عدد المشاهدات:
- مقام الرضا
الرضا هو سرور النفس، وانشراح الصدر، وبهجة الروح، ونشوة الجسم، والإحساس بالسعادة من كل جانب .
وهذه الأحوال هى حقيقة الرضا عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم فى أحكام الشريعة الإسلامية التى فرضها الله علينا وبينها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فالرضا بها يجعل المؤمن أسعد الناس حالاً بالقيام بأدائها مهما كلفه ذلك من جهاد ومشقات !!، بل لا يشعر بمشقة .. أو عناء.. ، لأنها فى سبيل رضاء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فهى لذة !! .. ومسرة !! .. يشعر بها ويعيش فيها أثناء قيامه بعظائم الأمور وفادح المجاهدات.
أما الرضا بقضاء الله وقدره، فهو استقبال القضاء والقدر، ولو كان مراً ومزعجاً بحالة من الارتياح والاطمئنان والسكون، بحيث يحس العبد أنه يتقلب بين أصابع الرحمن، وأن الله لم يرد به إلا خيراً فى عاجله وآجله، وإن كان ظاهر الأمر شديداً مؤلماً.
ذلك الرضا نتج من شهود العبد حقيقة الأمر: وهو أن أحدا غير الله لا يملك لنفسه ولا لغيره شيئاً إلا بإذن الله وأمره وأن كل شئ من الله خلقاً وأمراً، وقضاءاً وقدراً، فلا راد لحكمه، ولا معقب لقضائه.
و الرضا بهذه المعانى رفيقاً .. وصاحباً .. وصديقاً .. وأخاً حميماً ..، لا ينفك عنه، ولا ينفصل منه طول حياته ، وقد قال احد الصالحين: شميم الرضا يدعو إلى جذبة الأنسى - وحسن اعتقادى ماحق مقتضى لبسى
وإنما يكون الرضا من الله سبحانه وتعالى، والرضوان لمن رضى عن الله عزوجل وعن رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأهل مقامات الرضا فى أنس دائم بربهم سبحانه وتعالى وبحبيبهم صلى الله عليه وسلم، وقد قال رضى الله عنه
عَلَىًّ الرضا عنه لكل مقدر وسخطى على نفسى فَخًلِّ ملامى
- مقام الْرَّغْبَةُ
أما معاملة الإمام للناس، ومعايشته لهم ..فهو يتجمل لهم بالرغبة والطمع، والرجاء والأمل فى وجه الله الكريم. الغفور الرحمن الرحيم، حتى يأتنس به رفاقه وينتفع به أخوانه، فلا يطغى حال ظاهره على باطنه، ولا حال باطنه على ظاهره.
والرغبة فى الله جل جلاله هى التحقق بوسعة رحمة الله.
وهى شهود أنوار أسماء الجمال الإلهى، ومعانى صفات الوداد الربانى .. حتى تقوى عوامل الرغبة فى الله سبحانه لمواجهته له بتنزلات الحنان المنان، والرحيم الرحمن، الشفوق العطوف الكريم الوهاب الرؤوف.
والرغبة فى الله تدعو السالك إلى الفرح والبسط، والسرور والأنس، وتدعوه أيضاً إلى دوام المسارعة لمرضاة الله عزوجل ، لأن السالك فى هذا المقام يؤثر حب الله ورضاه على كل شئ والله واسع عليم.
والرغبة :هى الجناح الثانى للعبد الفانى، المقبل على الله بكليته، فهى تجعل السالك فى طريق الله لا يقطع الحبل الذى بينه وبين الله بسبب ارتكابه الكبائر والمخالفات، بل ينظر إلى معانى أسماء التواب .. الغفار .. فيسارع بالندم .. والتوبة .. والإنابة .. والرجوع إلى الله سبحانه، لأن اليأس لا يعرف طريقاً إلى نفسه، والقنوط من رحمة الله لم يتسرب منه شئ إلى قلبه.
غاية ما فى الأمر أنه يشعر بمخالفته، ويعرف رعونات نفسه، ودسائسها الخفية، وطبيعتها الأمارة بالسوء ..!!
فيوقد نار الجهاد على هذه القوى الشريرة، حتى ينمحق ما فيها من شرور وأرجاس، وأنجاس وقاذورات تمنعه من العودة إلى الله والرجوع إليه سبحانه، والاعتذار إلى جنابه العلى.
كل هذا يظهر من مقامات الرغبة التى تدفع الإنسان إلى الله فى كل طور من أطواره، لأن الذى يرغب فى عفو الله وكرمه لا يمنعه منه شئ، ولا يقطعه عنه أى ذنب مهما كان كبيراً ....
لأن عفو الله وكرم الله أكبر من كل شئ .
قال البوصيرى رضى الله عنه :يا نفسى لا تقنطى من زلة عظمت إن الكبائر فى الغفران كاللمم
وقال الله تعالى :قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [ [1][1]- آية (53) سورة الزمر
- مقام الْرَّهْبَةُ
إذا كان الذل والمسكنة هو حقيقة جماله الذى يتحلى به رضى الله عنه ...فالرهبة: هى الخشية من الله بعد استحضار عظمة الله سبحانه وتعالى بالقلب، حتى يؤثر هذا الحال على مشاعره وجوانحه، فقد يذوب القلب من شديد هذه المواجهات وعظيم تلك المنازلات.
والرهبة لها نتيجة حتمية فى سلوك العبد؛ وهى مسارعته فى محاب الله ومراضيه، وفراره من مغاضب الله ومعاصيه، خشية ورهبة من الله سبحانه، لا خوفا من العذاب والمصائب فى الدنيا ولا من نار الجحيم فى الآخرة !!
لأن الرهبة الحقيقية تعظيم الله فى القلب تعظيماً يجعل الله سبحانه وتعالى عنده أكبر من كل شئ، وأعظم من كل شئ، وأحق بالخوف من مقامه وبالرهبة من جلاله.
وقد وصف الله رسله وأنبياءه فى القرآن الكريم بقوله جل شأنه: َاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ[ [1]
والرهبة:هى أحد جناحى المؤمن التى يحلق بها فى سماء اليقين والإيمان والإحسان، بل فى ملكوت الله الأعلى قرباً من الله جل جلاله وكشفاً لمعانى وحقائق هذا الملكوت.
والرهبة: هى استحياء العبد من الله تعالى، والوقوف بالأدب مع العجز عن القيام له جل شأنه بفرائض الشكر، وواجبات الحمد والثناء على حضرته كما ينبغى، وكما أمر سبحانه.
والرهبة هى العجز عن تقدير مقام الله حق قدره !!! فيضمحل العبد ويتضاءل ويصغر فى عين نفسه ...!!!حتى لا يرى لنفسه عملاً .. ولا علماً .. ولا حالاً .. ولا جاهاً.. يقدمه بين يدى الله عزوجل !!!بل يستغفر الله ويتوب إليه من شهود أعماله وعلومه، وجهاده وأحواله، وعباداته وقرباته، وما إلى ذلك مما يتعلق به من شئون وأمور: لأنه يعتقد أن الله سبحانه وتعالى علىٌ عظيم ..، وغنيٌ كبير .. لا تنفعه أعماله الصالحة، ولا تضره أحواله السيئة ...وإنما يعتقد أن ما قام به من أعمال .. وعلوم .. وجهاد.. وطاعات .. وصالحات.. إنما هو بفضل الله وتوفيقه وهدايته!!وأن العبد الذى منَّ الله عليه بذلك مظهر أظهر الله على يديه جميل هذه الأعمال وكريم هذه الأحوال.
[1]- آية (90) سورة الأنبياء
- مقام الصبر
هو ضبط النفس عن التسرع والعجلة، وعن الاندفاع إلى المفاسد والمهالك. وهو صفة يتحلى بها المؤمن بعد نظره فى عواقب الأمور التى فيها مشقة ومرارة على النفس، ولا تلائم الحس والطبع، ولذلك يجاهد الإنسان نفسه فى التصبر عليها، فمن هذه الأمور :
- الصبر على طاعة الله. - ومنها الصبر عن معصية الله. - ومنها الصبر فى مجاهدة النفس لترضى وتحتسب ذلك عند الله. - ومنها الثبات ورباطة الجأش عند لقاء أعداء الله ورسوله. - ومنها الصبر على معاشرة الإخوان والرفاق ومعاشرة الأهل والأولاد. - ومنها الصبر على طلب العلم والمعرفة. - ومنها الصبر على صحبة العلماء العاملين وتحمل الشدائد الفادحة فى سبيل الله ورسوله وإقامة دعائم الدين.. - ومنها الصبر على غلظة الناس وجفوتهم وعدم اكتراثهم بالإنسان إذا دعاهم إلى فضيلة أو مكرمة من مكارم الأخلاق أو ذكرهم بالله ورسوله.
- ومنها الصبر على تصاريف الأقدار من المرض والفقر ونقص الحاجات وفقدان الأهل والأحباب، وغير ذلك من أنواع البلاء التى يصاب بها الإنسان فى هذه الحياة.
والصبر نصف الإيمان كما قال . ، وهو يعالج أمراضاً كثيرة فى الإنسان !! لا شفاء منها إلا بالصبر، وقد قال الله تعالى :
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ( وهذا مشهد دونه تدق هِمَمُ أعناق الفحول من الرجال الذين لا يستطيعون الصبر مع الله ورسوله .
والصبر مع الله ورسوله:
يجعل العبد كالطفل الرضيع مع والديه الشفيقين الرحيمين، فلا يعرف الطفل ما يضره ولا ما ينفعه، ولا ما يسعده أو يتعبه، ولكنه سلم لوالديه تسليماً لا تشوبه أدنى شائبة لكمال يقينه بأن والديه هم أولى به من نفسه وخاصة فى هذه المرحلة من العمر.وإذا أُكْرِمَ العبد بشميم رائحة هذا المشهد صبر نفسه مع الله وسلم شأنه لله، وفوض أمره لله وأحس بمعية الله له.
ومعية الله للصابرين هى تلطيف أحوالهم، وتخفيف بلوائهم، وعطفه عليهم ورحمته بهم ومعونتهم وإمدادهم بما يحتاجون إليه طول عمرهم. ومعية الله للصابرين، إيثارهم على غيرهم من عباد الله، والصلاة عليهم منه سبحانه وتعالى.
وهذا مقام يجل عن الوصف، ويعظم عن الدرس، وإنما هى مواجهات ومنازلات من الله سبحانه بمعانى بره ورحمته، وعطفه ومودته للصابرين. جعلنا الله منهم ورزقنا الصبر الجميل، إنه مجيب الدعاء.
والأنس فى الصبر؛ هو الفرح بقضاء الله وقدره ... لشهود العبد أن الله هو الضار، وأن الله هو المبتلى، وليقينه بأن الله ابتلاه ليرفع قدره، وليكفر عنه سيئاته، ويعظم أجره وثوابه.
فالأنس فى الصبر إنما يكون لرعاية هذه المشاهد العالية، حتى أن العبد فى هذا المقام ليتلذذ بالابتلاء أعظم من تلذذ أهل النعم باللذات والشهوات!!
وقد كانوا يشهدون النعمة فى نزول النقمة، .. والعطية فى البلية، .. ويزنون الأمور بموازين الله ورسوله .. لا بموازين الناس.
والأنس فى الصبر هو سكون النفس وارتياحها، واطمئنان القلب وسروره بالله ، الذى اختبره وابتلاه، لكمال يقينه أن الله لم يرد به إلا الخير العاجل والآجل، سر قوله سبحانه :
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
- مقام التسليم
هو عدم المنازعة والمعارضة والمجادلة والمخاصمة والمراء.وهو الانقياد إلى الله وإلى رسوله وإلى أئمة الهدى الذين أقامهم الله منارات للناس فى الدنيا والآخرة، انقيادا يجعل الإنسان يؤمن بأنهم أعلم الناس بدين الله، وأخشى الناس لله، وأحرص الناس على منفعة خلق الله، وأرحم الناس بعباد الله. فقد قال تعالى فى محكم التنزيل :وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [ [1]
وقال تعالى :وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً[ [2]
أى ومن يتبع طريقاً مخالفاً لطريق المؤمنين نوكله ونتركه إلى قصده المخالف وإلى نفسه وشيطانه ونتخلى عنه وله فى الآخرة عذاب أليم فى نار جهنم، وقال صلى الله عليه وسلم :{ اتَّبِعُوا الْعُلَمَاءَ فَإنَّهُمْ سُرُجُ الدُّنْيَا وَمَصَابِيحُ الآخِرَةِ }[3]
وقال تعالى :وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ [ [4]
والمذهب هو ما يذهب إليه الإنسان، ويراه ويعتقد أنه الحق والصواب فيعمل به ويلتزم بتعاليمه بكل الرضا والارتياح، واثقاً كل الثقة أنه يعيش فى معية الله ورسوله ومعية الصديقين والشهداء والصالحين والمقربين. لأن التسليم منهج السلف الصالح رضى الله عنهم.
هذه الحقيقة يجب ان تكون أمام أعين الناس عامة، والسالكين خاصة ليعلم الجميع أن المنازعة والمجادلة والخصومة، إنما هى قواطع تقطع العبد عن رحمة الله ورضوانه، وتعزله عن جماعة المسلمين.
قال صلى الله عليه وسلم : :{ أنَا زَعِيمُ بَيْتِ فِى رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْجِدَالَ وَإِنْ كَانَ مُحِقَّاً } [5]
وقال الله تعالى :وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ[ [6] وفى التسليم السلامة للجميع من كل ما يهدم المجتمعات ويقـوض أركانها .
وقال الله تعالى :وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ[ [7]
وإن دين الله قوى ومتين، ولن يتشدد أحدٌ فيه إلا وجد الدين أشد وأقوى منه، وإنما يجب على المسلم أن يتوسط ويعتدل فى أخذه بأحكام هذا الدين، وفى الأثر { التَّوَسُطُ فِى كُلِّ شَئٍ حَسَنٌ وَ فِى الْعِبَادَةِ أَحْسَن }
وأن الله أهلك الأمم قبلنا بسبب تشددهم وتعنتهم فى الدين، و قال صلى الله عليه وسلم : :{ إِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَانْتَهُوا عَنْهُ، وَإِذَا أمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ، فَأتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ }[8]
وقالت السيدة عائشة رضى الله عنها :{ ما خُيِّرَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بينَ أمرين إلا أخذَ أيسَرَهما ما لم يكن إِثماً ، فإِن كان إِثماً كان أبعدَ الناسِ منه }[9]
وقال صلى الله عليه وسلم : :{ يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلاَ تُنَفِّرُوا }[10] وفى رواية أخرى متفق عليها:{ وَسَكِّنُوا وَلاَ تُنَفِّرُوا }وقال صلى الله عليه وسلم :{ إنَّ هذَا الدينَ مَتِيْنٌ فأوْغِلْ فيه بِرِفْقٍ، ولا تُبَغِّضْ إلى نَفْسِكَ عبادَةَ رَبِّكَ، فإنَّ المُنْبَتَّ لا سفراً قَطَعَ ولا ظَهْراً أَبْقَى، فاعْمَلْ عَمَلَ امرىءٍ يَظُنُّ أنْ لَنْ يَمُوْتَ أبداً، واحْذَرْ حَذَراً تَخْشَى أَنْ تَمُوْتَ غَداً
- مقام التَّوَاضُعُ
وهو خُلق من أخلاق أولى العزم من النبيين.ومعنى التواضع أن يخفض الإنسان جناحه، ويوطئ الإنسان كنفه، ويبسط الإنسان وجهه لإخوانه المؤمنين، وأن يرى نفسه أنه أقل واحد فيهم، وأنه يجب عليه أن يكون فى خدمتهم ما استطاع إلى ذلك سبيلا، فيعاملهم بالرأفة .. والرحمة .. والشفقة .. والحلم .. والعفو .. والصفح .. والإحسان.
والتواضع شرف رفيع، ووسام كريم على رؤوس المتواضعين يجعل القلوب تهفو إليهم، والأجساد تحن إليهم، والنفوس تشتاق عليهم.وقد قال أبو العزائم رضى الله عنه: { عاشروا الناس معاشرة إن عشتم حنوا إليكم وإن متم بكوا عليكم }وهى المعاشرة الهينة اللينة، المتواضعة الرفيقة بمن يعاشرهم الإنسان.وقال صلى الله عليه وسلم :{ مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ اللَّهُ، فَهُوَ فِي نَفْسِهِ ضَعِيفٌ وَفِي أَنْفُسِ النَّاسِ عَظِيمٌ، وَمَنْ تَكَبَّرَ وَضَعَهُ اللَّهُ، فَهُوَ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ صَغِيرٌ وَفِي نَفْسِهِ كَبِيرٌ حَتَّى لَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِمْ مِنْ كَلْبٍ أَوْ خِنْزِيرٍ }[1]
والتواضع أحد مصايد الشرف وأساس نوال المكارم والتحف فى الدنيا والآخرة. وسمو الإنسان الرفيع إنما يكون فى تنزله من رفعته إلى من دونه من الناس ليأسو جراحهم، ويعالج مشاكلهم وينظر فى أمورهم.
وقد تنزل الحق تبارك وتعالى من سماء الرفعة الإلهية إلى عباده فخاطبهم وكلمهم، وشافههم وعلمهم ما لم يكونوا يعلمون. وهذا هو غاية الرفعة الإلهية والنزاهة الربانية، والقداسة الرحمانية.
وينبه أبو العزائم رضى الله عنه بهذه الحكمة إلى أن الذين يستأهلون ما عند الله من فضل ورحمة، وكرم ومنه. إنما هم أهل التواضع، الذين تواضعوا لله ورسوله صلى الله عليه وسلم ولأئمة المسلمين وعامتهم، سر قوله سبحانه :
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [ [2]
وقد ورد فى الحكمة:{ لا شَرَفَ كَالْتَّوَاضِعِ، وإنَّ التَّوَاضُعَ فى الشَّرفِ أشْرَفُ مِنَ الشَّرَف.}[3]
[1]- أَبو نعيم عن ابنِ عُمَرَ رضيَ اللَّهُ عنهُمَا، جامع المسانيد والمراسيل[2]- آية (54) سورة المائدة[3] غرر الخصائص الواضحة وعرر النقائص الفاضحة للكتبى الوطواط، ونهاية الإرب فى فنون الأدب
- مقام التوكل
التوكل على الله و تفويض الأمر إليه سبحانه ، و تعلق القلوب به جل و علا من أعظم الأسباب التي يتحقق بها المطلوب و يندفع بها المكروه ، وتقضى الحاجات ، و كلما تمكنت معاني التوكل من القلوب تحقق المقصود أتم تحقيق ، و هذا هو حال جميع الأنبياء و المرسلين ، ففي قصة نبي الله إبراهيم – عليه السلام – لما قذف في النار روى أنه أتاه جبريل ، يقول : ألك حاجة ؟ قال : "أما لك فلا و أما إلى الله فحسبي الله و نعم الوكيل " فكانت النار برداً و سلاماً عليه ، و من المعلوم أن جبريل كان بمقدوره أن يطفئ النار بطرف جناحه ، و لكن ما تعلق قلب إبراهيم – عليه السلام – بمخلوق في جلب النفع و دفع الضر .
و نفس الكلمة رددها الصحابة الكرام يوم حمراء الأسد – صبيحة يوم أحد – يقول تعالى: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ ) " سورة آل عمران : 173 – 174 " .
و لما توجه نبي الله موسى – عليه السلام – تلقاء مدين ( وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ) " سورة القصص : 23 – 24 " أوقع حاجته بالله فما شقي ولا خاب ، و تذكر كتب التفسير أنه كان ضاوياً ، خاوي البطن ، لم يذق طعاماً منذ ثلاث ليال ، و حاجة الإنسان لا تقتصر على الطعام فحسب ، فلما أظهر فقره لله ، و لجأ إليه سبحانه بالدعاء ، و علق قلبه به جل في علاه ما تخلفت الإجابة ، يقول تعالى: ( فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ ) " سورة القصص : 25 " وكان هذا الزواج المبارك من ابنة شعيب ، و نفس الأمر يتكرر من نبي الله موسى ، فالتوكل سمة بارزة في حياة الأنبياء – عليهم السلام – لما سار نبي الله موسى و من آمن معه حذو البحر ، أتبعهم فرعون و جنوده بغياً و عدواً ، فكان البحر أمامهم و فرعون خلفهم ، أي إنها هلكة محققة ، و لذلك قالت بنو إسرائيل: إنا لمدركون ، قال نبى الله موسى : (كلا إن معي ربى سيهدين) قال العلماء : ما كاد يفرغ منها إلا و أُمر أن أضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم ، فكان في ذلك نجاة موسى و من آمن معه ، و هلكة فرعون و جنوده ، و لذلك قيل : فوض الأمر إلينا نحن أولى بك منك ، إنها كلمة الواثق المطمئن بوعد الله ، الذي يعلم كفاية الله لخلقه: ( أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ ) " سورة الزمر : 36 "
التوكل والتواكل:
قد تنخرق الأسباب للمتوكلين على الله ، فالنار صارت برداً و سلاماً على إبراهيم ، و البحر الذي هو مكمن الخوف صار سبب نجاة موسى و من آمن معه ، ولكن لا يصح ترك الأخذ بالأسباب بزعم التوكل كما لا ينبغي التعويل على الحول و الطول أو الركون إلى الأسباب ، فخالق الأسباب قادر على تعطليها، و شبيه بما حدث من نبى الله موسى ما كان من رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم الهجرة ، عندما قال أبو بكر – رضي الله عنه - : لو نظر أحد المشركين تحت قدميه لرآنا ، فقال له النبي صلى الله عليه و سلم :" ما بالك باثنين الله ثالثهما ، لا تحزن إن الله معنا "، و هذا الذي عناه سبحانه بقوله: ( إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا ) " سورة التوبة : 40 ".
والأخذ بالأسباب هو هدى سيد المتوكلين على الله – صلوات الله و سلامه عليه - في يوم الهجرة و غيره ، إذ عدم الأخذ بالأسباب قدح في التشريع، و الاعتقاد في الأسباب قدح في التوحيد ، و قد فسر العلماء التوكل فقالوا : ليكن عملك هنا و نظرك في السماء ، و في الحديث عن أنس بن مالك – رضى الله عنه – قال : قال رجل : يا رسول الله أعقلها و أتوكل ، أو أطلقها و أتوكل ؟ قال : "اعقلها و توكل " رواه الترمذي و حسنه الألباني ، وأما عدم السعي فليس من التوكل في شيء، و إنما هو اتكال أو تواكل حذرنا منه رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و التوكل على الله يحرص عليه الكبار و الصغار و الرجال و النساء ، يحكى أن رجلاً دخل مسجد النبي صلى الله عليه و سلم بالمدينة فرأى غلاماً يطيل الصلاة ، فلما فرغ قال له : ابن من أنت؟ فقال الغلام : أنا يتيم الأبوين ، قال له الرجل : أما تتخذني أباً لك ، قال الغلام : و هل إن جعت تطعمني ؟ قال له : نعم ، قال : و هل إن عريت تكسوني؟ قال له : نعم ، قال : و هل إن مرضت تشفيني؟ قال: هذا ليس إلي ، قال : و هل إن مت تحييني ، قال : هذا ليس إلى أحد من الخلق ، قال : فخلني للذي خلقني فهو يهدين و الذي هو يطعمني و يسقين، و إذا مرضت فهو يشفين ،و الذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين ، قال الرجل : آمنت بالله، من توكل على الله كفاه
. و في قصة الرجل الذي كان يعبد صنماً في البحر ، و التي نقلها ابن الجوزي عن عبد الواحد بن زيد دلالة على أن التوكل نعمة من الله يمتن بها على من يشاء من خلقه حتى و إن كان حديث العهد بالتدين ، فهذا الرجل لما جمعوا له مالاً و دفعوه إليه ، قال : سبحان الله دللتموني على طريق لم تسلكوه ، إني كنت أعبد صنماً في البحر فلم يضيعني فكيف بعد ما عرفته ، و كأنه لما أسلم وجهه لله طرح المخلوقين من حساباته ، فغنيهم فقير ، و كلهم ضعيف و كيف يتوكل ميت على ميت : (فتوكل على الحي الذي لا يموت و سبح بحمده).
و في الحديث :" لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً و تروح بطاناً " رواه أحمد و الترمذي و قال: حسن صحيح . و كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه و سلم :" اللهم أسلمت وجهي إليك و فوضت أمري إليك و ألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك ". رواه البخاري و مسلم و كان يقول : "اللهم لك أسلمت و بك آمنت و عليك توكلت و إليك أنبت و بك خاصمت ، اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني ، أنت الحي الذي لا يموت و الجن و الإنس يموتون ". رواه مسلم ، و كان لا يتطير من شئ صلوات الله و سلامه عليه ، و أخذ بيد رجل مجذوم فأدخلها معه في القصعة ثم قال : "كُلْ ثقةً بالله و توكلا عليه " رواه أبو داود و ابن ماجة .
التوكل على الله نصف الدين:
ينبغي للناس كلهم أن يتوكلوا على الله عز و جل مع أخذهم بالأسباب الشرعية ، فالتوكل كما قال ابن القيم: نصف الدين و النصف الثانى الإنابة ، فإن الدين استعانة و عبادة ، فالتوكل هو الاستعانة و الإنابة هي العبادة ، و قال أيضاً : التوكل من أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق و ظلمهم و عدوانهم ، و قال سعيد بن جبير : التوكل على الله جماع الإيمان ، و عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال : كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون و يقولون : نحن المتوكلون ، فإن قدموا مكة سألوا الناس ، فأنزل الله تعالى: )وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ( " سورة البقرة : 197 " وروي أن نبي الله موسى – عليه السلام – كان يقول : اللهم لك الحمد و إليك المشتكى و أنت المستعان ، و بك المستغاث و عليك التكلان ، ولا حول ولا قوة إلا بك . عباد الله إن الله هو الوكيل ، الذي يتوكل عليه ، و تفوض الأمور إليه ليأتي بالخير و يدفع الشر .
من أسماء الرسول :المتوكل
و من أسماء رسول الله صلى الله عليه و سلم " المتوكل " كما في الحديث: " و سميتك المتوكل " .و إنما قيل له ذلك لقناعته باليسير و الصبر على ما كان يكره ، و صدق اعتماد قلبه على الله عز و جل في استجلاب المصالح و دفع المضار من أمور الدنيا و الأخرة و كلة الأمور كلها إليه، و تحقيق الإيمان بأنه لا يعطي ولا يمنع ولا يضر ولا ينفع سواه ، و لكم في نبيكم أسوة حسنة و قدوة طيبة ، فلابد من الثقة بما عند الله و اليأس عما في أيدي الناس ، و أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يد نفسك ، و إلا فمن الذي سأل الله عز وجل فلم يعطه ، و دعاه فلم يجبه و توكل عليه فلم يكفه ، أووثق به فلم ينجه؟ إن العبد لا يؤتى إلا من قبل نفسه ، و بسبب سوء ظنه ، و في الحديث: " أنا عند ظن عبدي بي ، فليظن بي ما شاء "و الجزاء من جنس العمل ، فأحسنوا الظن بربكم و توكلوا عليه تفلحوا ، فإن الله يحب المتوكلين .