عدد المشاهدات:
نرى ان العالم الإسلامي في القرون الأخيرة يدور في دائرة مفرغة حائما حول أغلاطه من غير أن يجد جوهر ذاته وروحه؛ فكلما تقدم خطوة إلى الأمام، أعقبها بتراجع خطوات إلى الوراء أو انحرافات عن سواء السبيل. بل كثيراً ما خلف هذا السير المشؤوم أو الانحراف اللعين الذي طغت خطاياه على صوابه وأغرقت أضراره فوائده، آثاراً غير محمودة على الجهود الذاتية الاجتماعية في تحري سبل العودة إلى الذات، فعرّضت الأعمال الطيبة ورجالها إلى التزلزل من الأعماق. هذه الحال تدل على أن عقد الخرز قد انفرط في العالم، وأن دولاب الدول والشعوب يدور خلاف مصالحها.
لذلك، نؤمن بضرورة توجيه العالم الإسلامي جميعاً إلى التجدد بكل أجزائه في فهم الإيمان، وتلقيات الإسلام،[1] وممارسة الإحسان، وإثارة العشق والشوق، وتحكيم المنطق، وتعديل طريقة التفكير، وأسلوب التعبير عن الفس، بمؤسساته ونظمه التي تكسبه هذه الأحوال.
إن أساس حياتنا الروحية قائم على الفكر الديني والتصورات الدينية. ولقد حافظنا على وجودنا حتى اليوم بهذا الأساس، وكانت وثباتنا أيضاً منطلقة منه. فإن جردنا أنفسنا منه، فسوف نجد أنفسنا متخلفين ألف سنة إلى الوراء. إن الدين الذي يهدف إلى إضفاء المعنى على الإنسان والكائنات، ويتفتح على الروح الإنسانية والذات، وتحقيق الرغبات الممتدة إلى ما وراء الدُّنَى، وإشباع حس الأبد في الوجدان... ليس منحصراً على العبادات؛ إنه يحتضن الحياة الفردية والاجتماعية جميعاً... ويتدخل في كل ما هو لنا: عقليٍّ وروحيٍّ وقلبيٍّ... ويصبغ بصبغته كل تصرف لنا حسب نيتنا، ويلونه بلونه.
نعم، كل تصرف للمؤمن الحق قائم على محور العبادة، وكل جهد له ذو بُعد جهادي، وكل حملة وجهد له متلون بالعقبى والرضا. فلا محل في حياته للفصل بين الدنيا والعقبى... ولا برزخ بين قلبه وعقله... وعواطفُه ومنطقه مزيج واحد متداخل... ولا تتناكر محاكمته العقلية مع إلهاماته. كذا، التجربة والخبرة في عالم فكره سُلّمٌ نوراني يتصل بالعقل، والعلمُ برج عال بحسابات الفراسة. فهو نسر يحلق إلى اللانهاية دوماً بأجنحة العشق العملاقة في هذا السُلّم، وحلاجٌ يندف قطن الوجود ندفاً بفطنته في هذا البرج. وحيث لا فراغ في أي زاوية من زوايا هذا الفهم، فلا كلام عن إهمال الإنسان الفردي أو الاجتماعي في هذه المنظومة.
والذين يختلقون صداماً بين الدين وبين العلم والمحاكمة العقلية، هم بؤساء جهلوا روح الدين والعقل. أما إلقاء مسؤولية الصراع بين الفئات الاجتماعية المتنوعة على كاهل الدين، فهو انخداع من كل النواحي. لأن الصراع بين التكتلات نابع من الجهل والمنافع الشخصية والمصالح الفئوية. ولن يؤيد الدين أيًّا من هذه المشاعر والأفكار. والواقع أننا قد نشهد صداماً وصراعاً بين قسم من المتدينين أيضاً، إلا أن هذا يرجع إلى أن هؤلاء الحاملين لنفس الجذوة الروحية لم يبلغوا المستوى المطلوب في صدق الإيمان وحفظ الإخلاص... وربما تغلبهم عواطفهم أحيانا... وإلا فالفضيلة المؤمنة لن تفتح المجال للسقوط في أمثال هذه التعاسة. والواقع أن سبيل النجاة الوحي
من السقوط في هذا البؤس هو إحياء الدين بكل مؤسساته وجعلُها مصدر حياة وغذاء للمجتمع.
إن المجتمع الإسلامي بحاجة إلى "انبعاث جديد"، وإصلاح جاد في ملكاته العقلية والروحية والفكرية، وبتعبير أكثر حيوية، إلى "إحياء"... إحياء يستجيب لمتطلبات جميع أصناف البشر ويحتضن الحياة كلها، في كل زمان ومكان، بقدر السعة والعالمية التي تتسع لها مرونة النصوص، مع السعي الجاد للحفاظ على أصول الدين.
إن هذا النظام المبارك منذ أن شعرنا بظله فوق رؤوسنا -أدام الله حفظه علينا إلى الأبد- قد فتح بابه مراراً على التجديد والإصلاح، فشهدنا الانبعاث مرات عديدة. فعامة المذاهب ومعظمها تمثّل التجديد في الفقه والحقوق. و أما الطرق الصوفية فقد مهدت المسالك إلى القلب والروح وعبّدتها. والكتاتيب والمدارس عموماً -يوم أن كانت لنا- قامت في غالب نشاطها بإضفاء المعنى على الوجود والكون. وأما التجديد والانبعاث المأمول في الوقت الحاضر، فيتحقق بالتوفيق بين كل ما ذكرناه من المؤسسات وحشدها جمعاً في مَجمع واحد. وهذا يعني النفاذَ من القالب إلى اللب، وترك الشكلية والتوجه إلى الجوهر والروح، في كل مسألة. ويعني أيضاً التوجّه إلى اليقين في الإيمان، وإلى الإخلاص في العمل، وإلى الإحسان في الحس والفكر...
نعم، ينبغي أن تكون "الكمية" تامة و"النوعية" هدفاً في العبادات، والكلمات وسيلة والروح والصدق أساساً في الدعوات، والسنة مرشدة في التصرفات، والشعور لازما. وفي كل هذه الغايةُ والقصد هو الله... فليست الصلاة قياماً وقعودا... ولن تكون الزكاة مالاً مطروحاً تخرج من المال تبرئة للذمة وتصرف إلى حيث لا يدرى أين مصيره... ولئن صار الصيام جوعاً وعطشا، فماذا يميزه عن الحِمْية؟ والحج إن لم يجْر في فَلَكه، فما اختلافه عن سياحة بين مدينة وأخرى تدرّ على بعضهم عملاتٍ أجنبية؟ والعبادات إن انحصرت في الكم قد تصير كلعب الأطفال... وصيحات الأدعية الخاوية من الروح شغل الباحث عن عمل الحلوق... والحج والعمرة إن صارتا مشقة تُحتمل للتسلي بحمل لقب "الحاج" ومناقب الحج، فسوف يفقدان الحكمة والقصد منهما...
إن سبيل الخلاص من الاضمحلال والهدر في شِباك كل هذه السلبيات، هو إعلان النفير العام لإعداد أطبّاء الروح والمعنى، الذين يملؤون كل الفراغات في كياننا، ويزيلون نقاط الضعف في نفوسنا، وينقذوننا من عبودية الجسم والبدن ويقودوننا إلى مستوى الحياة القلبية والروحية... أطباء تتسع قلوبهم لكل ساحات العلم والذكاء والعرفان والواردات والفيوضات... من الفيزياء إلى الميتافيزيقا، ومن الرياضيات إلى الأخلاق، ومن الفنون الجميلة إلى التصوف، ومن الكيمياء إلى الروحانية، ومن الفضائيات إلى الأنفسية، ومن الحقوق إلى الفقه، ومن السياسة إلى السير والسلوك. إن هذه الأمة ليست بحاجة إلى هذا وذاك، بل إلى مثل هذا المخ المدبر. فكما يرتبط العقل ويحاور كل جهة بعيدة وقريبة في البدن عبر الأعصاب، ويرسل الرسائل إلى أقصى نقاطه ويستلم منها، فإن هذا الفريق سيكون في تعاط مع جميع خلايا جسم الأمة وجزيئاته وذراته وجُسيماته، ويصل إلى جميع الوحدات في المجتمع، ويمتد تأثيره إلى جميع أجزائه الحيوية... ويهمس في أذن كل شرائحه شيئاً من الروح ومن المعنى، مقبلاً من الماضي ومكتسباً عمقا أشد غورا في الحاضر، وممتداً إلى المستقبل.
هذا الفريق يسع صدره لكل الناس؛ من الطفل الملتزم والمؤدب في المدارس، إلى أبناء الوطن السائبين وغير المنضبطين في الأزقة والشوارع. ويُفرِغ في كل صدرٍ إلهاماتِ روحه، ويربّيهم دهاة مؤهلين بعلوم الغد ومهاراته ويُعِدّهم لفائدة المجتمع، ويرفع كل إنسان وكل شريحة إلى الكمالات الإنسانية بالتطهر من لوثات العصر في صفاء مآوي النور ومجمّعات إقامة الطلاب وبيوت الطلبة والمدارس والجامعات والمعابد والتكايا...
هذا الفريق يؤنس وحشية الصحف والمجلات والراديو والتلفزيون ووسائل الإعلام القوية، ليجعلها صوتاً ونَفَساً للدين والملّة من وجهة، ويرشد بها من وجهة أخرى الأحاسيس السوداء والأفكار القاتمة والأصوات المدلهمة، للوصول إلى سبيل المستوى الإنسانية.
هذا الفريق ينقذ مؤسسات التربية والتعليم التي تغير شكلها ووجهتها كل يوم حسب الأجواء تحت وطأة الضغوط الخارجية والانحرافات الداخلية... ينقذها من وصاية الأفكار الدخيلة من مراكز القوى العالمية، فينظمها بصورة تستجيب لمتطلبات الحاضر وحسب السياق التاريخي، ويرفعها لتكون مؤسسة ذات رسالة وهدف ببرنامجها وخطتها وأسلوبها.
بفضل ذلك، ترتقي الأمة من الفقر الحسي والفكري، والحفظ الببغائي والنمطية إلى التفكير العلمي الحقيقي، ومن تزكية أنواع الرذائل باسم الفن إلى الفن والجمال الحقيقي، ومن العادة والإدمان المجهول المنشأ والنسب، إلى الشعور الأخلاقي النابع من الدين والتاريخ، ومن التعصب لشتى الأفكار القابعة في صدورنا والتي أضنتنا وأنهكتنا، إلى توحيد القبلة في الخدمة الإيمانية والتسليم والشعور والتوكل.
لنضعْ جانبا بلبلة التكوينات الجديدة في العالم، نحن لا نصدّق بولادة شيء جديد من الهندام الرأسمالي القديم، أو أحلام الشيوعية، أو تكسيراتها الاشتراكية، أو هجينها الديمقراطية الاجتماعية، أو خرق الليبرالية البالية. الحقيقة هي أنه إن كان ثَمّ عالَمٌ مشرّعُ الأبواب لنظام عالمي جديد، فهو عالمنا نحن. وقد يتناوله الجيل القادم على أنه عصر نهضتنا نحن.
هذه الولادة الجديدة، ستُكسب عالم مشاعرنا وأفكارنا، وكذلك مفاهيم فنّنا وجمالنا، أعماقاً مختلفة اختلافاً شاسعاً عما هو عليه الآن. وبذلك سنكتشف أذواقنا البديعة ونصل إلى موسيقانا، ونعثر على رومانسيتنا... ونجعل شعبنا يستقر على أساس متين من كل النواحي، سواء في العلم والفن، أو الفكر والأخلاق، فنضمن مستقبله.
شعارنا في هذا المضمار النفيرُ والإقدام، ومصدر قوّتنا الإيمان والحقيقة. لقد أخفق دوماً الذين داروا بنا على الأبواب الأخرى على أمل الشفاء من الأدواء بالانفلات من الإيمان ومن الأخلاق. ولقد نلنا نحن المعالي، وبقينا شرفاء، بفضل الله الذي ارتبطت قلوبنا به، وفي ظل تسليمنا وانتمائنا إلى أمتنا التي رجحناها على كل شيء دنيوي، وبلادِنا التي نشأنا في ربوعها وترعرعنا في حضنها. ولا أظن بأنني في حاجة إلى شرح الواقع بعكس الحال!
لذلك، نؤمن بضرورة توجيه العالم الإسلامي جميعاً إلى التجدد بكل أجزائه في فهم الإيمان، وتلقيات الإسلام،[1] وممارسة الإحسان، وإثارة العشق والشوق، وتحكيم المنطق، وتعديل طريقة التفكير، وأسلوب التعبير عن الفس، بمؤسساته ونظمه التي تكسبه هذه الأحوال.
إن أساس حياتنا الروحية قائم على الفكر الديني والتصورات الدينية. ولقد حافظنا على وجودنا حتى اليوم بهذا الأساس، وكانت وثباتنا أيضاً منطلقة منه. فإن جردنا أنفسنا منه، فسوف نجد أنفسنا متخلفين ألف سنة إلى الوراء. إن الدين الذي يهدف إلى إضفاء المعنى على الإنسان والكائنات، ويتفتح على الروح الإنسانية والذات، وتحقيق الرغبات الممتدة إلى ما وراء الدُّنَى، وإشباع حس الأبد في الوجدان... ليس منحصراً على العبادات؛ إنه يحتضن الحياة الفردية والاجتماعية جميعاً... ويتدخل في كل ما هو لنا: عقليٍّ وروحيٍّ وقلبيٍّ... ويصبغ بصبغته كل تصرف لنا حسب نيتنا، ويلونه بلونه.
نعم، كل تصرف للمؤمن الحق قائم على محور العبادة، وكل جهد له ذو بُعد جهادي، وكل حملة وجهد له متلون بالعقبى والرضا. فلا محل في حياته للفصل بين الدنيا والعقبى... ولا برزخ بين قلبه وعقله... وعواطفُه ومنطقه مزيج واحد متداخل... ولا تتناكر محاكمته العقلية مع إلهاماته. كذا، التجربة والخبرة في عالم فكره سُلّمٌ نوراني يتصل بالعقل، والعلمُ برج عال بحسابات الفراسة. فهو نسر يحلق إلى اللانهاية دوماً بأجنحة العشق العملاقة في هذا السُلّم، وحلاجٌ يندف قطن الوجود ندفاً بفطنته في هذا البرج. وحيث لا فراغ في أي زاوية من زوايا هذا الفهم، فلا كلام عن إهمال الإنسان الفردي أو الاجتماعي في هذه المنظومة.
والذين يختلقون صداماً بين الدين وبين العلم والمحاكمة العقلية، هم بؤساء جهلوا روح الدين والعقل. أما إلقاء مسؤولية الصراع بين الفئات الاجتماعية المتنوعة على كاهل الدين، فهو انخداع من كل النواحي. لأن الصراع بين التكتلات نابع من الجهل والمنافع الشخصية والمصالح الفئوية. ولن يؤيد الدين أيًّا من هذه المشاعر والأفكار. والواقع أننا قد نشهد صداماً وصراعاً بين قسم من المتدينين أيضاً، إلا أن هذا يرجع إلى أن هؤلاء الحاملين لنفس الجذوة الروحية لم يبلغوا المستوى المطلوب في صدق الإيمان وحفظ الإخلاص... وربما تغلبهم عواطفهم أحيانا... وإلا فالفضيلة المؤمنة لن تفتح المجال للسقوط في أمثال هذه التعاسة. والواقع أن سبيل النجاة الوحي
من السقوط في هذا البؤس هو إحياء الدين بكل مؤسساته وجعلُها مصدر حياة وغذاء للمجتمع.
إن المجتمع الإسلامي بحاجة إلى "انبعاث جديد"، وإصلاح جاد في ملكاته العقلية والروحية والفكرية، وبتعبير أكثر حيوية، إلى "إحياء"... إحياء يستجيب لمتطلبات جميع أصناف البشر ويحتضن الحياة كلها، في كل زمان ومكان، بقدر السعة والعالمية التي تتسع لها مرونة النصوص، مع السعي الجاد للحفاظ على أصول الدين.
إن هذا النظام المبارك منذ أن شعرنا بظله فوق رؤوسنا -أدام الله حفظه علينا إلى الأبد- قد فتح بابه مراراً على التجديد والإصلاح، فشهدنا الانبعاث مرات عديدة. فعامة المذاهب ومعظمها تمثّل التجديد في الفقه والحقوق. و أما الطرق الصوفية فقد مهدت المسالك إلى القلب والروح وعبّدتها. والكتاتيب والمدارس عموماً -يوم أن كانت لنا- قامت في غالب نشاطها بإضفاء المعنى على الوجود والكون. وأما التجديد والانبعاث المأمول في الوقت الحاضر، فيتحقق بالتوفيق بين كل ما ذكرناه من المؤسسات وحشدها جمعاً في مَجمع واحد. وهذا يعني النفاذَ من القالب إلى اللب، وترك الشكلية والتوجه إلى الجوهر والروح، في كل مسألة. ويعني أيضاً التوجّه إلى اليقين في الإيمان، وإلى الإخلاص في العمل، وإلى الإحسان في الحس والفكر...
نعم، ينبغي أن تكون "الكمية" تامة و"النوعية" هدفاً في العبادات، والكلمات وسيلة والروح والصدق أساساً في الدعوات، والسنة مرشدة في التصرفات، والشعور لازما. وفي كل هذه الغايةُ والقصد هو الله... فليست الصلاة قياماً وقعودا... ولن تكون الزكاة مالاً مطروحاً تخرج من المال تبرئة للذمة وتصرف إلى حيث لا يدرى أين مصيره... ولئن صار الصيام جوعاً وعطشا، فماذا يميزه عن الحِمْية؟ والحج إن لم يجْر في فَلَكه، فما اختلافه عن سياحة بين مدينة وأخرى تدرّ على بعضهم عملاتٍ أجنبية؟ والعبادات إن انحصرت في الكم قد تصير كلعب الأطفال... وصيحات الأدعية الخاوية من الروح شغل الباحث عن عمل الحلوق... والحج والعمرة إن صارتا مشقة تُحتمل للتسلي بحمل لقب "الحاج" ومناقب الحج، فسوف يفقدان الحكمة والقصد منهما...
إن سبيل الخلاص من الاضمحلال والهدر في شِباك كل هذه السلبيات، هو إعلان النفير العام لإعداد أطبّاء الروح والمعنى، الذين يملؤون كل الفراغات في كياننا، ويزيلون نقاط الضعف في نفوسنا، وينقذوننا من عبودية الجسم والبدن ويقودوننا إلى مستوى الحياة القلبية والروحية... أطباء تتسع قلوبهم لكل ساحات العلم والذكاء والعرفان والواردات والفيوضات... من الفيزياء إلى الميتافيزيقا، ومن الرياضيات إلى الأخلاق، ومن الفنون الجميلة إلى التصوف، ومن الكيمياء إلى الروحانية، ومن الفضائيات إلى الأنفسية، ومن الحقوق إلى الفقه، ومن السياسة إلى السير والسلوك. إن هذه الأمة ليست بحاجة إلى هذا وذاك، بل إلى مثل هذا المخ المدبر. فكما يرتبط العقل ويحاور كل جهة بعيدة وقريبة في البدن عبر الأعصاب، ويرسل الرسائل إلى أقصى نقاطه ويستلم منها، فإن هذا الفريق سيكون في تعاط مع جميع خلايا جسم الأمة وجزيئاته وذراته وجُسيماته، ويصل إلى جميع الوحدات في المجتمع، ويمتد تأثيره إلى جميع أجزائه الحيوية... ويهمس في أذن كل شرائحه شيئاً من الروح ومن المعنى، مقبلاً من الماضي ومكتسباً عمقا أشد غورا في الحاضر، وممتداً إلى المستقبل.
هذا الفريق يسع صدره لكل الناس؛ من الطفل الملتزم والمؤدب في المدارس، إلى أبناء الوطن السائبين وغير المنضبطين في الأزقة والشوارع. ويُفرِغ في كل صدرٍ إلهاماتِ روحه، ويربّيهم دهاة مؤهلين بعلوم الغد ومهاراته ويُعِدّهم لفائدة المجتمع، ويرفع كل إنسان وكل شريحة إلى الكمالات الإنسانية بالتطهر من لوثات العصر في صفاء مآوي النور ومجمّعات إقامة الطلاب وبيوت الطلبة والمدارس والجامعات والمعابد والتكايا...
هذا الفريق يؤنس وحشية الصحف والمجلات والراديو والتلفزيون ووسائل الإعلام القوية، ليجعلها صوتاً ونَفَساً للدين والملّة من وجهة، ويرشد بها من وجهة أخرى الأحاسيس السوداء والأفكار القاتمة والأصوات المدلهمة، للوصول إلى سبيل المستوى الإنسانية.
هذا الفريق ينقذ مؤسسات التربية والتعليم التي تغير شكلها ووجهتها كل يوم حسب الأجواء تحت وطأة الضغوط الخارجية والانحرافات الداخلية... ينقذها من وصاية الأفكار الدخيلة من مراكز القوى العالمية، فينظمها بصورة تستجيب لمتطلبات الحاضر وحسب السياق التاريخي، ويرفعها لتكون مؤسسة ذات رسالة وهدف ببرنامجها وخطتها وأسلوبها.
بفضل ذلك، ترتقي الأمة من الفقر الحسي والفكري، والحفظ الببغائي والنمطية إلى التفكير العلمي الحقيقي، ومن تزكية أنواع الرذائل باسم الفن إلى الفن والجمال الحقيقي، ومن العادة والإدمان المجهول المنشأ والنسب، إلى الشعور الأخلاقي النابع من الدين والتاريخ، ومن التعصب لشتى الأفكار القابعة في صدورنا والتي أضنتنا وأنهكتنا، إلى توحيد القبلة في الخدمة الإيمانية والتسليم والشعور والتوكل.
لنضعْ جانبا بلبلة التكوينات الجديدة في العالم، نحن لا نصدّق بولادة شيء جديد من الهندام الرأسمالي القديم، أو أحلام الشيوعية، أو تكسيراتها الاشتراكية، أو هجينها الديمقراطية الاجتماعية، أو خرق الليبرالية البالية. الحقيقة هي أنه إن كان ثَمّ عالَمٌ مشرّعُ الأبواب لنظام عالمي جديد، فهو عالمنا نحن. وقد يتناوله الجيل القادم على أنه عصر نهضتنا نحن.
هذه الولادة الجديدة، ستُكسب عالم مشاعرنا وأفكارنا، وكذلك مفاهيم فنّنا وجمالنا، أعماقاً مختلفة اختلافاً شاسعاً عما هو عليه الآن. وبذلك سنكتشف أذواقنا البديعة ونصل إلى موسيقانا، ونعثر على رومانسيتنا... ونجعل شعبنا يستقر على أساس متين من كل النواحي، سواء في العلم والفن، أو الفكر والأخلاق، فنضمن مستقبله.
شعارنا في هذا المضمار النفيرُ والإقدام، ومصدر قوّتنا الإيمان والحقيقة. لقد أخفق دوماً الذين داروا بنا على الأبواب الأخرى على أمل الشفاء من الأدواء بالانفلات من الإيمان ومن الأخلاق. ولقد نلنا نحن المعالي، وبقينا شرفاء، بفضل الله الذي ارتبطت قلوبنا به، وفي ظل تسليمنا وانتمائنا إلى أمتنا التي رجحناها على كل شيء دنيوي، وبلادِنا التي نشأنا في ربوعها وترعرعنا في حضنها. ولا أظن بأنني في حاجة إلى شرح الواقع بعكس الحال!