عدد المشاهدات:
أهل القرب من الله، هم الذين ظهرت لهم معاني
الوصول في أنفسهم حتى صارت نفوسهم مرآة صافية، فانكشفت فيها هذه الحقائق، وارتسمت
فيها تلك المعاني، وانتقشت فيها الأخلاق الإلهية، وأصبحت سجية لها وفطرة وطبيعة
لأهل القرب من الله عزَّ وجلَّ.
والقرب هو تفضل الله سبحانه على أهله، بكشف صفاته
ومعاني أسمائه جلَّ جلاله
لهم، والإقبال منه عزَّ وجلَّ
عليهم، ظاهراً لهم بمعانى أسمائه وصفاته، وبهائه وجماله وجلاله، بعد كمال معرفتهم
بربهم جل جلاله حتى تأتنس قلوبهم ببرد هذه التنزلات ونعيم تلك المواجهات.
والقرب هو كشف هذه المقامات الإلهية للمقربين في
أنفسهم وفي السموات والأرض، وفي كل شيء لهم، حتى يتراءى لهم الحق جلياً في الملك
والملكوت وذلك معنى قول الله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي
الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾.[53، فصلت].
والله هو
الحق المبين، ومعنى قوله عز شأنه: ﴿فأينما تولوا فثم وجه الله﴾.
وفي هذا
يقول قائلهم:
يا من يراني أنى أراه
انظر بعين الرضا لحالي
ويقول الإمام أبو العزائم رضي الله
عنه:
جمال الوجه قد لاحــا وداعى
الوصل قد صاحا
وشمس الذات قد ظهرت وفضلاً
ناول الراحــا
ويقول قائلهم:(لو غبت عنه طرفة عين لاحترقت من
ألم البعد والبين).
ويقول
الإمام أبو العزائم في دعائه رضي الله عنه: (اللهم ارزقنا قرباً يمحق
ما بيننا وبينك من البين حتى تقع العين على العين).
والقرب إنما يكون بالمعاني والحقائق، لا
بالمباني والأركان، فمن كان قربه بالقلب لا يبعد أبداً، ولا يملك، ولا يستطيع أحد
أن يبعده عن القلب لأن القلب لا يقدر مخلوق أن يتحكم فيه أو يتسلط عليه، فقد يحب
الإنسان شيئا ما، بعيداً عنه، والحس لا يقوى على الوصول إليه أو رؤيته، ولكن هذا
الشيء المحبوب قريب من القلب، بل وفي سويداء القلب.
وخذ هذا المثال توضيحا للبيان إنسان جالس
بجوارك، ليس له مكان في قلبك، ولا تحبه، وإنسان في آخر الدنيا، بعيد عنك جداً في
المكان، تحبه وتعلق به قلبك، قل لي بربك من القريب إليك منهما؟ ومن البعيد عنك؟.
إن القريب منك قطعاً، هو الإنسان المحبوب الذي انشغل به القلب، واستحضر صورته ومعناه
في النفس، ولو كان بعيد الدار والنسب، وإن البعيد عنك هو الذي يجلس بجوارك وليس في
نفسك اهتمام به ولا ود له. قال تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا
لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾. [43،
العنكبوب].
ومن كان قربه بالجسم، فبعده يكون بمجرد مفارقتك
له، بل هو بعيد في الحقيقة وإن كان يجلس بجوارك، تحدثه ويحدثك. ويقول الإمام أبو
العزائم رضي الله عنه:
خوف
بعدى في القرب نار جحيمي شيب الرأس سره
أعياني
وهذه أمور عجيبة، وشئون غريبة، لا ينكشف الغطاء
عنها إلا لأهلها فكن لبيباً المعياً من أهل الذكرى. ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى
تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾. [55، الذاريات].
قال
الإمام أبو العزائم رضي الله عنه:
فالقرب منه جنتي ومحاسني والبعد
عنه ناره ولهيبهــا
يا لائمين محمداً رفقاً بـه
فهو الذي ذاق الجحيم وحرها
وهذا نسيم من معاني القرب، أوردناه على سمعك،
لعله يجد إلى ذوقك طريقاً يسلكه، وبابا يدخل منه إليك، وإن رذاذ هذه الحقائق إذا
أصاب قلبك، وجدت الروح والريحان، والرضي والرضوان والمسرة والإحسان. كم من قريب
إلى الله سبحانه يتمنى الملأ الأعلى أن يحظى بلحظة واحدة من نعيم القرب الذي يتهنى
فيه، لأن المقام فوق الأرواح العالية، بل فوق عمار الملأ الأعلى، والفضل بيد الله
يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
ما سر سجود الملائكة لآدم ؟ وما سر تعليم آدم
عليه السلام للملائكة ؟ ما سر خلافة آدم في الأرض عن الرب عزَّ وجلَّ؟ ما سر ترشيح الملائكة أنفسهم
لهذا المركز وتقديم أنفسهم وتزكيتها بين يدي الله؟ ما سر اتهامهم لآدم عليه السلام بالإفساد في الأرض وسفك الدماء؟
قبل أن يروا آدم ويعرفوه؟ ما سر رد الله عليهم بقوله جل شأنه: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ
تَعْلَمُونَ﴾.[30، البقرة].
كلها أمور وأسرار، تنكشف للمقربين، وتبين مرتبة
الإنسان بين العوالم العالية، ومكانته في الوجود.
يا إنسان فيك جمال الله، فيك كمال الله، فيك
علم الله، فيك سر الله، فيك نور الله، فيك صفات الله، فيك معاني أسماء الله، فيك
الملك والملكوت، فيك ما ورائهما من حقائق تسكر الأرواح العالية. فلم تملك الملائكة
إلا أن تسجد لك يا إنسان، خضوعاً وتسليماً، وحفظاً لرتبتك ومقامك الكريم، وطاعة
لأمر الله عزَّ وجلَّ،
وذلك بعد انبلاج ما فيك من أسرار باريك للملائكة. وإبليس لما عمى عن شهود تلك
الأنوار، ضل وغوى، واستكبر وكفر، فطرد من رحمة الله وكان فيها، وحقت عليه اللعنة
والغضب، والشقاوة والنكد، وهى ألوان من عذاب الله، أشد وأقوى من عذاب النار أو
الزمهرير.
ولقد كوشف أهل القرب بهذه المعاني، فدامت لهم
الأفراح، ودارت عليهم الأقداح، سر قول الله عزَّ
وجلَّ: ﴿لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ﴾. [64، يونس].
والمعاني التي انكشفت لهم في أنفسهم وفي السموات والأرض، إنما هي
معاني أسماء الله وصفاته، وأسرار الله وأنواره، وآيات الله الكبرى وبيناته، فإذا
نظرت أعينهم إلى شيء ما، رأت بصائرهم وعين سرائرهم، ما في هذا الشيء من معاني
الخالق الباريء المصور، والمبدع والصانع والمكون، ورأوا في هذا الشيء حكمة إيجاده،
وسر إمداده، وكيفية خلقه، وحقيقة تسخيره وتذليله للإنسان ورأوا قيام هذا الشيء
بالله، وإيجاده من الله، ونهايته إلى الله، وأن هذا الشيء لا وجود له من نفسه، ولا
بقاء له في نفسه،ولا حياة له من نفسه.
تحققوا بعد معرفة الأشياء أن الله هو الحق اليقين، وأن كل شيء هالك
وفان إلا الله، وشهدوا في أنفسهم بدايتها ونهايتها، وقيامها بالحي القيوم الذي لا
تأخذه سنة ولا نوم، وأنهم عبيد مقهورون، وعباد مربوبون لا يملكون لأنفسهم ولا
لغيرهم شيئا من الدنيا والآخرة، إلا إذا تفضل المتفضل عليهم فوهبهم شيئاً من فضله
وإحسانه، وبره وعطائه، فيأخذونه شاكرين، ويتناولونه من الله سبحانه
وتعالى ذاكرين
حامدين لله سبحانه وتعالى على نعمه وفضله عليهم، قائمين بحق العبودية لله عزَّ وجلَّ، لا يشغلهم عن ذلك شيء، لأن
العبد لا شغل له إلا بسيده والقيام بطاعته، سر قوله جل شأنه: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ
وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾. [56، الذاريات].
وقوله عزَّ وجلَّ:
﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا
لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ
وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾. [5، البينة].
فضيلة العارف بالله الشيخ محمد على سلامة
مدير اوقاف بور سعيد سابقا