عدد المشاهدات:
مِلْكِيَّةُ المَالِ فِي الإِسْلامِ
الإسلام يجعل المال عصب الحياة، وربما أشاع البعض أن الدين الإسلامي يدعو إلى السلبية والإنعزالية، والتواكل والتراخي، وأشاع أعداء الإسلام هذا المفهوم بيننا وفي دول الغرب، حتى أصبح سمة في وسائل إعلامهم، فَمُسْلِمٌ يعني: متكاسل وغير منتج ومتراخي. وأحياناً كلمةُ مُسْلِمٍ – عندهم – تعني: متسوِّل!! ويُصَوِّرُون المتسوِّلين عندنا وينشرونهم في صحفهم .. ويقولون: هذا هو الإسلام!!.
بينما الإسلام دينٌ يهتم بالحياة في دقائقها وكل صغائرها، فما من شأن في حياة الإنسان فى كلِّ حياته إلاَّ وقَنَّنَهُ الله عزوجلووضع له الضوابط القرآنية
.
اهْتِمَامُ الإِسْلامِ بِالمَالِ
والدليل على اهتمام الإسلام بالمال واستثماره، أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما هاجر من مكة إلى المدينة، وكان اليهود يسكنون بها، واليهود كما تعلمون قومٌ يقول فيهم الله عزوجل: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ ) (96البقرة)
فَهُمْ أَمْهَرُ من يستثمر الأموال ويقتنصها بأساليب يعرفونها جيدًا، فوجد صلى الله عليه وسلم أن المال في المدينة مركَّزٌ في أيدي اليهود، والتجارة الرئيسية في المدينة تجارة الذهب وتجارة السلاح، ولا يوجد فيها تاجر واحد غير يهودي، بل وجد السوق الذي تجلب له البضائع من خارج المدينة - من اليمن، وفارس، والشام - والبيع فيه لأهل المدينة قائم على اليهود:
- فهم الذين يجلبون البضائع - يعني يستوردونها بلغة العصر- أي يحضرونها إلى المدينة .
- وهم الذين يقومون ببيعها، وكوسيلتهم - التي يسيطرون بها على الشعوب - مَنْ ليس معه الثمن نقداً، يعطونه بالأجل، حتى يتحكمون في مصيره، ويكون تحت سيطرتهم وهيمنتهم.
فأول قرار اتخذه الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة - بعد بناء المسجد - وكان أول قرار صدر من الحضرة المحمدية بناء المسجد .. أما القرار الثاني: فبناء سوق للمسلمين، فأمر أن يكون هناك سوقٌ مخصوصٌ، واستغل في ذلك مهارة المهاجرين -وهم أهل مكة - في التجارة، في البيع والشراء، واستغل هذه الخبرة في صفوف المسلمين، وأمرهم بأن يتاجروا، فكان هذا السوق أول عَمَلٍ عمله صلى الله عليه وسلم ليخلِّص المدينة من سيطرة اليهود، ثم يخلصها نهائيًا من اليهود.
بدأ معهم بالتدرج، فاستولوا على التجارة، وأصبح المؤمنون يتاجرون ويذهبون إلى بلاد الشام، وإلى بلاد اليمن، وإلى بلاد فارس، ويحضرون البضائع ويبيعونها بالأسس والتشريعات والقوانين الإسلامية، مما أدَّى إلى كساد الحياة التجارية عند اليهود، لأن القوانين والتشريعات الإسلامية في البيع والشراء تسهل للإنسان، ولا تضع غِلَّ الرِّبَا في عنقه، وتجعل المرء دائماً وأبداً يرتاح لهذا التعامل الطيب.
من هذا جعل نبيُّنا صلى الله عليه وسلم المال عَصَبَ الحياة، وجعل له في الإسلام نظريةً اقتصاديةً إسلامية، كاملة الملامح، كلها من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالقوانين الأصلية في القرآن، والشروح والحواشي والمذكرة التفسيرية في سنَّةِ النبي العدنان صلى الله عليه وسلم، والتفصيل على حسب كل زمان من العلماء المجتهدين الفقهاء في الإسلام
.
التَّجْرُبَةُ الاقْتِصَادِيَّةُ الإِسْلامِيَّةُ
قد يقول البعض: لَمْ نَرَ، ولَمْ نَسْمَعْ عن التجربة الاقتصادية الإسلامية -فى غير مجتمع المدينة الأول- وعن مدى نجاحها، حتى نطبقها في حياتنا! أقول: لن أعطي أمثلة متعددة حتى يطول المقال، ولكن أعطي مثالاً واحداً:
أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز تولى الحكم لمدة سنتين وستة أشهر - يعني لم يكمل خطة خمسية كما نقول اليوم - ونفَّذ القوانين والتعاليم والتشريعات الإسلامية، ماذا كانت النتيجة:
فاض المال!! ...
حتى أن وزير المالية - وكان يسمى في عصره خازن بيت المال - شكى له من ضيق بيت المال من كثرة ما فيه من سيولة، ومن كثرة الأموال، فأحضر المخططين والمشرِّعين وسألهم: ماذا نصنع بهذا المال؟ ففكروا في المشاكل التي يعاني منها المجتمع، ليحلوها مشكلةً تلو المشكلة.
أول مشكلة واجهتهم مشكلة الأمِّيَّة .. إن أغلب طبقات الشعب لا تستطيع القراءة والكتابة، وهي القضية التي نريد أن ننتهي منها الآن في القرن العشرين - ولم ننجح بعد - وقد انتهى منها في سنة واحدة!! حيث عيَّن كُتاباً في كل دور العبادة، وأعطاهم الألواح - وكانت الكتابة على الألواح - والمواد التي يكتبون بها، وجعل أجرهم وطلباتهم كلها من بيت المال، ولذلك أحصى رجال التاريخ، أن العصر الوحيد الذي قُضِيَ فيه على أمِّيَّة النساء والرجال، هو عصر الخليفة عمر بن عبد العزيز.
وبعد أن انتهى من مشكلة الأميَّة، وجد فائضاً وسيولة في بيت المال، ماذا يصنع بها؟
أَصْلَحَ الطرق ومهَّدها، وجعل على كل مرحلة من الطريق بيتاً - سماه بيتُ الضِّيافة - لأن السفر كان برًّا، وعلى ظهور الجمال أو الخيل أو ما شابه ذلك، فكان يستغرق وقتاً طويلاً بين البلدان المتنوعة، فجعل على كل مرحلة من الطريق - قدَّرها العلماء بما يوازي خمسين كيلو متراً في عصرنا، لأنهم كانوا يستخدمون الميل، والميل تقريبا اثنين كيلو إلا ربع - بيتاً للضيافة، جهَّزه وجعل فيه أماكن للنوم، ومطبخاً يُطهى فيه الطعام، وطاهياً يطهي الطعام، والنفقة كلها على بيت مال المسلمين!!.
فإذا تعب المسافر يدخل إلى بيت الضيافة، فيجد الطعام مجاناً، ويجد مكان الراحة جاهزاً، ومن العجب أنه جعل هناك علفاً للدواب!! فيجد العلف جاهزاً أيضاً على نفقة بيت مال المسلمين.
وبعد ذلك وجد فائضاً وسيولة في بيت المال، ماذا يصنع؟
أمر ولاته وحكام الأقاليم أن يزوِّجُوا شباب المسلمين على نفقة بيت المال، فالشَّابُ ما عليه إلاَّ أن يختار الفتاة التي تروقه، ثم يبدي رغبته للوالي أنه يريد الزواج من فلانة، ويقوم بيت المال بتجهيز بيت الزوجية - بحسب ما يحتاج إليه في عصره - ولا يدفع الشَّابُ - آجلاً أو عاجلاً - شيئاً في ذلك!! فاستطاع في هذا الزمن القصير أن يَحِلَّ كل مشاكل الدولة، لأنه اتبع النظرية الإسلامية السليمة في كل عصر
.
النَّظَرِيَّةُ المَالِيَّةُ الإِسْلامِيَّةُ
هذه النظرية الإسلامية تقوم على عِدَّةِ أُسُسٍ قرآنية، تنقسم إلى شقين: اكتساب المال وإنفاقه، فالإسلام أباح اكتساب المال، ولكنه رشَّده، وأباح استثمار المال في أي مجال على أن يطابق شرع الله عزوجل، والنصوص التي تتكلم عن هذا الأمر كثيرة وكثيرة أولها قول الله ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ) (267البقرة).
إذاً لا بد أن يكون الكسب من طريق طيِّب، والطرق الطيِّبة للكسب التي بينها الإسلام - وأسوقها على عجالة سريعة
.
طُرُقُ الكَسْبِ فِي الإِسْلام
1- العَمَلُ
فالإسلام دين العمل، ووضع الإسلام ضابطاً لا يصلح العمل في أي زمان أو مكان بغيره، وهو قوله عزَّ شأنه:( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾. (105التوبة).
إذا وجدت هذه الرقابة - الذاتيَّة الداخلية - صلحت جميع
الأعمال، وإذا فقدت هذه الرقابة - الذاتية الإيمانية - لا نستطيع أن ننجح في أي عمل مهما شرَّعنا من تشريعات، ومهما برعنا في التوصيات والتوجيهات، ومهما شدَّدنا في أجهزة الرقابة على مختلف الجهات.
إن لم يكن الرقيب على المرء إيمانُه وربُّه عزوجل، فإنه يستطيع أن يتحايل على كلِّ أمر، وأنتم ترون جميعا أن الدولة تشرع ولكن عندنا خبراء متخصصين في تفصيل القوانين على حسب ما يريدون، إذاً لا يضبط العمل إلا الرقابة الداخلية لله عزوجل، بأن يكون العمل لله.
هذا الكسب راعى فيه الإسلام عدَّة أمور:
أولا: جعل المالَ والخيرات كلَّها مِلْكاً لله: (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ) (7الحديد)، فهذا أمر طبيعي أن الإنسان يموت ويترك المال، ومعنى أن المال لله: أي أن هذا المال وسيلة وليست غاية، وهذا أساس من أسس النظرية الإسلامية، فالمال وسيلة لحصول المرء على ما يريده في الدنيا، ولاكتساب السعادة التي يرجوها في الدار الآخرة، فإذا كان المال وسيلة - وليس غاية كما يفعل الآخرون - فإن هذا يجعل المؤمن يراقب في جمعه وفي إنفاقه شرع الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
والإسلام كذلك جعل المجتمع وحدةً واحدة، وكل فرد في الجماعة يسعى لراحتها ومنفعتها وإصلاحها، فبدَّد مبدأ الأنانية، ومبدأ الأثرة، ومبدأ الشح والبخل، لأنه جعل المجتمع كله وحدةً واحدة.
ومن هنا كان الذي يجمع المال، أو يقوم بالكسب، لا بد أن يراعي المجتمع، فلا يكسب شيئاً يتنافى عمله مع تقاليد المجتمع، ولا يستثمر ماله في شئ يتحقق أن فيه ضرُّ للمجتمع، وأن يسعى لخير هذا المجتمع، فيراعي أن يكون استثماره مطابقاً لعادات وأعراف وتقاليد وشرع المجتمع الذي يعيش فيه، حتى يكون إنساناً نافعاً لنفسه ووطنه ومجتمعه وبني جنسه.
أوجب الإسلام بعد ذلك على المؤمن الذي يكسب المال أموراً إسلامية في تحصيله، وأموراً إسلامية في استثماره، لكي يحصّل المال بيَّن له السُّبُلَ، فالعمل أولها، ثم بعد ذلك عليه استثمار المال في الجهات التي سنحددها فيما بعد.
2 - المِيرَاثُ
الطريقة الثانية لكسب المال من طريق حلال الميراث:
فالمال الذي يأتي عن طريق الميراث مالٌ أحلَّه الله، على أن يكون الميراث مطابقاً لكتاب الله وشرع الله.
وفى الحقيقة إنَّ نظام الميراث الإسلامي خيرُ ضامن يحفظ التوازن المالي الاجتماعي، فالقانون الإنجليزي مثلاً يجعل التركة كلَّها للإبن الأكبر - حتى لا تتفتت الثروة - فيظلُّ الغنيُّ غنيًّا والفقير فقيراً، لكن النظام الإسلامي يجعل الكُلَّ يشترك في هذا الميراث، فيجعل المال دائماً في حالة توازن بين طبقات المجتمع، صحيح أنه يحصله بغير حدٍّ أقصى، لكنه لا يستطيع أن يوزعِّه - حتى صاحبه - إلا في حدود.
وكلُّ ما يثار عن أن نظام المواريث فى الإسلام هضم المرأة حقها كلامُّ لايثبت له حجة، والحقيقة أن كثيراً من المجتمعات المالية الغير إسلامية فى العالم درسوا نظام الإسلام للتوريث وحاولوا الإقتراب منه كثيرا فى تطبيقه، ولم يمنعهم من الإقتداء به إلا قوة الساسة وموقف رجال الدين من عداء الإسلام.
3 - الوَصِيَّةُ
والوصية هي الطريقة الثالثة لكسب المال في الإسلام: إنَّ الإسلام قد أعطى صاحب المال الحقَّ في أن يُوصي بجزءٍ من ماله، ولكن بشروط حفظاً للحقوق: الشرط الأول ألا يزيد فى وصيته عن الثلث، والشرط الثاني: أن تكون الوصية بنِيَّةِ فيها خير؛ فإذا كانت الوصية يقصد بها الضرر بالورثة، وعدم حصولهم على حقوقهم، يجعلها الإسلام وصيةً جائرة، لا تنفَّذ.
فالوصية هي الأمر الثالث الذي كسبه حلال في الإسلام.
4 - الهِبَةُ
الأمر الرابع: الهبة: والهبة هي ما نسميه التبرُّع، أن يتبرع المرء بشئ مما يملكه لإنسان، رغبة في نفعه، أو رغبة في رضاء ربِّه، أو لأي نيَّة صالحة.
فهذه باختصار هي الطرق التي جعلها الإسلام لكسب المال:
العمل، الميراث، الوصية، والهبة.
مَجَالاتُ العَمَلِ المُبَاحِ فِي الإِسْلامِ
وبعد أن أجملنا تلك الطرق؛ نعود إلى الطريقة الأولى لكسب المال وهى العمل- وهو الذي يحتاج إلى تفصيل - والعمل والذى هو فى الحقيقة منوط بكلِّ واحد منا أن يقوم به على الوجه الأكمل، والذى إليه تطوير المجتمعات ونهضتها وإثرائها.
فالعمل الذي أباحه الإسلام هو العمل في المجالات المتعارف عليها، وأن يكون هذا العمل كإستثمار بطرق:
- إما أن يقوم به الفرد بنفسه.
- وإما أن يوكِّل فيه غيره.
- وإما أن يشترك فيه بنفسه مع غيره.
فالعمل الذي يقوم به الإنسان في نفسه أو بغيره أو يشترك معهم كالزراعة، الصناعة، التجارة وهذه الأمور حدَّدها الإسلام بضوابط إسلامية
.
الاسْتِثْمَارُ الزِّرَاعِيُّ فِي الإِسْلامِ
ففي الزراعة أباح للمؤمن أن يأخذ الأرض الميتة على أن يقوم بزراعتها، فقد قال صلى الله عليه وسلم:
{ مَنْ أَحْيَا أَرْضاً مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ، ولَيْسَ لمُحْتَجَرٍ حقًّا بَعْدَ ثَلاثٍ }
فنحن نَمُرُّ أحياناً على بعض الطرق الصحراوية - كطريق الإسماعيلية الذي يصل بين القاهرة وبورسعيد - ونجد كلما نمشي لافتة مكتوباً عليها مزرعة فلان، وهي أرض عليها سور وغير مزروعة، الإسلام جعل هذه الأرض من حقِّ المسلم أن يقتطعها، ومن حق الحاكم أن يقطعها له، على أن ينظره ثلاث سنوات لإصلاحها واستثمارها وزراعتها، فإذا تركها فعلى الحاكم أن يصادرها منه ويعطيها لغيره، لأن الإسلام يرغِّب في الاستثمار.
والاستثمار في الإسلام حرٌّ، ولكن الإسلام أمر ولاة الأمر أن يتدخلوا لتوجيهه إذا لزم الأمر، كما رأينا في ذلك، فالحرية في الإسلام مكفولة لكل فرد أن يستثمر ماله كيف يشاء، على ألا يضرَّ أحداً، وعلى أن يكون وفق شرع الواحد الأحد عزوجل.
الناحية الثانية في مجال الزراعة: ألا يزرع شيئاً يضرُّ الأبدان، أو نهى عنه الإسلام، كمن يزرع المخدرات والمسكرات، وكمن يزرع الأرض بالمحظورات التي كبَّدت شعبنا في هذا العصر الأمراض الفظيعة والمنتشرة، كمن يغذي الفواكه والخضراوات بالهرمونات، أو يكثِّف لها المبيدات، فيأكلها الإنسان فيجدها تنخر في داخل الأبدان، وهذا مخالف لشرع الديان عزوجل، لأن المسلم ينتج لمجتمعه ولا ينتج لنفع نفسه فقط، فلا بد أن يكون هذا الإنتاج يلائم هذا المجتمع صحيًّا وعقليًّا ونفسيًّا، وعقائديًّا ودينيًّا، وعرفاً واجتماعيًّا، هذه هي الضوابط الإسلامية
.
طُرُقُ الاسْتِثْمَارِ فِي الزِّرَاعَةِ
فاستصلاح الأرض وزراعة الأرض من أفضل الإستثمارات التي حرص عليها شرعنا وديننا الحنيف وجعل طرق الاستثمار في الزراعة متنوعة.
إما أن يزرعها الإنسان بنفسه وإما أن يعطيها لمن يزرعها على أن يكون له نصيب مما يخرج منها، كالنصف أو الثلث على حسب الاتفاق وتسمى (المزارعة).
وإما أن يعطي الشجر لمن يقوم بسقيه نظير نصيب معلوم من ثمرة وتسمى (المساقاة).
وإما أن يؤجرها كلها لإنسان ويأخذ منه الإيجار ويتولى هذا الشخص الزراعة ويحصل على المحصول ... تلك بعض الوسائل للزراعة في الإسلام
.
الاسْتَثْمَارُ الصِّنَاعِيُّ فِي الإِسْلام
ِ
الوسيلة الثانية للاستثمار هي الصناعة، والصناعة - من عجيب الأمور - أن الإمام الشافعي رضى الله عنه وأرضاه جعل أفضل مصرف للزكاة أن نشتري بها وسائل العمل للمحتاجين - بعد أن نعلمهم الحرف - ونفتح لهم حانوتاً يعملون فيه، يعني: أعلم المحتاجين حرفاً صناعية، ثم نجعل لهم دكاناً أو حانوتاً، ونعطيهم العِدَدَ والأدوات من الزكاة، ونتركهم يستثمرون هذا الأمر.
وأخذ ذلك من الرسول صلى الله عليه وسلم عندما جاءه رَجُل أنصارى يَسْأَلُهُ، فَقَالَ:
{ أَمَا فِي بَيْتِكَ شَيْءٌ؟ قال بَلَى حِلْسٌ نَلْبَسُ بَعْضَهُ ونَبْسُطُ بَعْضَهُ، وَقَعْبٌ نَشْرَبُ فِيهِ مِنَ المَاءِ، قال: ائْتِنِي بِهِمَا، قالَ: فَأَتَاهُ بِهِمَا فَأَخَذَهُمَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ وقال: مَنْ يَشْتَرِي هذَيْنِ؟ قال رَجُلٌ: أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمٍ، قال: مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ؟مَرَّتَيْنِ أو ثَلاَثاً قال رَجُلٌ: أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمَيْنِ، فَأَعْطَاهُمَا إِيَّاهُ، وَأخَذَ الدِّرْهَمَيْنِ فأَعَطَاهُمَا الأَنْصَارِيَّ، وقال: اشْتَرِ بِأَحَدِهِمَا طَعَاماً فأَنْبِذْهُ إِلَى أَهْلِكَ وَاشْتَرِ بالآخَرِ قَدُّوماً فَآتِنِي بِهِ، فأَتَاهُ بِهِ فَشَدَّ فِيهِ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عُوداً بِيَدِهِ ثُم قَال لَهُ: اذْهَبْ فَاحْتَطِبْ وَبِعْ وَلاَ أَرَيَنَّكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْماً، فَذَهَبَ الرَّجُلُ يَحَتَطِبُ وَيَبِيعُ فَجَاءَ وَقَدْ أَصَابَ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ فَاشْتَرَى بِبَعْضِهَا ثَوْباً وَبِبَعْضِها طَعَاماً، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: هذَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَجِيءَ المَسْأَلَةُ نُكْتَةً فِي وَجْهِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِنَّ المَسْأَلَةَ لاَ تَصْلُحُ إِلاَّ لِثَلاَثَةٍ لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ أَوْ لِذِي غُرْم مُفْظِعٍ – عليه دَين كبير - أَوْ لِذِي دَمٍ مُوجِعٍ، أى عليه دية كبيرة }.
ضَمَانَاتُ الصِّنَاعَةِ الإِسْلامِيَّة
إذاً استثمار المال في الصناعة في الإسلام أن تكون هذه الصناعة لا تساعد على نشر الجرائم الإجتماعية ولا نشر الإباحية، وألا تخالف التشريعات الإسلامية.
فلا يجب على مسلم أن يعمل مصنعا لصنع الخمر، ولا يجب على مسلم أن يقيم مصنعا لصنع السلاح ويبيعه لأي أحد، ولا يجب على مسلم أن يقيم مصنعا لأي أمر يضر بالمجتمع أو بأفراد المجتمع، سواء في أجسامهم أو في أخلاقهم أو في قيمهم أو في دينهم، لأن كل مؤمن جنديا في هذا المجتمع.
استِثْمَارُ المَالِ فِي التِّجَارَةِ فِي الإِسْلامِ
أما التجارة فقد قال فيها صلى الله عليه وسلم:{ تسعة أعشار الرزق في التجارة }
وقد كان سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه يدخل السوق ويمتحن التجار في فقه البيوع - البيع والشراء - ويقول في شأن ذلك حاثاً على تحصيل العمل اللازم الشرعى للعمل به فى التجارة: { من لم يتفقه في الدين فلا يتجر في أسواقنا }. ، وفى الأثر : { من لم يتفقه فى الدين أكل الربا وهو لا يشعر}.
مَنْعُ الغِشِّ
أَحَلَّ الإسلام التجارة وجعلها حلالاً إذا كانت بالضوابط الإسلامية، وأول ضابط فيها مَنْعُ الغِشِّ. فقد كان صلى الله عليه وسلم يمرُّ في الأسواق ويختبر البضاعة بنفسه، فمرَّ يوماً بطعامٍ بسوقِ المدينةِ فأعجبَهُ حسنُهُ! واسمعوا للروايات لأن الغش صار المصيبة الكبرى فى مجتمعات المسلمين اليوم ! للأسف!!!:
{ فأدخلَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يدَهُ في جوفِهِ فأخرجَ شيئاً ليسَ بالظاهرِ فأفّفَ لصاحبِ الطعامِ ثُمَّ قالَ لا غشََّ بينَ المسلمينَ، مَنْ غشنَا فليسَ مِنَّا }، وروى:
{ فإذا فيهِ بَلَلٌ، فقالَ: ما هذا يا صاحِبَ الطَّعامِ؟ قالَ: أَصَابَتْهُ سَمَاءٌ
يا رسولَ اللَّهِ (المطر)، قالَ: فَهَلا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ حتَّى يَرَاهُ النَّاسُ، مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا } ، وروى : { مَنْ غَشَّنا، فَلَيسَ مِنَّا، والمَكْرُ والخِدَاعُ في النَّارِ }.
فنهى عن الغشِّ سواء في الكيل أو في الميزان أو في الصنف بأن يعلن عن صنف جيد ويبيع صنف ردئ، وعن الغش في الثمن كأن يعرف أن الذي أمامه (المشتري) يجهل الثمن فيستغل جهله ويبيع له البضاعة بأكثر من ثمنها أضعاف مضاعفة، وهذا يسمى الغَرَر أى خداع المشتري واستغلال جهالته – أو أن يكون ضرباً من المعاملة التجارية لا ضمانة له بأن يتمَّ على نحو قاطع يحفظ الحقوق فذاك من الغرر عن ابنِ عَبَّاسٍ قالَ: { قَدِمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ وهم يُسْلِفُونَ في الثمارِ السنتينِ والثلاثَ، فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أَسْلِفُوا في الثمارِ في كيلٍ معلومٍ ووزنٍ معلومٍ، إلى أَجَلٍ معلومٍ }
فمنع الإسلام الغش والمكر والخداع بكل أصنافه وأشكاله.
الإِعْلانُ الإِسْلامِيُّ عَنْ السِّلَعِ
ولذلك فمن الأمور التي ينبغي أن يراعيها المسلم فى الإعلان أن تكون الإعلانات مطابقة جيداً للمواصفات، فمعظمنا يغرَّر به بالإعلانات، لأنه يجد أن الإعلان يعطي ميزات لا حدَّ لها، ثم يذهب ليشتري السلعة فيجد كل هذه الإعلانات وكل هذه المواصفات غير موجودة!!
فيجب أن يكون هناك تقنين واضح للإعلانات من الوزارات المختصة، فلا تسمح وزارة الصحة أو الصناعة بعرض إعلانٍ طبيٍّ مثلاً أو يانات السلعة إلا إذا كان حقيقياً؛ومطابقاً للمواصفات، بحسب مكتب المستشارين والخبراء أو المختبرات في الوزارة الذي يتأكد من هذه المواصفات من أجل المستهلك وبلا محاباة ولا تعنت.
كما أمر المعلن ألا يؤذى الناس بإعلانه فقد حدث { أن عمر رضى الله عنه مرَّ يوما بسوق المدينة فرأى بائعاً يعترض طريق المسلمين ويرفع صوته صاخبا عليهم ببضاعته وهو يسدُّ عليهم مسالكهم فعلاه بدرَّته فاستجاب الرجل} .
النَّهْيُ عَنْ الإحْتِكَارِ
والمبدأ الثاني في التجارة نهى الإسلام عن الإحتكار.
والإحتكار أن يشتري المرء السلعة ثم يخزنها إلى وقت الغلاء وينزلها السوق، أو كما يفعل التجار الآن، يجتمعون معاً ويتفقون على إخفاء البضاعة حتى يُغَلُّوا الثمن، ثم ينزلونها في السوق ليربحوا أضعافاً مضاعفة.
والإسلام في الحقيقة ليس فيه تسعير، وقد قال صلى الله عليه وسلم عندما سألوه أن يسعِّر: { لا تُسَعِّرُوا فإِنَّ الله هُوَ المُسَعِّرُ القَابِضُ البَاسِطُ } ، لكنه أباح لولاة الأمور أن يتدخلوا للتسعير في حالات الإحتكار، أباح لولاة الأمور أن يذهبوا إلى مخازن التجار ويسيطروا على البضاعة ويوزعونها بأنفسهم، ضماناً لإصلاح حال المجتمع الإسلامي.
والإحتكار - بصفة خاصة - يتأكد في المواد الغذائية والمواد الطبية التي لا غنى لأحد في المجتمع عنها، وإن كان يَعُمُّ كل الأحوال الحياتية التي يحتاج إليها المسلم في حياته، وبين الرسول صلى الله عليه وسلم خطورة هذا الأمر فقال :
{ من احتكر طعاماً على المسلمين أربعين يوما فقد برئ من الله وبرئ الله منه }، وقال في الحديث الآخر:{ المحتكر خاطيء أخطأ طريق الجنة } ،
يعني لا يدخل الجنة أبدًا.
فنهى الإسلام عن الإحتكار، ونهى الإسلام عن - ما يسمى في فقه الإسلام- النجش، والنجش أن يذهب إنسان مع إنسان آخر ويعرض أن يشتري البضاعة بثمن مبالغ فيه - مع أنه لن يشتري - كي يـأخذها المشتري الآخر بالثمن المرتفع، وهو نوعٌ من الغشِّ ونهى عنه الإسلام، يعني يذهب ليتفق مع التاجر تشتري هذه بكم؟ فيقول: اشتريها مثلا بخمسين جنيهاً - وهى لا تساوي أكثر من عشرين جنيهاً - فينخدع المشتري ويشتريها بهذا الثمن المبالغ فيه، نهى عن ذلك الإسلام لأن ديننا يطلب الحدَّ الأوسط والمعتدل في الربح.
صحيح أن الربح في الإسلام حرٌّ، يضع التاجر أيَّ هامش للربح، لكن شرطه: ألا يستغل حاجة المجتمع في هذا الأمر، وثانياً: أن يكون من يبيع له على علم بالثمن الحقيقي فلا يستغل جهالته.
ولذلك نهى الإسلام كذلك عن تلَّقي التجار من الخارج الذين يرخصون الأسعار، بمعنى عندنا في المدينة سوق يوجد به بعض التجار يسمون: (تجار الجملة) يمنعون أهل القرى الذين معهم البضاعة من دخول السوق ويأخذون منهم البضاعة لكي يتحكموا في سعر السوق.
وقد نهى الإسلام عن ذلك وقال صلى الله عليه وسلم:{ لا تتلقوا الركبان }.
وهم أهل البادية الذين يأتون بالبضاعة إلى أسواق المدن فيقابلهم التجار ويأخذون منهم البضاعة بأي سعر، وإما أن يبيعوهم وإما أن يمنعوهم بأي طريقة وبأي كيفية حتى يتحكموا في السعر.
نهى الإسلام عن ذلك وجعل الأمر في الإسلام عرضاً وطلباً، فإذا زاد المعروض قلَّ السعر، وإذا كان العرض في يد فئة قليلة تحكموا في السعر، والإسلام يرفض ذلك.
مَا لا يُبَاحُ الإتِّجَارُ فِيهِ
كذلك جعل الإسلام للتجارة أموراً محددة، فنهى عن الإتجار في كلِّ شئٍ حرَّمه الله، فنَهَى عن التجارة في الخنزير، ونَهَى عن التجارة في المخدرات، ونَهَى عن التجارة فيما نراه اليوم كتربية الكلاب وبيع الكلاب، فقد نهى صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب، لأنه لا يُبِيحُ الكلبَ إلاَّ لمن بيته في خلاء ويخشى السرقة أو يخشى الوحوش، لكن لا يبيحُ الكلبَ في داخل البيت الآمن، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:
{ لا تَدْخُلُ الملائكةُ بَيْتاً فيه كَلْبٌ أَوْ صُورَةٌ }.
فالبيت الذي فيه كلب بغير عذر - والعذر أن يكون في خلاء ويخشى الضرر، سواء كان من الوحوش، أو من السرقة - نهى الإسلام عن ذلك، ويدخل في ذلك ما استجدَّ في عصرنا - كمن يتاجر اليوم مثلاً في أفلام إباحية - فتلك تجارة محرَّمة وغير شرعية، ومن يتاجر في عصرنا الآن في اسطوانات مدمجة عليها مواد تسيء إلى شبابنا وفتياتنا فهذه تجارة ممنوعة.
ومن يتاجر أيضاً في عصرنا في أصباغ ومواد تغير هيئة الإنسان وتجعله يخدع الآخرين، فتلك تجارة محرمة، وغير هذا الكثير ... وأحرم هذه التجارات المعاصرة على الإطلاق، التجارة - فيما يقال - في وسائل الغيار الآدمية، أي: الذين يأتون بالآدميين ويقطعونهم ويتاجرون في أعضائهم، فتلك ألعن تجارة في هذا العصر لقوله صلى الله عليه وسلم: { لزوال السموات السبع والأرضين السبع أهون عند الله عزوجل من قتل نفس مسلمة بغير حق }.
وهناك أمور كثيرة تدخل هذا المجال، كل هذه الميادين لمن يستثمر ماله بنفسه، وبالطبع فقد يطلب وكيلاً أو شريكاً ولكننا نتحدث عن الفعل نفسه!
استِثْمَارُ المَالِ مَعَ الغَيْرِ
وبعد أن رأينا أهم الضوابط فى الإسلام للإستثمار فى الصناعة والزراعة .. نعلم أن الإستثمار كثيرا ما يتعدى قدرة الفرد الواحد فيحتاج للمشاركة مع الآخرين، والمشاركة لها ضوابطها الكاملة في شرع الله.
والقاعدة الأساسية للمشاركة؛ قد قال فيها صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربِّه:
{ أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما الآخر فإن خانا خرجت من بينهما }.
وأباح الإسلام المشاركة بصور منها: أن يكون أحدهما بماله والآخر بجهده، ويتفقون على هامش الربح مناصفة أو أقل أو أدنى.
ومنها أن يشتركان في رأس المال بالمشاركة.
ومنها من يأخذ المال ويقوم باستثمار هذا المال وهي ما تسمى بالوكالة - كما تقوم به البنوك والشركات والمصارف - ولكنه وضع لها ضوابط:
- إمَّا أن تكون عن طريق المضاربة وهى أن يأخذ الإنسان المال من الآخر ويستثمره ويقتسمان على ما يتفقان عليه من الربح، وأيضا يشتركان في الخسارة لأن الخسارة متوقعة.
- وإمَّا أن تكون عن طريق المرابحة، وهى أن يأخذ الإنسان مالاً فيتفق مع صاحب المال على أن يعطيه نسبة من الأرباح إذا وفق في كسبه، ويكون أيضاً شريكه إذا حدث خسارة بينهما.
- وإما أن تكون عن طريق من هذه الطرق الشرعية الإسلامية، التى تنوعت اليوم وليس المجال هنا لتفصيلها.
منقول من كتاب اصلاح الافراد والمجتمعات فى الاسلام
لفضيلة المفكر والداعية الاسلامى الشيخ فوزى محمد ابوزيد
حمل الكتاب مجانا
الإسلام يجعل المال عصب الحياة، وربما أشاع البعض أن الدين الإسلامي يدعو إلى السلبية والإنعزالية، والتواكل والتراخي، وأشاع أعداء الإسلام هذا المفهوم بيننا وفي دول الغرب، حتى أصبح سمة في وسائل إعلامهم، فَمُسْلِمٌ يعني: متكاسل وغير منتج ومتراخي. وأحياناً كلمةُ مُسْلِمٍ – عندهم – تعني: متسوِّل!! ويُصَوِّرُون المتسوِّلين عندنا وينشرونهم في صحفهم .. ويقولون: هذا هو الإسلام!!.
بينما الإسلام دينٌ يهتم بالحياة في دقائقها وكل صغائرها، فما من شأن في حياة الإنسان فى كلِّ حياته إلاَّ وقَنَّنَهُ الله عزوجلووضع له الضوابط القرآنية
.
اهْتِمَامُ الإِسْلامِ بِالمَالِ
والدليل على اهتمام الإسلام بالمال واستثماره، أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما هاجر من مكة إلى المدينة، وكان اليهود يسكنون بها، واليهود كما تعلمون قومٌ يقول فيهم الله عزوجل: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ ) (96البقرة)
فَهُمْ أَمْهَرُ من يستثمر الأموال ويقتنصها بأساليب يعرفونها جيدًا، فوجد صلى الله عليه وسلم أن المال في المدينة مركَّزٌ في أيدي اليهود، والتجارة الرئيسية في المدينة تجارة الذهب وتجارة السلاح، ولا يوجد فيها تاجر واحد غير يهودي، بل وجد السوق الذي تجلب له البضائع من خارج المدينة - من اليمن، وفارس، والشام - والبيع فيه لأهل المدينة قائم على اليهود:
- فهم الذين يجلبون البضائع - يعني يستوردونها بلغة العصر- أي يحضرونها إلى المدينة .
- وهم الذين يقومون ببيعها، وكوسيلتهم - التي يسيطرون بها على الشعوب - مَنْ ليس معه الثمن نقداً، يعطونه بالأجل، حتى يتحكمون في مصيره، ويكون تحت سيطرتهم وهيمنتهم.
فأول قرار اتخذه الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة - بعد بناء المسجد - وكان أول قرار صدر من الحضرة المحمدية بناء المسجد .. أما القرار الثاني: فبناء سوق للمسلمين، فأمر أن يكون هناك سوقٌ مخصوصٌ، واستغل في ذلك مهارة المهاجرين -وهم أهل مكة - في التجارة، في البيع والشراء، واستغل هذه الخبرة في صفوف المسلمين، وأمرهم بأن يتاجروا، فكان هذا السوق أول عَمَلٍ عمله صلى الله عليه وسلم ليخلِّص المدينة من سيطرة اليهود، ثم يخلصها نهائيًا من اليهود.
بدأ معهم بالتدرج، فاستولوا على التجارة، وأصبح المؤمنون يتاجرون ويذهبون إلى بلاد الشام، وإلى بلاد اليمن، وإلى بلاد فارس، ويحضرون البضائع ويبيعونها بالأسس والتشريعات والقوانين الإسلامية، مما أدَّى إلى كساد الحياة التجارية عند اليهود، لأن القوانين والتشريعات الإسلامية في البيع والشراء تسهل للإنسان، ولا تضع غِلَّ الرِّبَا في عنقه، وتجعل المرء دائماً وأبداً يرتاح لهذا التعامل الطيب.
من هذا جعل نبيُّنا صلى الله عليه وسلم المال عَصَبَ الحياة، وجعل له في الإسلام نظريةً اقتصاديةً إسلامية، كاملة الملامح، كلها من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالقوانين الأصلية في القرآن، والشروح والحواشي والمذكرة التفسيرية في سنَّةِ النبي العدنان صلى الله عليه وسلم، والتفصيل على حسب كل زمان من العلماء المجتهدين الفقهاء في الإسلام
.
التَّجْرُبَةُ الاقْتِصَادِيَّةُ الإِسْلامِيَّةُ
قد يقول البعض: لَمْ نَرَ، ولَمْ نَسْمَعْ عن التجربة الاقتصادية الإسلامية -فى غير مجتمع المدينة الأول- وعن مدى نجاحها، حتى نطبقها في حياتنا! أقول: لن أعطي أمثلة متعددة حتى يطول المقال، ولكن أعطي مثالاً واحداً:
أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز تولى الحكم لمدة سنتين وستة أشهر - يعني لم يكمل خطة خمسية كما نقول اليوم - ونفَّذ القوانين والتعاليم والتشريعات الإسلامية، ماذا كانت النتيجة:
فاض المال!! ...
حتى أن وزير المالية - وكان يسمى في عصره خازن بيت المال - شكى له من ضيق بيت المال من كثرة ما فيه من سيولة، ومن كثرة الأموال، فأحضر المخططين والمشرِّعين وسألهم: ماذا نصنع بهذا المال؟ ففكروا في المشاكل التي يعاني منها المجتمع، ليحلوها مشكلةً تلو المشكلة.
أول مشكلة واجهتهم مشكلة الأمِّيَّة .. إن أغلب طبقات الشعب لا تستطيع القراءة والكتابة، وهي القضية التي نريد أن ننتهي منها الآن في القرن العشرين - ولم ننجح بعد - وقد انتهى منها في سنة واحدة!! حيث عيَّن كُتاباً في كل دور العبادة، وأعطاهم الألواح - وكانت الكتابة على الألواح - والمواد التي يكتبون بها، وجعل أجرهم وطلباتهم كلها من بيت المال، ولذلك أحصى رجال التاريخ، أن العصر الوحيد الذي قُضِيَ فيه على أمِّيَّة النساء والرجال، هو عصر الخليفة عمر بن عبد العزيز.
وبعد أن انتهى من مشكلة الأميَّة، وجد فائضاً وسيولة في بيت المال، ماذا يصنع بها؟
أَصْلَحَ الطرق ومهَّدها، وجعل على كل مرحلة من الطريق بيتاً - سماه بيتُ الضِّيافة - لأن السفر كان برًّا، وعلى ظهور الجمال أو الخيل أو ما شابه ذلك، فكان يستغرق وقتاً طويلاً بين البلدان المتنوعة، فجعل على كل مرحلة من الطريق - قدَّرها العلماء بما يوازي خمسين كيلو متراً في عصرنا، لأنهم كانوا يستخدمون الميل، والميل تقريبا اثنين كيلو إلا ربع - بيتاً للضيافة، جهَّزه وجعل فيه أماكن للنوم، ومطبخاً يُطهى فيه الطعام، وطاهياً يطهي الطعام، والنفقة كلها على بيت مال المسلمين!!.
فإذا تعب المسافر يدخل إلى بيت الضيافة، فيجد الطعام مجاناً، ويجد مكان الراحة جاهزاً، ومن العجب أنه جعل هناك علفاً للدواب!! فيجد العلف جاهزاً أيضاً على نفقة بيت مال المسلمين.
وبعد ذلك وجد فائضاً وسيولة في بيت المال، ماذا يصنع؟
أمر ولاته وحكام الأقاليم أن يزوِّجُوا شباب المسلمين على نفقة بيت المال، فالشَّابُ ما عليه إلاَّ أن يختار الفتاة التي تروقه، ثم يبدي رغبته للوالي أنه يريد الزواج من فلانة، ويقوم بيت المال بتجهيز بيت الزوجية - بحسب ما يحتاج إليه في عصره - ولا يدفع الشَّابُ - آجلاً أو عاجلاً - شيئاً في ذلك!! فاستطاع في هذا الزمن القصير أن يَحِلَّ كل مشاكل الدولة، لأنه اتبع النظرية الإسلامية السليمة في كل عصر
.
النَّظَرِيَّةُ المَالِيَّةُ الإِسْلامِيَّةُ
هذه النظرية الإسلامية تقوم على عِدَّةِ أُسُسٍ قرآنية، تنقسم إلى شقين: اكتساب المال وإنفاقه، فالإسلام أباح اكتساب المال، ولكنه رشَّده، وأباح استثمار المال في أي مجال على أن يطابق شرع الله عزوجل، والنصوص التي تتكلم عن هذا الأمر كثيرة وكثيرة أولها قول الله ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ) (267البقرة).
إذاً لا بد أن يكون الكسب من طريق طيِّب، والطرق الطيِّبة للكسب التي بينها الإسلام - وأسوقها على عجالة سريعة
.
طُرُقُ الكَسْبِ فِي الإِسْلام
1- العَمَلُ
فالإسلام دين العمل، ووضع الإسلام ضابطاً لا يصلح العمل في أي زمان أو مكان بغيره، وهو قوله عزَّ شأنه:( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾. (105التوبة).
إذا وجدت هذه الرقابة - الذاتيَّة الداخلية - صلحت جميع
الأعمال، وإذا فقدت هذه الرقابة - الذاتية الإيمانية - لا نستطيع أن ننجح في أي عمل مهما شرَّعنا من تشريعات، ومهما برعنا في التوصيات والتوجيهات، ومهما شدَّدنا في أجهزة الرقابة على مختلف الجهات.
إن لم يكن الرقيب على المرء إيمانُه وربُّه عزوجل، فإنه يستطيع أن يتحايل على كلِّ أمر، وأنتم ترون جميعا أن الدولة تشرع ولكن عندنا خبراء متخصصين في تفصيل القوانين على حسب ما يريدون، إذاً لا يضبط العمل إلا الرقابة الداخلية لله عزوجل، بأن يكون العمل لله.
هذا الكسب راعى فيه الإسلام عدَّة أمور:
أولا: جعل المالَ والخيرات كلَّها مِلْكاً لله: (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ) (7الحديد)، فهذا أمر طبيعي أن الإنسان يموت ويترك المال، ومعنى أن المال لله: أي أن هذا المال وسيلة وليست غاية، وهذا أساس من أسس النظرية الإسلامية، فالمال وسيلة لحصول المرء على ما يريده في الدنيا، ولاكتساب السعادة التي يرجوها في الدار الآخرة، فإذا كان المال وسيلة - وليس غاية كما يفعل الآخرون - فإن هذا يجعل المؤمن يراقب في جمعه وفي إنفاقه شرع الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
والإسلام كذلك جعل المجتمع وحدةً واحدة، وكل فرد في الجماعة يسعى لراحتها ومنفعتها وإصلاحها، فبدَّد مبدأ الأنانية، ومبدأ الأثرة، ومبدأ الشح والبخل، لأنه جعل المجتمع كله وحدةً واحدة.
ومن هنا كان الذي يجمع المال، أو يقوم بالكسب، لا بد أن يراعي المجتمع، فلا يكسب شيئاً يتنافى عمله مع تقاليد المجتمع، ولا يستثمر ماله في شئ يتحقق أن فيه ضرُّ للمجتمع، وأن يسعى لخير هذا المجتمع، فيراعي أن يكون استثماره مطابقاً لعادات وأعراف وتقاليد وشرع المجتمع الذي يعيش فيه، حتى يكون إنساناً نافعاً لنفسه ووطنه ومجتمعه وبني جنسه.
أوجب الإسلام بعد ذلك على المؤمن الذي يكسب المال أموراً إسلامية في تحصيله، وأموراً إسلامية في استثماره، لكي يحصّل المال بيَّن له السُّبُلَ، فالعمل أولها، ثم بعد ذلك عليه استثمار المال في الجهات التي سنحددها فيما بعد.
2 - المِيرَاثُ
الطريقة الثانية لكسب المال من طريق حلال الميراث:
فالمال الذي يأتي عن طريق الميراث مالٌ أحلَّه الله، على أن يكون الميراث مطابقاً لكتاب الله وشرع الله.
وفى الحقيقة إنَّ نظام الميراث الإسلامي خيرُ ضامن يحفظ التوازن المالي الاجتماعي، فالقانون الإنجليزي مثلاً يجعل التركة كلَّها للإبن الأكبر - حتى لا تتفتت الثروة - فيظلُّ الغنيُّ غنيًّا والفقير فقيراً، لكن النظام الإسلامي يجعل الكُلَّ يشترك في هذا الميراث، فيجعل المال دائماً في حالة توازن بين طبقات المجتمع، صحيح أنه يحصله بغير حدٍّ أقصى، لكنه لا يستطيع أن يوزعِّه - حتى صاحبه - إلا في حدود.
وكلُّ ما يثار عن أن نظام المواريث فى الإسلام هضم المرأة حقها كلامُّ لايثبت له حجة، والحقيقة أن كثيراً من المجتمعات المالية الغير إسلامية فى العالم درسوا نظام الإسلام للتوريث وحاولوا الإقتراب منه كثيرا فى تطبيقه، ولم يمنعهم من الإقتداء به إلا قوة الساسة وموقف رجال الدين من عداء الإسلام.
3 - الوَصِيَّةُ
والوصية هي الطريقة الثالثة لكسب المال في الإسلام: إنَّ الإسلام قد أعطى صاحب المال الحقَّ في أن يُوصي بجزءٍ من ماله، ولكن بشروط حفظاً للحقوق: الشرط الأول ألا يزيد فى وصيته عن الثلث، والشرط الثاني: أن تكون الوصية بنِيَّةِ فيها خير؛ فإذا كانت الوصية يقصد بها الضرر بالورثة، وعدم حصولهم على حقوقهم، يجعلها الإسلام وصيةً جائرة، لا تنفَّذ.
فالوصية هي الأمر الثالث الذي كسبه حلال في الإسلام.
4 - الهِبَةُ
الأمر الرابع: الهبة: والهبة هي ما نسميه التبرُّع، أن يتبرع المرء بشئ مما يملكه لإنسان، رغبة في نفعه، أو رغبة في رضاء ربِّه، أو لأي نيَّة صالحة.
فهذه باختصار هي الطرق التي جعلها الإسلام لكسب المال:
العمل، الميراث، الوصية، والهبة.
مَجَالاتُ العَمَلِ المُبَاحِ فِي الإِسْلامِ
وبعد أن أجملنا تلك الطرق؛ نعود إلى الطريقة الأولى لكسب المال وهى العمل- وهو الذي يحتاج إلى تفصيل - والعمل والذى هو فى الحقيقة منوط بكلِّ واحد منا أن يقوم به على الوجه الأكمل، والذى إليه تطوير المجتمعات ونهضتها وإثرائها.
فالعمل الذي أباحه الإسلام هو العمل في المجالات المتعارف عليها، وأن يكون هذا العمل كإستثمار بطرق:
- إما أن يقوم به الفرد بنفسه.
- وإما أن يوكِّل فيه غيره.
- وإما أن يشترك فيه بنفسه مع غيره.
فالعمل الذي يقوم به الإنسان في نفسه أو بغيره أو يشترك معهم كالزراعة، الصناعة، التجارة وهذه الأمور حدَّدها الإسلام بضوابط إسلامية
.
الاسْتِثْمَارُ الزِّرَاعِيُّ فِي الإِسْلامِ
ففي الزراعة أباح للمؤمن أن يأخذ الأرض الميتة على أن يقوم بزراعتها، فقد قال صلى الله عليه وسلم:
{ مَنْ أَحْيَا أَرْضاً مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ، ولَيْسَ لمُحْتَجَرٍ حقًّا بَعْدَ ثَلاثٍ }
فنحن نَمُرُّ أحياناً على بعض الطرق الصحراوية - كطريق الإسماعيلية الذي يصل بين القاهرة وبورسعيد - ونجد كلما نمشي لافتة مكتوباً عليها مزرعة فلان، وهي أرض عليها سور وغير مزروعة، الإسلام جعل هذه الأرض من حقِّ المسلم أن يقتطعها، ومن حق الحاكم أن يقطعها له، على أن ينظره ثلاث سنوات لإصلاحها واستثمارها وزراعتها، فإذا تركها فعلى الحاكم أن يصادرها منه ويعطيها لغيره، لأن الإسلام يرغِّب في الاستثمار.
والاستثمار في الإسلام حرٌّ، ولكن الإسلام أمر ولاة الأمر أن يتدخلوا لتوجيهه إذا لزم الأمر، كما رأينا في ذلك، فالحرية في الإسلام مكفولة لكل فرد أن يستثمر ماله كيف يشاء، على ألا يضرَّ أحداً، وعلى أن يكون وفق شرع الواحد الأحد عزوجل.
الناحية الثانية في مجال الزراعة: ألا يزرع شيئاً يضرُّ الأبدان، أو نهى عنه الإسلام، كمن يزرع المخدرات والمسكرات، وكمن يزرع الأرض بالمحظورات التي كبَّدت شعبنا في هذا العصر الأمراض الفظيعة والمنتشرة، كمن يغذي الفواكه والخضراوات بالهرمونات، أو يكثِّف لها المبيدات، فيأكلها الإنسان فيجدها تنخر في داخل الأبدان، وهذا مخالف لشرع الديان عزوجل، لأن المسلم ينتج لمجتمعه ولا ينتج لنفع نفسه فقط، فلا بد أن يكون هذا الإنتاج يلائم هذا المجتمع صحيًّا وعقليًّا ونفسيًّا، وعقائديًّا ودينيًّا، وعرفاً واجتماعيًّا، هذه هي الضوابط الإسلامية
.
طُرُقُ الاسْتِثْمَارِ فِي الزِّرَاعَةِ
فاستصلاح الأرض وزراعة الأرض من أفضل الإستثمارات التي حرص عليها شرعنا وديننا الحنيف وجعل طرق الاستثمار في الزراعة متنوعة.
إما أن يزرعها الإنسان بنفسه وإما أن يعطيها لمن يزرعها على أن يكون له نصيب مما يخرج منها، كالنصف أو الثلث على حسب الاتفاق وتسمى (المزارعة).
وإما أن يعطي الشجر لمن يقوم بسقيه نظير نصيب معلوم من ثمرة وتسمى (المساقاة).
وإما أن يؤجرها كلها لإنسان ويأخذ منه الإيجار ويتولى هذا الشخص الزراعة ويحصل على المحصول ... تلك بعض الوسائل للزراعة في الإسلام
.
الاسْتَثْمَارُ الصِّنَاعِيُّ فِي الإِسْلام
ِ
الوسيلة الثانية للاستثمار هي الصناعة، والصناعة - من عجيب الأمور - أن الإمام الشافعي رضى الله عنه وأرضاه جعل أفضل مصرف للزكاة أن نشتري بها وسائل العمل للمحتاجين - بعد أن نعلمهم الحرف - ونفتح لهم حانوتاً يعملون فيه، يعني: أعلم المحتاجين حرفاً صناعية، ثم نجعل لهم دكاناً أو حانوتاً، ونعطيهم العِدَدَ والأدوات من الزكاة، ونتركهم يستثمرون هذا الأمر.
وأخذ ذلك من الرسول صلى الله عليه وسلم عندما جاءه رَجُل أنصارى يَسْأَلُهُ، فَقَالَ:
{ أَمَا فِي بَيْتِكَ شَيْءٌ؟ قال بَلَى حِلْسٌ نَلْبَسُ بَعْضَهُ ونَبْسُطُ بَعْضَهُ، وَقَعْبٌ نَشْرَبُ فِيهِ مِنَ المَاءِ، قال: ائْتِنِي بِهِمَا، قالَ: فَأَتَاهُ بِهِمَا فَأَخَذَهُمَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ وقال: مَنْ يَشْتَرِي هذَيْنِ؟ قال رَجُلٌ: أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمٍ، قال: مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ؟مَرَّتَيْنِ أو ثَلاَثاً قال رَجُلٌ: أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمَيْنِ، فَأَعْطَاهُمَا إِيَّاهُ، وَأخَذَ الدِّرْهَمَيْنِ فأَعَطَاهُمَا الأَنْصَارِيَّ، وقال: اشْتَرِ بِأَحَدِهِمَا طَعَاماً فأَنْبِذْهُ إِلَى أَهْلِكَ وَاشْتَرِ بالآخَرِ قَدُّوماً فَآتِنِي بِهِ، فأَتَاهُ بِهِ فَشَدَّ فِيهِ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عُوداً بِيَدِهِ ثُم قَال لَهُ: اذْهَبْ فَاحْتَطِبْ وَبِعْ وَلاَ أَرَيَنَّكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْماً، فَذَهَبَ الرَّجُلُ يَحَتَطِبُ وَيَبِيعُ فَجَاءَ وَقَدْ أَصَابَ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ فَاشْتَرَى بِبَعْضِهَا ثَوْباً وَبِبَعْضِها طَعَاماً، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: هذَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَجِيءَ المَسْأَلَةُ نُكْتَةً فِي وَجْهِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِنَّ المَسْأَلَةَ لاَ تَصْلُحُ إِلاَّ لِثَلاَثَةٍ لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ أَوْ لِذِي غُرْم مُفْظِعٍ – عليه دَين كبير - أَوْ لِذِي دَمٍ مُوجِعٍ، أى عليه دية كبيرة }.
ضَمَانَاتُ الصِّنَاعَةِ الإِسْلامِيَّة
إذاً استثمار المال في الصناعة في الإسلام أن تكون هذه الصناعة لا تساعد على نشر الجرائم الإجتماعية ولا نشر الإباحية، وألا تخالف التشريعات الإسلامية.
فلا يجب على مسلم أن يعمل مصنعا لصنع الخمر، ولا يجب على مسلم أن يقيم مصنعا لصنع السلاح ويبيعه لأي أحد، ولا يجب على مسلم أن يقيم مصنعا لأي أمر يضر بالمجتمع أو بأفراد المجتمع، سواء في أجسامهم أو في أخلاقهم أو في قيمهم أو في دينهم، لأن كل مؤمن جنديا في هذا المجتمع.
استِثْمَارُ المَالِ فِي التِّجَارَةِ فِي الإِسْلامِ
أما التجارة فقد قال فيها صلى الله عليه وسلم:{ تسعة أعشار الرزق في التجارة }
وقد كان سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه يدخل السوق ويمتحن التجار في فقه البيوع - البيع والشراء - ويقول في شأن ذلك حاثاً على تحصيل العمل اللازم الشرعى للعمل به فى التجارة: { من لم يتفقه في الدين فلا يتجر في أسواقنا }. ، وفى الأثر : { من لم يتفقه فى الدين أكل الربا وهو لا يشعر}.
مَنْعُ الغِشِّ
أَحَلَّ الإسلام التجارة وجعلها حلالاً إذا كانت بالضوابط الإسلامية، وأول ضابط فيها مَنْعُ الغِشِّ. فقد كان صلى الله عليه وسلم يمرُّ في الأسواق ويختبر البضاعة بنفسه، فمرَّ يوماً بطعامٍ بسوقِ المدينةِ فأعجبَهُ حسنُهُ! واسمعوا للروايات لأن الغش صار المصيبة الكبرى فى مجتمعات المسلمين اليوم ! للأسف!!!:
{ فأدخلَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يدَهُ في جوفِهِ فأخرجَ شيئاً ليسَ بالظاهرِ فأفّفَ لصاحبِ الطعامِ ثُمَّ قالَ لا غشََّ بينَ المسلمينَ، مَنْ غشنَا فليسَ مِنَّا }، وروى:
{ فإذا فيهِ بَلَلٌ، فقالَ: ما هذا يا صاحِبَ الطَّعامِ؟ قالَ: أَصَابَتْهُ سَمَاءٌ
يا رسولَ اللَّهِ (المطر)، قالَ: فَهَلا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ حتَّى يَرَاهُ النَّاسُ، مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا } ، وروى : { مَنْ غَشَّنا، فَلَيسَ مِنَّا، والمَكْرُ والخِدَاعُ في النَّارِ }.
فنهى عن الغشِّ سواء في الكيل أو في الميزان أو في الصنف بأن يعلن عن صنف جيد ويبيع صنف ردئ، وعن الغش في الثمن كأن يعرف أن الذي أمامه (المشتري) يجهل الثمن فيستغل جهله ويبيع له البضاعة بأكثر من ثمنها أضعاف مضاعفة، وهذا يسمى الغَرَر أى خداع المشتري واستغلال جهالته – أو أن يكون ضرباً من المعاملة التجارية لا ضمانة له بأن يتمَّ على نحو قاطع يحفظ الحقوق فذاك من الغرر عن ابنِ عَبَّاسٍ قالَ: { قَدِمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ وهم يُسْلِفُونَ في الثمارِ السنتينِ والثلاثَ، فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أَسْلِفُوا في الثمارِ في كيلٍ معلومٍ ووزنٍ معلومٍ، إلى أَجَلٍ معلومٍ }
فمنع الإسلام الغش والمكر والخداع بكل أصنافه وأشكاله.
الإِعْلانُ الإِسْلامِيُّ عَنْ السِّلَعِ
ولذلك فمن الأمور التي ينبغي أن يراعيها المسلم فى الإعلان أن تكون الإعلانات مطابقة جيداً للمواصفات، فمعظمنا يغرَّر به بالإعلانات، لأنه يجد أن الإعلان يعطي ميزات لا حدَّ لها، ثم يذهب ليشتري السلعة فيجد كل هذه الإعلانات وكل هذه المواصفات غير موجودة!!
فيجب أن يكون هناك تقنين واضح للإعلانات من الوزارات المختصة، فلا تسمح وزارة الصحة أو الصناعة بعرض إعلانٍ طبيٍّ مثلاً أو يانات السلعة إلا إذا كان حقيقياً؛ومطابقاً للمواصفات، بحسب مكتب المستشارين والخبراء أو المختبرات في الوزارة الذي يتأكد من هذه المواصفات من أجل المستهلك وبلا محاباة ولا تعنت.
كما أمر المعلن ألا يؤذى الناس بإعلانه فقد حدث { أن عمر رضى الله عنه مرَّ يوما بسوق المدينة فرأى بائعاً يعترض طريق المسلمين ويرفع صوته صاخبا عليهم ببضاعته وهو يسدُّ عليهم مسالكهم فعلاه بدرَّته فاستجاب الرجل} .
النَّهْيُ عَنْ الإحْتِكَارِ
والمبدأ الثاني في التجارة نهى الإسلام عن الإحتكار.
والإحتكار أن يشتري المرء السلعة ثم يخزنها إلى وقت الغلاء وينزلها السوق، أو كما يفعل التجار الآن، يجتمعون معاً ويتفقون على إخفاء البضاعة حتى يُغَلُّوا الثمن، ثم ينزلونها في السوق ليربحوا أضعافاً مضاعفة.
والإسلام في الحقيقة ليس فيه تسعير، وقد قال صلى الله عليه وسلم عندما سألوه أن يسعِّر: { لا تُسَعِّرُوا فإِنَّ الله هُوَ المُسَعِّرُ القَابِضُ البَاسِطُ } ، لكنه أباح لولاة الأمور أن يتدخلوا للتسعير في حالات الإحتكار، أباح لولاة الأمور أن يذهبوا إلى مخازن التجار ويسيطروا على البضاعة ويوزعونها بأنفسهم، ضماناً لإصلاح حال المجتمع الإسلامي.
والإحتكار - بصفة خاصة - يتأكد في المواد الغذائية والمواد الطبية التي لا غنى لأحد في المجتمع عنها، وإن كان يَعُمُّ كل الأحوال الحياتية التي يحتاج إليها المسلم في حياته، وبين الرسول صلى الله عليه وسلم خطورة هذا الأمر فقال :
{ من احتكر طعاماً على المسلمين أربعين يوما فقد برئ من الله وبرئ الله منه }، وقال في الحديث الآخر:{ المحتكر خاطيء أخطأ طريق الجنة } ،
يعني لا يدخل الجنة أبدًا.
فنهى الإسلام عن الإحتكار، ونهى الإسلام عن - ما يسمى في فقه الإسلام- النجش، والنجش أن يذهب إنسان مع إنسان آخر ويعرض أن يشتري البضاعة بثمن مبالغ فيه - مع أنه لن يشتري - كي يـأخذها المشتري الآخر بالثمن المرتفع، وهو نوعٌ من الغشِّ ونهى عنه الإسلام، يعني يذهب ليتفق مع التاجر تشتري هذه بكم؟ فيقول: اشتريها مثلا بخمسين جنيهاً - وهى لا تساوي أكثر من عشرين جنيهاً - فينخدع المشتري ويشتريها بهذا الثمن المبالغ فيه، نهى عن ذلك الإسلام لأن ديننا يطلب الحدَّ الأوسط والمعتدل في الربح.
صحيح أن الربح في الإسلام حرٌّ، يضع التاجر أيَّ هامش للربح، لكن شرطه: ألا يستغل حاجة المجتمع في هذا الأمر، وثانياً: أن يكون من يبيع له على علم بالثمن الحقيقي فلا يستغل جهالته.
ولذلك نهى الإسلام كذلك عن تلَّقي التجار من الخارج الذين يرخصون الأسعار، بمعنى عندنا في المدينة سوق يوجد به بعض التجار يسمون: (تجار الجملة) يمنعون أهل القرى الذين معهم البضاعة من دخول السوق ويأخذون منهم البضاعة لكي يتحكموا في سعر السوق.
وقد نهى الإسلام عن ذلك وقال صلى الله عليه وسلم:{ لا تتلقوا الركبان }.
وهم أهل البادية الذين يأتون بالبضاعة إلى أسواق المدن فيقابلهم التجار ويأخذون منهم البضاعة بأي سعر، وإما أن يبيعوهم وإما أن يمنعوهم بأي طريقة وبأي كيفية حتى يتحكموا في السعر.
نهى الإسلام عن ذلك وجعل الأمر في الإسلام عرضاً وطلباً، فإذا زاد المعروض قلَّ السعر، وإذا كان العرض في يد فئة قليلة تحكموا في السعر، والإسلام يرفض ذلك.
مَا لا يُبَاحُ الإتِّجَارُ فِيهِ
كذلك جعل الإسلام للتجارة أموراً محددة، فنهى عن الإتجار في كلِّ شئٍ حرَّمه الله، فنَهَى عن التجارة في الخنزير، ونَهَى عن التجارة في المخدرات، ونَهَى عن التجارة فيما نراه اليوم كتربية الكلاب وبيع الكلاب، فقد نهى صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب، لأنه لا يُبِيحُ الكلبَ إلاَّ لمن بيته في خلاء ويخشى السرقة أو يخشى الوحوش، لكن لا يبيحُ الكلبَ في داخل البيت الآمن، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:
{ لا تَدْخُلُ الملائكةُ بَيْتاً فيه كَلْبٌ أَوْ صُورَةٌ }.
فالبيت الذي فيه كلب بغير عذر - والعذر أن يكون في خلاء ويخشى الضرر، سواء كان من الوحوش، أو من السرقة - نهى الإسلام عن ذلك، ويدخل في ذلك ما استجدَّ في عصرنا - كمن يتاجر اليوم مثلاً في أفلام إباحية - فتلك تجارة محرَّمة وغير شرعية، ومن يتاجر في عصرنا الآن في اسطوانات مدمجة عليها مواد تسيء إلى شبابنا وفتياتنا فهذه تجارة ممنوعة.
ومن يتاجر أيضاً في عصرنا في أصباغ ومواد تغير هيئة الإنسان وتجعله يخدع الآخرين، فتلك تجارة محرمة، وغير هذا الكثير ... وأحرم هذه التجارات المعاصرة على الإطلاق، التجارة - فيما يقال - في وسائل الغيار الآدمية، أي: الذين يأتون بالآدميين ويقطعونهم ويتاجرون في أعضائهم، فتلك ألعن تجارة في هذا العصر لقوله صلى الله عليه وسلم: { لزوال السموات السبع والأرضين السبع أهون عند الله عزوجل من قتل نفس مسلمة بغير حق }.
وهناك أمور كثيرة تدخل هذا المجال، كل هذه الميادين لمن يستثمر ماله بنفسه، وبالطبع فقد يطلب وكيلاً أو شريكاً ولكننا نتحدث عن الفعل نفسه!
استِثْمَارُ المَالِ مَعَ الغَيْرِ
وبعد أن رأينا أهم الضوابط فى الإسلام للإستثمار فى الصناعة والزراعة .. نعلم أن الإستثمار كثيرا ما يتعدى قدرة الفرد الواحد فيحتاج للمشاركة مع الآخرين، والمشاركة لها ضوابطها الكاملة في شرع الله.
والقاعدة الأساسية للمشاركة؛ قد قال فيها صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربِّه:
{ أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما الآخر فإن خانا خرجت من بينهما }.
وأباح الإسلام المشاركة بصور منها: أن يكون أحدهما بماله والآخر بجهده، ويتفقون على هامش الربح مناصفة أو أقل أو أدنى.
ومنها أن يشتركان في رأس المال بالمشاركة.
ومنها من يأخذ المال ويقوم باستثمار هذا المال وهي ما تسمى بالوكالة - كما تقوم به البنوك والشركات والمصارف - ولكنه وضع لها ضوابط:
- إمَّا أن تكون عن طريق المضاربة وهى أن يأخذ الإنسان المال من الآخر ويستثمره ويقتسمان على ما يتفقان عليه من الربح، وأيضا يشتركان في الخسارة لأن الخسارة متوقعة.
- وإمَّا أن تكون عن طريق المرابحة، وهى أن يأخذ الإنسان مالاً فيتفق مع صاحب المال على أن يعطيه نسبة من الأرباح إذا وفق في كسبه، ويكون أيضاً شريكه إذا حدث خسارة بينهما.
- وإما أن تكون عن طريق من هذه الطرق الشرعية الإسلامية، التى تنوعت اليوم وليس المجال هنا لتفصيلها.
منقول من كتاب اصلاح الافراد والمجتمعات فى الاسلام
لفضيلة المفكر والداعية الاسلامى الشيخ فوزى محمد ابوزيد
حمل الكتاب مجانا