عدد المشاهدات:
صِبْغة الله
( 6 )
قوله رضي الله عنه:
(وتتم
الفطرة على ألفة ما ينافره والرغبة فيما يؤلمه)
والفطرة هي سجية الإنسان وطبيعته، والحالة التي
عليها الإنسان والفطرة وقت ولادة الإنسان تكون طاهرة نقية، صافية لا تشوبها أية شائبة،
وقابلة لانطباع أي شيء فيها ـ أي الفطرة ـ في ذلك الوقت، كالمرآة المصقولة الصافية،
تظهر فيها وتنطبع فيها كل صورة ترد عليها، من صور الجمال والكمال، والإيمان
والإسلام، أو صور الهزل والضلال والباطل والكفران، وذلك معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: {كل
مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو
ينصرانه أو يمجسانه}. [1]
ولا تزال هذه الفطرة تنمو وتكبر مع الإنسان،
وتتسع لاستيعاب مشاكل الحياة التي يعيش فيها الإنسان، والبيئة التي يحيا بينها،
حتى يتأثر بما حوله ومن حوله إلى أبعد حدود التأثر، فإذا ما شب وأيفع وبلغ سن
الرشد وترعرع، وطولب بتنفيذ أحكام الله، وطاعة أمره واجتناب نهيه، وتزكية نفسه،
وجد نفسه في صراع رهيب بين فطرته، إن لم تكن مستقيمة ومنشأة على الخير، ومتعودة
على البر، وبين القيام بأحكام الله ووصاياه لأنها لا توافق فطرته، ولا تناسب
طبيعته، وكثيرا ما ينحرف الشباب ويضل في هذه الفترة، لأن البيئة والأسرة والمجتمع
الصغير الذي يعيش فيه لم يعوده الخير، ولم يحببه في البر، وإنما أهمله وتركه
للعادات السيئة والأخلاق الذميمة الفاسدة، تسود صحيفة فطرته، وتظلم الطريق أمامه
إلى أن بلغ سن التكليف، فارتبكت عليه حاله، واكفهر الجو أمامه إن لم يتداركه الله
بلطفه، ويرزقه بإخوان صالحين، ورفقة صادقين، وعالم عامل ينقذه مما هو فيه.
والواصلون رضي
الله عنهم، قد اهتدت فطرتهم، ونمت طبيعتهم وسجيتهم على
حب ما يؤلمهم، والأنس بما تنفر منه نفوسهم، من فادح المجاهدات، وعظيم الرياضات،
فيصير ما استوعره غيرهم سهلا لديهم، وما استوحش منه غيرهم مأنوسا لديهم، وما نفر
منه غيرهم مطلوبا ومحبوبا إليهم، وما زهد فيه غيرهم مرغوبا لديهم. انتقلوا من سجن
العادات إلى جمال العبادات والقربات، وفسيح الرياضات والسياحات، واستقامت فطرتهم
على هذه الأحوال، واستجابت أبدانهم وهياكلهم لتلك المجاهدات، وهم في نشوة الأفراح
وفي غمرة الأنوار، لا يكدر صفوهم حال، ولا ينغص عيشهم مآل. قال الله تعالى: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ
النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّم﴾. [30، الروم].
وقال
تعالى: ﴿صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ
مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ﴾.[ 138 البقرة].
وكمال الفطرة، أن تصير الأبدان هينة لينة لأعمال
القربات، والبر والخيرات بعد القيام بالفرائض والواجبات، وأن تصير القلوب حاضرة أو
مستحضرة لمعاني مقامات الحق جلَّ جلاله
على قدرها، وأن تصير الأفكار والعقول سارحة في آيات الله المنبثة في عجائب المخلوقات، وغرائب المصنوعات،
وأن يصير الحس وما فيه من آلات وأدوات ساعيا لمغفرة من الله ورضوان في لحظة وآن.
ولذلك يخرج الإنسان من عوائده ومألوفاته، ويتوب
من أقواله وأحواله وأفعاله، ويستغفر من علمه ومن مجاهداته وقرباته، مفوضا أمره إلى
الله مسلما شأنه لله، ينسب كل خير أكرم به لله،
وكل عمل صالح قام به لله، وكل علم نافع أوتيه لله سبحانه وتعالى، ويرى في نفسه التقصير والقصور،
والعجز والفتور، والقطيعة والجفاء، فيدوم جهاده، ويقوى جلاده، وهذا الحال هو من
حقيقة الوصول لله سبحانه وتعالى.
قال الإمام أبو العزائم رضي الله عنه:(جهاد
العدو ساعة وجهاد النفس إلى قيام الساعة).
يا فتاح يا عليم، يا وهاب يا كريم، هب لنا ما
ينفعنا ولا ينفعك، واكشف عنا ما يضرنا ولا يضرك، إنك سبحانك بنا رؤوف رحيم، وصلى
الله على سيدنا محمد وعلى الله وصحبه وسلم.
والواصل الذي اتحد مع جميع عناصره وقواه،
وملكاته وحقائقه، وتوحدت كل هذه الحقائق في طلب الله سبحانه، وطلب حبه ورضاه، قد
اعتاد على حب ما يخالف حظه وهواه الفاني، وتعود على الرغبة فيما يؤلمه وألفة ما
ينافره. وفق بين الأضداد وجمع بين الأخلاط المتعادية، وصهر كل هذه الحقائق
المتنافرة في بوتقة الجهاد الأكبر الذي يقهر كل معاند ومخالف، على الذل والانقياد
لله ورسوله صلى الله عليه وسلم،
حتى تصطلح هذه القوى مع النفس الملكية والروح القدسية على موالاة الله ورسوله،
ومعاداة ومجاهدة أعداء الله ورسوله في نفس الإنسان وفي أهله وأخوانه والناس أجمعين.
فكل محبوب لله ورسوله فهو حبيبه وأليفه، ومرغوبه ومطلوبه، وكل مكروه لله ورسوله
فهو عدوه، وإن كانت نفسه التي بين جنبيه أو ولده وزوجه وأقرب الأقربين إليه. وبذلك
تتم فطرته، وتستقيم طبيعته، ويتحقق بوصوله إلى الله ورسوله، والله يمن علينا بوصله
وقربه، إنه مجيب الدعاء، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى الله وصحبه وسلم.
لفضيلة العارف بالله
الشيخ محمد على سلامة
مدير اوقاف بور سعيد سابقا