عدد المشاهدات:
الخلوة عندهم يا أخى نوعان: خلوة مع ربك، وخلوة مع نفسك.
الخلوة مع الرب سبحانه:
لست هذه الرسالة محلاً لشرح أسرارها ولا كشف غوامضها، وقد أشار إليها صلى الله عليه وسلم بقوله: (لى ساعة لا يسعنى فيها إلا ربى)وقوله صلى الله عليه وسلم فى الحديث القدسى: (لا يزال عبدى يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به وبصره الذى يبصر به... الحديث)وقوله سبحانه وتعالى (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) سورة النحل آية 128 فلنطوى بساط هذه الخلوة، وإن كانت الأرواح تشتاق إلى شميمها، ولكنى أكتب عن الفرقة الناجية كتابة أحب أن تكون وسطاً لكل أخ يطلع عليها حتى لا يصعب على أخوتى أن يتشبهوا بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن بسط بساط تلك المواجهات القدسية على أهل الإرادة فى البداية ربما أوقفتهم عن السير لقصور هممهم عن إدارك مبادىء تلك المشاهد حتى تزكو النفوس وتتخلى عن مقتضيات فطرها، وقد أشرت إلى بعض أسرار تلك الخلوة فى المواجيد النظمية إشارات حجبت برموز يفقها من فنى عن مراده بمراد ربه وغاب عن شهود الآثار غيبة جعلته يشهدها دلائل حق بيان لمكون الأكوان.
الخلوة بالنفس:
ليس مرادهم بالخلوة بالنفس أن يخلوا الإنسان بمكان ليفكر فى عمل دنيوى أو لمصلحة فى ماله أو أهله أو قومه فإنها ليست خلوة وإنما هى صرف الإرادة عن الحق سبحانه إلى الخلق، ومن صرف إرادته عن الحق إلى الخلق يكون فى خلوة؟ لا.. ولكنه فى خلوة بحظه وبشهوته ومن هو فى شأنه وتدبير مصالحه تدبر شئونه مع غيره، كيف يكون فى خلوةٍ بنفسه!! وليس فى خلوةٍ من اختفى فى حجرة عن الناس بباعث اقتضى ذلك، وإنما الخلوة التى يخلو فيها المؤمن بنفسه جَمْعُ الهموم وجعلها هماً واحداً فى الله تعالى والفناء عن إرادة ما سواه كما قال العارف:
كانت لقلبى أهواء مفرقة فاستجمعت مذ رأتك العين أهوائى
تركت للناس دنياهم ودينهم شغلاً بذكرك يا دينى ودنياى
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الحديث القدسى: (من شغله ذكرى عن مسألتى أعطيته أفضل ما أعطى السائلين)وإنما يخلو المؤمن بنفسه إذا سكنت إلى منفسها وتحققت يقيناً بسر القدر فعلمت أنها خلقت لشأن عظيم اشتغالها عنه هلاكها وعملها فى غيره ضياعها، ففرت من كل شاغل يشغلها عما هى موجهة وجهها إليه.. ولديها تتحقق الخلوة.
ولهذا الخلوة آداب ومشاهد ومحاسبات ومراقبات، ولا يترقى السالك إلى مقامات اليقين إلا إذا تجمل بهذا الجمال وتحلى بتلك الحلل وصار من السهل عليه أن يخلو بنفسه.
ومتى صعبت عليه الخلوة بنفسه.. كيف تتجلى له غوامض أسرارها التى انطوت عليها؟! وكيف يتيسر له أن يجملها بالكمالات التى بها تكون نفساً مطمئنة تسمع ربها يناديها بكلامه المقدس قائلا لها: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فى عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي) سورة الفجر آية 27-30.
لا تسمع كل نفس هذا الخطاب المقدس، وإنما هو خاص بنفس تزكت فصفت فاختلت خلوة شغلتها شئونها الكمالية عمن سواها وما سواها، حتى تنقلت فى مقامات اليقين ومراقى التمكين بعد التلوين وتجاوزت الملكوت الأعلى وأشرفت على حضرة العزة أو جذبتها العناية حتى أشرفت على قدس الجبروت الأعلى فحضرت فسمعت من جالسته فى خلوتها بنفسها ذاكرة له غافلة عن كل من سواه وما سواه- قال صلى الله عليه وسلم فى الحديث القدسى: (أنا عند ظن عبدى بى وأنا معه إذا ذكرنى)، وقال تعالى: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) سورة البقرة آية 152 وقال سبحانه: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) سورة الشمس آية 7-9، ولعلك يا أخى تعلم قوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ) والفلاح هو نيل كل المقاصد والفوز بجميع الرغائب، وأعظم مقصد للنفس التى تزكت تسارع نيله هو الفوز بجوار رب العالمين فى مقعد صدق عن مليك مقتدر.
وقد بشر الله من تزكى بالفلاح الذى هو الفوز بكل المقاصد، فالخلوة بالنفس: لتكميلها وتزكيتها عن رذائلها ورعوناتها ولقسها حتى تؤهل للكمالات والفضائل والأحوال العلية والمقامات التى أعدها الله لأهل القرب.
أداب الخلوة بالنفس:
منها جلسة المحاسبة: بأن تضع أمامك كفتى الميزان، ثم تضع ما ورد عليك من الله فضلاً وإحساناً وبراً وأمداداً، وما أوجده سبحانه مؤهلاً لحفظ صحتك وبقاء وجودك مما أحاط بك قبل وجودك من نسيم وماء ونبات وحيوان وجبال وأنهار ومعادن وشمس وقمر وأنجم وأفلاك سيارات وثابتات وسماوات بعضها فوق بعض مما لا يُحصى عداً ولا يستقصى حداً.
ثم سل نفسك: لم تفضل عليك بهذا الفضل العظيم واختصك بهذا الخير العميم؟ أله إليك حاجة؟ أم اوجدك لغاية لا يكمل إلا بها؟ ثم جُل بفكرك فى روض نفسك الجنىَّ وفى حدائق ما أحاط بك تجد كل الكون يسبحه وينزهه عن الشريك والولد والوالد، وتراه مقهوراً بقهره مربوباً لعزته ينادى بلسان الحال والمقال: إنه غنى عنك لا تنفعه طاعتك ولا تضره معاصيك.
ثم ضع ما أعده لك بعد موتك من نعيم أبدى وجمال سرمدى إذا أطعت أمره واجتنبت نواهيه وما يتفضل به على أحبابه مما لا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين، ثم أنظر إلى ما وهبه لك من العقل الذى به تعقل والنور الذى به تقبل وما أكرمك به من بعثة سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أيدك به من العلماء الربانيين والحكماء الروحانيين الذين يبينون لك سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويفقهونك فى كلام الله ويدلونك على سبيل الله تعالى... ثم أنظر إلى ما يرد عليك من الله تجد نفسك عدماً فى الحقيقة، لأنك بقيوميته قومت، وبقدرته صورت، وبعنايته أمددت وأوجدت، ولا حول ولا قوة إلا به سبحانه.
إذا حاسبت نفسك هذه المحاسبة فى خلوتك تحققت مقامك وفتح لك باب التوبة فدخلت فى الخلوة الثانية وهى خلوة التائبين:
خلوة التائبين
وآدابها أن تضع ما قابلت به مولاك من سوء الأدب وقبح المخالفة ونسبة ما هو له جل جلاله لنفسك ظلماً منك وجهالة، فإذا أنجلت لك حقائق ما أنعم به عليك إجمالاً.. لأنك لا يمكنك أن تدركها تفصيلاً قال تعالى: (وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) سورة إبراهيم آية 34 وكشفت لك الستارة عنك فعلمت ظلوميتك وجهوليتك وأن مولاك مقبل عليم وأنت فار منه ومحسن إليك وأنت ظالم لنفسك، تبرأت عند ذلك من أعمالك وأسرعت إلى التوبة، فإذا صوفى بشراب التوبة الطهور لزم هذا الشراب حتى يبلغ أرقى مقامات اليقين، فإن التوبة لا تفارق العبد الكامل فى منازل قربه، والكامل فى كل مقامات اليقين قوامه التوبة ومزاجه مقامه الذى هو فيه، ولذلك فإن الله جل جلاله أمر حبيبه ومصطفاه بالاستغفار بعد أن نصره وفتح له مكة ودخل الناس فى دين الله أفواجاً بقوله سبحانه: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) سورة النصر آية 3، وما ذلك إلا لأن التوبة لابد وأن تكون ملازمة للعبد الكامل فى كل مقام من المقامات، ومن ترك التوبة قفل فى وجهه باب القبول، وأن العارف بالله ليتوب من صلاته كما يتوب الزانى والسكير من ذنبه.
ثم يفتح له باب جلوة(خلوة) المحبة بعد التوبة، وهكذا حتى يترقى إلى مقامات اليقين كلها خلوة خلوة، وبعد ذلك لا يحتاج إلى الخلوة لشهوده الحق فى كل شىء ويكون فى خلوة مع نفسه ولو كان فى الأسواق وفى المصانع والمتاجر بل وفى الملحمة الكبرى بين صفوف الأعداء، وقد شرحت آداب أهل المقامات فى قسم علوم اليقين فى كتاب أصول الوصول وغيره، فلا حاجة إلى الإطالة بذكرها ها هنا، غير أنى أذكر آدابا عمومية للخوة بالنفس.
الآداب العمومية لأهل الخلوة بأنفسهم:
معلوم أن الأحوال السنية لا تكون إلا عن مقامات سنية، ولما كان إبليس لعنة الله عليه لا يعادى إلا أهل القرب ولا ينغص إلا أهل المجاهدة ولا يجلب بخيله ورجله إلا على أهل المشاهدة، كان أهل الخلوة بأنفسهم على خطر عظيم، قال صلى الله عليه وسلم: (الناس هلكى إلا العالمين- والعالمون هلكى إلا العاملين- والعملون هلكى إلا المخلصون- والمخلصون على خطر عظيم)، يشير صلى الله عليه وسلم، إلى أن أهل المقامات إن لم يعصمهم الله سبحانه وتعالى بالخشية منه ودوام مواجهته لهم بالعزة ومكاشفة قدس جبروته الأعلى فقد يستولى عليهم العدو الذى قد يدخل عليهم بما يلائم نفوسهم، فإن له مداخل تخفى على الصديقين إن لم يعصمهم الله تعالى.
وإليك مثالاً من دسائسه ووساوسه: لما أن أسكن الله تعالى آدم فردوسه الأعلى قامت قيامة إبليس لعنه الله عليه واجتهد أن يدخل عليه من باب يلائم شهوته وحظه فمكث ينتظر تلك الزلة منه حتى جلس آدم مع حواء يتآنسان فقالت حواء لآدم: إن هذا النعيم فوق ما تشتهيه أنفسنا فقال آدم لها: لو دام، فكانت هذه الكلمة الباب الذى دخل منه إبليس عليه لعنة الله، فاجتهد حتى دخل عليها (وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ) سورة الأعراف آية 20، لو أكلت منها وأطعمت زوجك لدام لكما هذا الملك الكبير وخلدتما فيه، وكانت غايتهما التى يلتمسانها، فأنكرت حواء عليه فأقسم لها أنه لمن الصادقين، فأكلت مصدقة له وأطعمت زوجها فكان ما علمت، وآدم نبى الله وحواء آية الله التى صورها بيده وهما فى جنة الله وفى جوار ربهما سبحانه، ومع ذلك فإن لعنة الله عليه أوقعهما فى الخطيئة وآخرجهما من جوار ربمهما ومن جنة النعيم- قال الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فى أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) سورة الحج آية 52، فكان طمع آدم فى الخلود وفى الجنة مؤدياً إلى معصيته الكبرى وإهباطه مع زوجته إلى الأرض، فدخل إبليس لعنه الله عليه عليهما من وجهة تلائمهما (وهما من علمت) فكيف بك السالك المسكين!! قال الله تعالى (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) سورة آل عمران آية 101.
ومن علامة العصمة بالله أن تراقب الله جل جلاله فى صفاء صفائك وأحلى بهائك وفى أرقى مقامات قربك... فشاهد ما أنت عليه من العجز عن شكر نعماه ومن الافتقار إلى جدواه ومن الاضطرار إلى عطاياه ومن القصور عن القيام بما كلفك به الا بحول منه وقوة، فاذا وفقك للقيام بعمل ما يحب فاجعل ذلك منة منه عليك وفضلاً منه سبحانه واصلاً إليك، وقف متذللاً بين يدى عظمته خاشعاً أمام عزته شاكراً لأنعمه ذاكراً جدواه، وإياك أن يكون لك مراد سواه أو أمل فى غيره، فإن هذا مهاوى إبليس عليه لعنة الله ودسائسه الخفية، إجعل التوبة درعك التى تدفع بها أعدى عدوك، والإنابة سيفك الذى تقصم به ظهر خصمك، وشهود منة الله عليك فى كل نفس معراجك الذى تسرى به إلى ربك، واجعل الخوف من ربك جل جلاله باب القرب منه ميزاب استنزال فضله العظيم قال الله تعالى: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) سورة الرحمن آية 46.
الأدب الثانى:
إعلم أن ائمة الفرقة الناجية إذا خلوا بأنفسهم بكوا خشية على إيمانهم، ثم أقبلوا بكل قلوبهم على ربهم خوفاً من أن تكون فيهم شائبة حب لغيره أو رغبة فى غيره سبحانه، لأن الإيمان فى القلوب أشد نفوراً من الجمل النَّفور، فقد يقول الرجل كلمة لا يلقى لها بالاً فلا تخرج من فمه إلا وقد خرج إيمانه، وقد يعمل العلم فلا يدانيه إلا وقد سلب إيمانه- وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن، ولا يشرب الخمرة حين يشربها وهو مؤمن...)فى حديث طويل، وقال صلوات الله وسلامه عليه: (أنتم فى زمان قليل حفاظه كثير فقهاؤه قليل سائله كثير معطيه، وسيأتى على الناس زمان كثير حفاظه قليل فقهاؤه كثير سائله قليل معطيه، يصبح الرجل مؤمناً ويمسى كافراً، يقرأون القرآن لا يتجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)، وقال الله تعالى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) سورة يوسف آية 106، كان أصحاب رسول الله يبكون خوفاً على إيمانهم مع أنهم أهل مقامات اليقين الكامل، ولكنهم علموا من الحق سبحانه ما جعلهم يراقبونه جل جلاله مراقبة من يعلم أنه لا يسئل عما يفعل، وسئل الحسن البصرى التابعى أمؤمن أنت؟ فقال: أما كما قال الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ...آلآية) الانفال 2-3 فلا، وكان التابعون من خوفهم إذا سئل أحدهم: أمؤمن؟ فيقول: مؤمن إن شاء الله- خوفاً على نفسه من سلب الإيمان، لأن الإيمان فضل من الله تعالى يهبه لمن يشاء بفضله ويسلبه بعدله، أسأل الله تعالى أن يعيذنى بوجه الجميل من علم أو قول أو حال أو اعتقاد يسلب الإيمان- إنه مجيب الدعاء.
الآدب الثالث:
فأئمة الفرقة الناجية من أهل الله الصالحين فى خلوتهم الثانية فى مقام محبوب لهم مراقبة خاصة بهم عن مشاهد اتحاد فى توحيد، فيجاهدون أنفسهم أكبر الجهاد فى ان يتحد مرادهم ومراد ربهم سبحانه فلا يكون لهم عزيمة إلا فيما أوجب وما رغب فيه ليتحد ظاهرهم وباطنهم فى مشهد واحد أحد فاعل مختار لا شريك له، يعملون الأعمال بجوارحهم المجترحة وسرهم يشهد فاعلاً مختاراً، فلا يشهدون لأنفسهم عملاً، اللهم إلا فى مقام الأدب مع الإله الكبير المتعال- فإنهم ينسبون ما قدره جل جلاله عليهم من معاصيه لأنفسهم.. خاشعة قلوبهم مسارعين إلى الندم والأسف والحزن على ما فعلوه من مخالفة ربهم سبحانه ومعصيته نبيه صلى الله عليه وسلم مع ملاحظة السر أن هذا فعل الله لا فعلهم، وإنما توبتهم بنسبة جعلتهم يشهدون أنه سبحانه وتعالى ما أقامهم فى معصيته إلا لأنه يكرههم، ولو أحبهم وفقهم لما يحب فتكون توبتهم عن ندم وإقلاع، ويشهدون من الذنب الواحد كبائر كثيرة منها ما يتحمله عقل المريد: يشهدون أنهم بالمعصية الواحدة حقروا الجناب المقدس وهو العلى العظيم وفرحوا بما يغضبه وهو الشقاء الأبدى وخالفوا حكمه وهو الموجب للعقوبة يوم القيامة، فيسارعون إلى الندم على ارتكاب الذنب والإقلاع عن عمله بعزم صحيح على عدم العودة، فهم يثبتون الوسائط والأسباب بظاهرهم فيسارعون إلى تنفيذ الأحكام، لأن الحق جل جلاله جعل الأسباب التى هى الأواسط مراقى لقربه ومعارج للوصول إليه ويشهدون الواحد الأحد المنزه عن المساعد والمعين العلى عن أن يكون لأحد غيره عمل ما بسر صفا عن حظ وهوى، وهم الذين عصمهم الله من السقوط فى أوحال التوحيد ومن الوقوع فى مهاوى الشرك الأخفى، وهم أهل مشاهد التوحيد بالتوحيد العباد المخلصون لله الأولياء، تولاهم الله فعصمهم من الشيطان ووالاهم بمواجهة العزة وقدس الجبروت الأعلى فوجهوا وجوههم ظاهراً وباطناً إليه سبحانه وتعالى مخلصين له الدين كما قال الخليل على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) سورة الأنعام آية 79، وهم صفوة الله الذين أخفاهم عنهم به وأظهرهم له به سبحانه، فهم معه وهو معهم.
الآدب الرابع: (لأهل مقام التمكين)
من آدابهم القيام بواجب العبودية ظاهراً وباطناً، فترى أجسامهم على الأرض مشهودة للخلق يعلمون ما أوجبه الله عليهم لا يتميزون عن الخلق إلا بما جملهم الله تعالى به من معانى الخشوع وجمال الأخلاق والمسارعة إلى الخير العام، فيقصدهم الناس لنجاح مقاصدهم وصفاء قلوبهم وزوال الخصومة بينهم، فلا يميزهم الناس عنهم إلا بما فطرهم الله عليه وصبغهم به من صبغة الله (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً) سورة البقرة آية 138، فهم الرحماء ولو بعدوهم، الحلماء ولو أوذوا فى أنفسهم، لا يغضبون إلا لله، ويألفون ويؤلفون.
الامام محمد ماضى ابو العزائم
الخلوة مع الرب سبحانه:
لست هذه الرسالة محلاً لشرح أسرارها ولا كشف غوامضها، وقد أشار إليها صلى الله عليه وسلم بقوله: (لى ساعة لا يسعنى فيها إلا ربى)وقوله صلى الله عليه وسلم فى الحديث القدسى: (لا يزال عبدى يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به وبصره الذى يبصر به... الحديث)وقوله سبحانه وتعالى (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) سورة النحل آية 128 فلنطوى بساط هذه الخلوة، وإن كانت الأرواح تشتاق إلى شميمها، ولكنى أكتب عن الفرقة الناجية كتابة أحب أن تكون وسطاً لكل أخ يطلع عليها حتى لا يصعب على أخوتى أن يتشبهوا بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن بسط بساط تلك المواجهات القدسية على أهل الإرادة فى البداية ربما أوقفتهم عن السير لقصور هممهم عن إدارك مبادىء تلك المشاهد حتى تزكو النفوس وتتخلى عن مقتضيات فطرها، وقد أشرت إلى بعض أسرار تلك الخلوة فى المواجيد النظمية إشارات حجبت برموز يفقها من فنى عن مراده بمراد ربه وغاب عن شهود الآثار غيبة جعلته يشهدها دلائل حق بيان لمكون الأكوان.
الخلوة بالنفس:
ليس مرادهم بالخلوة بالنفس أن يخلوا الإنسان بمكان ليفكر فى عمل دنيوى أو لمصلحة فى ماله أو أهله أو قومه فإنها ليست خلوة وإنما هى صرف الإرادة عن الحق سبحانه إلى الخلق، ومن صرف إرادته عن الحق إلى الخلق يكون فى خلوة؟ لا.. ولكنه فى خلوة بحظه وبشهوته ومن هو فى شأنه وتدبير مصالحه تدبر شئونه مع غيره، كيف يكون فى خلوةٍ بنفسه!! وليس فى خلوةٍ من اختفى فى حجرة عن الناس بباعث اقتضى ذلك، وإنما الخلوة التى يخلو فيها المؤمن بنفسه جَمْعُ الهموم وجعلها هماً واحداً فى الله تعالى والفناء عن إرادة ما سواه كما قال العارف:
كانت لقلبى أهواء مفرقة فاستجمعت مذ رأتك العين أهوائى
تركت للناس دنياهم ودينهم شغلاً بذكرك يا دينى ودنياى
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الحديث القدسى: (من شغله ذكرى عن مسألتى أعطيته أفضل ما أعطى السائلين)وإنما يخلو المؤمن بنفسه إذا سكنت إلى منفسها وتحققت يقيناً بسر القدر فعلمت أنها خلقت لشأن عظيم اشتغالها عنه هلاكها وعملها فى غيره ضياعها، ففرت من كل شاغل يشغلها عما هى موجهة وجهها إليه.. ولديها تتحقق الخلوة.
ولهذا الخلوة آداب ومشاهد ومحاسبات ومراقبات، ولا يترقى السالك إلى مقامات اليقين إلا إذا تجمل بهذا الجمال وتحلى بتلك الحلل وصار من السهل عليه أن يخلو بنفسه.
ومتى صعبت عليه الخلوة بنفسه.. كيف تتجلى له غوامض أسرارها التى انطوت عليها؟! وكيف يتيسر له أن يجملها بالكمالات التى بها تكون نفساً مطمئنة تسمع ربها يناديها بكلامه المقدس قائلا لها: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فى عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي) سورة الفجر آية 27-30.
لا تسمع كل نفس هذا الخطاب المقدس، وإنما هو خاص بنفس تزكت فصفت فاختلت خلوة شغلتها شئونها الكمالية عمن سواها وما سواها، حتى تنقلت فى مقامات اليقين ومراقى التمكين بعد التلوين وتجاوزت الملكوت الأعلى وأشرفت على حضرة العزة أو جذبتها العناية حتى أشرفت على قدس الجبروت الأعلى فحضرت فسمعت من جالسته فى خلوتها بنفسها ذاكرة له غافلة عن كل من سواه وما سواه- قال صلى الله عليه وسلم فى الحديث القدسى: (أنا عند ظن عبدى بى وأنا معه إذا ذكرنى)، وقال تعالى: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) سورة البقرة آية 152 وقال سبحانه: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) سورة الشمس آية 7-9، ولعلك يا أخى تعلم قوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ) والفلاح هو نيل كل المقاصد والفوز بجميع الرغائب، وأعظم مقصد للنفس التى تزكت تسارع نيله هو الفوز بجوار رب العالمين فى مقعد صدق عن مليك مقتدر.
وقد بشر الله من تزكى بالفلاح الذى هو الفوز بكل المقاصد، فالخلوة بالنفس: لتكميلها وتزكيتها عن رذائلها ورعوناتها ولقسها حتى تؤهل للكمالات والفضائل والأحوال العلية والمقامات التى أعدها الله لأهل القرب.
أداب الخلوة بالنفس:
منها جلسة المحاسبة: بأن تضع أمامك كفتى الميزان، ثم تضع ما ورد عليك من الله فضلاً وإحساناً وبراً وأمداداً، وما أوجده سبحانه مؤهلاً لحفظ صحتك وبقاء وجودك مما أحاط بك قبل وجودك من نسيم وماء ونبات وحيوان وجبال وأنهار ومعادن وشمس وقمر وأنجم وأفلاك سيارات وثابتات وسماوات بعضها فوق بعض مما لا يُحصى عداً ولا يستقصى حداً.
ثم سل نفسك: لم تفضل عليك بهذا الفضل العظيم واختصك بهذا الخير العميم؟ أله إليك حاجة؟ أم اوجدك لغاية لا يكمل إلا بها؟ ثم جُل بفكرك فى روض نفسك الجنىَّ وفى حدائق ما أحاط بك تجد كل الكون يسبحه وينزهه عن الشريك والولد والوالد، وتراه مقهوراً بقهره مربوباً لعزته ينادى بلسان الحال والمقال: إنه غنى عنك لا تنفعه طاعتك ولا تضره معاصيك.
ثم ضع ما أعده لك بعد موتك من نعيم أبدى وجمال سرمدى إذا أطعت أمره واجتنبت نواهيه وما يتفضل به على أحبابه مما لا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين، ثم أنظر إلى ما وهبه لك من العقل الذى به تعقل والنور الذى به تقبل وما أكرمك به من بعثة سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أيدك به من العلماء الربانيين والحكماء الروحانيين الذين يبينون لك سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويفقهونك فى كلام الله ويدلونك على سبيل الله تعالى... ثم أنظر إلى ما يرد عليك من الله تجد نفسك عدماً فى الحقيقة، لأنك بقيوميته قومت، وبقدرته صورت، وبعنايته أمددت وأوجدت، ولا حول ولا قوة إلا به سبحانه.
إذا حاسبت نفسك هذه المحاسبة فى خلوتك تحققت مقامك وفتح لك باب التوبة فدخلت فى الخلوة الثانية وهى خلوة التائبين:
خلوة التائبين
وآدابها أن تضع ما قابلت به مولاك من سوء الأدب وقبح المخالفة ونسبة ما هو له جل جلاله لنفسك ظلماً منك وجهالة، فإذا أنجلت لك حقائق ما أنعم به عليك إجمالاً.. لأنك لا يمكنك أن تدركها تفصيلاً قال تعالى: (وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) سورة إبراهيم آية 34 وكشفت لك الستارة عنك فعلمت ظلوميتك وجهوليتك وأن مولاك مقبل عليم وأنت فار منه ومحسن إليك وأنت ظالم لنفسك، تبرأت عند ذلك من أعمالك وأسرعت إلى التوبة، فإذا صوفى بشراب التوبة الطهور لزم هذا الشراب حتى يبلغ أرقى مقامات اليقين، فإن التوبة لا تفارق العبد الكامل فى منازل قربه، والكامل فى كل مقامات اليقين قوامه التوبة ومزاجه مقامه الذى هو فيه، ولذلك فإن الله جل جلاله أمر حبيبه ومصطفاه بالاستغفار بعد أن نصره وفتح له مكة ودخل الناس فى دين الله أفواجاً بقوله سبحانه: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) سورة النصر آية 3، وما ذلك إلا لأن التوبة لابد وأن تكون ملازمة للعبد الكامل فى كل مقام من المقامات، ومن ترك التوبة قفل فى وجهه باب القبول، وأن العارف بالله ليتوب من صلاته كما يتوب الزانى والسكير من ذنبه.
ثم يفتح له باب جلوة(خلوة) المحبة بعد التوبة، وهكذا حتى يترقى إلى مقامات اليقين كلها خلوة خلوة، وبعد ذلك لا يحتاج إلى الخلوة لشهوده الحق فى كل شىء ويكون فى خلوة مع نفسه ولو كان فى الأسواق وفى المصانع والمتاجر بل وفى الملحمة الكبرى بين صفوف الأعداء، وقد شرحت آداب أهل المقامات فى قسم علوم اليقين فى كتاب أصول الوصول وغيره، فلا حاجة إلى الإطالة بذكرها ها هنا، غير أنى أذكر آدابا عمومية للخوة بالنفس.
الآداب العمومية لأهل الخلوة بأنفسهم:
معلوم أن الأحوال السنية لا تكون إلا عن مقامات سنية، ولما كان إبليس لعنة الله عليه لا يعادى إلا أهل القرب ولا ينغص إلا أهل المجاهدة ولا يجلب بخيله ورجله إلا على أهل المشاهدة، كان أهل الخلوة بأنفسهم على خطر عظيم، قال صلى الله عليه وسلم: (الناس هلكى إلا العالمين- والعالمون هلكى إلا العاملين- والعملون هلكى إلا المخلصون- والمخلصون على خطر عظيم)، يشير صلى الله عليه وسلم، إلى أن أهل المقامات إن لم يعصمهم الله سبحانه وتعالى بالخشية منه ودوام مواجهته لهم بالعزة ومكاشفة قدس جبروته الأعلى فقد يستولى عليهم العدو الذى قد يدخل عليهم بما يلائم نفوسهم، فإن له مداخل تخفى على الصديقين إن لم يعصمهم الله تعالى.
وإليك مثالاً من دسائسه ووساوسه: لما أن أسكن الله تعالى آدم فردوسه الأعلى قامت قيامة إبليس لعنه الله عليه واجتهد أن يدخل عليه من باب يلائم شهوته وحظه فمكث ينتظر تلك الزلة منه حتى جلس آدم مع حواء يتآنسان فقالت حواء لآدم: إن هذا النعيم فوق ما تشتهيه أنفسنا فقال آدم لها: لو دام، فكانت هذه الكلمة الباب الذى دخل منه إبليس عليه لعنة الله، فاجتهد حتى دخل عليها (وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ) سورة الأعراف آية 20، لو أكلت منها وأطعمت زوجك لدام لكما هذا الملك الكبير وخلدتما فيه، وكانت غايتهما التى يلتمسانها، فأنكرت حواء عليه فأقسم لها أنه لمن الصادقين، فأكلت مصدقة له وأطعمت زوجها فكان ما علمت، وآدم نبى الله وحواء آية الله التى صورها بيده وهما فى جنة الله وفى جوار ربهما سبحانه، ومع ذلك فإن لعنة الله عليه أوقعهما فى الخطيئة وآخرجهما من جوار ربمهما ومن جنة النعيم- قال الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فى أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) سورة الحج آية 52، فكان طمع آدم فى الخلود وفى الجنة مؤدياً إلى معصيته الكبرى وإهباطه مع زوجته إلى الأرض، فدخل إبليس لعنه الله عليه عليهما من وجهة تلائمهما (وهما من علمت) فكيف بك السالك المسكين!! قال الله تعالى (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) سورة آل عمران آية 101.
ومن علامة العصمة بالله أن تراقب الله جل جلاله فى صفاء صفائك وأحلى بهائك وفى أرقى مقامات قربك... فشاهد ما أنت عليه من العجز عن شكر نعماه ومن الافتقار إلى جدواه ومن الاضطرار إلى عطاياه ومن القصور عن القيام بما كلفك به الا بحول منه وقوة، فاذا وفقك للقيام بعمل ما يحب فاجعل ذلك منة منه عليك وفضلاً منه سبحانه واصلاً إليك، وقف متذللاً بين يدى عظمته خاشعاً أمام عزته شاكراً لأنعمه ذاكراً جدواه، وإياك أن يكون لك مراد سواه أو أمل فى غيره، فإن هذا مهاوى إبليس عليه لعنة الله ودسائسه الخفية، إجعل التوبة درعك التى تدفع بها أعدى عدوك، والإنابة سيفك الذى تقصم به ظهر خصمك، وشهود منة الله عليك فى كل نفس معراجك الذى تسرى به إلى ربك، واجعل الخوف من ربك جل جلاله باب القرب منه ميزاب استنزال فضله العظيم قال الله تعالى: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) سورة الرحمن آية 46.
الأدب الثانى:
إعلم أن ائمة الفرقة الناجية إذا خلوا بأنفسهم بكوا خشية على إيمانهم، ثم أقبلوا بكل قلوبهم على ربهم خوفاً من أن تكون فيهم شائبة حب لغيره أو رغبة فى غيره سبحانه، لأن الإيمان فى القلوب أشد نفوراً من الجمل النَّفور، فقد يقول الرجل كلمة لا يلقى لها بالاً فلا تخرج من فمه إلا وقد خرج إيمانه، وقد يعمل العلم فلا يدانيه إلا وقد سلب إيمانه- وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن، ولا يشرب الخمرة حين يشربها وهو مؤمن...)فى حديث طويل، وقال صلوات الله وسلامه عليه: (أنتم فى زمان قليل حفاظه كثير فقهاؤه قليل سائله كثير معطيه، وسيأتى على الناس زمان كثير حفاظه قليل فقهاؤه كثير سائله قليل معطيه، يصبح الرجل مؤمناً ويمسى كافراً، يقرأون القرآن لا يتجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)، وقال الله تعالى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) سورة يوسف آية 106، كان أصحاب رسول الله يبكون خوفاً على إيمانهم مع أنهم أهل مقامات اليقين الكامل، ولكنهم علموا من الحق سبحانه ما جعلهم يراقبونه جل جلاله مراقبة من يعلم أنه لا يسئل عما يفعل، وسئل الحسن البصرى التابعى أمؤمن أنت؟ فقال: أما كما قال الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ...آلآية) الانفال 2-3 فلا، وكان التابعون من خوفهم إذا سئل أحدهم: أمؤمن؟ فيقول: مؤمن إن شاء الله- خوفاً على نفسه من سلب الإيمان، لأن الإيمان فضل من الله تعالى يهبه لمن يشاء بفضله ويسلبه بعدله، أسأل الله تعالى أن يعيذنى بوجه الجميل من علم أو قول أو حال أو اعتقاد يسلب الإيمان- إنه مجيب الدعاء.
الآدب الثالث:
فأئمة الفرقة الناجية من أهل الله الصالحين فى خلوتهم الثانية فى مقام محبوب لهم مراقبة خاصة بهم عن مشاهد اتحاد فى توحيد، فيجاهدون أنفسهم أكبر الجهاد فى ان يتحد مرادهم ومراد ربهم سبحانه فلا يكون لهم عزيمة إلا فيما أوجب وما رغب فيه ليتحد ظاهرهم وباطنهم فى مشهد واحد أحد فاعل مختار لا شريك له، يعملون الأعمال بجوارحهم المجترحة وسرهم يشهد فاعلاً مختاراً، فلا يشهدون لأنفسهم عملاً، اللهم إلا فى مقام الأدب مع الإله الكبير المتعال- فإنهم ينسبون ما قدره جل جلاله عليهم من معاصيه لأنفسهم.. خاشعة قلوبهم مسارعين إلى الندم والأسف والحزن على ما فعلوه من مخالفة ربهم سبحانه ومعصيته نبيه صلى الله عليه وسلم مع ملاحظة السر أن هذا فعل الله لا فعلهم، وإنما توبتهم بنسبة جعلتهم يشهدون أنه سبحانه وتعالى ما أقامهم فى معصيته إلا لأنه يكرههم، ولو أحبهم وفقهم لما يحب فتكون توبتهم عن ندم وإقلاع، ويشهدون من الذنب الواحد كبائر كثيرة منها ما يتحمله عقل المريد: يشهدون أنهم بالمعصية الواحدة حقروا الجناب المقدس وهو العلى العظيم وفرحوا بما يغضبه وهو الشقاء الأبدى وخالفوا حكمه وهو الموجب للعقوبة يوم القيامة، فيسارعون إلى الندم على ارتكاب الذنب والإقلاع عن عمله بعزم صحيح على عدم العودة، فهم يثبتون الوسائط والأسباب بظاهرهم فيسارعون إلى تنفيذ الأحكام، لأن الحق جل جلاله جعل الأسباب التى هى الأواسط مراقى لقربه ومعارج للوصول إليه ويشهدون الواحد الأحد المنزه عن المساعد والمعين العلى عن أن يكون لأحد غيره عمل ما بسر صفا عن حظ وهوى، وهم الذين عصمهم الله من السقوط فى أوحال التوحيد ومن الوقوع فى مهاوى الشرك الأخفى، وهم أهل مشاهد التوحيد بالتوحيد العباد المخلصون لله الأولياء، تولاهم الله فعصمهم من الشيطان ووالاهم بمواجهة العزة وقدس الجبروت الأعلى فوجهوا وجوههم ظاهراً وباطناً إليه سبحانه وتعالى مخلصين له الدين كما قال الخليل على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) سورة الأنعام آية 79، وهم صفوة الله الذين أخفاهم عنهم به وأظهرهم له به سبحانه، فهم معه وهو معهم.
الآدب الرابع: (لأهل مقام التمكين)
من آدابهم القيام بواجب العبودية ظاهراً وباطناً، فترى أجسامهم على الأرض مشهودة للخلق يعلمون ما أوجبه الله عليهم لا يتميزون عن الخلق إلا بما جملهم الله تعالى به من معانى الخشوع وجمال الأخلاق والمسارعة إلى الخير العام، فيقصدهم الناس لنجاح مقاصدهم وصفاء قلوبهم وزوال الخصومة بينهم، فلا يميزهم الناس عنهم إلا بما فطرهم الله عليه وصبغهم به من صبغة الله (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً) سورة البقرة آية 138، فهم الرحماء ولو بعدوهم، الحلماء ولو أوذوا فى أنفسهم، لا يغضبون إلا لله، ويألفون ويؤلفون.
الامام محمد ماضى ابو العزائم