عدد المشاهدات:
علوم الرسالة الخمسة
وهو أساس شامل لعلوم كثيرة. ولما كان من وظيفة الرسالة أن يقوم المصطفي ﴿ ص وآله﴾ بتعليم خمسة أسس لأمته عناها ربنا تعالى بقوله: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُون :
فهذا يعني أن هناك علومًا خمسة هي :
1-علم الآيات.
2-علم تزكية النفوس.
3-علم الكتاب.
4-علم الحكمة.
5-العلم اللدني .
ولما كان العلماء ورثة الأنبياء كما أخبر بذلك رسول الله ﴿ ص وآله﴾، وهؤلاء العلماء كثيرون في كل عصر، وكل يرث علي قدر ماعونه من الأنبياء والرسل فإن الوارث الفرد الكامل-شأنه شأن أئمة العصور التي سبقته- يجب أن تكون وراثته من المصطفي ﴿ص وآله﴾ بالذات - لأنه الرسول الخاتم للأمة - وهي الوراثة الكاملة لهذه العلوم الخمسة, فإن تحققت فيه بالكامل، فهو الفرد الوارث الجامع لجميع أنواع الوراثة، وهو إمام العصر، وهو قرة عين المؤمنين وكعبة أرواح السالكين وطريق رب العالمين، ورؤيته عين المزيد وعين اليقين وحقه.
إن النبوة مقام، والرسالة وظيفة، وإن الوراثة هي حمل أمانة الوظيفة.
وقد طلب الإمام من مريديه والمنتسبين لطريق آل العزائم ضرورة تعلم هذه العلوم.
وهنا يتحتم علينا أن نقف قليلاً لنوجز وبقدر الإمكان في شرح علوم الرسالة الخمسة التي يرثها الوارث الفرد الكامل من رسول الله ﴿ص وآله﴾، ومنهج الإمام التربوي فيها:
1- علم الآيات:
وهذا هو العلم الأول الذي ربي الإمام تلاميذه عليه.
وقد بين الإمام أن هذا العلم لا يعني آيات وسور القرآن الكريم، ولكنه يعني : آيات الكيان، وآيات الإنسان، ففي آيات الكيان يقول عز وجل: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (آل عمران:191)
(وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (يوسف:106)
وفي آيات الإنسان يقول تعالى (فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ) (الطارق5 :7)
(وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى) (النجم 45 :46)
(وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) (الروم:20).
ودفعا للتخبط الفكري أو الشطط الفلسفي أو الإنكار الترددي فقد ربط الخالق سبحانه مظاهر بعث الأكوان ببعث الإنسان فيقول (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ)ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (الحج5 :7).
والإمام أبو العزائم رضي الله عنه يلفتنا إلى ما في الآيات من ذكر ثم فكر ثم شهود، ويتكلم بإسهاب عن: آيات السماع، آيات العقل آيات الفكر، آيات الفقه، آيات التدبر، والآيات الخاصة بأولي الألباب، وبأولي الأبصار، وبأولي النهي ، آيات وآيات يعجز العقل عن حصرها..
كل هذا سواء في دروسه أو في كتبه، والضنائن بثه في مواجيده، وهذه المواجيد التي تبين الآيات تكوّن منهجًا كاملاً من مناهج علم الإمام، وفسر آيات الآفاق والأنفس عندما جاء ذكرها عند تفسيره للقرآن الكريم- وكم في الكتاب منها- تفسيرًا عصريًا كاملاً..
كل هذا ليدرب المسلم والمؤمن والمحسن والموقن وكل حسب مقامه، وليدرب المريد والسالك والواصل، وكل علي قدر ما عونه، ورسم له الطريق ليسير علي أرض الطاعة وعلي أرض العبادة متزودًا بزاد المتقين ومراقبًا عظمة الرب جل جلاله ليشهد الآثار المحيطة به بعيني القدرة والحكمة فينتقل من رؤية أثر إلى رؤية الآية التي بثها الله في هذا الأثر، فعين الرأس واقعة علي الأثر وتراه أثرًا وعين القلب تشهد بجوار ذلك الآية في الأثر. وبإشراق نور الآية في الأثر ينتقل العبد إلى أنوار التجليات ثم إلى الأسماء والصفات ثم إلى أنوار مجلي الذات..
ويطلب الإمام من السالك أن يطلب الخبير الذي يكشف له الغطاء عن الآيات التي أودعها الله في الآفاق وفي الأنفس (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِين وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (الذريات20 :21)
ويبين الإمام أن قول الله سبحانه وتعالى (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ) الأعراف: ٢٠٥ يقصد ربنا به أن يكون الذكر في مملكة النفس التي جعله الله بها إنساناً، لا في السر، فينكشف الغطاء عما بالإنسان من أسرار باريه، حتى يعرف نفسه فيعرف ربه. وإذا ما تراءت في الإنسان أسرار ربه التي أودعها فيه وأشرقت عليه أنوار باريه ذكر ربه في نفسه، هنا يتحقق الذكر الحقيقي في الآفاق وبعدها في النفس، وبهما يكون الذكر الأكبر..
إن علم الآيات علم عزيز، إذا تدرب عليه السالك تغير حاله من سيء إلى حسن ومن حسن إلى أحسن وهكذا..
ومن سار في درب هذا العلم فإنه لا يغيب عن مولاه نفسًا، وكيف يغيب؟ وهو إذا نظر إلى الماء ذكر الحي ، وإذا نظر إلى السماء ذكر الرافع، لأن المرفوع قد اختفي رغم وقوع عين الرأس عليه لتظهر أنوار الرافع، وإذا نظر إلى الأرض ذكر الباسط، وإذا نظر إلى سريع يسرع كقطار أو طائرة أو أي لون من ألوان السرعة ذكر السريع، وإذا نظر إلى الجبال ذكر القوي المتين، وإذا نظر إلى حاكم يحكم ذكر الحكم الحاكم العدل، وإذا نظر إلى إنسان ذكر السميع والبصير والمتكلم، وإذا نظر إلى عالم ذكر العالم والعليم والحكيم، وإذا وقعت عينه علي أي كائن تغيب المباني وتسطع المعاني ، والإمام يقول:
وإن نظرت عيني إلى أي كائن تغيب المباني والمعاني سواطع
لأن المعاني الشمس والكل أنجم إذا أشرقت فالنجم بالشمس طالع
2- علم تزكية النفوس
وهذه هي المرتبة الثانية في منهج الإمام لعلوم الرسالة الخمسة بعد تعلم علم الآيات ثم التدريب العملي عليها، والإمام يقول: (إذا زكت النفوس أشرقت عليها شموس القدوس، وتزكية النفوس قبل تلقي الدروس). والنفس إذا تزكت زكت، وإذا زكت أفلحت، والفلاح هو الفوز بجميع المقاصد الدنيوية والأخروية، قال تعالى (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) (الأعلى:14) وقال سبحانه (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) الشمس: ٩
لقد تكلم الكثير والكثير من العلماء بالله في عصورهم عن النفس وأمراضها وطرق تزكيتها، وذلك من باب أمر رسول الله ﴿ص وآله﴾ عندما عاد من غزوة من غزواته وقال: (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر: جهاد النفس). وقد سار الإمام علي نهج من قبله، ولكنه بسط الأمر علي أهل عصره واختصر لهم الطريق. وما من كتاب من كتبه إلا وتكلم فيه عن النفوس وتزكيتها، وفي كل كتاب لون مخالف لما سبقه، وأفرد لذلك المقالات العديدة التي تحث علي ذلك، ولم يترك مريد الحق بدون أن يُوجدَ له العلاجَ وفي دائرة التحصين بحصون الأمن والأمان..
ووضع مفاهيم جديده لهذا العلمَ متمثلة في كتاب: (محكمة الصلح الكبري )، تلك الجامعة الكبيرة والحديثة التي تمثل منهج الإمام التربوي في علوم النفس، وتوج هذا العمل بمناهج السير والسلوك التي بثها في مواجيده المتعددة، وهي ما تعرف بمواجيد السير والسلوك.
بسّطَ الإمام الأمر، وأراد أن يختصر الكلام الصعب، وكذلك أن يخرج من دائرة الفلسفات التي لاتغني ولا تسمن من جوع، فشرح للمريد النفس وتطورها وترديها ليكون علي بينة من الأمر.. أن الإنسان مثنوي من حيث تركيبه، فهو مكون من: جسم ظاهر بجوارح، وحقيقة باطنة وهي ماتسمي بالحقيقة الروحانية. والحقيقة الروحانية أيضًا لها ظاهر وباطن، وهي ما يطلق عليها بالنفس، إذ أن المثنوية لا تفارق الإنسان حتى ولو كان في الجنة حتى ينفرد الله بالأحدية.
والجسم وهو الظاهر، مدته محدودة في الدنيا، وعند نداء الحقيقة الروحانية للخروج من الدنيا فإنها تترك الجسم وتعود. وقد يسر الله لعباده هذا الفهم في الدنيا عن طريق الرؤيا، فعند الإستغراق في النوم يبقي الهيكل أو الجسم في مكانه وتنطلق الحقيقة وتتجول، فلا تتقيد بالجسم، بل تكون في حالة إطلاق كامل ومبهر، فقد تتواجد في أماكن مختلفة وبعيدة عن بعضها في لحظات، وقد تطير في الهواء، وقد تمشي علي الماء، وقد تلتقي بالأحياء والأموات، وقد يكون من تلتقي بهم نائمين أو أيقاظًا، فهذا كله لا يختلف، والله سبحانه يقول: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الزمر:42) ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عند نومه ويعلمنا أن ندعو بهذا الدعاء قبل النوم: (باسمك ربي وضعت جنبي "عند النوم" وبك أرفعه "عند الاستيقاظ" إن أمسكت نفسي "أي أمتها أثناء النوم" فارحمها "أي في البرزخ" وإن أرسلتها "أي أعدتها إلى هيكلها ليستيقظ فاحفظها "في الدنيا" بما تحفظ به عبادك الصالحين.
ويبين الإمام أن الحقيقة الروحانية كانت قبل خلق جسم آدم في عالم الإطلاق سابحة في الملأ الأعلى، وقد شاهدت هذه الحقيقة جمال ربها وسمعت لذيذ كلامه في يوم "ألستُ بربكم" أو "يوم الذر"..
فقد تجلى لها الحق، فشهدت وسمعت، وعوهدت ووثقت وقالت (بَلَى شَهِدْنَا ) مصداقا لقول الحق تبارك وتعالى )وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ )أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ) الأعراف: ١٧٢ - ١٧٣ إلى آخر الآية.
ولما أراد الله إبراز كل حقيقة بحسب ظهورها علي مسرح الحياة الدنيا لازمت كل حقيقةروحانية هيكلها في عالم الأرحام واستترت به، فأصبح الهيكل بُرقُعًا وسِتارًا لها..
وهذا اليوم هو ما يعبر عنه بيوم بطن الأم من ضمن أيام الله ) وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ) إبراهيم: ٥.
ويبين الإمام أن النفس ظلّت (وهي اللطيفة النورانية الربانية) في صفائها وفي طُهرها، إذ أن أصلها صفاء في صفاء وطهر في طهر، إلى أن اتصلت بالهيكل العنصري الترابي.. وبعد أن امتزجت به اختلف أمرها، فقد تهادت من عليائها ونزلت إلى أرض المادة واتصلت بهيكل مادي لتظهر على مسرح الدنيا من خلاله، وهذا الهيكل المادي ظُلماني بطبيعته ويميل إلى أسفل، فما هو من الأرض فهو أرض، فحجب الهيكل الحقيقة الروحانية بظلمته، والله سبحانه وتعالى يقول: )ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) التين: ٤ - ٦.
ويوضح الإمام أنه بطول المدة، نسيت الحقيقة الروحانية عالمها الروحاني باختلاطها بالمادة والتراب فاحتاجت لمذكِّر، وهذا هو سر إرسال الرسل وبعث الأنبياء، قال تعالى لحبيبه المصطفي ﴿ ص وآله﴾: )وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) (الذريات:55)، وقال جل شأنه )سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى) (الأعلى:10) ، وقال تعالى ) وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)(ابراهيم: من الآية5)
وعندما يذكُرُ المذكِّر تتذكر الحقيقة الروحانية عالمها الروحي، وتذكر يوم ألست بما فيه من عهود ومواثيق، وما فيه من جمال وجلال وكمال، وما كانت عليه الحقائق في صفاء وطهر وعفاف.
ولما كانت كل نفس بعد الحياة الدنيا ستعود إلى أصلها في يوم البرزخ وترجع إلى العالم الذي قدمت منه والذي سترجع إليه (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّه) (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) (يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) (كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ)، وأول خلق في الوجود هو المصطفي ﴿ ص وآله﴾، وأول خلق في الإنسان هو حقيقته الروحانية: احتاج الإنسان للمذكر في الحياة الدنيا، واحتاجت النفس لداع يدعوها للإيمان، فهي مؤمنة أصلاً ولكنها نسيت عهدها وميثاقها بسبب مُلابَسَتِها لهذا الهيكل الطيني والذي له مستلزمات ومتطلبات تختلف بالكلية عما تحتاجه الحقيقة الروحانية، ليبين لها طريق المجاهدة حتى تصفو وتعود إلى أصل فطرتها النورانية الصفائية وهي هنا في الدنيا، بعد أن أتاها ما عكر صفوها.
والنفس واحدة وقواها كثيرة، ولكن كل صفة من صفاتها تأخذ معان كثيرة، والمطلوب أن تكون هذه القوي في دائرة الخير. وهذه الصفات غير تنوع النفوس إلى نفس أمارة ولوامة ومطمئنة وراضية ومرضية. ومثال لذلك أن إنساناً دخل المدرسة الابتدائية وحصل علي شهادتها فزادت معلوماته وتغيرت الصور الداخلية فيه حسب المعلومات التي وصل إليها، وهو واحد. ثم ترقي هذا الإنسان معنويًا بحصوله علي الشهادة الإعداية، وزاد ترقيه عندما أنهي المرحلة الثانوية، وازداد ذلك بحصوله علي البكالوريوس أو الليسانس، ثم الماجستير والدكتوراه. إن الحقائق التي ترقت في هذا الإنسان داخلية وليست خارجية، وقد أصبحت هذه القيم المعنوية العليا مجالاً في ارتقاء حقيقته الباطنة. وقد تكون هذه القيم المعنوية من علوم ظاهر الحياة الدنيا التي يشترك فيها المسلم وغير المسلم، وقد تكون بالإضافة لهذه العلوم علوم أهل الله وهي علوم الكتاب والسنة، وبعض العلوم الخاصة ولكنها خاصة المخصوصين لا يكرم بها إلا الصفوة من عباد الله ولا يذوق أذواقهم فيما علموه إلا من هو منهم من أهل الإستجابة.
(1) فالنفس التي تميل إلى القهر وحب الإنتقام وحب الغلبة هي النفس السبعية.فإذا ظهرت هذه الرعونات علي النفس فتكون النفس المتصفة بالصفات السبعية هي المستولية والمستعلية علي الصفات الأخري بالرغم من وجودها.
(2) نفس تميل إلى الحرص والبخل والشح يقال: إنها نفس نباتية.
(3) إذا زادت علي ذلك تصبح نفسًا بهيمية وهي حب الشح وحب البخل والادخار المزري .
فالصفات تختلف من حال إلى حال فتكون نفسًا جمادية في وقت ما، وفي بعض الأحيان تكون نفسًا نباتية، وفي أحيان أخري بهيمية وسبعية. فإذا ما صفت هذه النفس بالتزكية تصبح نفسًا مَلَكية.
والنفس الملكية مع صفائها تعتريها الرعونات والنوازع في كثير من الأحيان إذا غلب الحال، وكان المحيطون بصاحب النفس الملكية قرناء للسوء فلا يري ولا يسمع منهم إلا الشر. وهذه الأحوال السيئة المحيطة قد تنعكس في لحظة ما بظلمتها علي صاحب النفس الملكية فتعتريها رعونة. وقد تأتي الرعونة عن طريق رد شتيمة وسباب أو الزيادة عليها، و(المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)، والأمثلة في هذا المجال كثيرة ولذلك فلو جالس الإنسان أهل الصدق، انعكست أنوار صدقهم علي جوهر النفس فتزداد صفاء ورقيًا وعروجًا، وهذا هو سر توجيه ربنا سبحانه لنا في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة:119)، وقوله تعالى ) فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (الأنعام: ٦٨).
والنفس تميل إلى الرياسة لأنها تحس بأصلها، والإمام يبين ذلك فيقول:
والنفس داعية الرياسة فاحذرن فرعونها تنجو من الداء الدفين
والمثال هنا أن الإنسان عندما يكون أبوه أو جده من أصل عريق أو مرموق في المجتمع حتى لو لم يكن يملك شيئًا ولكنه يحس بنفسه أنه علي صورة أبيه أو صورة أجداده. ولكن الصورة التي أسجد الله لها ملائكته تحس أنها الكل في الكل، والحديث النبوي الشريف يقول: (خلق الله آدم علي صورة الرحمن) وفي حديث آخر (خلق الله آدم علي صورته) وكذلك الصور التي خرجت منها، ولكن ليس الكل قد خلق علي الصورة.. ولكن النفس التي زكت وصفت واستقامت هي التي خلقت علي الصورة، لأنها استنارت واتحدت بأصلها فوصلت واتصلت وأشرق عليها نور الأًصل فظهرت من خلالها الأنوار وسمعت منها الأسرار، وما جاز لأبينا آدم يجوز لكل نفس زكاها ربنا.
وعلي ذلك، فإن الإمام يقرر أن التزكية معناها أن يستحضر العبد العَود للبدء الذي جاء منه وهو هنا في عالم الدنيا حتى يحين موعد انتقاله إلى برزخه. فإذا عاد للبدء بالعلم النافع والإشراق والحكمة الصادقة سار في الدنيا كما سار أئمة السلف بالحق واليقين وبالإقبال والتمكين وبالقبول من حضرة رب العالمين.
3-4 علم الكتاب والحكمة:
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد علم أصحابه علم الآيات في الآفاق وفي الأنفس، ثم علمهم علوم تزكية النفوس، ثم فتح لهم علوم الكتاب والحكمة..
وقد تأخر علم الكتاب والحكمة عن علم تلاوة الآيات وعلم تزكية الأنفس (كنا نتعلم الإيمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن نتعلم القرآن، حتى إذا ما تلي علينا القرآن ازددنا إيمانا على إيماننا). وهذا المنهج هو المنهج الذي أخذ به رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وفيه يقول تعالى (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ )الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (لأنفال2 :4) .
ولما تليت الآيات وزكت النفوس أصبحت القلوب مهيئة لتقلي العلم النافع وهو علم الكتاب والحكمة. لقد انجلى القلب وأشرقت أنوار القدس الأعلى على أرض النفس وتأهل صاحب القلب السليم والنفس الزكية لتلقي العلم الذي سيطبقة عملا. وفي الكتاب علم الأحكام الشرعية ، وهذه العلوم لها بداية ولها نهاية وإن طال مدى الطلب في دائرتها. وكتاب الأحكام الشرعية يكلف به المسلم لتصح عباداته الكثيرة.
وإذا ما جعل الإنسان قلبه مهبطا لتنزل آيات القرآن (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ )(الاسراء: من الآية82) فإن الله يتجلى عليه بعلوم العلم الخامس وهو العلم اللدني (وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ)(البقرة: من الآية151) ليدخل في دائرة الذكر الأكبر (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) (البقرة:152) ، فيفقه الإنسان ما يقال وإن كان صعبا لأن مقدمة علوم الآخرة موجودة هنا في الدنيا، فإذا تعرض لها هنا كان مؤهلا للتلقي هناك.
وبعد علوم الأحكام الشرعية تصح الصلاة وتصح الزكاة ويصح الحج ويصح الصوم، ويدخل الإنسان في دائرة حكمة الحكم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (من أخلص لله أربعين صباحا تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه) ، والإخلاص سر بين الرب وعبده، فيعلمه ربه ما لم يكن يعلم.
إن قراءة القرآن شيء والتدبير في معانيه شيء آخر، والنبي صلى الله عليه وسلم يحض على التفكر في آلاء الله، ويحض كذلك على التدبر في كلام الله. إن كلام الله صفة قديمة أزلية لا تنتهي معانيها (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ )(لقمان: من الآية27) ، وأوجد الله فينا ما يسمى بالقابل النوراني وهو الاستعداد الروحي لفهم كلامه والاندماج فيما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإذا ما أكرم الله العبد بالقابل النوراني وأكرمه كذلك بالعالم العامل أو المرشد الكامل انفعل قلبه، وتلقى بسر القابل من رب العالمين، وفقه عن سيد المرسلين.
وقال الإمام رضي الله عنه "إنما رمز الرجال كنوز أسرارهم لأن الحكمة جلت أن يباح بها إلا لأهلها، وهي قوت الأرواح، فيجب أن تظهر وأن تنكر حتى يلتقطها أهلها من لسان العارف أو من المسطر على الأوراق من العوارف" .
قال صلى الله عليه وسلم (رب مبلغ أوعى من سامع).
إذا لم تتضح لك الحكمة عند مطالعة الرموز فهاجر إلى الرجل أين كان، فإن فقدته فلا تفقد رياضة نفسك وتهذيبها.
5- العلم اللدني:
ولا نهاية لهذا الميدان فهو علم الأسرار، وقد أعطانا ربنا الإشارة عنه مخبرا عن خضر موسى عليهما السلام : )فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) (الكهف:65) وهذا العلم اللدني لالا يكون نتيجة للتقوى فقط، لأن التقوى سبب وفيها مجاهدة ينتجان طهارة النفس وسلامة للقلب واتصالا للروح بأصلها وعالمها، أما العلم اللدني فإنه هبة خالصة لا شأن لها باستقامة أو سير وسلوك أو مجاهدة للنفس وإن كان هذا كله مطلوب، إنما هي فضل محض على من يشاء الله من عباده المتقين بلا علة عمل، يقول الإمام رضوان الله عليه مبينا ذلك:
كم عامل في ظلمة لا يشهدن إلا وساوس نفسه بخيال
والفضل فضل الله يعطي منه بالحب في طه العزيز الغالي
من لحظة في الحب تشهد وجهه وتفوز منه بسره والحال
تعطي العلوم وتشهدن فترجمن بلسان أهل القرب والأبدال
وهذا العلم يشير المصطفى صلى الله عليه وسلم إليه بقوله (إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا العلماء بالله فإذا ذكروه أنكره أهل الغرة بالله تعالى).
وهو علم لكن عند أهله وهم أهل القرآن ظهرا وبطنا وحدا ومطلعا، وهم أهل الله وخاصته حسب حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم (أهل القرآن هم أهل الله وخاصته).
وإذا كان القارئ للقرآن من أهل الصدق في القراءة ومن أهل الإقبال في التلاوة، صقل الله بأنوار التلاوة مرآة قلبه، فظهرت فيها صور التجليات الإلهية التي لا حصر لها والتي لا تنتهي ألوانها، فتظهر آثار التجليات على الجوارح الظاهرة.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد علمه ربه علوم الأولين والآخرين وآتاه جوامع الكلم، فسيدنا عيسى كلمة من كلمات الله، والنبي صلى الله عليه وسلم يمثل جوامع الكلم، والكلم إطلاق تفيد اللانهائية، وبالرغم من ذلك يقول لـه ربه تبارك وتعالى ) وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) طه: ١١٤ مع أنه علمه وكاشفه وجمع له الأزل والأبد في آن واحد، وكان وهو في حُجُراته يجتمع بعالمي الإنس والجن،والملائكة والأرواح العالية، لا تحجبه مادة ولا تمنعه سماء، ولا يحجب سمعه ببعد مسافة، وكان يري من خلفه كما يري من أمامه، ويبيت عند ربه فيطعمه ويسقيه، ويسمع ما في السماوات ومن في السماوات ويراهم، ويسمع أطيط السماء ويري ازدحام الملائكة فيها.. ومع كل هذا فربه يقول له: (وقل رب زدني علما).
ولكن ماهو العلم الذي يطلب الزيادة منه رسول الله ﴿ ص وآله﴾؟ أهو علوم الآيات وتزكية النفوس والكتاب والحكمة؟ أهو العلم اللدني ؟ والعلم اللدني علي قدرنا نحن لا علي قدره هو..
إنها علوم غيبية ذاتية تتعلق بذات الأحد تعالى ، وعلوم الغيب المصون هي علم السر المكنون، ويشير إلى ذلك ﴿ص وآله﴾ بقوله: (ألا إني أوتيتُ القرآن ومثله معه) ويرددها ثلاث مرات. ومِثْلُ القرآن هنا سر انطوي عليه قلب رسول الله ﴿ص وآله﴾ كان لا يكاشف به إلا أهل سابقة الحسني ، ولا يفاتح بأسراره إلا أهل المحبة الصادقة والتسليم الكامل.
إن هذه العلوم الخمسة كاملة قد ورثها الإمام رضي الله عنه عن رسول الله ﴿ص وآله﴾ بالفضل فيما أقيم فيه، وعلمها لأحبابه، فهو صورة الذكر الأكبر. والسعيد السعيد حقًا من أكرم بمعرفته وخطط له قدره مقابلته أو مقابلة من قابله أو الأخذ ممن أخذ منه أو عمن أخذ ممن أخذ منه وهكذا.
ويقول الإمام شارحًا هذه الأسرار:
"هذه الأسرار لا تفهم بميزان العقول، ولاتدرك بضوابط الفهوم، ولا تنال بمدارسة العلوم، وإنما هي صورة المعلوم تنقش علي جوهر النفس بعد التسليم الكامل وتزكية النفس بالمسارعة إلى العبادات، وتطهيرها من قاذورات البشرية ورعونات الإنسانية،وإطفاء نار الأطماع والحظوظ والآمال التي اقتضتها القوي الجسمانية، كل ذلك لا ليدرك الأسرار ولا ليتحصل علي مشاهدة الأنوار.. بل قيامًا بما أمر الله سبحانه واقتداء برسول الله ﴿ ص وآله﴾، حتى يجاهد نفسه في ذات الله حق الجهاد خالصًا مخلصًا، وعندها يورثه الله تعالى ذوق هذه الأسرار وينشله سبحانه وتعالى من ظلمات الشك والشرك والظلومية والجهولية إلى أن يعيده كما بدأه، مشاهداً لجمال ربه سامعاً لكلامه سبحانه منه كما شهد وسمع يوم ألست..
قال الله تعالى )لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) (التين4 :6)
وقال سبحانه وتعالى )اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ) البقرة: ٢٥٧
فمن أخرجه الله سبحانه من الظلمات إلى النور فشهد ما لم يشهده غيره فتغيرت أخلاقه وعاداته وصفاته حتى صار غريبًا بين أهله ولام عليه من هو في الظلمات، أيحب أن يعود إليها بعد أن أخرجه الله منها؟ إنما ذلك يكون لمن لم يشهد تلك المشاهد العلية ولم يذق من تلك الأسرار الربانية ما يجعله يسارع إلى محاب الله ورضوانه، قال العاشق:
أعد ذكر من أهوي ولو بِمَلامي . فإن أحاديث الحبيبِ مُدامي
وتلك المواهب اللدنية يقول فيها الإمام من مضنون علوم الخلوة :
العلم بالله عن شهود ووجود، لا عن فهم للقول وعقل للمعاني .. إذ الفهم لا يكون إلا للعلم بأوامر الله تعالى، والعقل إنما يستعمل في إدراك آياته سبحانه وتعالى.
وفهم أوامره وإدراك آياته: غيره جلت قدرته وتقدست أسماؤه.
الهبات اللدنية:
مبدؤها يقين عن ذوق وتدبر وعلم بالأصول، أصول الكتاب العزيز والسنة المطهرة، يقوي حتى يساوي المشاهدة لِتُمَكِّنَ الموقن بما ذاقه من فهم الكتاب العزيز والسنة المطهرة تمكنًا عن وجد وشوق وصدق وإخلاص.
ووسطها مراقبة استحضارية لمشاهدة ما تيقنه من عوالم الملكوت الأعلى ليزداد علمًا ويكمل يقينًا، وتقوي لطائف القلب الذي هو محل نظر الحق سبحانه قوة تقهر بها عوالم النفوس الحيوانية والقوي الإنسانية والصفات المجبول عليها الإنسان حتى تكون أنوار الملأ الأعلي تسطع علي لطائف القلب بأنوار الأسرار وأسرار الغيوب الملكوتية، وبهذه المراقبة يكون كأنه مَلَكٌ مُقَرَّب لمشاهدة عوالم الملائكة بنور البصيرة وعيون السريرة.
وكمالها باصطياد الآيات العالية من حظيرة القدس الأعلي وفراغ قلبه مما سوي الحق وآياته وقدوم الأنوار، وتتوإلى عليه فترقق عوالم عناصره السفلية وتقوي عوالم مَلَكِيَّتِهِ حتي تتفتق عين بصيرته وتقوي أنوارها، فتشرق علي عوالمه المادية فيري بعيون البصيرة أسرار الغيوب، ويلوح من شدة الأنوار عليه ودوام التوجه منه أنه يري بقواه الظاهرة محسوسًا مشاهدًا.
وهو الغريب في عشيرته وإن كانوا أهله وجيرانه، العدو في قومه وإن كانوا أرحامه و(طوبي للغرباء)، وهذا نهاية الكشف والمشاهدة،وهو مقام عين اليقين وحق اليقين ورتبة الصبغة الإلهية ومنزلة الرجل الرباني وحال العناية الصمدانية، يُري وَلِهاً ولا وَلَهَ عنده، مُهَيّمًاً ولا هيام به، مجنونًا ولا جنون يعتريه وإنما انكشفت له الآيات انكشافًا أشهده في الآفاق وفي نفسه: ما به قام كل شيء بقيومية الحي القيوم وقدرة القادر الحكيم وتدبير المريد البديع، فصار شاهدًا مشهودًا، ولمقامه عند ربه أقسم به (وشاهد ومشهود) البروج: ٣.
ولدي هذا الكشف تظهر له سيما العالم وتنعكس عليه ظلماتهم سواء بإقبال عليه أو إنكار، فإن كان ممن اطمأنت قلوبهم بذكره شهد الحق وغاب عن سيماه الخلق واطمأن قلبه واستأنس بالله تعالى في الحالين ونطق بالحكمة، لا يغيره إقبال ولا إدبار، لا يؤثر عليه تسليم ولا إنكار، وهو الرجل المؤهل للوراثة المحمدية الذي ينتقل لحق اليقين، واليقين الحق مقامه، لو رفع الحجاب ما ازداد يقينًا، وهذا المقام الإشارة فيه عبارة، والعبارة فيه عماء وظلمة، والمتمكن فيه فرد الوجود في عصره، إليه الإشارة ومنه الإستمداد وبه الفيوضات والأسرار، وهو قلب العالم الذي ينظر الله تعالى إلى العوالم فيه.