عدد المشاهدات:
أن
أهل الوصول إلى الله عزَّ شأنه
لهم حالات عجيبة وشئون غريبة، لا يكاد يصبر أحد عليها إلا هم، لعظيم جهادهم، ودوام
قربهم، ولذلك فإنك تراهم يتورعون عن الحلال خشية استطابته واستمرائه، وخوفا من فتح
أبواب الشبهات عليهم. فقد ورد في الحديث الشريف قوله عليه الصلاة والسلام:{لا
يكون العبد من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به البأس}.[1]
وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتركون سبعين بابا من
الحلال خشية من الوقوع في الحرام، فقد تشتد رغبة الواحد منهم في شيء من الطيبات
والحصول عليه ميسور، ومع هذا فيرغب عنه، ويزهد فيه مسارعة إلى الأمل الباقي
والنعيم الدائم، سر قول الله عزَّ وجلَّ:
﴿وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ
مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ
لِلْمُتَّقِينَ﴾.[133، آل عمران].
والمسارعة إلى المغفرة، إنما تكون بعد معرفتها،
والتحقق منها، ورجاء نوالها والوصول إليها. والمغفرة معنى من معاني أخلاق الله
وصفاته عزَّ وجلَّ..
والمسارعة معناها المبادرة قبل فوات الفرصة، والمسارعة أيضا تحمل معنى المنافسة
بين المتسارعين، حتى لا يسبقني أحد إلى رحمة الله ومغفرته.والجنة قد عرضها الله
علينا في الجمالات واللذات والنعم والمتع والمسرات التي في عالم السموات والأرض،
من كل ما يحبه الإنسان ويتشوق إليه، ويشتهيه ويتمنى الحصول عليه، فجعل الله ما في
هذه الحياة من النعم والخيرات، والسعادة والهناء، مما أحله الله وأباحه للإنسان،
صورة يعرض فيها نعيم الجنات ومسرات الحياة الأبدية، ليشتاق الإنسان إلى النعيم الباقي،
والخلود الدائم،وكذلك جعل الله ما في هذه الحياة من عناء وشقاء،وتعب ونكد، وما
يراه الإنسان من أنواع العذاب والآلام، والوحوش الكاسرة، والآفات السامة وغيرها،
مظهرا وصورة لعذاب الله الأليم في الآخرة فيقشعر جسد الإنسان ويخشى من عذاب تدوم
حسرته في الدار الآخرة، وهذه الأمور رحمة الله بالإنسان، وذلك معنى قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى
وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى﴾.[10ـ12، الأعلى].
وقد يكون العبد الواصل في حاجة ماسة إلى مال أو
طعام أو شراب أو لباس، ولكنه يستغنى عن هذه الأشياء مع حاجته إليها، وذلك أمر غريب
حقاً، لأنهما ضدان قد اجتمعا، حاجة للشيء قائمة وملحة، وغنى عن هذا الشيء في الوقت
نفسه، وهذه هي الهمة العالية، والعزيمة الصادقة في التشبه بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقد ورد أنهم كانوا في غزوة من الغزوات، وأصيب
من أصيب في هذه الغزوة فكان الساقي يمر بالماء على المصابين ليسقيهم وهم يجودون
بآخر أنفاسهم فيذهب بالماء للأول، وهو في شدة الظمأ والالتهاب إلى الماء فيقول:
اسق أخي فهو أشد منى ظمأ، ويقول الثاني والثالث كذلك، حتى إذا انتهى الساق لآخرهم،
قال له أدرك الأول قبل أن يموت، فيذهب إليه فيجده قد مات وكذا الثاني، والثالث،
وباقي الشهداء، رضي الله عنه.
ما هذه الأحوال ؟ هي أحوال أهل القرب، ومشاهدات
أهل الوصل، ومراتب أهل التمكين، حتى في هذه الحالة التي لا يشعر الإنسان فيها إلا
بما هو فيه من بلاء شديد، ومحنة قاسية، يؤثر الإنسان الكامل فيها رفاقه وإخوانه !!
قال أبو
العزائم رضي الله عنه:
سلم أحاديث الحقائق تسلمن
تسقى شراب الحب في أعلى مقام
وهذا الغنى ليس بعرض زائل، أو جاه فان، وإنما
هذا الغنى عن مشاهدات عالية لمعاني أسماء الحق وصفاته، من البر والإحسان، والعطاء
والرحمة، والصبر والرضي، واليقين الحق، وغيره من الكمالات والجمالات الإلهية، وشدة
الشوق للتشبه بها والتحلي بها، حتى في آخر الأنفاس، سر قول الله عز شأنه: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ
صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم
مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾. [23، الأحزاب].
ومن كان غنياً
بالله سبحانه، لا يلحقه فقر، ولا يدركه عوز.
قال
الإمام أبو العزائم رضي الله عنه:
الحب في الله أغناني عن الناس
والأنس بالله معراجي ونبراسي
كم من إنسان ملك هذه الدنيا، وهو في شدة الفقر،
لأنه لم يقنع بما آتاه الله منها، بل هو في عناء وكد متواصل لجمعها، والطمع حتى
فيما في أيدي الفقراء، فقد يكون رجل ثرى وميسور، له من الأموال كذا وكذا، وله جار
فقير يسكن في عشة بجوار منزله، أو له محل يصنع فيه شيئا بجوار قصره، أو قطعة أرض
زراعية يزرعها هو وعياله بجوار أطيانه فيعمل هذا الرجل الغنى على مضايقة جاره
الفقير، بل وإساءته، طمعاً في الحصول على حاجاته وضمها إلى أملاكه فيضطر الفقير
لسوء المعاملة لبيعها له، ولو بثمن بخس لأنه لا يقدر على مناوأته ومنازعته. فهل
بعد هذا فقر واحتياج ؟.
الواصلون إلى الله لا ينازعون أهل الدنيا
دنياهم، ولا ينظرون إليهم إلا بقدر ما يترحمون عليهم، وينعون عليهم حالهم، وإلا
بقدر تذكيرهم وتبصيرهم خوفاً عليهم من الغرق في بحارها، فمن سكر بحب الدنيا لا
يفيق إلا عند الموت وقال صلى الله عليه وسلم:
{إياكم وحب الدنيا فإنها أسحر من هاروت وماروت}.
[2]
وقال
الإمام على رضي الله عنه:
(الدنيا دار من لا دار له، يجمعها من لا عقل له، ويؤثرها على الآخرة من لا دين له).
قال
الإمام أبو العزائم رضي الله عنه:(المؤمنون
مسافرون إلى مقر رحمة الله في دار النعيم المقيم، والمحسنون مسافرون إلى مقعد صدق
عند مليك مقتدر، والموقنون مسافرون فراراً من الكونين إلى المكون جلَّ جلاله، فليتخذ كل واحد من هؤلاء
المسافرون من يعينه في سفره هذا على بلوغ المقصد عملا بالحكمة المأثورة خذ الرفيق
قبل الطريق، والواصلون فروا من الكونين إلى الله عزَّ
وجلَّ)
وقال قائلهم:
فما مقصودهم جنات عدن ولا
الحور الحسان ولا الخيـام
ولكن وجه مولاهم مناهـم وذلك مقصد القوم الكــرام
فليس للدنيا عليهم من سبيل، ولا لنعيم الجنات
عليهم من سلطان، لأنهم أهل الله وخاصته، سر قول الله عز شأنه: ﴿إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ
الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرضي﴾.[20 ـ 21، الليل].
فالواصلون رضي
الله عنهم، يطلبون وجه ربهم سبحانه وتعالى، ووجه ربهم ذاته المقدسة بجميع
أسمائها وصفاتها، وكمالاتها وجمالاتها، وأنوارها وبهائها، وجميع ما يتعلق بها.
ولما كان هذا المطلوب عظيم جداً، بل أجل وأعظم، فبذلوا في نواله الدنيا والآخرة،
مستصغرين ومستقلين ما بذلوا في نوال هذا المطلوب العلى والمقصود الأعظم.
وإذا كان الحق سبحانه
وتعالى، اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم، وعوضهم عن ذلك بالجنة، فيكف
يكون حال عبد لا يرضي بديلا عن الله، ولا يستغنى بالفردوس الأعلى عن وجه الله، فهو
يبذل الجنة والخلود فيها، ويبذل الدنيا والحياة فيها في سبيل الخطوة بنفس واحد في
شهود سيده ومولاه. وأهل هذا المقام متحققون بقوله جل
شأنه: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾. [88، القصص]. وقد
اطلع الله عليهم وقال لهم: أنتم عبادي حقاً، أنتم عبادي حقاً، أنتم لي وأنا لكم لا
أهضمكم حقكم، ولا أبخل عليكم بطلبكم، سر قول النبي صلى الله عليه وسلم:{بل
الرفيق الأعلى من الجنة}.
وكما قال
الإمام أبو العزائم عن نفسه وعن أمثاله:
غريب نعم عن ملكه ملكوته قريب
نعم فضلاً لخير قريب
اللهم جملنا بجماله، وحلنا بكمالك، ونعمنا
بقربك ووصالك وصلى الله على سيدنا محمد وعلى الله وصحبه وسلم.
[1] رواه ابن ماجة.
[2] رواه ابن أبي الدنيا والبيهقي عن
أبي الدرداء.
لفضيلة العارف بالله الشيخ محمد على سلامة
مدير اوقاف بورسعيد سابقا