عدد المشاهدات:
- الاتباع:
(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗوَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)سورة آل عمران آية 31 عندما تزول حجب الجهالة والظلم والظلمة عن الإنسان الكلى الفارق، تفوح عليه نسمات روض التسليم فيسلم بالقول، وعند إسلامه يبشر بسلامته من المؤذيات الحسية دنيا وأخرى، ومتى انشرح صدره للإسلام بين له نور اسم الرب المحيط بالنعيم المقيم والعقاب الشديد، فيميل إلى طلب الجمالات وينفر من غيرها، فيكلف بالطاعات المؤدية إلى إطاعة أمر المعطى لهذا النعيم، فتلوح له من سماع الأوامر أنوار محمدية، تزين ظاهرة بالأخلاق المرضية، مع ملاحظة نسبة العمل إليه. وفى هذا المقام يحصل له الاعتقاد الجازم، وهو مقام الإيمان، قال صلى الله عليه وسلم: (المؤمن من سرته حسنته وأساءته سيئته) وتبدو له لمعات البدر من وراء حجاب النسبة، فيفاض عليه نور من ظاهر تلك الطاعات والأخلاق، يدفعه إلى شم طيب باطنه، فتنتعش روحه وتقوى فى استحضار معانى تلك الأعمال، وهيئة مبانيها، ونسبتها إليه، حتى يذوق حلاوة انفراد الحق بالواحدية، فيتوب فى كل يوم سبعين مرة من تلك النسبة الباطلة، ويتشوق إلى التعرف بمصدره حتى يتحقق بصحة الاتباع فى الأعمال والأقوال والأحوال، فيظهر له بدر التشريع منيراً لأفق معالمه، وتنفجر عين حقائق الشريعة من فؤاده، فيفنى فى شهود انعدامه بوجود موجده، ويؤوب إليه متبعا جميع ما كان عليه السيد الأكمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، بحيث لا يلتفت قدر خردلة عن الاتباع من قول وفعل وحال، وبذلك لا يغيب عنه صلى الله عليه وسلم طرفة عين، بل يراه سارياً فى كل الأشباح والأرواح، ويلهمهم الصواب فى جميع شئونهم ولديها يتحقق بمحبة الله تعالى، ويسعد بحب الله له، وهذا مقام الإحسان.
ولا يكون الاتباع كاملاً إلا عند أهل هذا المقام، وفى كل مقام من المقامات السابقة يكون صاحبه متبعاً حقيقياً بحسب رتبته، وإن خالف من فوقه من أصحاب المقامات العالية؛ ولا يمكن أن يخالفوا من قبلهم فى قول أو عمل، لأن الأقوال والأعمال فى كل المراتب لا تتفاوت، والأحوال والاعتقادات هى التى تتفاوت؛ فيلزم أن تسلم لأهلها؛ حتى يذوق الإنسان حلاوتها من مراتبها، (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) سورة البقرة آية 105 وهذا هو الاتباع الحقيقى.
- الابتداع:
والابتداع عبارة عن انسدال ستارة الحس على أشعة أنوار الروح التى شهدت وقالت بلى، فتميل تحت ناموس القوى الحسية، وتنصبغ بضبغتها، وتجول فى تلك المحسوسات عما فيها من الأسرار الربانية التى أشهدها لها ربها فى مقام (ألست) فتختلف عليها المشارب، وتمزج منها الأنوار بظلمات تلك الحجب، فترى انكسار أشعة الواحدية تعدداً، وتنزه طلاسم الأحدية تشبها، ومظاهر الوحدانية غيرا، وتتبع الهوى وتتخذه إلها، وتنأى عن العهود المأخوذة (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىشَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) سورة الأعراف آية 172.
ومتى تسلطت تلك المحسوسات أظلم أفق التشريع، وفهم خلاف ما أراده الشارع، ويستنتج من الأحكام الشرعية أحكاما بدعية ضلالية، ليجعلها الصراط المستقيم، فتارة يبيح المحرم ويحرم المباح. وهكذا تتوالى عليه الخيالات والأوهام حتى يضل ويضل، ويتساهل بالواجبات الشرعية الشريفة، ولديها يكون شبيها بإبليس رأس الغواة. نسأل الله تعالى أن يحصننا بحصن الشريعة، ويطهر قلوبنا باتباع أسراره النبوية، إنه قريب مجيب.
- الإقبال والقبول:
العوالم كلها قائمة بقيومية الحق، والشئون الكائنة هى صورة حقائق المشيئة، ومعانى تخصيص الإدارة، وأسرار حيطة العلم، فما من كائن فى الوجود إلا وقد أحاط به العلم، وخصصته الإرادة، ونجزته القدرة، وصدر عن المشيئة. ونسب القرب والبعد والرضا والغضب والهداية والضلالة؛ إنما هى بالنسبة لك لا بالنسبة للحق جلت قدرته، فهى متفاوته فى عينك لتأثرك باختلاف تلك المعانى، وهو تعالى منزه عن التأثير والتأثر علىّ أن يكون فى كونه ما لا يريد، أو يحدث فيه ما لا يشاء، بل الكل بمراده ومشيئته كائن، وعن حضرة علمه صادر، أحاط بكل شئ علما، وأحصى كل شئ عدداً.
وإذا تقرر هذا فما أقامك إقامة؛ أو عاملك معاملة؛ أو واجهك؛ أو قربك إليه أو أدناك منه؛ إلا وقد قام كل ذلك بقيوميته، وكان بمحض مشيئته، وهو سبحانه يقرب العبد لقربه سبحانه منه، ويقيمه مقام محبوب محب لحبه، ويلهمه الدعاء لأنه دعاه، ويوفقه لما يحب لأنه أحبه، ويكاشفه بجمالاته لأنه كشف عنه حجابه، ومنحه عيون فضله. ويبعد المبعود لأنه بعد عنه، ويقيمه فيما يكره لأنه كرهه، ويحرمه من مشاهدة جماله لأنه احتجب عنه.
وهو هو الله سبحانه وتعالى، الرضا صفة من صفاته، والغضب صفة من صفاته ، وهو هو سبحانه وتعالى فى حالة الرضا هو هو بعينه فى حالة الغضب وهو هو سبحانه فى حالة القرب ممن يحبه؛ كهو سبحانه وتعالى فى حالة البعد ممن كره. إلا أن معانى الرضا من القرب والحب والهداية والتوفيق والرأفة والحنانة؛ معان بها نعيم المخصوص بها، وسعادة المطلوب لها. ومعانى الغضب من البعد والضلالة والذل والقهر والجبروت والنقمة؛ معان توجب الشقاء والآلام لمن تعلقت به، حكمة خفيت. وهى هى الأسماء والصفات، فالمضل هو عين الهادى، والقاهر هو عين اللطيف الرءوف. فهو سبحانه على ما هو عليه، وللأسماء مقتضيات (يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) سورة هود آية 105.
فأهل الهداية: جملهم بأخلاقه، وأسعدهم بوداده، وأشهدهم على جماله، وواجههم بجميل وجهه. وأهل الضلالة: عاملهم بقهرة، وواجههم بانتقامه، ومدهم بجبروته، وتنزل لهم بشديد البطش القوى المذل المضل القهار المنتقم، فكان ظهوره بمقتضيات تلك الأسماء بالنسبة لذاته الأحدية؛ هو عين ظهوره بمقتضيات الأسماء الجمالية. وكما أن الاسم الرءوف الرحيم المنعم المتفضل له بهجة بظهور مقتضياته؛ فكذلك الأسماء الجلالية. وهذا هو الكمال.
فإذا قابلك بجماله فقابله بجمالك. وجمالك الذل والخشوع والفقر والمسكنة والاضطرار والجهل والتوبة والندم والإنابة، حتى يكون فى عينك جميلاً، وتكون فى عينه جميلا، فيرى الجميل الجميل، لأن الجمال المناسب لك غير الجمال المناسب له. فهو سبحانه وتعالى يحب أن يرى منك صفاته التى بها أنت عبد له، كما أنك تحب أن ترى منه المعانى التى بها هو رب لك. وإذا تنزل لك وهو الغنى عنك العلىّ الكبير؛ فتنزل أنت له بالأولى من آدميتك إلى رتبة منىّ ومن رتبة منىّ إلى رتبة طين ومن رتبة طين إلي رتبة عدم، فإنه إذا تجمل لك وقابلك فى أى رتبة من رتب جمالك؛ وطور من أطوارك؛ جملك بجمال فيها بقدرها، فإذا قابلته بآدميتك؛ أمدك بما به تأكل وتشرب وتتلذذ، مما هو لازم للآدمية. وإذا تنزلت له له إلى طور المنى أبدلك بسمعك سمعاً، وببصرك بصراً، وبذوقك ذوقاً، وبلمسك لمساً، وأبدل جميع معانيك. وإذا تنزلت إلى طور الطين؛ صورك بيده، ونفخ فيك من روح قدسه، وأسجد لك ملائكته. وإذا تنزلت إلى طور العدم جملك العدم جملك بكل أسمائه، وجعلك أفقاًً لشروق شمس صفاته، وإلا فعجباً يتنزل لك وهو الغنى، وأنت لا تتنزل لجنابه العلى، وأنت الفقير. ويتقرب منك وهو العلى، ولا تتقرب منه وأنت الضعيف. على ذلك فالشكر لازمك، والحمد عبادتك، ويقظة القلب مرادك، وشغل فكرك سراجك. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن أقبل عليهم، وأقبل بهم عليه، وقابلهم وأقامهم فقابلوه، وأن يزكى نفوسنا، ويجمل أخلاقنا، ويحفظنا مما يشغلنا عنه سبحانه، ويلهمنا التوبة عند كل صغيرة وكبيرة، ويحصننا من الفتن والحظوظ والأهواء، إنه مجيب الدعاء.
- الحكمة ضالة المؤمن (يلتقطها حيث وجدها:)
المؤمن يلتقتها حيث وجدها، القلوب أوعية الحق وخزائن الغيب، وعرش الرب يستوى عليه برحمانيته، وأجلها أجلاها، وأقربها أصفاها. فإذا صفت من داعيات الحظ وبواعث الشهوة وقوى الأمل وحظ البشرية وبواعث الإنسانية؛ تطهرت لطائفها، وأشرقت خزائنها بنور الباطن مستمدة من أنوار أسرار الظاهر، وأولت كل أثر أو معنى عبادة؛ لما يقتضيه صفاؤها المزين بجمال شهود (ألست) (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰأَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖقَالُوا بَلَىٰۛشَهِدْنَا ۛأَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ) سورة الأعراف آية 172 عند سماع الخطاب، وشهود الجمال المطلق. إذ اللفظ من حيث هو دال على معنى ما من المعانى المتحلية للسماع المشتهاة له، كما يتخيل للخائف أن كل شبح يراه من بعد هو الحقيقة المفزعة له، وكما يتخيل للمشتاق أن كل صورة يراها من بعد هى الذات المحبوبة له، لفراغ القلب مما سوى ذلك. فكذلك القلب المتطهر من دنس الهوى والحظ، المستحضر لعظمة وجمالات الحق؛ يطمئن بكل إشارة وعبارة تشير أو تومى إلى جمالات الحق سبحانه وتعالى. لأن اللفظ من حيث هو: دال، وعند ذكره يستحضر المدلول عليه استحضاراً يذوق به القلب لذة الأنس بشهوده، لشدة فراغه من سواه.
ولذلك فأهل الخصوصية مع الحق سبحانه؛ ضالتهم المنشودة الحكمة من أى مصدر كانت، ولأى إنسان نسبت، إذ مرادهم الأنس بالله تعالى، بما يقوى حضورهم معه سبحانه. ولذلك فقلوبهم هى الحاكم الشرعى الذى حكم به صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم علينا باتباعها، كما قال صلى الله عليه وسلم: (استفت قلبك ولو أفتاك المفتون) فجعل حكم القلب شرعا يحكم على حكم المفتى، لأنه مشرق شمس العلم الربانى. وعلى هذا فكل حديث ورد عن السيد صلى الله عليه وسلم وسمعه صاحب القلب؛ حكم عليه بما يحكم به القلب. وغير صاحب القلب إذا أورد عليه الحديث بحث عن راويه وعمن رواه، وبحث فى رتبتهم، فجرح من شاء من الرواة، وعدل من شاء لأن قلبه ليس حاكما، بل الحاكم لسانه وسمعه. وروينا: من بلغه عن الله فضيلة أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم وعمل بها أعطاه الله ثواب ذلك وإن لم يكن ما قيل. قال صلى الله عليه وسلم (ما روى عنى حقا فأنا أقوله وإن لم أكن قلته وما روى عنى باطلاً فإنى لا أقول بالباطل). بهذا تحقق أن القلب المطهر من داعيات الحظ والهوى يتلقى عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، ويذوق حلاوة عبارة النبى صلى الله عليه وسلم، فمتى سمع كلاما له صلى الله عليه وسلم أشرق نور معناه على سريرة القلب المشرق، فعلم مراده صلى الله وسلم، لا يهمه أن يكون سنده قوياً أو ضعفاً أو موضوعاً أو مقطوعاً أو غريباً، بل يسأل قلبه ويستفتيه ويحكم بحكمه
ولكن أهل الأغراض والحظوظ السافلة الدنيوية؛ إذا سمعوا حديثا يحث على مكرمة أو فضيلة، أو زهد فى الدنيا أو تواضع، أو تباعد عن الشهرة والسمعة، أو جهاد للنفس وخلوة مع الله تعالى، أنكرته أغراضهم وسعوا فى سقوط راويه، وضعفوا فيهم وجرحوهم، وما أدرى يوم القيامة إذا وقفوا بين يدى الله تعالى، وناداهم: علام قذفتم سلفكم وسفتهم سابقيكم بإيمان؟ وانتقم من الظالم للمظلوم، وآخذهم على ضلال العامة بالتباعد عن عمل البر والسعى فى فعل الخير، والتمسك بالرشاد، نسأل الله تعالى السلامة والعافية.
إذا يلزم المؤمن الكامل أن يطلب الحكمة، ولا ينقصها تساهل حاملها بها، أو أن يكون حاملها ليس من أهلها. فلو فرضنا أن المسفه بعض رواة الحديث لو ظفر بدينار فى مرحاض فحاول تناوله ولو بسقوطه عليه فى المرحاض؛ فالحكمة أولى بالتناول، لعلو قيمتها، ولأنها داعية النجاة فى الدنيا والآخرة من الدينار، ولكن خص مولاك فضله برجال، وشوقهم إلى الحكمة فطلبوها ووجدوها، يختص بفضله من يشاء فى التوحيد.
(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗوَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)سورة آل عمران آية 31 عندما تزول حجب الجهالة والظلم والظلمة عن الإنسان الكلى الفارق، تفوح عليه نسمات روض التسليم فيسلم بالقول، وعند إسلامه يبشر بسلامته من المؤذيات الحسية دنيا وأخرى، ومتى انشرح صدره للإسلام بين له نور اسم الرب المحيط بالنعيم المقيم والعقاب الشديد، فيميل إلى طلب الجمالات وينفر من غيرها، فيكلف بالطاعات المؤدية إلى إطاعة أمر المعطى لهذا النعيم، فتلوح له من سماع الأوامر أنوار محمدية، تزين ظاهرة بالأخلاق المرضية، مع ملاحظة نسبة العمل إليه. وفى هذا المقام يحصل له الاعتقاد الجازم، وهو مقام الإيمان، قال صلى الله عليه وسلم: (المؤمن من سرته حسنته وأساءته سيئته) وتبدو له لمعات البدر من وراء حجاب النسبة، فيفاض عليه نور من ظاهر تلك الطاعات والأخلاق، يدفعه إلى شم طيب باطنه، فتنتعش روحه وتقوى فى استحضار معانى تلك الأعمال، وهيئة مبانيها، ونسبتها إليه، حتى يذوق حلاوة انفراد الحق بالواحدية، فيتوب فى كل يوم سبعين مرة من تلك النسبة الباطلة، ويتشوق إلى التعرف بمصدره حتى يتحقق بصحة الاتباع فى الأعمال والأقوال والأحوال، فيظهر له بدر التشريع منيراً لأفق معالمه، وتنفجر عين حقائق الشريعة من فؤاده، فيفنى فى شهود انعدامه بوجود موجده، ويؤوب إليه متبعا جميع ما كان عليه السيد الأكمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، بحيث لا يلتفت قدر خردلة عن الاتباع من قول وفعل وحال، وبذلك لا يغيب عنه صلى الله عليه وسلم طرفة عين، بل يراه سارياً فى كل الأشباح والأرواح، ويلهمهم الصواب فى جميع شئونهم ولديها يتحقق بمحبة الله تعالى، ويسعد بحب الله له، وهذا مقام الإحسان.
ولا يكون الاتباع كاملاً إلا عند أهل هذا المقام، وفى كل مقام من المقامات السابقة يكون صاحبه متبعاً حقيقياً بحسب رتبته، وإن خالف من فوقه من أصحاب المقامات العالية؛ ولا يمكن أن يخالفوا من قبلهم فى قول أو عمل، لأن الأقوال والأعمال فى كل المراتب لا تتفاوت، والأحوال والاعتقادات هى التى تتفاوت؛ فيلزم أن تسلم لأهلها؛ حتى يذوق الإنسان حلاوتها من مراتبها، (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) سورة البقرة آية 105 وهذا هو الاتباع الحقيقى.
- الابتداع:
والابتداع عبارة عن انسدال ستارة الحس على أشعة أنوار الروح التى شهدت وقالت بلى، فتميل تحت ناموس القوى الحسية، وتنصبغ بضبغتها، وتجول فى تلك المحسوسات عما فيها من الأسرار الربانية التى أشهدها لها ربها فى مقام (ألست) فتختلف عليها المشارب، وتمزج منها الأنوار بظلمات تلك الحجب، فترى انكسار أشعة الواحدية تعدداً، وتنزه طلاسم الأحدية تشبها، ومظاهر الوحدانية غيرا، وتتبع الهوى وتتخذه إلها، وتنأى عن العهود المأخوذة (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىشَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) سورة الأعراف آية 172.
ومتى تسلطت تلك المحسوسات أظلم أفق التشريع، وفهم خلاف ما أراده الشارع، ويستنتج من الأحكام الشرعية أحكاما بدعية ضلالية، ليجعلها الصراط المستقيم، فتارة يبيح المحرم ويحرم المباح. وهكذا تتوالى عليه الخيالات والأوهام حتى يضل ويضل، ويتساهل بالواجبات الشرعية الشريفة، ولديها يكون شبيها بإبليس رأس الغواة. نسأل الله تعالى أن يحصننا بحصن الشريعة، ويطهر قلوبنا باتباع أسراره النبوية، إنه قريب مجيب.
- الإقبال والقبول:
العوالم كلها قائمة بقيومية الحق، والشئون الكائنة هى صورة حقائق المشيئة، ومعانى تخصيص الإدارة، وأسرار حيطة العلم، فما من كائن فى الوجود إلا وقد أحاط به العلم، وخصصته الإرادة، ونجزته القدرة، وصدر عن المشيئة. ونسب القرب والبعد والرضا والغضب والهداية والضلالة؛ إنما هى بالنسبة لك لا بالنسبة للحق جلت قدرته، فهى متفاوته فى عينك لتأثرك باختلاف تلك المعانى، وهو تعالى منزه عن التأثير والتأثر علىّ أن يكون فى كونه ما لا يريد، أو يحدث فيه ما لا يشاء، بل الكل بمراده ومشيئته كائن، وعن حضرة علمه صادر، أحاط بكل شئ علما، وأحصى كل شئ عدداً.
وإذا تقرر هذا فما أقامك إقامة؛ أو عاملك معاملة؛ أو واجهك؛ أو قربك إليه أو أدناك منه؛ إلا وقد قام كل ذلك بقيوميته، وكان بمحض مشيئته، وهو سبحانه يقرب العبد لقربه سبحانه منه، ويقيمه مقام محبوب محب لحبه، ويلهمه الدعاء لأنه دعاه، ويوفقه لما يحب لأنه أحبه، ويكاشفه بجمالاته لأنه كشف عنه حجابه، ومنحه عيون فضله. ويبعد المبعود لأنه بعد عنه، ويقيمه فيما يكره لأنه كرهه، ويحرمه من مشاهدة جماله لأنه احتجب عنه.
وهو هو الله سبحانه وتعالى، الرضا صفة من صفاته، والغضب صفة من صفاته ، وهو هو سبحانه وتعالى فى حالة الرضا هو هو بعينه فى حالة الغضب وهو هو سبحانه فى حالة القرب ممن يحبه؛ كهو سبحانه وتعالى فى حالة البعد ممن كره. إلا أن معانى الرضا من القرب والحب والهداية والتوفيق والرأفة والحنانة؛ معان بها نعيم المخصوص بها، وسعادة المطلوب لها. ومعانى الغضب من البعد والضلالة والذل والقهر والجبروت والنقمة؛ معان توجب الشقاء والآلام لمن تعلقت به، حكمة خفيت. وهى هى الأسماء والصفات، فالمضل هو عين الهادى، والقاهر هو عين اللطيف الرءوف. فهو سبحانه على ما هو عليه، وللأسماء مقتضيات (يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) سورة هود آية 105.
فأهل الهداية: جملهم بأخلاقه، وأسعدهم بوداده، وأشهدهم على جماله، وواجههم بجميل وجهه. وأهل الضلالة: عاملهم بقهرة، وواجههم بانتقامه، ومدهم بجبروته، وتنزل لهم بشديد البطش القوى المذل المضل القهار المنتقم، فكان ظهوره بمقتضيات تلك الأسماء بالنسبة لذاته الأحدية؛ هو عين ظهوره بمقتضيات الأسماء الجمالية. وكما أن الاسم الرءوف الرحيم المنعم المتفضل له بهجة بظهور مقتضياته؛ فكذلك الأسماء الجلالية. وهذا هو الكمال.
فإذا قابلك بجماله فقابله بجمالك. وجمالك الذل والخشوع والفقر والمسكنة والاضطرار والجهل والتوبة والندم والإنابة، حتى يكون فى عينك جميلاً، وتكون فى عينه جميلا، فيرى الجميل الجميل، لأن الجمال المناسب لك غير الجمال المناسب له. فهو سبحانه وتعالى يحب أن يرى منك صفاته التى بها أنت عبد له، كما أنك تحب أن ترى منه المعانى التى بها هو رب لك. وإذا تنزل لك وهو الغنى عنك العلىّ الكبير؛ فتنزل أنت له بالأولى من آدميتك إلى رتبة منىّ ومن رتبة منىّ إلى رتبة طين ومن رتبة طين إلي رتبة عدم، فإنه إذا تجمل لك وقابلك فى أى رتبة من رتب جمالك؛ وطور من أطوارك؛ جملك بجمال فيها بقدرها، فإذا قابلته بآدميتك؛ أمدك بما به تأكل وتشرب وتتلذذ، مما هو لازم للآدمية. وإذا تنزلت له له إلى طور المنى أبدلك بسمعك سمعاً، وببصرك بصراً، وبذوقك ذوقاً، وبلمسك لمساً، وأبدل جميع معانيك. وإذا تنزلت إلى طور الطين؛ صورك بيده، ونفخ فيك من روح قدسه، وأسجد لك ملائكته. وإذا تنزلت إلى طور العدم جملك العدم جملك بكل أسمائه، وجعلك أفقاًً لشروق شمس صفاته، وإلا فعجباً يتنزل لك وهو الغنى، وأنت لا تتنزل لجنابه العلى، وأنت الفقير. ويتقرب منك وهو العلى، ولا تتقرب منه وأنت الضعيف. على ذلك فالشكر لازمك، والحمد عبادتك، ويقظة القلب مرادك، وشغل فكرك سراجك. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن أقبل عليهم، وأقبل بهم عليه، وقابلهم وأقامهم فقابلوه، وأن يزكى نفوسنا، ويجمل أخلاقنا، ويحفظنا مما يشغلنا عنه سبحانه، ويلهمنا التوبة عند كل صغيرة وكبيرة، ويحصننا من الفتن والحظوظ والأهواء، إنه مجيب الدعاء.
- الحكمة ضالة المؤمن (يلتقطها حيث وجدها:)
المؤمن يلتقتها حيث وجدها، القلوب أوعية الحق وخزائن الغيب، وعرش الرب يستوى عليه برحمانيته، وأجلها أجلاها، وأقربها أصفاها. فإذا صفت من داعيات الحظ وبواعث الشهوة وقوى الأمل وحظ البشرية وبواعث الإنسانية؛ تطهرت لطائفها، وأشرقت خزائنها بنور الباطن مستمدة من أنوار أسرار الظاهر، وأولت كل أثر أو معنى عبادة؛ لما يقتضيه صفاؤها المزين بجمال شهود (ألست) (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰأَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖقَالُوا بَلَىٰۛشَهِدْنَا ۛأَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ) سورة الأعراف آية 172 عند سماع الخطاب، وشهود الجمال المطلق. إذ اللفظ من حيث هو دال على معنى ما من المعانى المتحلية للسماع المشتهاة له، كما يتخيل للخائف أن كل شبح يراه من بعد هو الحقيقة المفزعة له، وكما يتخيل للمشتاق أن كل صورة يراها من بعد هى الذات المحبوبة له، لفراغ القلب مما سوى ذلك. فكذلك القلب المتطهر من دنس الهوى والحظ، المستحضر لعظمة وجمالات الحق؛ يطمئن بكل إشارة وعبارة تشير أو تومى إلى جمالات الحق سبحانه وتعالى. لأن اللفظ من حيث هو: دال، وعند ذكره يستحضر المدلول عليه استحضاراً يذوق به القلب لذة الأنس بشهوده، لشدة فراغه من سواه.
ولذلك فأهل الخصوصية مع الحق سبحانه؛ ضالتهم المنشودة الحكمة من أى مصدر كانت، ولأى إنسان نسبت، إذ مرادهم الأنس بالله تعالى، بما يقوى حضورهم معه سبحانه. ولذلك فقلوبهم هى الحاكم الشرعى الذى حكم به صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم علينا باتباعها، كما قال صلى الله عليه وسلم: (استفت قلبك ولو أفتاك المفتون) فجعل حكم القلب شرعا يحكم على حكم المفتى، لأنه مشرق شمس العلم الربانى. وعلى هذا فكل حديث ورد عن السيد صلى الله عليه وسلم وسمعه صاحب القلب؛ حكم عليه بما يحكم به القلب. وغير صاحب القلب إذا أورد عليه الحديث بحث عن راويه وعمن رواه، وبحث فى رتبتهم، فجرح من شاء من الرواة، وعدل من شاء لأن قلبه ليس حاكما، بل الحاكم لسانه وسمعه. وروينا: من بلغه عن الله فضيلة أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم وعمل بها أعطاه الله ثواب ذلك وإن لم يكن ما قيل. قال صلى الله عليه وسلم (ما روى عنى حقا فأنا أقوله وإن لم أكن قلته وما روى عنى باطلاً فإنى لا أقول بالباطل). بهذا تحقق أن القلب المطهر من داعيات الحظ والهوى يتلقى عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، ويذوق حلاوة عبارة النبى صلى الله عليه وسلم، فمتى سمع كلاما له صلى الله عليه وسلم أشرق نور معناه على سريرة القلب المشرق، فعلم مراده صلى الله وسلم، لا يهمه أن يكون سنده قوياً أو ضعفاً أو موضوعاً أو مقطوعاً أو غريباً، بل يسأل قلبه ويستفتيه ويحكم بحكمه
ولكن أهل الأغراض والحظوظ السافلة الدنيوية؛ إذا سمعوا حديثا يحث على مكرمة أو فضيلة، أو زهد فى الدنيا أو تواضع، أو تباعد عن الشهرة والسمعة، أو جهاد للنفس وخلوة مع الله تعالى، أنكرته أغراضهم وسعوا فى سقوط راويه، وضعفوا فيهم وجرحوهم، وما أدرى يوم القيامة إذا وقفوا بين يدى الله تعالى، وناداهم: علام قذفتم سلفكم وسفتهم سابقيكم بإيمان؟ وانتقم من الظالم للمظلوم، وآخذهم على ضلال العامة بالتباعد عن عمل البر والسعى فى فعل الخير، والتمسك بالرشاد، نسأل الله تعالى السلامة والعافية.
إذا يلزم المؤمن الكامل أن يطلب الحكمة، ولا ينقصها تساهل حاملها بها، أو أن يكون حاملها ليس من أهلها. فلو فرضنا أن المسفه بعض رواة الحديث لو ظفر بدينار فى مرحاض فحاول تناوله ولو بسقوطه عليه فى المرحاض؛ فالحكمة أولى بالتناول، لعلو قيمتها، ولأنها داعية النجاة فى الدنيا والآخرة من الدينار، ولكن خص مولاك فضله برجال، وشوقهم إلى الحكمة فطلبوها ووجدوها، يختص بفضله من يشاء فى التوحيد.
الامام المجدد السيد محمد ماضى ابو العزائم