه وسلم [ إذا أراد الله بعبد خيرا فقهه في الدين وألهمه رشده ]. من ذلك نتعلم من سيدنا موسى أسلوب طلب العلم حتى لا يتكبر طالب علم على أستاذه أو شيخه مهما كانت درجة هذا الطالب. وإذا ما بلغ الواحد منا مرتبة الرشد أكرمه الله بالمعرفة الحقية للمرشد، فلا يعرف الولي المرشد إلا من بلغ رشده.
امتحن الخضر موسى عليهما السلام في أمرين وهو يعلم أنه نبي، ورسول، ومن أولي العزم، وكليم الله ، ونزلت عليه التوراة والألواح، وذلك بعد أن سأله موسى بأدب الطالب { هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا } ؟
(1) قال العبد لموسى { إنك لن تستطيع معي صبرا..} ولم يكتف بهذا بل قال له {..وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا } كما قال الهدهد لسيدنا سليمان عليه السلام رغم مقامه العالي وتسخير الجن والرياح له بأمر ربه {أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين } (النمل:22). لم يرد موسى على الخضر رد تعنيف أو تأنيب لأنه طالب علم كما سبق وذكرت، لم يقل له أنا نبي ورسول من أولي العزم وأكلم الله تكليما، ولكن أدب طلب العلم المهذب وجهه أن يقول لأستاذه ومعلمه { ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا }.
(2) ولم يكتف الأستاذ بإقرار طالب العلم، لكنه أخذ عليه عهدًا وميثاقا فقال له { فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا }، ورضي الكليم عليه السلام بهذا الشرط، وقبل العبد صحبته.
يتبين من هذا تلطف موسى وتواضعه، وخشونة الخضر وتصريحه بما لا تقبله النفوس الكبيرة فضلا عن نفوس الرسل عليهم الصلاة والسلام، ولكن هذا القول امتحان منه ليعلم قوة تسليم موسى عليه السلام، إمامنا أبو العزائم رضوان الله عليه يقول في هذا المقام ( يا بنىَّ: إذا جلستَ مع العالم فأمسك عليك لسانك، وإذا جلستَ مع العارف فأمسك عليك لسانك وقلبك، وكن بين يدي المرشد القرآني الكامل كالميت بين يدي مغسله ) أي يقلبه كيف يشاء بلا إرادة منه.
المسيرة :
إن الصحبة اتباع، وفرق كبير بين القيد والإطلاق، والاطلاق انطلاق روحي من قيود المادة، بين ربنا سبحانه هذا فقال { فانطلقا } (الكهف:77،74،71) ولم يقل فمشيا أو فسارا.
الإنطلاقة الأولى :
وتكملة لحديث رسول الله السابق ذكره والذي رواه البخاري في أحاديث الأنبياء [..فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، فمرت بهما سفينة كلموهم أن يحملوهما فعرفوا الخضر فحملوه بغير نـول ( أي بغير أجر ). فلما ركبا في السفينة جاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة أو نقرتين، قال له الخضر: يا موسى ما نقص من علمي وعلمك من علم الله إلا مثلما نقص هذا العصفور بمنقاره من البحر .. الخ الحديث ].
خرق العبد السفينة وفيها أصحابها وركابها، ونسي موسى العهد وغلب عليه ما يعلمه من هذه الحقائق الشرعية التي كلف بها وأمر بأن يعلمها لقومه، واعترض على العبد، فهو رسول مشرع رأى أن في خرق السفينة بدون ذنب جناه أهلها تعد لحدود الله وخرق لناموس الشريعة. وليس للتابع أن يعترض على المتبوع أبدا وهو يعلم أن الله هو الذي اختاره له أستاذا ومعلما وأرسله إليه، ولأنه رسول ومشرع فقد غلبته قوته الشرعية فلم يصبر على خرق السفينة بل واجهه بالتهمة فقال له: {أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا~ ..} أي منكرا، فذكره الخضر بالشرط الذي أخذه عليه {..قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا ~ ..} فاعترف وتأسف له قائلا {..قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا } (الكهف:71ـ73)، والقلم يرفع عن الناسي حتى يتذكر، وقبل الخضر اعتذاره.
الإنطلاقة الثانية :
وفيها وقع أمر أعلى بكثير مما حدث أثناء الإنطلاقة الأولى. لقي العبد الصالح غلاما يلعب مع أقرانه من الصبيان لم يجني شيئا في ظاهر الأمر فاقتلع رأسه كأنه يقطف شيئا، واعترض موسى للمرة الثانية وقال للخضر { أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا~ ..}. في الإنطلاقة الأولى قال له { لقد جئت شيئا إمرا } وفي الإنطلاقة الثانية قال له { لقد جئت شيئا نكرا }، وهى أعنف من الأولى. ذكر العبد موسى بالشرط وقال له {..قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا ~ ..} وأزاد العبد هنا كلمة (لك) عن الإنطلاقة الأولى، فلم يجد موسى أمامه إلا أن حكم على نفسه بنفسه فقال {..قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغتَ من لدني عذرا } (الكهف: 74ـ76).
الإنطلاقة الثالثة :
والثالثة ثابتة كما نقول. دخلا قرية، وكانا في حاجة إلى الطعام لسد رمقهما، ولكن لم يقبل أحد فيها أن يضيفهما { فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية واستطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا ~ قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا } (الكهف:77،78). ودليل إثبات عدم اشتراك موسى في إقامة الجدار هو قوله سبحانه (فأقامه) أي الخضر وحده.
التأويل :
يبين لنا القرآن الكريم أسباب ما حدث من الخضر أثناء هذه الإنطلاقات الثلاث :
(1) { أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ~..}.
(2) { ..وأما الغلام فكان أبويه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا ~ فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما ~..}.
(3) {..وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك ..}.
ثم ختم الله هذا البيان القرآني بقوله سبحانه على لسان الخضر { وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا } (الكهف:79-82). وشتان بين قول الخضر عليه السلام في المرة الأولى { ما لم تستطع عليه صبرا }وفى المرة الأخرى { ما لم تسطع عليه صبرا }، فالأولى استطاعة، والأخرى سطوع، فإنما نقف عند حدود الظاهر لنشير إلى الباطن.
أخبر الإمام أبو العزائم عن هذه الإنطلاقات الثلاث فقال ( لقد كان الخضر عليه السلام يريد أن يسير بموسى عليه السلام مائة مرحلة فوقف موسى عند الثالثة، وفى الثلاثة لمن فقه الخير الكثير ). وبين لنا الإمام أن السير والسلوك إلى الله عز وجل ينحصر في الثلاث مسائل التي توقف عندها سيدنا موسى عليه السلام.
ولما كانت هذه الإنطلاقات فيها من العلم الكثير، ولما كان معرفة مكان العبد قد تحدد بفقد الغذاء، والخضر قد آتاه الله من لدنه علما وآتاه رحمة من عنده، فإن كل ما فعله الخضر كان من باب الرحمة. علم الخضر من ربه أن موسى لن يستطيع معه صبرا، وأنه لا بد من مكاشفة موسى بما لم يستطع عليه صبرا. وإذا كان الفراق معناه كما هو شائع لما أخبر الخضر موسى عليهما السلام بما في فحوى الأمور، والبين هنا هو البعد، وازداد القرب بفراق أو انتفاء البعد أو البين الذي كان بينهما فالتقيا، ولذلك قال الخضر { هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا } وبدأ يسرد له أسباب ومغزى كل انطلاقة.
مشاهد :
نأخذ من لقاء موسى مع العبد الصالح ما ينفعنا في سيرنا وسلوكنا إلى ربنا عز وجل، فهي ليست مجرد قصة عادية إذ أن كل قصة ذكرها لنا ربنا سبحانه في قرآنه هي في حقيقة الأمر للعبرة وللتذكرة { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب} (يوسف :111) حتى يكرم العبد بما فيها من أسرار وأنوار وحقائق.
ومن علوم الإمام رضوان الله عليه .. فإن كل ما أقوله - كما سبق وكررت - من علومه :
أولا : استعمل الخضر في التأويل لهذه الأحداث الثلاث ثلاث كلمات هي : فأردت، فأردنا، فأراد ربك :
(1) في بيان حالة السفينة وخرقها قال العبد { فأردت أن أعيبها }.
(2) في بيان قتل الغلام قال العبد { فأردنا أن يبدلهما }.
(3) في بيان رفع الجدار قال العبد { فأراد ربك أن يبلغا أشدهما }.
وكل درس من هذه الدروس له علومه وخصوصياته، ولكن هذه الكلمات الثلاث هي حقيقة السير والسلوك إلى الله تعالى، وهي التي تصاحب العبد من أول الأمر في حياته إلى نهايتها، يبين لنا الإمام أنه :
(1) في المرحلة الأولى أثبت الخضر لنفسه وجودا عبر عنه بقوله { فأردت} أي أن الخضر هو الذي أراد، مثل ما يقول الإنسان في بداية سيره وسلوكه لقد صليت وصمت وزكيت وحججت وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، وإثبات الوجود صدود وإن كان لا غنى عنه في البداية لأنني لم أترقى ولذلك أنسب العمل لنفسي في كل شئ، ففيها بيان مراد العبد، وفيها رؤية المريد لعمله { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون } (التوبة:105) {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } (فاطر:10). وبيان رمز {أردت } في قوله تعالى { وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين } (التوبة:36) ففيها إثبات كينونة وإثبات وجود وله عمل وهو القتل. ولقول الخضر { فأردت } مذاق آخر، ولأنها إرادة لفعل ظاهره عيب أمام الجميع .. فقد نسب العيب لنفسه وقال { فأردت }.
(2) إذا ارتقى الإنسان في سيره وسلوكه إلى حضرة ربه فلا يكون له مراد ولكن يتحد مراده بمراد ربه وفى هذا رفعة مقام عبر الخضر عنها بـ { أردنا}. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر أصحابه في البداية أن من يصلى ركعتين في جوف الليل له أجر كذا، وأشياء أخرى من هذا القبيل، وجزاء ذلك دخول الجنة، ورسول الله هو الصادق الأمين، ولكن بعد أن حببهم في الإسلام وارتقوا في أعمالهم من الحسن إلى الأحسن وارتفع شأنهم الروحي قال لهم [ ما منكم من أحد يُدخله عمله الجنة ولا ينجيه من النار إلا برحمة من الله وفضل ] قالوا : يا رسول الله ولا أنت ؟ قال [ ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه برحمة ] (أخرجه أحمد). ورمز { أردنا } وهو اتحاد مراد العبد بمراد الرب في قوله تعالى { قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم } (التوبة:14) فالذي عذب هو الله ولكن بالأيدي التي ستستعمل لنوال الأجر العظيم .يعبر الإمام أبو العزائم عن ذلك وموجها قوله لربه مبينا مراد العبد ومراد الرب بقوله :
لا وحقك لا أحب <<<<.>>>> أن أكون كما أريد
بل مرادي منك أني <<<<.>>>> عن مرادك لا أحيد
يا مرادي بل وعوني <<<<.>>>> أنت لي ركن شديد
(3) وبالترقي في مسيرة السلوك إلى ملك الملوك وبعد اتحاد مراد العبد بمراد ربه يخفى مراد العبد لينفرد مراد الرب، وهذه المكانة هي المعبر عنها بقوله سبحانه { فأراد ربك }، ورمزها قوله سبحانه للمؤمنين {..فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم..} وقوله لرسول الله صلى الله عليه وسلم {..وما رميت إذ رميتَ ولكن الله رمى } (الأنفال: 17)، فنفى القتل بعد أن أثبته لهم لينسبه لذاته جل وعلا، ونفى الرمي بعد أن أثبته له صلى الله عليه وسلم ليثبته لذاته عز وجل. وبسمو هذا المقام تختفي أنت ببشريتك الحاجبة ليظهر هو سبحانه بأنوار تجلياته وأسراره فيك فيغمرك بالنور الذي يبدل بشريتك رغم بقائها، وإذا غيبك عنك وظهر .. هل ترى شئونه ؟ وإذا غاب عنك وأظهرك فابك على نفسك. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يجيب على سؤال جبريل عن الإحسان فيقول [ أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ] (رواه البخاري ومسلم في الإيمان)، فإن لم تكن وانتفت كينونتك الحاجبة فإنك تراه، ولكن كيف تراه ؟ والجواب : فإنه يراك، أي تراه به لا بك، فكان سبحانه سمع العبد وبصر العبد ويد العبد مع نزاهته سبحانه وتعالى، وقد وسعه مع النزاهة أيضا قلب عبده المؤمن. اسمع له رضي الله عنه وهو يبين معاني هذا التبديل الحادث فيقول:
أيا حي يا قيوم أحي بحبكم حياتي بنفسي أبدل أرض نسبتي
أيا حي يا قيوم قوم بحسنكم قيامي بنفسي أبدل أرض نسبتي
أيا حي يا قيوم أرضي تبدلت وتلك سمائي أبدلتها بحكمة
أيا حي يا قيوم قامت قيامتي وأحييت أوصافي فقوم حقيقتي
أيا حي يا قيوم أحييت ميتا وقومتني حتى رأتك بصيرتي
أيا حي يا قيوم أحييت ثم قد وهبت لنا نورا أضاء بوجهتي
ومن مات تحييه وتعطيه نوركم به يمشي بين الناس من غير ريبة
إذا كان أحياني وبالنور خصني وها أنا أمشي بينكم بالهداية
وإذا وعد الرحمن وعدا يتمه ويعطي عليه ألف ألفٍ بكثرة
إذا كنت حيا لم تمت بغرامة فدع عنك من أحياهم بالحنانة
فق قال في القران والآي حجتي على من عمى عن رشف راح المدامة
.. إلى آخرالقصيدة
والأرض في البيت الثالث إشارة للجسم، والسماء تشير إلى الحقيقة الروحانية.
ثانيا : في البداية يكون المتبع مريدا للحق، فقد أراد أن يكون على الصراط المستقيم، فإذا قبل من العالم العامل الورع وهو الخبير القرآني وسلك في عقد القوم سمي سالكا - قال صلى الله عليه وسلم [ إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه كيف يشاء - ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك] (أخرجه مسلم في القدر)، ويظل المؤمن في يمين الله كلما وقع في معصية استغفر ربه وتاب إليه وأناب حتى يقيمه فلا يقع ، فيدخل في دائرة { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون } (الأنعام:82) ويجمله بفضله وبرحمته الواسعة بقوله سبحانه {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } (الحجر:42). فإذا انتقل المريد من أدوار البداية وكانت له بداية محرقة بجهاد نفسه فإن الله يكرمه بالنهاية المشرقة، فلا يرد على عقبيه أبدا بل يكرمه الحق بسر قوله تعالى { مثل الجنة التي وعدَ المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن..} وهذا لأهل مقام الإسلام {..وأنهار من لبن لم يتغير طعمه..} وهذا لأهل مقام الإيمان {..وأنهار من خمر لذة للشاربين..} وهذا لأهل مقام الإحسان {..وأنهار من عسل مصفى..} وهذا لأهل مقام الإيقان {..ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم }(محمد:15)، حتى يتحققوا بقول الله سبحانه: { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون } (السجدة:17) وإمامنا يفسر ذلك بقوله {جزاء بما كانوا يعملون } أي يعملون منه به له، إذ الفضل منه وبه وإليه تبارك وتعالى.
ثالثا : للسفينة رمز وهو جسم الإنسان، والملك الذي يريد أن يأخذ كل سفينة غصبا رمزه إبليس، فلا بد للإنسان من أن يجد العالم الرباني الذي يخرق له عوائد نفسه الذميمة حتى لا يطمع فيه إبليس ويمتلك سفينة حياته فيقودها إلى حيث لا يفيد ندم. والغلام رمزه النفس الأمارة بالسوء، قال تعالى { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } (الرعد:11) وقال تعالى { إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي } (يوسف:53)، فمن وجد من يقتل له نفسه الأمارة بالسوء أبدله الله تعالى نفسا مطمئنة لترجع إلى ربها وهو في دنياه وبالتالي في أخراه راضية مرضية لتدخل في عباد الله وفي جنات الشهود. والغلامين اليتيمين الذين هما في المدينة رمزهما في الإنسان النفس والروح فلا أب ولا أم لهما، والكنز هو ما فيه من أسرار باريه.
إن فعل الخضر عليه السلام يخالف ظاهر الشريعة، وكليم الله إمام الشريعة وأكمل الناس غيرة لها فلم يستطع أن يتحمل صبرا على فعل الخضر .. وكيف لا وقد سأل الله أن يهلك فرعون ومن معه غيرة للشريعة. وقد سبق لموسى عليه السلام وبأمر ربه أن ضرب البحر بعصاه فنجا ومن معه من بني إسرائيل وغرق فرعون وجنوده، كما سبق له أن قتل نفسا بغير حق، كما سبق له أن سقى للفتاتين وآوى إلى الظل، ولكنه غضب لما خالف الخضر ظاهر الشريعة.
أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم في حديثه الطويل الذي عرض لنا فيه مجمل هذه القصة وهو الحديث الذي رواه سفيان فقال قال صلى الله عليه وسلم [ إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل، فسئل أي الناس أعلم ؟ فقال أنا، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه فقال : بلى إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك، قال : أي رب ومن لي به ( وربما قال سفيان: أي رب وكيف لي به ؟) قال : تأخذ حوتا وتجعله في مكتل، حيثما فقدت الحوت فهو ثم (وربما قال: فهو ثمة). وأخذ حوتا فجعله في مكتل ثم انطلق هو وفتاه يوشع بن نون، حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رءوسهما فرقد موسى، واضطرب الحوت فخرج فسقط في البحر { فاتخذ سبيله في البحر سربا } فأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار مثل الطاق. فانطلقا يمشيان بقية ليلتهما ويومهما، حتى إذا كان من الغد { قال لفتاه آتنا غذائنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا }، ولم يجد موسى النصب حتى جاوز حيث أمره الله ، قال له فتاه { أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا } فكان للحوت سربا ولهم عجبا. قال له موسى { ذلك ما كنا نبغي فارتدا على آثارهما قصصا }، رجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة فإذا رجل مسجى بثوب :
فسلم موسى، فرد عليه.- فقال: وأنى بأرضك السلام ؟ - قال: أنا موسى.- قال: موسى بني إسرائيل ؟
- قال: نعم .. أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا.
- قال يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه.
قال: هل أتبعك ؟
- قال: { إنك لن تستطيع معي صبرا وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا .. إلى قوله إمرا }. فانطلقا يمشيان على ساحل البحر .. إلى آخر الحديث الطويل الذي رواه البخاري في أحاديث الأنبياء].
أراد الله عز وجل أن يبين لموسى حقيقة العلم الإلهي المستور وراء العلم الظاهر، ودله على العبد، ووصف له الطريق الموصل إلى مكانه، وأعد موسى عدته، وأخذ معه رفيقا لرحلته وهو يوشع بن نون وليأتنس به. سار موسى ومعه رفيق رحلته، وظهرت العلامة التي تدل على قرب الوصول إلى العبد الصالح وهو فقد الغذاء ثم العود للبحث عنه.
وأثناء نوم موسى عند الصخرة : [ تضرب الحوت حتى دخل البحر، فأمسك الله عنه جرية البحر حتى كأن أثره في حجر ]، وقيل أن [ في أصل الصخرة عين يقال لها الحياة لا تصيب من مائها شيء إلا حيي، فأصاب الحوت من ماء تلك العين، فتحرك وانسل من المكتل فدخل البحر ] (أخرجهما البخاري في تفسير القرآن). وهذا هو رمز العلم الذي يحيي القلوب بعد مواتها.
موسى يطلب العلم من الـخضر :
قال موسى بلسان الطالب المتأدب { هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا } (الكهف:66) ؟ والرشد هو الغاية من طلب العلم ولهذا طلبها موسى من الخضر، فالعلم لا يطلب لذاته ولكنه يطلب للعمل بمقتضاه، والعمل بمقتضى العلم يؤدى بالعبد إلى رتبة الرشاد، وقد أثنى الله على الخليل مع علو مقامه فقال { ولقد ءاتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين } (الأنبياء :51) ، وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذه الحقيقة بقوله [ من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ] (أخرجه البخاري) وفي حديث آخر بالجامع الصغير للسيوطي عن البزار قال صلى الله عليه وسلم [ إذا أراد الله بعبد خيرا فقهه في الدين وألهمه رشده ]. من ذلك نتعلم من سيدنا موسى أسلوب طلب العلم حتى لا يتكبر طالب علم على أستاذه أو شيخه مهما كانت درجة هذا الطالب. وإذا ما بلغ الواحد منا مرتبة الرشد أكرمه الله بالمعرفة الحقية للمرشد، فلا يعرف الولي المرشد إلا من بلغ رشده.
امتحن الخضر موسى عليهما السلام في أمرين وهو يعلم أنه نبي، ورسول، ومن أولي العزم، وكليم الله ، ونزلت عليه التوراة والألواح، وذلك بعد أن سأله موسى بأدب الطالب { هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا } ؟
(1) قال العبد لموسى { إنك لن تستطيع معي صبرا..} ولم يكتف بهذا بل قال له {..وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا } كما قال الهدهد لسيدنا سليمان عليه السلام رغم مقامه العالي وتسخير الجن والرياح له بأمر ربه {أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين } (النمل:22). لم يرد موسى على الخضر رد تعنيف أو تأنيب لأنه طالب علم كما سبق وذكرت، لم يقل له أنا نبي ورسول من أولي العزم وأكلم الله تكليما، ولكن أدب طلب العلم المهذب وجهه أن يقول لأستاذه ومعلمه { ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا }.
(2) ولم يكتف الأستاذ بإقرار طالب العلم، لكنه أخذ عليه عهدًا وميثاقا فقال له { فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا }، ورضي الكليم عليه السلام بهذا الشرط، وقبل العبد صحبته.
يتبين من هذا تلطف موسى وتواضعه، وخشونة الخضر وتصريحه بما لا تقبله النفوس الكبيرة فضلا عن نفوس الرسل عليهم الصلاة والسلام، ولكن هذا القول امتحان منه ليعلم قوة تسليم موسى عليه السلام، إمامنا أبو العزائم رضوان الله عليه يقول في هذا المقام ( يا بنىَّ: إذا جلستَ مع العالم فأمسك عليك لسانك، وإذا جلستَ مع العارف فأمسك عليك لسانك وقلبك، وكن بين يدي المرشد القرآني الكامل كالميت بين يدي مغسله ) أي يقلبه كيف يشاء بلا إرادة منه.
المسيرة :
إن الصحبة اتباع، وفرق كبير بين القيد والإطلاق، والاطلاق انطلاق روحي من قيود المادة، بين ربنا سبحانه هذا فقال { فانطلقا } (الكهف:77،74،71) ولم يقل فمشيا أو فسارا.
الإنطلاقة الأولى :
وتكملة لحديث رسول الله السابق ذكره والذي رواه البخاري في أحاديث الأنبياء [..فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، فمرت بهما سفينة كلموهم أن يحملوهما فعرفوا الخضر فحملوه بغير نـول ( أي بغير أجر ). فلما ركبا في السفينة جاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة أو نقرتين، قال له الخضر: يا موسى ما نقص من علمي وعلمك من علم الله إلا مثلما نقص هذا العصفور بمنقاره من البحر .. الخ الحديث ].
خرق العبد السفينة وفيها أصحابها وركابها، ونسي موسى العهد وغلب عليه ما يعلمه من هذه الحقائق الشرعية التي كلف بها وأمر بأن يعلمها لقومه، واعترض على العبد، فهو رسول مشرع رأى أن في خرق السفينة بدون ذنب جناه أهلها تعد لحدود الله وخرق لناموس الشريعة. وليس للتابع أن يعترض على المتبوع أبدا وهو يعلم أن الله هو الذي اختاره له أستاذا ومعلما وأرسله إليه، ولأنه رسول ومشرع فقد غلبته قوته الشرعية فلم يصبر على خرق السفينة بل واجهه بالتهمة فقال له: {أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا~ ..} أي منكرا، فذكره الخضر بالشرط الذي أخذه عليه {..قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا ~ ..} فاعترف وتأسف له قائلا {..قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا } (الكهف:71ـ73)، والقلم يرفع عن الناسي حتى يتذكر، وقبل الخضر اعتذاره.
الإنطلاقة الثانية :
وفيها وقع أمر أعلى بكثير مما حدث أثناء الإنطلاقة الأولى. لقي العبد الصالح غلاما يلعب مع أقرانه من الصبيان لم يجني شيئا في ظاهر الأمر فاقتلع رأسه كأنه يقطف شيئا، واعترض موسى للمرة الثانية وقال للخضر { أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا~ ..}. في الإنطلاقة الأولى قال له { لقد جئت شيئا إمرا } وفي الإنطلاقة الثانية قال له { لقد جئت شيئا نكرا }، وهى أعنف من الأولى. ذكر العبد موسى بالشرط وقال له {..قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا ~ ..} وأزاد العبد هنا كلمة (لك) عن الإنطلاقة الأولى، فلم يجد موسى أمامه إلا أن حكم على نفسه بنفسه فقال {..قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغتَ من لدني عذرا } (الكهف: 74ـ76).
الإنطلاقة الثالثة :
والثالثة ثابتة كما نقول. دخلا قرية، وكانا في حاجة إلى الطعام لسد رمقهما، ولكن لم يقبل أحد فيها أن يضيفهما { فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية واستطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا ~ قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا } (الكهف:77،78). ودليل إثبات عدم اشتراك موسى في إقامة الجدار هو قوله سبحانه (فأقامه) أي الخضر وحده.
التأويل :
يبين لنا القرآن الكريم أسباب ما حدث من الخضر أثناء هذه الإنطلاقات الثلاث :
(1) { أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ~..}.
(2) { ..وأما الغلام فكان أبويه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا ~ فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما ~..}.
(3) {..وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك ..}.
ثم ختم الله هذا البيان القرآني بقوله سبحانه على لسان الخضر { وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا } (الكهف:79-82). وشتان بين قول الخضر عليه السلام في المرة الأولى { ما لم تستطع عليه صبرا }وفى المرة الأخرى { ما لم تسطع عليه صبرا }، فالأولى استطاعة، والأخرى سطوع، فإنما نقف عند حدود الظاهر لنشير إلى الباطن.
أخبر الإمام أبو العزائم عن هذه الإنطلاقات الثلاث فقال ( لقد كان الخضر عليه السلام يريد أن يسير بموسى عليه السلام مائة مرحلة فوقف موسى عند الثالثة، وفى الثلاثة لمن فقه الخير الكثير ). وبين لنا الإمام أن السير والسلوك إلى الله عز وجل ينحصر في الثلاث مسائل التي توقف عندها سيدنا موسى عليه السلام.
ولما كانت هذه الإنطلاقات فيها من العلم الكثير، ولما كان معرفة مكان العبد قد تحدد بفقد الغذاء، والخضر قد آتاه الله من لدنه علما وآتاه رحمة من عنده، فإن كل ما فعله الخضر كان من باب الرحمة. علم الخضر من ربه أن موسى لن يستطيع معه صبرا، وأنه لا بد من مكاشفة موسى بما لم يستطع عليه صبرا. وإذا كان الفراق معناه كما هو شائع لما أخبر الخضر موسى عليهما السلام بما في فحوى الأمور، والبين هنا هو البعد، وازداد القرب بفراق أو انتفاء البعد أو البين الذي كان بينهما فالتقيا، ولذلك قال الخضر { هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا } وبدأ يسرد له أسباب ومغزى كل انطلاقة.
مشاهد :
نأخذ من لقاء موسى مع العبد الصالح ما ينفعنا في سيرنا وسلوكنا إلى ربنا عز وجل، فهي ليست مجرد قصة عادية إذ أن كل قصة ذكرها لنا ربنا سبحانه في قرآنه هي في حقيقة الأمر للعبرة وللتذكرة { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب} (يوسف :111) حتى يكرم العبد بما فيها من أسرار وأنوار وحقائق.
ومن علوم الإمام رضوان الله عليه .. فإن كل ما أقوله - كما سبق وكررت - من علومه :
أولا : استعمل الخضر في التأويل لهذه الأحداث الثلاث ثلاث كلمات هي : فأردت، فأردنا، فأراد ربك :
(1) في بيان حالة السفينة وخرقها قال العبد { فأردت أن أعيبها }.
(2) في بيان قتل الغلام قال العبد { فأردنا أن يبدلهما }.
(3) في بيان رفع الجدار قال العبد { فأراد ربك أن يبلغا أشدهما }.
وكل درس من هذه الدروس له علومه وخصوصياته، ولكن هذه الكلمات الثلاث هي حقيقة السير والسلوك إلى الله تعالى، وهي التي تصاحب العبد من أول الأمر في حياته إلى نهايتها، يبين لنا الإمام أنه :
(1) في المرحلة الأولى أثبت الخضر لنفسه وجودا عبر عنه بقوله { فأردت} أي أن الخضر هو الذي أراد، مثل ما يقول الإنسان في بداية سيره وسلوكه لقد صليت وصمت وزكيت وحججت وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، وإثبات الوجود صدود وإن كان لا غنى عنه في البداية لأنني لم أترقى ولذلك أنسب العمل لنفسي في كل شئ، ففيها بيان مراد العبد، وفيها رؤية المريد لعمله { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون } (التوبة:105) {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } (فاطر:10). وبيان رمز {أردت } في قوله تعالى { وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين } (التوبة:36) ففيها إثبات كينونة وإثبات وجود وله عمل وهو القتل. ولقول الخضر { فأردت } مذاق آخر، ولأنها إرادة لفعل ظاهره عيب أمام الجميع .. فقد نسب العيب لنفسه وقال { فأردت }.
(2) إذا ارتقى الإنسان في سيره وسلوكه إلى حضرة ربه فلا يكون له مراد ولكن يتحد مراده بمراد ربه وفى هذا رفعة مقام عبر الخضر عنها بـ { أردنا}. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر أصحابه في البداية أن من يصلى ركعتين في جوف الليل له أجر كذا، وأشياء أخرى من هذا القبيل، وجزاء ذلك دخول الجنة، ورسول الله هو الصادق الأمين، ولكن بعد أن حببهم في الإسلام وارتقوا في أعمالهم من الحسن إلى الأحسن وارتفع شأنهم الروحي قال لهم [ ما منكم من أحد يُدخله عمله الجنة ولا ينجيه من النار إلا برحمة من الله وفضل ] قالوا : يا رسول الله ولا أنت ؟ قال [ ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه برحمة ] (أخرجه أحمد). ورمز { أردنا } وهو اتحاد مراد العبد بمراد الرب في قوله تعالى { قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم } (التوبة:14) فالذي عذب هو الله ولكن بالأيدي التي ستستعمل لنوال الأجر العظيم .يعبر الإمام أبو العزائم عن ذلك وموجها قوله لربه مبينا مراد العبد ومراد الرب بقوله :
لا وحقك لا أحب <<<<.>>>> أن أكون كما أريد
بل مرادي منك أني <<<<.>>>> عن مرادك لا أحيد
يا مرادي بل وعوني <<<<.>>>> أنت لي ركن شديد
(3) وبالترقي في مسيرة السلوك إلى ملك الملوك وبعد اتحاد مراد العبد بمراد ربه يخفى مراد العبد لينفرد مراد الرب، وهذه المكانة هي المعبر عنها بقوله سبحانه { فأراد ربك }، ورمزها قوله سبحانه للمؤمنين {..فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم..} وقوله لرسول الله صلى الله عليه وسلم {..وما رميت إذ رميتَ ولكن الله رمى } (الأنفال: 17)، فنفى القتل بعد أن أثبته لهم لينسبه لذاته جل وعلا، ونفى الرمي بعد أن أثبته له صلى الله عليه وسلم ليثبته لذاته عز وجل. وبسمو هذا المقام تختفي أنت ببشريتك الحاجبة ليظهر هو سبحانه بأنوار تجلياته وأسراره فيك فيغمرك بالنور الذي يبدل بشريتك رغم بقائها، وإذا غيبك عنك وظهر .. هل ترى شئونه ؟ وإذا غاب عنك وأظهرك فابك على نفسك. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يجيب على سؤال جبريل عن الإحسان فيقول [ أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ] (رواه البخاري ومسلم في الإيمان)، فإن لم تكن وانتفت كينونتك الحاجبة فإنك تراه، ولكن كيف تراه ؟ والجواب : فإنه يراك، أي تراه به لا بك، فكان سبحانه سمع العبد وبصر العبد ويد العبد مع نزاهته سبحانه وتعالى، وقد وسعه مع النزاهة أيضا قلب عبده المؤمن. اسمع له رضي الله عنه وهو يبين معاني هذا التبديل الحادث فيقول:
أيا حي يا قيوم أحي بحبكم حياتي بنفسي أبدل أرض نسبتي
أيا حي يا قيوم قوم بحسنكم قيامي بنفسي أبدل أرض نسبتي
أيا حي يا قيوم أرضي تبدلت وتلك سمائي أبدلتها بحكمة
أيا حي يا قيوم قامت قيامتي وأحييت أوصافي فقوم حقيقتي
أيا حي يا قيوم أحييت ميتا وقومتني حتى رأتك بصيرتي
أيا حي يا قيوم أحييت ثم قد وهبت لنا نورا أضاء بوجهتي
ومن مات تحييه وتعطيه نوركم به يمشي بين الناس من غير ريبة
إذا كان أحياني وبالنور خصني وها أنا أمشي بينكم بالهداية
وإذا وعد الرحمن وعدا يتمه ويعطي عليه ألف ألفٍ بكثرة
إذا كنت حيا لم تمت بغرامة فدع عنك من أحياهم بالحنانة
فق قال في القران والآي حجتي على من عمى عن رشف راح المدامة
.. إلى آخرالقصيدة
والأرض في البيت الثالث إشارة للجسم، والسماء تشير إلى الحقيقة الروحانية.
ثانيا : في البداية يكون المتبع مريدا للحق، فقد أراد أن يكون على الصراط المستقيم، فإذا قبل من العالم العامل الورع وهو الخبير القرآني وسلك في عقد القوم سمي سالكا - قال صلى الله عليه وسلم [ إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه كيف يشاء - ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك] (أخرجه مسلم في القدر)، ويظل المؤمن في يمين الله كلما وقع في معصية استغفر ربه وتاب إليه وأناب حتى يقيمه فلا يقع ، فيدخل في دائرة { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون } (الأنعام:82) ويجمله بفضله وبرحمته الواسعة بقوله سبحانه {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } (الحجر:42). فإذا انتقل المريد من أدوار البداية وكانت له بداية محرقة بجهاد نفسه فإن الله يكرمه بالنهاية المشرقة، فلا يرد على عقبيه أبدا بل يكرمه الحق بسر قوله تعالى { مثل الجنة التي وعدَ المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن..} وهذا لأهل مقام الإسلام {..وأنهار من لبن لم يتغير طعمه..} وهذا لأهل مقام الإيمان {..وأنهار من خمر لذة للشاربين..} وهذا لأهل مقام الإحسان {..وأنهار من عسل مصفى..} وهذا لأهل مقام الإيقان {..ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم }(محمد:15)، حتى يتحققوا بقول الله سبحانه: { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون } (السجدة:17) وإمامنا يفسر ذلك بقوله {جزاء بما كانوا يعملون } أي يعملون منه به له، إذ الفضل منه وبه وإليه تبارك وتعالى.
ثالثا : للسفينة رمز وهو جسم الإنسان، والملك الذي يريد أن يأخذ كل سفينة غصبا رمزه إبليس، فلا بد للإنسان من أن يجد العالم الرباني الذي يخرق له عوائد نفسه الذميمة حتى لا يطمع فيه إبليس ويمتلك سفينة حياته فيقودها إلى حيث لا يفيد ندم. والغلام رمزه النفس الأمارة بالسوء، قال تعالى { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } (الرعد:11) وقال تعالى { إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي } (يوسف:53)، فمن وجد من يقتل له نفسه الأمارة بالسوء أبدله الله تعالى نفسا مطمئنة لترجع إلى ربها وهو في دنياه وبالتالي في أخراه راضية مرضية لتدخل في عباد الله وفي جنات الشهود. والغلامين اليتيمين الذين هما في المدينة رمزهما في الإنسان النفس والروح فلا أب ولا أم لهما، والكنز هو ما فيه من أسرار باريه.
إن فعل الخضر عليه السلام يخالف ظاهر الشريعة، وكليم الله إمام الشريعة وأكمل الناس غيرة لها فلم يستطع أن يتحمل صبرا على فعل الخضر .. وكيف لا وقد سأل الله أن يهلك فرعون ومن معه غيرة للشريعة. وقد سبق لموسى عليه السلام وبأمر ربه أن ضرب البحر بعصاه فنجا ومن معه من بني إسرائيل وغرق فرعون وجنوده، كما سبق له أن قتل نفسا بغير حق، كما سبق له أن سقى للفتاتين وآوى إلى الظل، ولكنه غضب لما خالف الخضر ظاهر الشريعة.