عدد المشاهدات:
المزاح المحمود فى السنة
إن النفوس تمل وتتسلل إليها السآمة والضيق، فتحتاج بين الحين والآخر إلى نوع من الترويح.فالإنسان بطبعه إذا كثر عليه الجد ملّ وكلّ، فيلوذ إلى شيء من المزاح والدعابة، ولا بأس بهذا إذا لم يزد عن حد الاعتدال أو يحمل صاحبه على ارتكاب ما نهى الله عنه.وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم حاجة الناس إلى نوع من الراحة والترويح عن النفوس حين قال لحنظلة رضي الله عنه:" والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة".فهناك ساعة للتعبد والجد والإقبال، وأخرى يجلس فيها الإنسان مع أهله وأولاده مستمتعين بما أحله الله من أمور الدنيا بما في ذلك مداعبة الأهل والأطفال والأحباب....إلخ.
العرب تحب المزاح وتكره الاكفهرار
وضد المزاح والتبسم: العبوس والتقطيب والجد والصرامة. والعرب كانت تمتدح بالأول، وتذم بالثاني، فإذا أرادت العرب أن تمدح شخصاً قالت: فلان بسام الثنايا، طلق الوجه، بشوش للضيف، ويعتبرون هذا مما يمدح به الإنسان؛ لأنه يدل على كرم أخلاقه، وحسن معشره وطيب معاملته، وقد يذمون بالآخر وهو الاكفهرار والعبوس. فيقولون: فلان عبوس الوجه، جهم المحيا، كريه المنظر، حامض الوجه، كأنما وجهه بالخل منضوح، أي: كأنما وضع الخل على وجهه فلشدة حموضته قطب واكفهرت أساريره، وكأنما أسعط خيشومه بالخردل، أي: كأنما وضح الخردل في أنفه سعوطاً فكان مقطباً: فالعرب تمدح بالأول وتذم بالثاني. ولاشك أن العرب يقصدون الأمر المعتدل من ذلك، وإلا فإن المزاح -كما سيأتي- إذا زاد وتعدى كان مهانة وذلاً وضعةً من قدر صاحبه، كأن يجرئ عليه الصبي الصغير، والسفيه والأحمق والجاهل، فإنما يقصد العرب من ذلك: ما يكون على حد الاعتدال والتوازن، لا إفراط ولا تفريط؛ ولذلك يقول أبو تمام -يمدح رجلاً-: الجد شيمته وفيه دعابة طوراً ولا جد لمن لا يلعب فبين أن الجد هو شيمة هذا الإنسان -الأصل عنده الجد- لكن ليس دائماً، ففيه دعابة وفيه فكاهة، (طوراً) أي: حيناً، ولا جد لمن لا يهزل، فإن الإنسان إذا داوم شد الحبل على نفسه فإنه ينقطع، وهذا حتى في سياسة النفس ينبغي أن يتفطن إليه، ولذلك قال عمر رضي الله عنه: [[يعجبني أن يكون الرجل في بيته صبياً]]. وكان عمر رضي الله عنه وهو الخليفة أحياناً يكون في بيته فيتغنى بأبيات من الشعر، يقرؤها بلحون العرب، كما يردد الواحد منا بيتاً في بيته -أي: بيتاً من الشعر- فربما طرق أحد الباب فسمع عمر وهو يردد هذا البيت من الشعر أو ذاك. وحتى الجبابرة والمتسلطون يقع منهم ذلك، سئل الحجاج يوماً عن موقفه ومعاشرته مع أهله، فقال: والله ما تعدوننا إلا شياطين، والله لقد رأيتني وأنا أقبل رجل إحداهن. أي: رجل إحدى زوجاته، فهذه الأشياء لابد منها لكل إنسان، وهي جبلة فطر عليها المرء، ولا مفر له منها، لكن ينبغي أن يكون -كما أسلفت- على حد القصد والاعتدال، لا يخرج إلى إفراط ولا إلى تفريط.
تعريف المزاح
المزاح: هو الدعابة، وهو نقيض الجد من قول أو فعل، والمزاح أمر جبل عليه الإنسان في أصل طبيعته، ويستخدمه الإنسان لأغراض شتى.
من أهداف المزاح
فمن الناس من يمزح بقصد التسلية، لأنه إذا كثر عليه الجد وثقل عليه، فإنه يمل ويكل، فيلوذ ويلجأ إلى شيء من الدعابة والمزاح، وهذا جاء في حديث حنظلة بن الربيع، ففي صحيح مسلم {أن حنظلة بن الربيع الأسيّدي رضي الله عنه قال لـأبي بكر: نافق حنظلة، إنا نكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على حال، فإذا خرجنا من عنده عافسنا الأولاد والأزواج والضيعات ونسينا كثيراً. فقال أبو بكر رضي الله عنه: والله إني لكذلك، ثم ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: نافق حنظلة...، وفي الأخير قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: لو أنكم تدومون على ما تكونون عندي؛ لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة}. أي: ساعة تعبد وجد وإقبال، وساعة يجلس الإنسان فيها مع أهله ومع أولاده، ويستمتع بما أباح الله تعالى له من أمور الدنيا، ويدخل في ذلك مداعبة الأهل والأطفال والأصحاب والأحباب وغير ذلك. وقد يكون من أهداف المزاح أحياناً: التعلم. فإن التعلم يكون باللعب كما يكون بالجد، وأنت ترى أن الله -جل وعلا- فطر الصبيان الصغار على اللعب بأشياء مما يحتاجونها في كبرهم، فأنت تجد الطفلة الصغيرة تأتي إلى وسادتها، وتحزمها وتعدها بنتاً لها وتسميها، وتحملها وتضعها على حجرها، وتقبلها وتضمها وتغضب إذا أوذيت، وهذا يتناسب مع الجبلة التي خلقت من أجلها المرأة. وكذلك الصبيان يجلسون فيصنعون البيوت ويصنعون الأشياء، ويتدربون على الأعمال التي سوف يعانونها في الكبر، فالمزاح واللعب -أحياناً- يكون للتعلم، كما يكون التعلم بالجد. وقد كشف في وسائل التربية الحديثة: أن المعلم يحتاج إلى أن يُدخل على طلابه -أحياناً- نوعاً من الطرف ليبعد عنهم السآمة والملل، وهذا كان موجوداً عند علمائنا السابقين، فكان بعضهم يستخدم مع طلابه أساليب للتعليم، مثل أن يسألهم، أو يجعل لهم لغزاً يسمونه "المعاياة" يعاييهم فيه -أي: يعجزهم في الجواب عنه- إلى غير ذلك من الأشياء التي تطرد السآمة والملل، وتعين المتعلم على ما هو بصدده. وقد يكون المزاح واللعب -أحياناً- للتخلص من الخوف أو القلق أو الغضب أو غيرها، فإن الإنسان إذا مزح أدخل على قلبه شيئاً من التسلية والسرور، وأزال ما يخاف منه أو خفف من ذلك، وهذا يقوله العلماء المعاصرون، لكن في هدى النبي عليه الصلاة والسلام ما يشبه هذا. ففي الحديث المتفق عليه، حديث كعب بن مالك الطويل في قصة توبته، حين تخلف عن غزوة تبوك، يقول رضي الله عنه: {فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم تبسم تبسم المغضب}. إذاً الابتسامة أحياناً تكون من الفرح والسرور والاستبشار، وأحياناً تكون من الغضب، فيتبسم الإنسان لأن من سجيته الكرم والخلق الحسن، حتى وهو مغضب، ويدل حاله على أن هذا التبسم ليس تبسم الرضا، وإنما هو تبسم الغضب. وقد يكون المزاح -أحياناً- للتخلص من موقف صعب، فإن كثير من الناس كانوا -ولا زالوا- يتعرضون لمواقف صعبة، إما مع حاكم أو أمير أو قاض، أو زوج مع زوجته أو زوجة مع زوجها، أو تلميذ مع شيخه أو ما أشبه ذلك. فيكون موقفاً صعباً، ليس له جواب إلا إذا كان هذا الإنسان عنده طرف وسرعة بديهة -كما يقولون- فيتخلص من صعوبة هذا الموقف؛ بأن يأتي بمزحة مناسبة؛ فيضحك منها الشيخ أو الأمير أو الشخص المعني، ثم يزول ما به من الغضب، ويعفو ويصفح عن الطرف الآخر، ومثل هذا كثير في كتب اللغة والأدب وغيرها. وقد يكون المزاح على سبيل الملاطفة والملاينة، وتطييب خاطر من يقابلك؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي: {وتبسمك في وجه أخيك صدقة} فإنك إذا تبسمت له، تعرب له عن محبتك وسرورك بمقدمه، وأن قلبك لا يحمل له إلا الود والحب، فهذه بسمة يعبر فيها الأخ المسلم عن حبه لأخيه حين يلقاه، فعدها النبي صلى الله عليه وسلم من الصدقات، كأنك أخذت مالاً وأعطيته إياه؛ لأنك تدخل السرور على قلبه بذلك. ولهذا يقول جرير رضي الله عنه: {ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم} متفق عليه فكان يبتسم له صلى الله عليه وسلم لأنه كان يحبه، ويقول: عليه مسحة ملك. وكان لا يثبت على الخيل، فمسح النبي صلى الله عليه وسلم صدره ودعا له، وأمره أن يذهب إلى ذي الخلصة -وهو صنم كانت تعبده العرب في الجاهلية- فيهدمه، ففعل رضي الله عنه وأرضاه.
مزاح سيد المرسلين
أما النقطة الثانية في هذا الدرس فهي: مزاح سيد المرسلين وإمام المتقين، وقدوة الخلق أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً. لاشك أن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو القدوة في كل أمر، وكان عليه الصلاة والسلام يعاني من أمور الدعوة والتبليغ، والإصلاح، والأمر والنهي والجهاد وغير ذلك، ما لا يعانيه غيره، فلا أحد يستطيع أن يقول إنه مشغول أكثر مما كان الرسول صلى الله عليه وسلم مشغولاً، ولا جاد أكثر مما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جاداً، ولا ورع أكثر من ورعه صلى الله عليه وسلم، فهو القدوة في ذلك كله. ولاشك أن الرسول عليه السلام كان الغالب على حياته الجد، وقد بان الشيب على مفرقه عليه الصلاة والسلام قبل أوانه، فقيل له شبت يا رسول الله! فقال: {شيبتني هود وأخواتها، وقال: حم، وعمَّ يتساءلون، وإذا الشمس كورت} وهذا حديث ورد من طرق كثيرة صححه بها بعضهم، وإن كان بعض أهل العلم أعلَّوه بالاضطراب، لكن معناه صحيح. وقد ذكرت عائشة رضي الله عنها { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان غالب صلاته في آخر عمره وهو قاعد بعد ما حطمه الناس} أي: من كثرة دخول الناس وخروجهم عليه وسؤالهم له وحاجتهم؛ حَطَمُوه فتأثر بذلك وأسرع إليه الشيب صلى الله عليه وسلم. ومع ذلك فإنه صلى الله عليه وسلم كان له مزاح يسلي به أصحابه، ويسري به عن القريب والبعيد. ......
الأحاديث والأخبار الواردة في ضحكه وتبسمه صلى الله عليه وسلم
أما الأحاديث والأخبار التي كان يقولها صلى الله عليه وسلم، فيضحك أو يتبسم بعض من حوله من أصحابه، فهذا كثير جداً، لو جمع لكان في مجلد، لكنني أذكر نماذج سريعة منه. فمن ذلك: حديث أبي ذر في صحيح مسلم {أن الله تعالى يدني عبداً من عباده يوم القيامة، فيقول له: أتذكر ذنب كذا؟ أتذكر ذنب كذا؟ ويقول لملائكته: اذكروا له صغار ذنوبه ونحو عنه كبارها، فيذكرون له الذنوب الصغيرة، حتى إذا انتهت قال الله عز وجل: فإني قد أبدلتها لك حسنات -لأنه قد تاب منها، فأبدلها الله تعالى له حسنات-. فهذا الرجل قال: يارب! عملت ذنوباً لا أراها هاهنا!، قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه} أي: أن هذا الرجل عندما كانت الذنوب الكبائر مستورة عنه وكانت عليه سكت ولم يثر الموضوع، لكن لما عرف أنها صارت في صالحه، وأنها بدلت حسنات، صار يطالب بها، ويقول: عملت ذنوباً لا أراها هنا، أين الكبائر التي عملتها؟ لأنه يعلم أنها ستبدل إلى حسنات!!. ومن ذلك -أيضاً- ما ورد في البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن رجلاً من أهل الجنة استأذن ربه في الزرع -يريد أن يزرع- فقال الله عز وجل: ألست فيما أغنيتك به يا عبدي؟! قال: يا رب، ولكني أحب أن أزرع. قال: فيأذن الله تعالى له بذلك، فيكون بذره وزرعه ونماؤه ونضجه وحصاده في لحظة واحدة، فقال رجل من الأعراب -كان حاضراً عند الرسول صلى الله عليه وسلم-: والله يا رسول الله، لا تجد هذا الرجل إلا قرشياً أو أنصارياً، أما نحن فلا حاجة لنا في الزرع؛ فتبسم الرسول صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه} وله من ذلك شيء كثير -كما أسلفت-.
نماذج من مزاحه صلى الله عليه وسلم
وأذكر نماذج من مزاحه صلى الله عليه وسلم، فمن ذلك: كثرة تبسمه وممازحته صلى الله عليه وسلم لأصحابه، كما سبق في حديث جرير: {أن النبي صلى الله عليه وسلم ما رآه إلا تبسم}. وقد روى الترمذي، وأحمد وغيرهما، عن عبد الله بن الحارث بن جزء، وهو حديث حسن، قال الترمذي: حديث حسن صحيح، أنه قال: {ما رأيت أكثر تبسماً من النبي صلى الله عليه وسلم}. وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنهم قالوا: {يا رسول الله، إنك تداعبنا -أي تمازحنا- فقال: نعم، لكني لا أقول إلا حقاً} رواه الترمذي، وقال حديث حسن صحيح. وقد جاء عن ابن عمر عند الطبراني، وسنده حسن -أيضاً- وجاء عن بكر بن عبد الله المزني وغيرهم {إنك تداعبنا. قال: نعم، ولكني لا أقول إلا حقاً}. ومن مزاحه صلى الله عليه وسلم أنه كان يخاطب خادمه أنس بن مالك فيقول له: {يا ذا الأذنين} وهذا الحديث رواه الترمذي في الشمائل، وهو كما قال الترمذي: حديث صحيح غريب. و(يا ذا الأذنين) مزاح؛ لأن كل إنسان له أذنان، فقوله لـأنس: {يا ذا الأذنين} هذا على سبيل الممازحة. ومن ذلك -أيضاً- قوله لأخي أنس من أمه: { يا أبا عمير ما فعل النغير -وكان له نغر يلعب به، فمات هذا النغر فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وأبو عمير كسيف حزين- فقال: يا أبا عمير ما فعل النغير؟ -العصفور- فقال: مات يا رسول الله} وكان هذا على سبيل الدعابة والممازحة له. ومن ذلك: ما رواه أنس -أيضاً- {أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: احملني يا رسول الله -أي أعطني شيئاً أركب عليه للغزو والسفر- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إنا حاملوك على ولد الناقة -ففهم الأعرابي: أن ولد الناقة هو الجمل الصغير- فقال: وما أفعل بولد الناقة يا رسول الله؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وهل تلد الإبل إلا النوق؟!}. والحديث رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح غريب، ورواه أبو داود في سننه، وأحمد في مسنده. ومن ذلك: حديث أنس -أيضاً- الذي رواه الترمذي في الشمائل، وسنده صحيح {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له رجل من الأعراب اسمه زاهر الأسلمي، فكان هذا الرجل يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بهدايا مما يستطرف من هدايا البادية، من الأقط والسمن وغيرها. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يهدي له أيضاً، فيقول عليه السلام: إن زاهراً باديتنا ونحن حاضرته، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فوجد زاهراً يبيع في السوق ولم يعلم بالنبي صلى الله عليه وسلم، فتسلل رسول الله صلى الله عليه وسلم من ورائه واحتضنه وقال: من يشتري العبد من يشتري العبد؟ فالتفت زاهر فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل لا يألوا ما ألصق ظهره برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: إذاً تجدني كاسداً يا رسول الله. قال: لكنك عند الله لست بكاسد}. وفي رواية قال: {لكنك عند الله غالٍ} والحديث -كما أسلفت صحيح- وفيه ما كان فيه الرسول صلى الله عليه وسلم من البساطة والممازحة، وتطييب أصحابه بما يناسبهم مع عدم الكذب، فإن زاهراً كان عبداً لله عز وجل ولا شك. والحديث قال عنه ابن كثير أيضاً: حديث صحيح على شرط الشيخين، ووافقه على ذلك الشيخ الألباني، وقال الحافظ ابن حجر: حديث صحيح. ومن ذلك: ما رواه الترمذي والبيهقي عن الحسن البصري مرسلاً، وله شاهد من حديث عائشة رضي الله عنها عند الطبراني والبغوي في تفسيره، وهو حديث حسن: {أن امرأة عجوزاً جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، ادع الله أن أكون من أهل الجنة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: لا يدخل الجنة عجوز، فكأن هذه المرأة خافت ووجلت. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم كما قال الله عز وجل: إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً * عُرُباً أَتْرَاباً * لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ [الواقعة:35-38] فذهب ما بها وعرفت مراده صلى الله عليه وسلم}. هذه نماذج من مزاحه صلى الله عليه وسلم ومداعبته مع أصحابه.
مزاح بعض الصالحين
أنتقل إلى النقطة الثالثة وهي: مزاح بعض الصالحين. ......
مزاح عمر بن الخطاب
عمر رضي الله عنه على جلالة قدره وجده، كان له مزحات معينة، ولكنها كانت مزحات مقصودة يريد بها أن يربي من وراءه -كما سلف للتعليم- [[جاء أعرابي يوماً فصلى في المسجد ركعتين خفيفتين جداً، وكأنه أخل بالصلاة، ثم قال في آخر صلاته: اللهم إني أسألك الحور العين في الجنة. فلما سلم قال له عمر رضي الله عنه: لقد أسأت النقد وأعظمت الخطبة ]] أي: المهر الذي دفعته قليل والخطبة عظيمة، تريد الحور وصلاتك بهذه الصفة، لا تتم قيامها ولا قعودها ولا ركوعها ولا خشوعها وكان هذا منه رضي الله عنه على سبيل التعليم كما سبق.
مزاح عمر بن عبد العزيز
عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، يُذكر أنه لم يمزح بعدما ولي الخلافة إلا مرتين، أما فيما عدا ذلك فكان جاداً، لم يكن في حياته وقت إلا للجد، إحدى هاتين المرتين: يروى أن هناك رجلاً كان اسمه حُميد، وكان يسكن في قرية اسمها أمج قريبة من المدينة المنورة، وكان حُميد هذا رجلاً فاسداً فاسقاً يشرب الخمر، وكان يقول في شعره -يحدث عن نفسه: حميد الذي أمج داره أخو الخمر ذو الشيبة الأصلع يحدث عن نفسه، فبلغ الخبر عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وفي ذات يوم كان عمر بن عبد العزيز في مجلس -بعد زمان طويل- فسلم عليه رجل ثم قال: أتعرفني يا أمير المؤمنين؟ قال: لا أعرفك، قال: أنا حميد، فقال عمر بن عبد العزيز: حميد الذي أمج داره؟ -فهو يذكره بذاك البيت- فتبسم الحضور واكفهر هذا الرجل وضاق صدره، وحزن لذلك حزناً شديداً. وقال: والله يا أمير المؤمنين ما شربتها منذ عشرين سنة، لأن هذا فيه تعريض بأنه كان يشرب الخمر؛ لأن آخر البيت أخو الخمر...، ففيه تعريض بشرب الخمر، قال: والله يا أمير المؤمنين، ما شربتها منذ عشرين سنة. فقال له عمر بن عبد العزيز: إنما أردت أن أباسطك بهذا، ولم أرد أن أسوءك، وهكذا أيضاً يكون المزاح في قصد التعليم.
قصة خوات بن جبير
ومما ورد من المزاح الذي يقصد منه التعليم قصة رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم، رواها جماعة من الأئمة المحدثين الحفاظ، عن خوات بن جبير رضي الله عنه {أن النبي صلى الله عليه وسلم أطلع عليه يوماً من الأيام، في أول عهده بالإسلام، أو لعله قبل أن يسلم، وكان جالساً مع بعض النساء، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما أجلسك هاهنا يا خوات؟ قال: يا رسول الله، بعير لي شرد فأردت من هؤلاء النسوة أن يصنعن له عقالاً أو نحو ذلك. فتبسم الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم انصرف من عنده ورجع وهو على حاله فقال: أما زلت على تلك الحال؟! فقام، فكان النبي صلى الله عليه وسلم كلما لقيه قال له: ما فعل بعيرك الشارد أو ما فعل شراد بعيرك؟ فكان يستحي بعد ذلك، ولا يحب أن يقابل الرسول عليه الصلاة والسلام؛ خشية أن يذكره بذلك، حتى جاءه يوماً وهو يصلي فذكره بذلك. فقال: يا رسول الله عقله الإسلام، أو والله ما شرد منذ أسلمت} وهذه كلمة معبرة يفهم ما وراءها، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يقصد منها النصيحة والتعليم، بالأسلوب الذي يناسب كل إنسان.
مزاح الشعبي
أما فيما يتعلق بالتابعين والأئمة، فإن من قصصهم وأخبارهم في المزاح شيء كثير، يطول ذكره -كما أسلفت- ولعلي أكتفي بأمثلة ونتجاوز ما عداها. من ذلك الشعبي، والشعبي إمام جليل، كان قاضياً لـعمر بن عبد العزيز، وكان ثقة حافظاً، حتى إنه كان يقول: والله ما كتبت سوداء في بيضاء، ولا سمعت حديثاً فاحتجت أن أكتبه، أو احتجت أن يعيده علي صاحبه مرة أخرى. وكان الحسن البصري يقول: [[كان قديم السلم -أي: قديم الإسلام- كثير العلم، عظيم الحلم]] فكان من أئمة التابعين وثقاتهم، لقي خلقاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال له رجل: ما لي أراك نحيلاً؟ -وكان ضئيل الجسم- فقال: لقد زحمت في الرحم، وكان ولد هو وأخ له آخر من بطن واحد. وسأله رجل عن اسم امرأة إبليس فقال: ذاك نكاح ما شهدناه، وجاءه رجل وهو جالس مع زوجته، فقال: أيكما الشعبي؟ فأشار إلى زوجته، وقال: هذا.
مزاح الأعمش
وكذلك الأعمش، كان من أكثر الظرفاء، وهو من أئمة الحديث الثقات، وله في ذلك طرائف كثيرة، منها: أنه حج، فغضب على الجمال فضربه حتى شج رأسه، فقيل له في ذلك، فقال: من تمام الحج ضرب الجمال. والغريب أن الذين صنفوا في الأحاديث الموضوعة ذكروا هذا! على أن بعضهم ظن أنه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من الأحاديث الموضوعة (من تمام الحج ضرب الجمال) ولا يصح عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من كلام الأعمش. وكذلك جاءه حائك يسأله هل تقبل شهادة الحائك؟ قال: نعم، تقبل إذا كان معه رجلين. فقال هذه وعدمها سواء. وهو أراد أن يتندر بذلك.
مزاح القاضي شريح
القاضي شريح، وهو قاض أيضاً [[جاء إلى حي من همدان فقاموا إليه وسلموا عليه وأكرموه وبجلوه، فقال لهم: يا معشر همدان، إني لأعرف أهل بيت منكم لا يحل لهم الكذب. فقالوا: من هم يرحمك الله؟ قال: ما أنا بمخبركم، ثم قام من عندهم فلحقوا به ميلاً، وهم يركضون وراءه ويقولون: أخبرنا رحمك الله. فلما أبى رجعوا، وهم يقولون: ليته أخبرنا من هم. ]] ومن المعروف، أن كل الناس لا يحل لهم الكذب، وإنما أراد أن يمازحهم ويباسطهم في ذلك.
مزاح نعيمان
ومن أكثر، بل لعله أكثر الصحابة اشتهاراً بالمزاح، رجل اسمه نعيمان وهذا له ذكر في صحيح البخاري، في كتاب الوكالة فيما أذكر، وكان يشرب الخمر، ففي صحيح البخاري {أنه جيء به في البيت شارباً، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم به فضرب، قال الراوي: فكنت فيمن ضربه}. وورد في موضع آخر {أن رجلاً جيء به قد شرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجلد، فقال رجل من الحضور: لعنه الله، ما أكثر ما يؤتى به! فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال: لا تعن الشيطان على أخيك، وقال: إنه يحب الله ورسوله} ويحتمل أن تكون القصة وقعت لشخص واحد، ويحتمل أن تكون لشخصين والله تبارك وتعالى أعلم. المهم أن نعيمان هذا من أكثر المزاحين، {كان إذا وجد في السوق شيئاً يباع -عسلاً أو شيئاً طريفاً يباع- اشتراه، وقال للبائع: أذهب به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فيعطيه الرسول عليه الصلاة والسلام ويقول: هذا لك هدية، وبعد قليل يأتي البائع إلى للرسول عليه الصلاة والسلام يطلب منه الثمن، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: هذه إحدى هنات نعيمان، وكان هذا يحدث كثيراً فيقول النبي عليه الصلاة والسلام: ما حملك على هذا؟ يقول: يا رسول الله، رأيت شيئاً حسناً أحببته لك، ولم يكن معي ما أشتريه به}. و نعيمان وردت له قصص كثيرة، في صحتها نظر، لكن من أصح ما ورد: ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن أم سلمة رضي الله عنها، ورواه أيضاً الطيالسي وابن ماجة وغيرهم، بسند فيه رجل يقال له زمعة بن صالح، وزمعة بن صالح هذا فيه مقال، وإن كان مسلم خرج له في الصحيح، ولكن فيه ضعف يسير. والحديث له شاهد آخر عند الزبير بن بكار في كتاب الفكاهة والمزاح: {أن أبا بكر رضي الله عنه خرج في تجارة إلى الشام، إلى بصرى، قبل أن يموت النبي صلى الله عليه وسلم بنحو سنة. وكان معه نعيمان هذا، ومعه رجل اسمه سليط بن حرملة، وكان سليط بن حرملة هو المسئول عن التموين في تلك السفرة، فجاء إليه نعيمان يوماً، وقال له: أطعمني، فقال له: لا، حتى يأتي أبو بكر، فألح عليه فقال: لا، حتى يأتي أبو بكر، فقال: لأسوأنك، فمر قوم من العرب، فجاء إليهم نعيمان وقال: هاهنا عندي عبد فاره قوي جيد، أتريدون أن تشتروه مني؟ قالوا: نعم، قال: هاهو، ولكنه رجل لسن -لسانه طويل- فإذا شريتموه سيقول: أنا حر، أنا ابن عمه، أنا كذا أنا كذا، فإذا كنتم ستطلقونه فلا تفسدوا عليَّ عبدي، قالوا: لا، نحن نمسك به، فاشتروه منه بعشر قلائص -عشر نوق- فأخذها نعيمان. ثم جاء إلى سليط، فقال: هذا هو فأمسكوا به ووضعوا العمامة في عنقه وجروه، فقال: أنا حر، هذا يضحك عليكم، هذا يريد أن يسوءني، هذا ابن عمي، هذا كذا هذا كذا، قالوا: لا، قد أخبرنا أمرك. وذهبوا به، فلما جاء أبو بكر رضي الله عنه، أخبره بالخبر فلحق بهم وأطلقه ورد إليهم قلائصهم، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه يضحكون من هذه القصة حولاً كاملاً وهم يضحكون من هذا الخبر}. ولـنعيمان قصة مع مخرمة بن نوفل عجيبة جداً، ذكرها الزبير بن بكار، وذكرها الحافظ ابن حجر في الإصابة، وفيها: [[أن مخرمة بن نوفل كان رجلاً فقد بصره في آخر عمره -عمي وفقد بصره، أو ضعف بصره جداً- فكان في المسجد، فقام في يوم من الأيام ليقضي حاجته، فأمسك به نعيمان ودار به في المسجد، ثم أجلسه في ناحية منه، فلما قعد قام إليه الناس، وقالوا له: أنت في المسجد. فقال: من الذي جاء بي إلى هنا؟ قالوا: نعيمان، قال: لأفعلن به ولأفعلن -يهدده- فكان نعيمان يتهرب منه يوماً بعد يوم، حتى نسي مخرمة رضي الله عنه الخبر. فجاء إليه في يوم من الأيام وقال له: هل لك في نعيمان؟ -غيّر صوته- قال: أين هو؟ قال: هاهو في المسجد، قال دلني عليه بارك الله فيك. وكان هذا في عهد الخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه، وكان عثمان بن عفان يتنفل في المسجد، فجاء حتى أوقفه على رأس عثمان، وقال له: هو هذا، فأمسك مخرمة بعصا كانت معه بيديه وضرب بها عثمان رضي الله عنه، فلما سلم عثمان التفت، فإذا هو مخرمة. فعرف أنه ضرب عثمان فقال: من دلني عليك؟ قالوا: نعيمان قال: لا جرم، لا تعرضت له بسوء أبداً]]. وهذه القصة -كما قلت- ذكرها الزبير بن بكار، وذكرها الحافظ ابن حجر في الإصابة، وأنا في شك منها، أظن أنها لا تصح عنه رضي الله عنه وأرضاه؛ لأن فيها تجاوزاً ومخالفة، يبعد أن تصدر منه، وإن كان البشر قد يخطئون، لكن الذي يظهر لي أنه ليس لها سند يعتمد عليه ويوثق به. المهم أنه كان من أشهر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم دعابة، وله قصص كثيرة جداً أُعرض عنها لطولها -كما ذكرت- ولأنه لا جدوى من الإطالة بها والاستطراد وراءها.
التبادح بالبطيخ
ولا شك أن الصالحين إذا ذكروا فحيهلاً بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فهم أصلح الناس بعد الأنبياء، وكانوا يتمازحون، ولعل من عجيب وغريب تمازحهم، مما قد تستغربه النفوس ولا تألفه، ما رواه البخاري في كتاب الأدب المفرد، بسند صحيح رجاله ثقات: {أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يتبادحون بالبطيخ، فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرجال}. كانوا يتبادحون أي: يحذف بعضهم بعضاً بالبطيخ، فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرجال.
تذاكر أمور الجاهلية
والحديث الآخر الذي رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، {أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يتناشدون الأشعار، ويتذاكرون أمر الجاهلية، والنبي صلى الله عليه وسلم بينهم فيضحكون، وربما تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم}. والحديث جاء في صحيح مسلم بلفظ قريب من هذا {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجلس مع أصحابه بعد صلاة الفجر في المسجد، فيذكرون أمر الجاهلية فيضحكون ويتبسم} وفي بعض الروايات {أن أحدهم كان يكون في ذلك، فإذا أريد أحدهم على دينه دارت حماليق عينيه} فإذا أريد على دينه أي: ساومه أحد على دينه، أو رأى منكراً لا يرضي الله عز وجل؛ "دارت حماليق عينيه" أي: تحرك وغضب، وظهر أثر الغضب في وجهه.
عائشة وسودة
من مزاح أصحابه رضي الله عنهم: ما جاء عن عائشة وسودة رضي الله عنهما {أنهما كانتا في مجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد صنعت عائشة طعاماً خزيرة، فقربتها، وقالت لـسودة: كلي، فقالت: لا أشتهيه، فأمرتها بأن تأكل وإلا عاقبتها، فلم تأكل سودة؛ فأتت عائشة ومسحت وجهها، وكان عليها أثر الطعام، فأرادت سودة أن تقتص منها، فأذن لها النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، ففعلت بـعائشة مثل ما فعلت عائشة بها، والرسول صلى الله عليه وسلم يضحك}. وهذا الأثر رواه الزبير بن بكار في كتاب الفكاهة والمزاح قال الحافظ العراقي: وسنده جيد. وممن اشتهر بالمزاح: علي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان، وأبو هريرة وأبي بن كعب، فإن كثيراً من هؤلاء كانوا مشهورين بالمزاح، وفي كتب الأدب والسير من ذلك شيء كثير يطول ذكره. وهناك كتيب اسمه المراح في المزاح، للغُزِّي، ذكر طرائف وأشياء من هذا القبيل، وبعضها مما أستغربه وأستبعده، وأظن أنه مفترى على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأَبْعدُ أن يصدر منهم.
أنواع المزاح
أنتهي إلى النقطة الرابعة والأخيرة والمهمة وهي: قضية أنواع المزاح أو ضروب المزاح. والمزاح -أيها الأحباب-ضربان: ......
الإكثار من المزاح
والإكثار من المزح يكون على ضربين: الضرب الأول: أن يكثر الشخص من المزح حتى يعرف به -كما أسلفت- فيكون شخصاً طبيعته المزاح، قائماً وقاعداً وذاهباً وآيباً، وفي كل مناسبة، وربما يمزح في غير أوانه، ويتسبب لنفسه ولغيره بأضرار عظيمة، فهذا مذموم يذم عليه صاحبه وينكر عليه. الضرب الثاني: مزاح يكثر منه جماعات من الناس، وإن لم يكن فرداً، أي أنك تجد مجموعة يجتمعون على مزاح، وهذا -مع الأسف- كثير عند الشباب، يكون لبعضهم مثلاً خيمة أو بيتاً أو مزرعة، أو -أحياناً- دورية يخرجون بين حين وآخر، وقد يسافرون إلى حج أو إلى عمرة أو غيرها. ولكن هؤلاء الشباب اجتمعوا على المزاح، فتجد أن بعضهم يضحك بعضاً، وربما يستلقي بعضهم على ظهره من كثرة المزاح، وليس هذا لمناسبة عارضة، إنما هذا دأبهم وديدنهم الغالب، ولاشك أن في هذا مضيعة للوقت، ولو لم يكن فيه إلا أن وقتهم لم يكن في علم. ولا ذكر لكفى، فضلاً عما في ذلك من المفاسد الكثيرة التي يجر إليها المزاح، وقد يجر إلى الوقوع في الحرام: من الكذب، والنميمة، والغيبة، والاستهزاء بالله تعالى أو رسوله أو آياته، أو العلماء أو الصالحين، إلى غير ذلك مما يؤدى إليه كثرة المزاح ولابد. فينبغي أن يقتصد الإنسان في المزاح، ويكون مع اقتصاده في المزاح متجنباً لما حرمه الله تبارك وتعالى من ذلك، ومنه النقاط الأربع، ما كان فيه هزل بالأمور الشرعية، وما كان فيه كذب، وما كان فيه أذية لأحد من الخلق، وما تعدى حده حتى وصل إلى حد الإفراط. هذه هي أصناف المزاح التي ينبغي للإنسان أن يتجنبها. وقد حرصت على الإيجاز والاختصار حتى ننهي هذا الموضوع، لأن كثيراً من الإخوة يفضلون -قدر المستطاع- أن يكون كل موضوع في درس؛ ليكون سهل التناول والتداول بين الشباب. والإكثار من المزح يكون على ضربين: الضرب الأول: أن يكثر الشخص من المزح حتى يعرف به -كما أسلفت- يكون شخص طبيعته المزاح قائماً وقاعداً وذاهباً وآيباً، وفي كل مناسبة، وربما يمزح مزاحاً في غير أوانه، ويتسبب لنفسه ولغيره بأضرار عظيمة، فهذا مذموم يذم عليه صاحبه وينكر عليه. الضرب الثاني: مزاح يكثر منه جماعات من الناس، وإن لم يكن فرد، يعني تجد مجموعة يجتمعون على مزاح، وهذا -مع الأسف- كثير عند الشباب، يكون لبعضهم مثلاً خيمة أو بيت أو مزرعة أو أحياناً دورية يخرجون بين حين وآخر، وقد يسافرون إلى حج أو إلى عمرة أو غيرها، ولكن هؤلاء الشباب اجتمعوا على المزاح، فتجد أن بعضهم يضحك بعضاً، وربما يستلقي بعضهم على ظهره من كثرة المزاح، وليس هذا لمناسبة عارضة إنما هذا دأبهم وديدنهم الغالب. ولاشك أن في هذا مضيعة للوقت، ولو لم يكن فيه إلا أن وقتهم لم يكن في علم، ولا ذكر لكفى، فضلاً عما في ذلك من المفاسد الكثيرة التي يجر إليها المزاح، وقد يجر إلى الوقوع في الحرام: في الكذب، في النميمة، في الغيبة، في الاستهزاء بالله تعالى أو رسوله أو آياته أو العلماء أو الصالحين، إلى غير ذلك مما يؤدى إليه كثرة المزاح.. ولابد. فينبغي أن يقتصد الإنسان في المزاح، ويكون مع اقتصاده في المزاح متجنباً لما حرمه الله تبارك وتعالى من ذلك، ومنه النقاط الأربع، ما كان فيه هزل بالأمور الشرعية، وما كان فيه كذب، وما كان فيه أذية لأحد من الخلق، وما تعدى حده حتى وصل إلى حد الإفراط. هذه هي أصناف المزاح التي ينبغي للإنسان أن يتجنبها. وقد حرصت على الإيجاز والاختصار حتى ننهي هذا الموضوع، لأن كثير من الإخوة يفضلون قدر المستطاع أن يكون كل موضوع في درس ليكون سهل التناول والتداول بين الشباب.
المزاح المحمود
وهذا المزاح المحمود هو ما كان على سبيل الاعتدال، لا يشوبه شائبة مما كره الله عز وجل أو حرم، ولا يكثر فيكون دليلاً على خفة عقل صاحبه أو حمقه، أو يكون سبباً لإهانته ومهانته وذلته وزوال هيبته، أو يكون حطاً من قدره، بل ويكون على سبيل الاعتدال، كما قال أبو الفتح البستي رحمه الله، وهو الشاعر الناظم الحكيم المعروف، صاحب القصيدة النونية المشهورة في الحكم والأمثال، قصيدة "عنوان الحكم" يقول أبو الفتح البستي في بعض شعره: أفد طبعك المكدود بالجد راحة يجم وعلله بشيء من المزح ولكن إذا أعطيته المزح فليكن بمقدار ما يعطى الطعام من الملح أفد طبعك المكدود بالجد راحة يعني إذا كثر عليك الجد فحاول أن تغير بشيء من المزاح؛ يجم: أي: تعود إليه قوته ونشاطه، وعلله بشي من المزح، "ولكن إذا أعطيته المزاح فليكن بمقدار ما يعطي الطعام من الملح": فإن الملح إذا زاد ضر -كما هو معروف- وكان سبباً في فساد الطعام. ومن المزاح المحمود المعتدل المزاح مع النظراء والإخوان بقصد التسلية وإزالة الهم عنهم، وإدخال السرور عليهم، كالتبسم إليهم والمباسطة والملاينة، وغير ذلك من الشيء الحسن، كما سبق من ضروب ذلك، وقد كان بعض الصالحين يكون كما كان إبراهيم بن أدهم وغيره، مع أصحابهم يمازحهم ويباسطهم ويلاينهم، فإذا جاء رجل غريب أعرض وانقبض وقال: هذا جاسوس، ثم ترك معه المزاح؛ وذلك لأن المزاح مع من لا تعرف قد يكون سبباً في المهانة؛ لأنه ربما يظن أن هذا دليلاً على خفة العقل أو الطيش أو قلة الفهم وهو كذلك. فلا ينبغي للإنسان أن ينطلق بالمزاح إلا مع من يعرف، أما من لا يعرف، فينبغي أن يبتسم في وجهه ويلين له القول، لكن لا يتسرع بشيء من المزاح لأنه يكون دليلاً على خفة عقله وقلة فهمه ونبله. ومن ذلك أيضاً المزاح مع الأهل والزوجة {فالرسول عليه الصلاة والسلام سابق عائشة فسبقته في المرة الأولى، فلما كثر وثقل بها اللحم سبقها، فقال عليه الصلاة والسلام هذه بتلك} وقصته في ذلك معروفة. ومنه: حديث أم زرع، وهو في صحيح البخاري، وهو حديث طويل، ومع ذلك كان الرسول عليه الصلاة والسلام جالساً على كثرة مشاغله، وعائشة رضي الله عنها تقص له قصة حديث أبي زرع، وهو حديث طويل وفيه طرائف، وعبر وعجائب، وأنصحكم بأن تعودوا إليه وتقرءوه، وفيه من غريب الألفاظ وجميلها وبليغها مالا ينقضي منه العجب. وأصل الحديث: {اجتمعت إحدى عشرة امرأة في الجاهلية، فتعاقدن وتعاهدن على ألا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئاً، فقالت الأولى: زوجي العشنق إن أسكت أعلق، وإن أنطق أطلق، وقالت الثانية: زوجي مالك. وما مالك؟ له إبل قليلات المسارح كثيرات المبارك، إذا سمعن صوت المزهر أيقن أنهن هوالك} وقالت الثالثة، والرابعة... -كل واحدة تذكر عن زوجها الزين والشين، وهو حديث عجيب-. والشاهد أن عائشة قالت في آخره: قالت الحادية عشر أم زرع تقول: زوجي أبو زرع، وما أبو زرع؟ فذكرت أبا زرع وصفاته، ثم قالت: {أم أبي زرع، وما أم أبي زرع؟ -وذكرت صفات أمه-. ثم قالت: ابن أبى زرع مضجعه كمسل شطبة، ويشبعه ذراع الجفرة. ثم قالت: ابنة أبي زرع ماابنة أبي زرع؟ غيظ جارتها، وطوع أبيها وأمها.. المهم، قالت أم زرع: إن أبا زرع خرج من بيتها، فوجد امرأة جميلة، فنكحها وطلق هذه، قالت: فتزوجني رجل آخر فأناخ علي من النعم والإبل وكذا وكذا، وقال لي: كلي أم زرع وميري أهلك -كلى وأرسلي لأهلك- قالت: فلو جمعت كل شيء أعطانيه ما بلغ أصغر إناء من آنية أبي زرع -لأن الحب للحبيب الأول-. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـعائشة أنا لك كـأبي زرع لـأم زرع} هذا الحديث جاء في صحيح البخاري، وجاء في رواية: {أنه طلق وأنا لا أطلق}. من مباسطة الرسول -عليه الصلاة والسلام- أيضاً لأصحابه قصته المعروفة مع عائشة حين قامت على كتفه تنظر إلى الحبشة في يوم العيد، وهم يلعبون في المسجد حتى سئمت ثم انصرفت رضي الله عنها. وكذلك كما في الصحيحين: {لما علم النبي صلى الله عليه وسلم أن جابراً تزوج فقال له: بكراً أم ثيباً؟ قال: يا رسول الله بل ثيب قال: هلا بكراً تلاعبها وتلاعبك، وتضاحكها وتضاحكك}. وفي رواية لـمسلم قال: {أين أنت من الجارية ولعابها} ولعابها أي: ملاعبتك لها، وذلك لأنه يكون بين الزوجين من المباسطة والملاعبة ما بيَّن الله تعالى في كتابه حيث قال: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم:21]. وقد كانت عائشة رضي الله عنها تلعب بالبنات، كما في الصحيحين، وكان معها صواحب لها، فإذا جاء النبي صلى الله عليه وسلم يتقمعن -أي: يستحين من الرسول عليه الصلاة والسلام- وتخرج عائشة قالت: {فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسربهن إليها} أي: يجعلهن يذهبن إليها رضي الله عنها- فلا بأس أن يكون للإنسان وقت يباسط فيه أهله، ويطيب خواطرهم، ويلاينهم ويمازحهم. ولكن -وتفطنوا لما بعد لكن- كم هو مؤسف أن يكون الكثير منا ربما يقوم بهذا الواجب خير قيام، لكن لو نظرنا إلى الواجب الآخر، الذي سبق التنويه إليه في غير مناسبة، وهو تعليم الأهل وتفهيمهم، وأمرهم ونهيهم، وترغيبهم فيما عند الله، وحثهم على الخير؛ لوجدت الكثيرين مقصرين في هذا الأمر، وهذا خطأ، بل ينبغي أن يكون الإنسان قائماً بواجبه بقدر ما يستطيع هنا وهناك. ومن المزاح المحمود أيضاً المزاح مع الأولاد، ومن قصص النبي صلى الله عليه وسلم مع الحسن والحسين وغيرهما من ذلك الشيء الكثير، مما لا أريد أن أذكره؛ وذلك لأنني سوف أخصص -إن شاء الله- درساً عن الرسول صلى الله عليه وسلم مع الأطفال، بعنوان: (أطفال في حجر رسول) فأدع الحديث عن هذا لتلك المناسبة إن شاء الله. ومن ذلك: ممازحة الإنسان في الأمور التي ليس فيما إثم ولا ضرر، ولا إفراط ولا غلو، ولا زيادة، فهذا مزاح محمود كما سلف.
إن النفوس تمل وتتسلل إليها السآمة والضيق، فتحتاج بين الحين والآخر إلى نوع من الترويح.فالإنسان بطبعه إذا كثر عليه الجد ملّ وكلّ، فيلوذ إلى شيء من المزاح والدعابة، ولا بأس بهذا إذا لم يزد عن حد الاعتدال أو يحمل صاحبه على ارتكاب ما نهى الله عنه.وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم حاجة الناس إلى نوع من الراحة والترويح عن النفوس حين قال لحنظلة رضي الله عنه:" والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة".فهناك ساعة للتعبد والجد والإقبال، وأخرى يجلس فيها الإنسان مع أهله وأولاده مستمتعين بما أحله الله من أمور الدنيا بما في ذلك مداعبة الأهل والأطفال والأحباب....إلخ.
العرب تحب المزاح وتكره الاكفهرار
وضد المزاح والتبسم: العبوس والتقطيب والجد والصرامة. والعرب كانت تمتدح بالأول، وتذم بالثاني، فإذا أرادت العرب أن تمدح شخصاً قالت: فلان بسام الثنايا، طلق الوجه، بشوش للضيف، ويعتبرون هذا مما يمدح به الإنسان؛ لأنه يدل على كرم أخلاقه، وحسن معشره وطيب معاملته، وقد يذمون بالآخر وهو الاكفهرار والعبوس. فيقولون: فلان عبوس الوجه، جهم المحيا، كريه المنظر، حامض الوجه، كأنما وجهه بالخل منضوح، أي: كأنما وضع الخل على وجهه فلشدة حموضته قطب واكفهرت أساريره، وكأنما أسعط خيشومه بالخردل، أي: كأنما وضح الخردل في أنفه سعوطاً فكان مقطباً: فالعرب تمدح بالأول وتذم بالثاني. ولاشك أن العرب يقصدون الأمر المعتدل من ذلك، وإلا فإن المزاح -كما سيأتي- إذا زاد وتعدى كان مهانة وذلاً وضعةً من قدر صاحبه، كأن يجرئ عليه الصبي الصغير، والسفيه والأحمق والجاهل، فإنما يقصد العرب من ذلك: ما يكون على حد الاعتدال والتوازن، لا إفراط ولا تفريط؛ ولذلك يقول أبو تمام -يمدح رجلاً-: الجد شيمته وفيه دعابة طوراً ولا جد لمن لا يلعب فبين أن الجد هو شيمة هذا الإنسان -الأصل عنده الجد- لكن ليس دائماً، ففيه دعابة وفيه فكاهة، (طوراً) أي: حيناً، ولا جد لمن لا يهزل، فإن الإنسان إذا داوم شد الحبل على نفسه فإنه ينقطع، وهذا حتى في سياسة النفس ينبغي أن يتفطن إليه، ولذلك قال عمر رضي الله عنه: [[يعجبني أن يكون الرجل في بيته صبياً]]. وكان عمر رضي الله عنه وهو الخليفة أحياناً يكون في بيته فيتغنى بأبيات من الشعر، يقرؤها بلحون العرب، كما يردد الواحد منا بيتاً في بيته -أي: بيتاً من الشعر- فربما طرق أحد الباب فسمع عمر وهو يردد هذا البيت من الشعر أو ذاك. وحتى الجبابرة والمتسلطون يقع منهم ذلك، سئل الحجاج يوماً عن موقفه ومعاشرته مع أهله، فقال: والله ما تعدوننا إلا شياطين، والله لقد رأيتني وأنا أقبل رجل إحداهن. أي: رجل إحدى زوجاته، فهذه الأشياء لابد منها لكل إنسان، وهي جبلة فطر عليها المرء، ولا مفر له منها، لكن ينبغي أن يكون -كما أسلفت- على حد القصد والاعتدال، لا يخرج إلى إفراط ولا إلى تفريط.
تعريف المزاح
المزاح: هو الدعابة، وهو نقيض الجد من قول أو فعل، والمزاح أمر جبل عليه الإنسان في أصل طبيعته، ويستخدمه الإنسان لأغراض شتى.
من أهداف المزاح
فمن الناس من يمزح بقصد التسلية، لأنه إذا كثر عليه الجد وثقل عليه، فإنه يمل ويكل، فيلوذ ويلجأ إلى شيء من الدعابة والمزاح، وهذا جاء في حديث حنظلة بن الربيع، ففي صحيح مسلم {أن حنظلة بن الربيع الأسيّدي رضي الله عنه قال لـأبي بكر: نافق حنظلة، إنا نكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على حال، فإذا خرجنا من عنده عافسنا الأولاد والأزواج والضيعات ونسينا كثيراً. فقال أبو بكر رضي الله عنه: والله إني لكذلك، ثم ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: نافق حنظلة...، وفي الأخير قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: لو أنكم تدومون على ما تكونون عندي؛ لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة}. أي: ساعة تعبد وجد وإقبال، وساعة يجلس الإنسان فيها مع أهله ومع أولاده، ويستمتع بما أباح الله تعالى له من أمور الدنيا، ويدخل في ذلك مداعبة الأهل والأطفال والأصحاب والأحباب وغير ذلك. وقد يكون من أهداف المزاح أحياناً: التعلم. فإن التعلم يكون باللعب كما يكون بالجد، وأنت ترى أن الله -جل وعلا- فطر الصبيان الصغار على اللعب بأشياء مما يحتاجونها في كبرهم، فأنت تجد الطفلة الصغيرة تأتي إلى وسادتها، وتحزمها وتعدها بنتاً لها وتسميها، وتحملها وتضعها على حجرها، وتقبلها وتضمها وتغضب إذا أوذيت، وهذا يتناسب مع الجبلة التي خلقت من أجلها المرأة. وكذلك الصبيان يجلسون فيصنعون البيوت ويصنعون الأشياء، ويتدربون على الأعمال التي سوف يعانونها في الكبر، فالمزاح واللعب -أحياناً- يكون للتعلم، كما يكون التعلم بالجد. وقد كشف في وسائل التربية الحديثة: أن المعلم يحتاج إلى أن يُدخل على طلابه -أحياناً- نوعاً من الطرف ليبعد عنهم السآمة والملل، وهذا كان موجوداً عند علمائنا السابقين، فكان بعضهم يستخدم مع طلابه أساليب للتعليم، مثل أن يسألهم، أو يجعل لهم لغزاً يسمونه "المعاياة" يعاييهم فيه -أي: يعجزهم في الجواب عنه- إلى غير ذلك من الأشياء التي تطرد السآمة والملل، وتعين المتعلم على ما هو بصدده. وقد يكون المزاح واللعب -أحياناً- للتخلص من الخوف أو القلق أو الغضب أو غيرها، فإن الإنسان إذا مزح أدخل على قلبه شيئاً من التسلية والسرور، وأزال ما يخاف منه أو خفف من ذلك، وهذا يقوله العلماء المعاصرون، لكن في هدى النبي عليه الصلاة والسلام ما يشبه هذا. ففي الحديث المتفق عليه، حديث كعب بن مالك الطويل في قصة توبته، حين تخلف عن غزوة تبوك، يقول رضي الله عنه: {فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم تبسم تبسم المغضب}. إذاً الابتسامة أحياناً تكون من الفرح والسرور والاستبشار، وأحياناً تكون من الغضب، فيتبسم الإنسان لأن من سجيته الكرم والخلق الحسن، حتى وهو مغضب، ويدل حاله على أن هذا التبسم ليس تبسم الرضا، وإنما هو تبسم الغضب. وقد يكون المزاح -أحياناً- للتخلص من موقف صعب، فإن كثير من الناس كانوا -ولا زالوا- يتعرضون لمواقف صعبة، إما مع حاكم أو أمير أو قاض، أو زوج مع زوجته أو زوجة مع زوجها، أو تلميذ مع شيخه أو ما أشبه ذلك. فيكون موقفاً صعباً، ليس له جواب إلا إذا كان هذا الإنسان عنده طرف وسرعة بديهة -كما يقولون- فيتخلص من صعوبة هذا الموقف؛ بأن يأتي بمزحة مناسبة؛ فيضحك منها الشيخ أو الأمير أو الشخص المعني، ثم يزول ما به من الغضب، ويعفو ويصفح عن الطرف الآخر، ومثل هذا كثير في كتب اللغة والأدب وغيرها. وقد يكون المزاح على سبيل الملاطفة والملاينة، وتطييب خاطر من يقابلك؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي: {وتبسمك في وجه أخيك صدقة} فإنك إذا تبسمت له، تعرب له عن محبتك وسرورك بمقدمه، وأن قلبك لا يحمل له إلا الود والحب، فهذه بسمة يعبر فيها الأخ المسلم عن حبه لأخيه حين يلقاه، فعدها النبي صلى الله عليه وسلم من الصدقات، كأنك أخذت مالاً وأعطيته إياه؛ لأنك تدخل السرور على قلبه بذلك. ولهذا يقول جرير رضي الله عنه: {ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم} متفق عليه فكان يبتسم له صلى الله عليه وسلم لأنه كان يحبه، ويقول: عليه مسحة ملك. وكان لا يثبت على الخيل، فمسح النبي صلى الله عليه وسلم صدره ودعا له، وأمره أن يذهب إلى ذي الخلصة -وهو صنم كانت تعبده العرب في الجاهلية- فيهدمه، ففعل رضي الله عنه وأرضاه.
مزاح سيد المرسلين
أما النقطة الثانية في هذا الدرس فهي: مزاح سيد المرسلين وإمام المتقين، وقدوة الخلق أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً. لاشك أن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو القدوة في كل أمر، وكان عليه الصلاة والسلام يعاني من أمور الدعوة والتبليغ، والإصلاح، والأمر والنهي والجهاد وغير ذلك، ما لا يعانيه غيره، فلا أحد يستطيع أن يقول إنه مشغول أكثر مما كان الرسول صلى الله عليه وسلم مشغولاً، ولا جاد أكثر مما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جاداً، ولا ورع أكثر من ورعه صلى الله عليه وسلم، فهو القدوة في ذلك كله. ولاشك أن الرسول عليه السلام كان الغالب على حياته الجد، وقد بان الشيب على مفرقه عليه الصلاة والسلام قبل أوانه، فقيل له شبت يا رسول الله! فقال: {شيبتني هود وأخواتها، وقال: حم، وعمَّ يتساءلون، وإذا الشمس كورت} وهذا حديث ورد من طرق كثيرة صححه بها بعضهم، وإن كان بعض أهل العلم أعلَّوه بالاضطراب، لكن معناه صحيح. وقد ذكرت عائشة رضي الله عنها { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان غالب صلاته في آخر عمره وهو قاعد بعد ما حطمه الناس} أي: من كثرة دخول الناس وخروجهم عليه وسؤالهم له وحاجتهم؛ حَطَمُوه فتأثر بذلك وأسرع إليه الشيب صلى الله عليه وسلم. ومع ذلك فإنه صلى الله عليه وسلم كان له مزاح يسلي به أصحابه، ويسري به عن القريب والبعيد. ......
الأحاديث والأخبار الواردة في ضحكه وتبسمه صلى الله عليه وسلم
أما الأحاديث والأخبار التي كان يقولها صلى الله عليه وسلم، فيضحك أو يتبسم بعض من حوله من أصحابه، فهذا كثير جداً، لو جمع لكان في مجلد، لكنني أذكر نماذج سريعة منه. فمن ذلك: حديث أبي ذر في صحيح مسلم {أن الله تعالى يدني عبداً من عباده يوم القيامة، فيقول له: أتذكر ذنب كذا؟ أتذكر ذنب كذا؟ ويقول لملائكته: اذكروا له صغار ذنوبه ونحو عنه كبارها، فيذكرون له الذنوب الصغيرة، حتى إذا انتهت قال الله عز وجل: فإني قد أبدلتها لك حسنات -لأنه قد تاب منها، فأبدلها الله تعالى له حسنات-. فهذا الرجل قال: يارب! عملت ذنوباً لا أراها هاهنا!، قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه} أي: أن هذا الرجل عندما كانت الذنوب الكبائر مستورة عنه وكانت عليه سكت ولم يثر الموضوع، لكن لما عرف أنها صارت في صالحه، وأنها بدلت حسنات، صار يطالب بها، ويقول: عملت ذنوباً لا أراها هنا، أين الكبائر التي عملتها؟ لأنه يعلم أنها ستبدل إلى حسنات!!. ومن ذلك -أيضاً- ما ورد في البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن رجلاً من أهل الجنة استأذن ربه في الزرع -يريد أن يزرع- فقال الله عز وجل: ألست فيما أغنيتك به يا عبدي؟! قال: يا رب، ولكني أحب أن أزرع. قال: فيأذن الله تعالى له بذلك، فيكون بذره وزرعه ونماؤه ونضجه وحصاده في لحظة واحدة، فقال رجل من الأعراب -كان حاضراً عند الرسول صلى الله عليه وسلم-: والله يا رسول الله، لا تجد هذا الرجل إلا قرشياً أو أنصارياً، أما نحن فلا حاجة لنا في الزرع؛ فتبسم الرسول صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه} وله من ذلك شيء كثير -كما أسلفت-.
نماذج من مزاحه صلى الله عليه وسلم
وأذكر نماذج من مزاحه صلى الله عليه وسلم، فمن ذلك: كثرة تبسمه وممازحته صلى الله عليه وسلم لأصحابه، كما سبق في حديث جرير: {أن النبي صلى الله عليه وسلم ما رآه إلا تبسم}. وقد روى الترمذي، وأحمد وغيرهما، عن عبد الله بن الحارث بن جزء، وهو حديث حسن، قال الترمذي: حديث حسن صحيح، أنه قال: {ما رأيت أكثر تبسماً من النبي صلى الله عليه وسلم}. وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنهم قالوا: {يا رسول الله، إنك تداعبنا -أي تمازحنا- فقال: نعم، لكني لا أقول إلا حقاً} رواه الترمذي، وقال حديث حسن صحيح. وقد جاء عن ابن عمر عند الطبراني، وسنده حسن -أيضاً- وجاء عن بكر بن عبد الله المزني وغيرهم {إنك تداعبنا. قال: نعم، ولكني لا أقول إلا حقاً}. ومن مزاحه صلى الله عليه وسلم أنه كان يخاطب خادمه أنس بن مالك فيقول له: {يا ذا الأذنين} وهذا الحديث رواه الترمذي في الشمائل، وهو كما قال الترمذي: حديث صحيح غريب. و(يا ذا الأذنين) مزاح؛ لأن كل إنسان له أذنان، فقوله لـأنس: {يا ذا الأذنين} هذا على سبيل الممازحة. ومن ذلك -أيضاً- قوله لأخي أنس من أمه: { يا أبا عمير ما فعل النغير -وكان له نغر يلعب به، فمات هذا النغر فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وأبو عمير كسيف حزين- فقال: يا أبا عمير ما فعل النغير؟ -العصفور- فقال: مات يا رسول الله} وكان هذا على سبيل الدعابة والممازحة له. ومن ذلك: ما رواه أنس -أيضاً- {أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: احملني يا رسول الله -أي أعطني شيئاً أركب عليه للغزو والسفر- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إنا حاملوك على ولد الناقة -ففهم الأعرابي: أن ولد الناقة هو الجمل الصغير- فقال: وما أفعل بولد الناقة يا رسول الله؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وهل تلد الإبل إلا النوق؟!}. والحديث رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح غريب، ورواه أبو داود في سننه، وأحمد في مسنده. ومن ذلك: حديث أنس -أيضاً- الذي رواه الترمذي في الشمائل، وسنده صحيح {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له رجل من الأعراب اسمه زاهر الأسلمي، فكان هذا الرجل يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بهدايا مما يستطرف من هدايا البادية، من الأقط والسمن وغيرها. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يهدي له أيضاً، فيقول عليه السلام: إن زاهراً باديتنا ونحن حاضرته، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فوجد زاهراً يبيع في السوق ولم يعلم بالنبي صلى الله عليه وسلم، فتسلل رسول الله صلى الله عليه وسلم من ورائه واحتضنه وقال: من يشتري العبد من يشتري العبد؟ فالتفت زاهر فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل لا يألوا ما ألصق ظهره برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: إذاً تجدني كاسداً يا رسول الله. قال: لكنك عند الله لست بكاسد}. وفي رواية قال: {لكنك عند الله غالٍ} والحديث -كما أسلفت صحيح- وفيه ما كان فيه الرسول صلى الله عليه وسلم من البساطة والممازحة، وتطييب أصحابه بما يناسبهم مع عدم الكذب، فإن زاهراً كان عبداً لله عز وجل ولا شك. والحديث قال عنه ابن كثير أيضاً: حديث صحيح على شرط الشيخين، ووافقه على ذلك الشيخ الألباني، وقال الحافظ ابن حجر: حديث صحيح. ومن ذلك: ما رواه الترمذي والبيهقي عن الحسن البصري مرسلاً، وله شاهد من حديث عائشة رضي الله عنها عند الطبراني والبغوي في تفسيره، وهو حديث حسن: {أن امرأة عجوزاً جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، ادع الله أن أكون من أهل الجنة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: لا يدخل الجنة عجوز، فكأن هذه المرأة خافت ووجلت. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم كما قال الله عز وجل: إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً * عُرُباً أَتْرَاباً * لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ [الواقعة:35-38] فذهب ما بها وعرفت مراده صلى الله عليه وسلم}. هذه نماذج من مزاحه صلى الله عليه وسلم ومداعبته مع أصحابه.
مزاح بعض الصالحين
أنتقل إلى النقطة الثالثة وهي: مزاح بعض الصالحين. ......
مزاح عمر بن الخطاب
عمر رضي الله عنه على جلالة قدره وجده، كان له مزحات معينة، ولكنها كانت مزحات مقصودة يريد بها أن يربي من وراءه -كما سلف للتعليم- [[جاء أعرابي يوماً فصلى في المسجد ركعتين خفيفتين جداً، وكأنه أخل بالصلاة، ثم قال في آخر صلاته: اللهم إني أسألك الحور العين في الجنة. فلما سلم قال له عمر رضي الله عنه: لقد أسأت النقد وأعظمت الخطبة ]] أي: المهر الذي دفعته قليل والخطبة عظيمة، تريد الحور وصلاتك بهذه الصفة، لا تتم قيامها ولا قعودها ولا ركوعها ولا خشوعها وكان هذا منه رضي الله عنه على سبيل التعليم كما سبق.
مزاح عمر بن عبد العزيز
عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، يُذكر أنه لم يمزح بعدما ولي الخلافة إلا مرتين، أما فيما عدا ذلك فكان جاداً، لم يكن في حياته وقت إلا للجد، إحدى هاتين المرتين: يروى أن هناك رجلاً كان اسمه حُميد، وكان يسكن في قرية اسمها أمج قريبة من المدينة المنورة، وكان حُميد هذا رجلاً فاسداً فاسقاً يشرب الخمر، وكان يقول في شعره -يحدث عن نفسه: حميد الذي أمج داره أخو الخمر ذو الشيبة الأصلع يحدث عن نفسه، فبلغ الخبر عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وفي ذات يوم كان عمر بن عبد العزيز في مجلس -بعد زمان طويل- فسلم عليه رجل ثم قال: أتعرفني يا أمير المؤمنين؟ قال: لا أعرفك، قال: أنا حميد، فقال عمر بن عبد العزيز: حميد الذي أمج داره؟ -فهو يذكره بذاك البيت- فتبسم الحضور واكفهر هذا الرجل وضاق صدره، وحزن لذلك حزناً شديداً. وقال: والله يا أمير المؤمنين ما شربتها منذ عشرين سنة، لأن هذا فيه تعريض بأنه كان يشرب الخمر؛ لأن آخر البيت أخو الخمر...، ففيه تعريض بشرب الخمر، قال: والله يا أمير المؤمنين، ما شربتها منذ عشرين سنة. فقال له عمر بن عبد العزيز: إنما أردت أن أباسطك بهذا، ولم أرد أن أسوءك، وهكذا أيضاً يكون المزاح في قصد التعليم.
قصة خوات بن جبير
ومما ورد من المزاح الذي يقصد منه التعليم قصة رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم، رواها جماعة من الأئمة المحدثين الحفاظ، عن خوات بن جبير رضي الله عنه {أن النبي صلى الله عليه وسلم أطلع عليه يوماً من الأيام، في أول عهده بالإسلام، أو لعله قبل أن يسلم، وكان جالساً مع بعض النساء، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما أجلسك هاهنا يا خوات؟ قال: يا رسول الله، بعير لي شرد فأردت من هؤلاء النسوة أن يصنعن له عقالاً أو نحو ذلك. فتبسم الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم انصرف من عنده ورجع وهو على حاله فقال: أما زلت على تلك الحال؟! فقام، فكان النبي صلى الله عليه وسلم كلما لقيه قال له: ما فعل بعيرك الشارد أو ما فعل شراد بعيرك؟ فكان يستحي بعد ذلك، ولا يحب أن يقابل الرسول عليه الصلاة والسلام؛ خشية أن يذكره بذلك، حتى جاءه يوماً وهو يصلي فذكره بذلك. فقال: يا رسول الله عقله الإسلام، أو والله ما شرد منذ أسلمت} وهذه كلمة معبرة يفهم ما وراءها، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يقصد منها النصيحة والتعليم، بالأسلوب الذي يناسب كل إنسان.
مزاح الشعبي
أما فيما يتعلق بالتابعين والأئمة، فإن من قصصهم وأخبارهم في المزاح شيء كثير، يطول ذكره -كما أسلفت- ولعلي أكتفي بأمثلة ونتجاوز ما عداها. من ذلك الشعبي، والشعبي إمام جليل، كان قاضياً لـعمر بن عبد العزيز، وكان ثقة حافظاً، حتى إنه كان يقول: والله ما كتبت سوداء في بيضاء، ولا سمعت حديثاً فاحتجت أن أكتبه، أو احتجت أن يعيده علي صاحبه مرة أخرى. وكان الحسن البصري يقول: [[كان قديم السلم -أي: قديم الإسلام- كثير العلم، عظيم الحلم]] فكان من أئمة التابعين وثقاتهم، لقي خلقاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال له رجل: ما لي أراك نحيلاً؟ -وكان ضئيل الجسم- فقال: لقد زحمت في الرحم، وكان ولد هو وأخ له آخر من بطن واحد. وسأله رجل عن اسم امرأة إبليس فقال: ذاك نكاح ما شهدناه، وجاءه رجل وهو جالس مع زوجته، فقال: أيكما الشعبي؟ فأشار إلى زوجته، وقال: هذا.
مزاح الأعمش
وكذلك الأعمش، كان من أكثر الظرفاء، وهو من أئمة الحديث الثقات، وله في ذلك طرائف كثيرة، منها: أنه حج، فغضب على الجمال فضربه حتى شج رأسه، فقيل له في ذلك، فقال: من تمام الحج ضرب الجمال. والغريب أن الذين صنفوا في الأحاديث الموضوعة ذكروا هذا! على أن بعضهم ظن أنه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من الأحاديث الموضوعة (من تمام الحج ضرب الجمال) ولا يصح عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من كلام الأعمش. وكذلك جاءه حائك يسأله هل تقبل شهادة الحائك؟ قال: نعم، تقبل إذا كان معه رجلين. فقال هذه وعدمها سواء. وهو أراد أن يتندر بذلك.
مزاح القاضي شريح
القاضي شريح، وهو قاض أيضاً [[جاء إلى حي من همدان فقاموا إليه وسلموا عليه وأكرموه وبجلوه، فقال لهم: يا معشر همدان، إني لأعرف أهل بيت منكم لا يحل لهم الكذب. فقالوا: من هم يرحمك الله؟ قال: ما أنا بمخبركم، ثم قام من عندهم فلحقوا به ميلاً، وهم يركضون وراءه ويقولون: أخبرنا رحمك الله. فلما أبى رجعوا، وهم يقولون: ليته أخبرنا من هم. ]] ومن المعروف، أن كل الناس لا يحل لهم الكذب، وإنما أراد أن يمازحهم ويباسطهم في ذلك.
مزاح نعيمان
ومن أكثر، بل لعله أكثر الصحابة اشتهاراً بالمزاح، رجل اسمه نعيمان وهذا له ذكر في صحيح البخاري، في كتاب الوكالة فيما أذكر، وكان يشرب الخمر، ففي صحيح البخاري {أنه جيء به في البيت شارباً، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم به فضرب، قال الراوي: فكنت فيمن ضربه}. وورد في موضع آخر {أن رجلاً جيء به قد شرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجلد، فقال رجل من الحضور: لعنه الله، ما أكثر ما يؤتى به! فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال: لا تعن الشيطان على أخيك، وقال: إنه يحب الله ورسوله} ويحتمل أن تكون القصة وقعت لشخص واحد، ويحتمل أن تكون لشخصين والله تبارك وتعالى أعلم. المهم أن نعيمان هذا من أكثر المزاحين، {كان إذا وجد في السوق شيئاً يباع -عسلاً أو شيئاً طريفاً يباع- اشتراه، وقال للبائع: أذهب به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فيعطيه الرسول عليه الصلاة والسلام ويقول: هذا لك هدية، وبعد قليل يأتي البائع إلى للرسول عليه الصلاة والسلام يطلب منه الثمن، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: هذه إحدى هنات نعيمان، وكان هذا يحدث كثيراً فيقول النبي عليه الصلاة والسلام: ما حملك على هذا؟ يقول: يا رسول الله، رأيت شيئاً حسناً أحببته لك، ولم يكن معي ما أشتريه به}. و نعيمان وردت له قصص كثيرة، في صحتها نظر، لكن من أصح ما ورد: ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن أم سلمة رضي الله عنها، ورواه أيضاً الطيالسي وابن ماجة وغيرهم، بسند فيه رجل يقال له زمعة بن صالح، وزمعة بن صالح هذا فيه مقال، وإن كان مسلم خرج له في الصحيح، ولكن فيه ضعف يسير. والحديث له شاهد آخر عند الزبير بن بكار في كتاب الفكاهة والمزاح: {أن أبا بكر رضي الله عنه خرج في تجارة إلى الشام، إلى بصرى، قبل أن يموت النبي صلى الله عليه وسلم بنحو سنة. وكان معه نعيمان هذا، ومعه رجل اسمه سليط بن حرملة، وكان سليط بن حرملة هو المسئول عن التموين في تلك السفرة، فجاء إليه نعيمان يوماً، وقال له: أطعمني، فقال له: لا، حتى يأتي أبو بكر، فألح عليه فقال: لا، حتى يأتي أبو بكر، فقال: لأسوأنك، فمر قوم من العرب، فجاء إليهم نعيمان وقال: هاهنا عندي عبد فاره قوي جيد، أتريدون أن تشتروه مني؟ قالوا: نعم، قال: هاهو، ولكنه رجل لسن -لسانه طويل- فإذا شريتموه سيقول: أنا حر، أنا ابن عمه، أنا كذا أنا كذا، فإذا كنتم ستطلقونه فلا تفسدوا عليَّ عبدي، قالوا: لا، نحن نمسك به، فاشتروه منه بعشر قلائص -عشر نوق- فأخذها نعيمان. ثم جاء إلى سليط، فقال: هذا هو فأمسكوا به ووضعوا العمامة في عنقه وجروه، فقال: أنا حر، هذا يضحك عليكم، هذا يريد أن يسوءني، هذا ابن عمي، هذا كذا هذا كذا، قالوا: لا، قد أخبرنا أمرك. وذهبوا به، فلما جاء أبو بكر رضي الله عنه، أخبره بالخبر فلحق بهم وأطلقه ورد إليهم قلائصهم، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه يضحكون من هذه القصة حولاً كاملاً وهم يضحكون من هذا الخبر}. ولـنعيمان قصة مع مخرمة بن نوفل عجيبة جداً، ذكرها الزبير بن بكار، وذكرها الحافظ ابن حجر في الإصابة، وفيها: [[أن مخرمة بن نوفل كان رجلاً فقد بصره في آخر عمره -عمي وفقد بصره، أو ضعف بصره جداً- فكان في المسجد، فقام في يوم من الأيام ليقضي حاجته، فأمسك به نعيمان ودار به في المسجد، ثم أجلسه في ناحية منه، فلما قعد قام إليه الناس، وقالوا له: أنت في المسجد. فقال: من الذي جاء بي إلى هنا؟ قالوا: نعيمان، قال: لأفعلن به ولأفعلن -يهدده- فكان نعيمان يتهرب منه يوماً بعد يوم، حتى نسي مخرمة رضي الله عنه الخبر. فجاء إليه في يوم من الأيام وقال له: هل لك في نعيمان؟ -غيّر صوته- قال: أين هو؟ قال: هاهو في المسجد، قال دلني عليه بارك الله فيك. وكان هذا في عهد الخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه، وكان عثمان بن عفان يتنفل في المسجد، فجاء حتى أوقفه على رأس عثمان، وقال له: هو هذا، فأمسك مخرمة بعصا كانت معه بيديه وضرب بها عثمان رضي الله عنه، فلما سلم عثمان التفت، فإذا هو مخرمة. فعرف أنه ضرب عثمان فقال: من دلني عليك؟ قالوا: نعيمان قال: لا جرم، لا تعرضت له بسوء أبداً]]. وهذه القصة -كما قلت- ذكرها الزبير بن بكار، وذكرها الحافظ ابن حجر في الإصابة، وأنا في شك منها، أظن أنها لا تصح عنه رضي الله عنه وأرضاه؛ لأن فيها تجاوزاً ومخالفة، يبعد أن تصدر منه، وإن كان البشر قد يخطئون، لكن الذي يظهر لي أنه ليس لها سند يعتمد عليه ويوثق به. المهم أنه كان من أشهر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم دعابة، وله قصص كثيرة جداً أُعرض عنها لطولها -كما ذكرت- ولأنه لا جدوى من الإطالة بها والاستطراد وراءها.
التبادح بالبطيخ
ولا شك أن الصالحين إذا ذكروا فحيهلاً بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فهم أصلح الناس بعد الأنبياء، وكانوا يتمازحون، ولعل من عجيب وغريب تمازحهم، مما قد تستغربه النفوس ولا تألفه، ما رواه البخاري في كتاب الأدب المفرد، بسند صحيح رجاله ثقات: {أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يتبادحون بالبطيخ، فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرجال}. كانوا يتبادحون أي: يحذف بعضهم بعضاً بالبطيخ، فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرجال.
تذاكر أمور الجاهلية
والحديث الآخر الذي رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، {أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يتناشدون الأشعار، ويتذاكرون أمر الجاهلية، والنبي صلى الله عليه وسلم بينهم فيضحكون، وربما تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم}. والحديث جاء في صحيح مسلم بلفظ قريب من هذا {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجلس مع أصحابه بعد صلاة الفجر في المسجد، فيذكرون أمر الجاهلية فيضحكون ويتبسم} وفي بعض الروايات {أن أحدهم كان يكون في ذلك، فإذا أريد أحدهم على دينه دارت حماليق عينيه} فإذا أريد على دينه أي: ساومه أحد على دينه، أو رأى منكراً لا يرضي الله عز وجل؛ "دارت حماليق عينيه" أي: تحرك وغضب، وظهر أثر الغضب في وجهه.
عائشة وسودة
من مزاح أصحابه رضي الله عنهم: ما جاء عن عائشة وسودة رضي الله عنهما {أنهما كانتا في مجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد صنعت عائشة طعاماً خزيرة، فقربتها، وقالت لـسودة: كلي، فقالت: لا أشتهيه، فأمرتها بأن تأكل وإلا عاقبتها، فلم تأكل سودة؛ فأتت عائشة ومسحت وجهها، وكان عليها أثر الطعام، فأرادت سودة أن تقتص منها، فأذن لها النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، ففعلت بـعائشة مثل ما فعلت عائشة بها، والرسول صلى الله عليه وسلم يضحك}. وهذا الأثر رواه الزبير بن بكار في كتاب الفكاهة والمزاح قال الحافظ العراقي: وسنده جيد. وممن اشتهر بالمزاح: علي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان، وأبو هريرة وأبي بن كعب، فإن كثيراً من هؤلاء كانوا مشهورين بالمزاح، وفي كتب الأدب والسير من ذلك شيء كثير يطول ذكره. وهناك كتيب اسمه المراح في المزاح، للغُزِّي، ذكر طرائف وأشياء من هذا القبيل، وبعضها مما أستغربه وأستبعده، وأظن أنه مفترى على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأَبْعدُ أن يصدر منهم.
أنواع المزاح
أنتهي إلى النقطة الرابعة والأخيرة والمهمة وهي: قضية أنواع المزاح أو ضروب المزاح. والمزاح -أيها الأحباب-ضربان: ......
الإكثار من المزاح
والإكثار من المزح يكون على ضربين: الضرب الأول: أن يكثر الشخص من المزح حتى يعرف به -كما أسلفت- فيكون شخصاً طبيعته المزاح، قائماً وقاعداً وذاهباً وآيباً، وفي كل مناسبة، وربما يمزح في غير أوانه، ويتسبب لنفسه ولغيره بأضرار عظيمة، فهذا مذموم يذم عليه صاحبه وينكر عليه. الضرب الثاني: مزاح يكثر منه جماعات من الناس، وإن لم يكن فرداً، أي أنك تجد مجموعة يجتمعون على مزاح، وهذا -مع الأسف- كثير عند الشباب، يكون لبعضهم مثلاً خيمة أو بيتاً أو مزرعة، أو -أحياناً- دورية يخرجون بين حين وآخر، وقد يسافرون إلى حج أو إلى عمرة أو غيرها. ولكن هؤلاء الشباب اجتمعوا على المزاح، فتجد أن بعضهم يضحك بعضاً، وربما يستلقي بعضهم على ظهره من كثرة المزاح، وليس هذا لمناسبة عارضة، إنما هذا دأبهم وديدنهم الغالب، ولاشك أن في هذا مضيعة للوقت، ولو لم يكن فيه إلا أن وقتهم لم يكن في علم. ولا ذكر لكفى، فضلاً عما في ذلك من المفاسد الكثيرة التي يجر إليها المزاح، وقد يجر إلى الوقوع في الحرام: من الكذب، والنميمة، والغيبة، والاستهزاء بالله تعالى أو رسوله أو آياته، أو العلماء أو الصالحين، إلى غير ذلك مما يؤدى إليه كثرة المزاح ولابد. فينبغي أن يقتصد الإنسان في المزاح، ويكون مع اقتصاده في المزاح متجنباً لما حرمه الله تبارك وتعالى من ذلك، ومنه النقاط الأربع، ما كان فيه هزل بالأمور الشرعية، وما كان فيه كذب، وما كان فيه أذية لأحد من الخلق، وما تعدى حده حتى وصل إلى حد الإفراط. هذه هي أصناف المزاح التي ينبغي للإنسان أن يتجنبها. وقد حرصت على الإيجاز والاختصار حتى ننهي هذا الموضوع، لأن كثيراً من الإخوة يفضلون -قدر المستطاع- أن يكون كل موضوع في درس؛ ليكون سهل التناول والتداول بين الشباب. والإكثار من المزح يكون على ضربين: الضرب الأول: أن يكثر الشخص من المزح حتى يعرف به -كما أسلفت- يكون شخص طبيعته المزاح قائماً وقاعداً وذاهباً وآيباً، وفي كل مناسبة، وربما يمزح مزاحاً في غير أوانه، ويتسبب لنفسه ولغيره بأضرار عظيمة، فهذا مذموم يذم عليه صاحبه وينكر عليه. الضرب الثاني: مزاح يكثر منه جماعات من الناس، وإن لم يكن فرد، يعني تجد مجموعة يجتمعون على مزاح، وهذا -مع الأسف- كثير عند الشباب، يكون لبعضهم مثلاً خيمة أو بيت أو مزرعة أو أحياناً دورية يخرجون بين حين وآخر، وقد يسافرون إلى حج أو إلى عمرة أو غيرها، ولكن هؤلاء الشباب اجتمعوا على المزاح، فتجد أن بعضهم يضحك بعضاً، وربما يستلقي بعضهم على ظهره من كثرة المزاح، وليس هذا لمناسبة عارضة إنما هذا دأبهم وديدنهم الغالب. ولاشك أن في هذا مضيعة للوقت، ولو لم يكن فيه إلا أن وقتهم لم يكن في علم، ولا ذكر لكفى، فضلاً عما في ذلك من المفاسد الكثيرة التي يجر إليها المزاح، وقد يجر إلى الوقوع في الحرام: في الكذب، في النميمة، في الغيبة، في الاستهزاء بالله تعالى أو رسوله أو آياته أو العلماء أو الصالحين، إلى غير ذلك مما يؤدى إليه كثرة المزاح.. ولابد. فينبغي أن يقتصد الإنسان في المزاح، ويكون مع اقتصاده في المزاح متجنباً لما حرمه الله تبارك وتعالى من ذلك، ومنه النقاط الأربع، ما كان فيه هزل بالأمور الشرعية، وما كان فيه كذب، وما كان فيه أذية لأحد من الخلق، وما تعدى حده حتى وصل إلى حد الإفراط. هذه هي أصناف المزاح التي ينبغي للإنسان أن يتجنبها. وقد حرصت على الإيجاز والاختصار حتى ننهي هذا الموضوع، لأن كثير من الإخوة يفضلون قدر المستطاع أن يكون كل موضوع في درس ليكون سهل التناول والتداول بين الشباب.
المزاح المحمود
وهذا المزاح المحمود هو ما كان على سبيل الاعتدال، لا يشوبه شائبة مما كره الله عز وجل أو حرم، ولا يكثر فيكون دليلاً على خفة عقل صاحبه أو حمقه، أو يكون سبباً لإهانته ومهانته وذلته وزوال هيبته، أو يكون حطاً من قدره، بل ويكون على سبيل الاعتدال، كما قال أبو الفتح البستي رحمه الله، وهو الشاعر الناظم الحكيم المعروف، صاحب القصيدة النونية المشهورة في الحكم والأمثال، قصيدة "عنوان الحكم" يقول أبو الفتح البستي في بعض شعره: أفد طبعك المكدود بالجد راحة يجم وعلله بشيء من المزح ولكن إذا أعطيته المزح فليكن بمقدار ما يعطى الطعام من الملح أفد طبعك المكدود بالجد راحة يعني إذا كثر عليك الجد فحاول أن تغير بشيء من المزاح؛ يجم: أي: تعود إليه قوته ونشاطه، وعلله بشي من المزح، "ولكن إذا أعطيته المزاح فليكن بمقدار ما يعطي الطعام من الملح": فإن الملح إذا زاد ضر -كما هو معروف- وكان سبباً في فساد الطعام. ومن المزاح المحمود المعتدل المزاح مع النظراء والإخوان بقصد التسلية وإزالة الهم عنهم، وإدخال السرور عليهم، كالتبسم إليهم والمباسطة والملاينة، وغير ذلك من الشيء الحسن، كما سبق من ضروب ذلك، وقد كان بعض الصالحين يكون كما كان إبراهيم بن أدهم وغيره، مع أصحابهم يمازحهم ويباسطهم ويلاينهم، فإذا جاء رجل غريب أعرض وانقبض وقال: هذا جاسوس، ثم ترك معه المزاح؛ وذلك لأن المزاح مع من لا تعرف قد يكون سبباً في المهانة؛ لأنه ربما يظن أن هذا دليلاً على خفة العقل أو الطيش أو قلة الفهم وهو كذلك. فلا ينبغي للإنسان أن ينطلق بالمزاح إلا مع من يعرف، أما من لا يعرف، فينبغي أن يبتسم في وجهه ويلين له القول، لكن لا يتسرع بشيء من المزاح لأنه يكون دليلاً على خفة عقله وقلة فهمه ونبله. ومن ذلك أيضاً المزاح مع الأهل والزوجة {فالرسول عليه الصلاة والسلام سابق عائشة فسبقته في المرة الأولى، فلما كثر وثقل بها اللحم سبقها، فقال عليه الصلاة والسلام هذه بتلك} وقصته في ذلك معروفة. ومنه: حديث أم زرع، وهو في صحيح البخاري، وهو حديث طويل، ومع ذلك كان الرسول عليه الصلاة والسلام جالساً على كثرة مشاغله، وعائشة رضي الله عنها تقص له قصة حديث أبي زرع، وهو حديث طويل وفيه طرائف، وعبر وعجائب، وأنصحكم بأن تعودوا إليه وتقرءوه، وفيه من غريب الألفاظ وجميلها وبليغها مالا ينقضي منه العجب. وأصل الحديث: {اجتمعت إحدى عشرة امرأة في الجاهلية، فتعاقدن وتعاهدن على ألا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئاً، فقالت الأولى: زوجي العشنق إن أسكت أعلق، وإن أنطق أطلق، وقالت الثانية: زوجي مالك. وما مالك؟ له إبل قليلات المسارح كثيرات المبارك، إذا سمعن صوت المزهر أيقن أنهن هوالك} وقالت الثالثة، والرابعة... -كل واحدة تذكر عن زوجها الزين والشين، وهو حديث عجيب-. والشاهد أن عائشة قالت في آخره: قالت الحادية عشر أم زرع تقول: زوجي أبو زرع، وما أبو زرع؟ فذكرت أبا زرع وصفاته، ثم قالت: {أم أبي زرع، وما أم أبي زرع؟ -وذكرت صفات أمه-. ثم قالت: ابن أبى زرع مضجعه كمسل شطبة، ويشبعه ذراع الجفرة. ثم قالت: ابنة أبي زرع ماابنة أبي زرع؟ غيظ جارتها، وطوع أبيها وأمها.. المهم، قالت أم زرع: إن أبا زرع خرج من بيتها، فوجد امرأة جميلة، فنكحها وطلق هذه، قالت: فتزوجني رجل آخر فأناخ علي من النعم والإبل وكذا وكذا، وقال لي: كلي أم زرع وميري أهلك -كلى وأرسلي لأهلك- قالت: فلو جمعت كل شيء أعطانيه ما بلغ أصغر إناء من آنية أبي زرع -لأن الحب للحبيب الأول-. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـعائشة أنا لك كـأبي زرع لـأم زرع} هذا الحديث جاء في صحيح البخاري، وجاء في رواية: {أنه طلق وأنا لا أطلق}. من مباسطة الرسول -عليه الصلاة والسلام- أيضاً لأصحابه قصته المعروفة مع عائشة حين قامت على كتفه تنظر إلى الحبشة في يوم العيد، وهم يلعبون في المسجد حتى سئمت ثم انصرفت رضي الله عنها. وكذلك كما في الصحيحين: {لما علم النبي صلى الله عليه وسلم أن جابراً تزوج فقال له: بكراً أم ثيباً؟ قال: يا رسول الله بل ثيب قال: هلا بكراً تلاعبها وتلاعبك، وتضاحكها وتضاحكك}. وفي رواية لـمسلم قال: {أين أنت من الجارية ولعابها} ولعابها أي: ملاعبتك لها، وذلك لأنه يكون بين الزوجين من المباسطة والملاعبة ما بيَّن الله تعالى في كتابه حيث قال: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم:21]. وقد كانت عائشة رضي الله عنها تلعب بالبنات، كما في الصحيحين، وكان معها صواحب لها، فإذا جاء النبي صلى الله عليه وسلم يتقمعن -أي: يستحين من الرسول عليه الصلاة والسلام- وتخرج عائشة قالت: {فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسربهن إليها} أي: يجعلهن يذهبن إليها رضي الله عنها- فلا بأس أن يكون للإنسان وقت يباسط فيه أهله، ويطيب خواطرهم، ويلاينهم ويمازحهم. ولكن -وتفطنوا لما بعد لكن- كم هو مؤسف أن يكون الكثير منا ربما يقوم بهذا الواجب خير قيام، لكن لو نظرنا إلى الواجب الآخر، الذي سبق التنويه إليه في غير مناسبة، وهو تعليم الأهل وتفهيمهم، وأمرهم ونهيهم، وترغيبهم فيما عند الله، وحثهم على الخير؛ لوجدت الكثيرين مقصرين في هذا الأمر، وهذا خطأ، بل ينبغي أن يكون الإنسان قائماً بواجبه بقدر ما يستطيع هنا وهناك. ومن المزاح المحمود أيضاً المزاح مع الأولاد، ومن قصص النبي صلى الله عليه وسلم مع الحسن والحسين وغيرهما من ذلك الشيء الكثير، مما لا أريد أن أذكره؛ وذلك لأنني سوف أخصص -إن شاء الله- درساً عن الرسول صلى الله عليه وسلم مع الأطفال، بعنوان: (أطفال في حجر رسول) فأدع الحديث عن هذا لتلك المناسبة إن شاء الله. ومن ذلك: ممازحة الإنسان في الأمور التي ليس فيما إثم ولا ضرر، ولا إفراط ولا غلو، ولا زيادة، فهذا مزاح محمود كما سلف.