عدد المشاهدات:
وجلساء الرجل إما أن يكون مضطرا أن يجالسهم أو غير مضطر, أما جلساؤه الذين لابد له من مجالستهم, فكمن معه فى مزرعة أو صناعة, أو شركاؤه فى تجارته أو معه فى بيت واحد,
وفى هذا الموضع نبين الآداب التى يراعيها المسلم مع جلسائه:
1 - فإخوانك الذين معك فى الصناعة أو المزرعة أو التجارة يلزمك أن تجتهد فىاستجلاب مودتهم لك, وحبهم بما يمكنك مما لا يغضب الله, و لا يخالف السنة.
2 - ويجب عليك أن تحفظ لسانك عن ذكر عوراتهم وهفواتهم أمامهم أو خلفهم, فإن كل إنسان لا يخلو من عيوب يجتهد أن يخفيها عن الناس, ولكنها تظهر قهراً عنه, وإنما المعصوم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
3 - وكما أنك يا أخى تحب أن تخفى صغائرك وهفواتك عن الناس, فالواجب عليك .
أن تخفى هفوات أخيك وصغائره وعيوبه عن الناس وعنه فى حضوره ما دامت ليست مما يضره دينا ولا دنيا,فإن كانت تلك الأعمال مما يضره دينا أو دنيا فالواجب عليك أن تختلى به وتنصحه بطريقة يقبلها, لا تريد بذلك احتقاره ولا تهديده والتنديد به .
4 - ومن أكمل صفات أهل الأدب أن يحفظوا سر المجالس, ومن أقبح صفات أهل النقائص أن الرجل يجلس فى المجلس ثم يقوم منه فينشر أخباره لكل من لقيه, وقد يبلغ الجهل ببعض الحمقى أنهم ينشرون معاصيهم ورذائلهم حتى خلوتهم بنسائهم, يقول صلى الله عليه وسلم:" المجالس بالأمانات " وورد : " إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة رجل أسبل الله عليه ستره فكشف عنه ستر الله " ومعنى ذلك أن الرجل يعمل المعصية ليلا أو فى خفاء عن الناس ثم يخرج فيذكر عمله للناس .
5 - ومن محاسن الآداب فى المجالسة أن لا يتجسس المؤمن ولا يتحسس, وأن يجتهد المؤمن أن يجعل فى كل مجلس جلس فيه عملا صالحاً يرفع له من ذكر الله, ونصيحة أخ, أو رد غيبة عن أخ صالح, أو توبة عن ذنب عمله فى المجلس.
6 - ومن آداب المجالسة أن يتباعد الرجل عن الجلوس بجوار زوجة غيره, ولا يسارع إلى قضاء حوائجها مادام معها محرم لها, ولا يلامس جسمها لمعاونتها فى مشى أو ركوب أو نزول إلا إذا كان محرما لها, وإذا دعت الضرورة أن يتكلم معها يجب أن يجعلها خلفه على يمينه أو يساره إذا كان واقفاً,وإن كان جالساً أن يجلسها إن استطاع فى الجهة التى لا تكون مواجهة له بل يجعل محل نظره الجهة التى لا يراها فيها, وإن دعت الضرورة أن يواجهها بوجهه فعليه أن يغض بصره أو يطأطئ رأسه أو يلفت عنقه, فإن عمله هذا مرضاة لله محمدة عند الناس, موجبة الخلق وثقتهم, وموجب لكمال حياء المرأة, فإن الأصل فى المرأة الحياء,وإنما يقوى عندها إذا تجمل الرجل به أمامها .ولا يجوز لك يا أخى أن تختلى بامرأة أجنبية منك مهما وثقت من نفسك, فإنك أعلم بنفسك من غيرك, فإذا كنت واثقا من نفسك أن خلوتك بها لا تشغل قلبك ولا تنقض وضوءك لما تراقبه من الخوف من الله ومن عقوبته سبحانه, فهل تثق أن المرأة بلغت ذلك ؟! فإن لم تخف على نفسك يا أخى فخف عليها أن توقعها فى المعاصى.
7 - ومن آداب المجالسة أن يجلس الصبيان وراء الظهور, وأن يترك الرجل البسط مع الصبيان مطلقاً إلا مع ابنه أو ابن أخيه أومن له به نسب من سن السنة الخامسة, حفظاً لآداب الصبى وبعداً عن الشبه.
8 - ومن آداب المجالسة أن يجتهد المسلم فى حفظ لسانه مما يخجل من ذكر العورات, وإذا كان لابد من ذكر شئ من العورات فليعبر عنه بكناية أو إشارة .
9 - ومن الآداب التى يراعيها المسلم أن لا يطمع فيما فى يد أخيه, ويجتهد أن لا يخسره شيئاً من ماله, والأولى أن يكون متفضلاً مسارعاً إلى فعل الخير مساعدا أخاه بماله ونفسه,فإن ذلك من أخلاق المؤمنين الذين يمنحهم الله فضله ورحمته ورضوانه.
وأساس المجالسة التسامح, فإن الرجل المتسامح الكريم الأخلاق إذا سمع كلمة من مجالس تكدره, أو رأى عملا يكدره, حمله من أخيه على أجمل محاملة فيدوم بذلك الصفاء .
ومعلوم أن أكثر الخصومات والمنازعات قد تنتج من كلمة يقولها الجليس لجليسه بسلامة نية, فيردها عليه بحماقة ويتأولها شر تأويل فتوقد نار البغضاء,ومعظم النار من مستصغر الشر, فقد يقول الأخ الكلمة الثقيلة على أذن أخيه لا يقصد بها إلا خيراً, ولو حمل الأخ كلمة أخيه على أجمل محاملة لدام الصفاء والوفاء, ولكان المسلمون كالجسد الواحد كما شبههم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وإن اللسان شر أبواب جهنم, وخير أبواب الجنة, يقول r : " وهل يكب الناسَ على مناخرهم فى النار إلا حصائدُ ألسنتهم " وقال تعالى : ) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ #تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ# وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ# يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ([3]
المجالس التى ابتدعها الناس :
وقد ابتدع الناس مجالس يقتلون فيها أوقاتهم, ويسودون فيها صحفهم, أما أنهم يقتلون فيها أوقاتهم فإنها ليست لعمل فى الدين ولا فى الدنيا, وكفى الإنسان العاقل المطالب فى كل نفس بحق متعته, أن يأتى يوم القيامة وقد ترك القيام بواجب أوقاته .
وأما كون تلك المجالس تسود الصحف فلأنهم يجلسون فيها إما لشرب المحرم, أو للتعاون على الإثم والعدوان, أو لكشف عورات الناس, أو للفخر والرياء, وقد
عظمت البلية, حتى كثرت تلك الأماكن المعدة لتلك المجالس, وصارت مفسدة للأخلاق, فإن شياطين الإنس جعلوا لها أماكن فى المواضع العامة, وأعدوا فيها كل منكر من طعام وشراب, ونساء متبرجات وغلمان, كل ذلك مصائب لإلقاء المسلمين فى مهاوى غضب الله تعالى, حتى صار سخيف العقل يخرج من بيته الطلق الهواء, الجميل الفراش والرياش, وهو فيه آمر مطاع, فإذا سئل إلى أين ؟ يقول " أستنشق الهواء, فيذهب إلى بؤرة فساد فى سط شارع, تنبعث منه روائح القاذورات,وأنفاس المارة, وتعلو به الضوضاء بأصوات السوقة,فيجلس وعلى يمينه مواقف السيارات وعلى يساره روث الحيوانات, فيستنشق هواءاً ممزوجا بأخبث الروائح, بين قوم يكون معهم محتقراً منتقدا, فيخسر ماله ودينه وجاهه, ويشرب فى أقداح تنفس فيها المرضى بالأمراض القتالة, وربما جلس بجواره مريض بمرض يجب شرعا الفرار منه, يجلس المسلم بهذا الحال فى هذه المجالس, فيسمع الظهر, والعصر, والمغرب, والعشاء, ينادى لها المؤذن, وكأنه أصم لا يسمع, وبهيم لا يعقل .
وعندى أن المساجد الآن أنقى هواء من الملاهى, وأدعى لانشراح الصدر, ولترويح النفس,فإن المسلم إذا توجه إلى المسجد يستنشق هواءاً جيداً نقياً,لأن المساجد غالبا تكون فى الأماكن البعيدة عن القاذورات, وتكون كثيرة النوافذ, ويجد فيها المسلم من يجالسه فيها دينا وخلقا وأدبا, ويجد فيها من يثنى عليه ويحبه لقيامه بما فرض الله عليه, ويتعرف فيه بإخوان الصدق, الذين يكونوا جمالا له فى غناه, ومالا له فى فقره, يسألون عنه إن غاب, ويثنون عليه ويسرون به إن حضر, ويخلصون له .
فيا أيها الأخ التارك لقصرك, الذى جمع أنواع مسراتك, التارك لبيت ربك الذى به نيل سعادتك فى الدنيا والآخرة, المسارع إلى الملاهى, ما الذى اكتسبته من العلم أو الجاه أو الصحة ؟! ومن هم الإخوان الذين تكتسبهم فى الملاهى ؟! وهم أخدانك مادمت غنيا قادراً على مساعدتهم, فإذا دعت الضرورة ـولا يخلو إنسان من الضرورة ـ كانوا عليك لا لك, كل هذا فى الدنيا, وفى الآخرة عذاب شديد, وخصومة بينك وبينهم, وعداوة شديدة .
إذا أردت يا أخى, أن تؤاخى إخوان صفاء وخلان وفاء فاجتهد أن تصطفى لك إخوانا من المساجد, ومن مجالس العلم النافع, ومن أهل التقوى والصلاح, وكل أخ غير هؤلاء فهو عليك, لا لك, وكل جليس لا تدعوك الضرورة إلى مجالسته غير هؤلاء, فهو مرض ينبغى أن يفارقه الإنسان بحكمة حكيم, خصوصاً شياطين الإنس,
الذين يعينون على معصية الله, ومخالفة سنة رسول الله, فإنهم ألد الأعداء وأسوأ الجلساء .
وقد أمرنا الدين بالاجتماع وعين لنا مكان الاجتماع وزمانه, لتدوم صحتنا وتجدد بهجتنا, وتقوى أمتنا, والله أسأل أن يشرح صدرنا للعمل بالكتاب والسنة, ويصرفنا عن العمل لحظنا وهوانا, إنه مجيب الدعاء, آمين .
من المأثور عن آداب المجالسة :
قال صلى الله عليه وسلم : " ثلاثة من المروءة فى الحضر : تلاوة كتاب الله عز وجل, وعمارة مساجده, واتخاذ الإخوان فى الله تعالى " .
وكان سعيد بن العاص يقول : لجليسى على ثلاث : إذا دنا رحبت به, وإذا حدَّث أقبلت عليه, وإذا جلس أوسعت له .
وعن ابن عباس قيل له : من أحب الناس إليك ؟قال : جليسى . وكان يقول : ما اختلف رجل إلى مجلسى ثلاثا من غير حاجة تكون له إلىَّ, فعلمت مكافأة من الدنيا .
وقال الأحنف بن قيس : الإنصاف يثبت المودة, ومع كرم العشرة تطول الصحبة, وكان يقول : ثلاث خلال تجلب بهن المحبة, الإنصاف فى المعاشرة, والمواساة فى الشدة, والانطواء على المودة .
وقال بعض الصوفية : لا تعاشر من الناس إلا من لا تزيد عنده ببر, ولا تنقص بإثم, ومن يتوب عنك إذا أذنبت, ويعتذر إليك إذا أسأت, ويحمل عنك مؤونة نفسه, ويكفيك مئونة نفسك, وهذا من أعز الأوصاف فى هذا الوقت .
وكان أبو ذر يقول : الوحدة خير من جليس السوء, و الجليس الصالح خير من الوحدة .
وروى عن إمام الأئمة الحسن بن يسار البصرى رحمة الله أن رجلا قال له : يا أبا سعيد إن قوما يحضرون مجلسك, ليس بغيتهم الفائدة منك, ولا الأخذ عنك, إنما همهم تتبع سَقَط كلامك وتعنتك فى السؤال, ليعيبوك بذلك, فتبسم الحسن ثم قال: هون عليك يا ابن أخى, فإنى حدثت نفسى بسكنى الجنان فطمعت, وحدثت نفسى بمعانقة الحور الحسان فطمعت, وحدثت نفسى بمجاورة الرحمن فطمعت, وما حدثت نفسى قط بالسلامة من الناس,لأنى قد علمت أن خالقهم, ورازقهم, ومحييهم ومميتهم .
لم يسلم منهم, فكيف أحدث نفسى بالسلامة منهم ؟!.
وبمعناه ما روى عن سيدنا موسى عليه السلام أنه قال: "يا رب, احبس عنى ألسنة الناس, فقال الله تبارك وتعالى : يا موسى, هذا شئ لم أرده لنفسى, فكيف أريده لك ؟!" وفى لفظ آخر : " لو خصصت بهذا أحدا, لخصصت نفسى بالسلامة منهم " .
قال محمد بن الحنفية رضى الله عنه: ليس بلبيب من لم يعاشر بالمعروف من لا يجد من معاشرته بدا, حتى يجعل الله له منه فرجا, فمعاملته لمن يتقى ومخالطته إخوان الاضطرار ومعاشرته التقى أو مصافاته؛ من أحسن الإحسان.
وقال بعض الأدباء : الناس أربعة : فواحد حلو كله فهذا لا يشبع منه, وآخر كله مر وهذا لا يؤكل منه, وواحد فيه حموضة, فخذ من هذا قبل أن يأخذ منك, وآخر فيه ملوحة فخذ منه إذا احتجب إليه .
وقال بعض الأئمة : الناس أربعة فاصحب ثلاثة ولا تصحب واحداً : رجل يدرى ويدرى أنه يدرى فهذا عالم فاتبعوه, ورجل يدرى ولا يدرى أنه يدرى, فهذا نائم فنبهوه, ورجل لا يدرى ويدرى أنه فهذا جاهل فعلموه, ورجل لا يدرى ولا يدرى أنه لا يدرى فهذا منافق فاجتنبوه, ومثل هذا الرابع قول سهل : ما عصى الله عز وجل بمعصية شر من الجهل, وأعظم من الجهل : الجهل بالجهل .
وقال بعض الأدباء : ثلاثة, فاصحب رجلين واهرب من الثالث : رجل أعلم منك فاصحبه تتعلم منه, ورجل أنت أعلم منه يقبل منك فاصحبه تعلمه, ورجل معجب بنفسه لا علم عنده ولا تعلم فاهرب من هذا . وكان أبو مهران يقول : أخرج من منزلى فأنا بين ثلاثة : إن لقيت من هو أعلم منى فهو يوم فائدتى أتعلم منه, وإن لقيت من هو مثلى فهذا يوم مذاكرتى, وإن لقيت من هو دونى فهو يوم مثوبتى, أعلمه فأحتسب فيه الأجر .
وقال أبو جعفر محمد بن على لابنه جعفر بن محمد عليهما السلام :لا تصحبن من الناس خمسة واصحب من شئت : الكذاب فإنك منه على غرور, وهو مثل السراب يقرب منك البعيد ويبعد منك القريب, والأحمق فإنك لست منه على شئ, يريد أن ينفعك فيضرك, والبخيل فإنه يقطع بك أحوج ما تكون إليه, والجبان فإنه يسلمك ماله ونفسه عند الشدة, والفاجر فإنه يبيعك بأكله أو بأقل منها, قلت : وما أقل منها ؟
قال : الطمع .
وقال بعض الحكماء : كل إنسان مع شكله كما أن كل طير مع جنسه, وقال بعض الحكماء : عاملوا الناس بمحض المودة, وعاملوا العامة بالرغبة والرهبة, وسوسوا السفلة بالمخافة, ومثل جملة الناس كمثل جملة الشجر, منهم من له ظل ليس فيه ثمر, وهذا الذى فيه نفع من الدنيا ولا ثمر له فى العقبى, ويحتاج إليه فى الوقت, ومنهم من فيه ثمر وليس له ظل, وهذا يصلح للآخرة ولا يصلح للدنيا, ومنهم من فيه ظل وثمر فهذا الذى يصلح للدين والدنيا وهو أعزها , ومنهم من لا ظل له ولا ثمر وهذا هو الذى لا يحتاج إليه, فمثله فى الشجر الغضا وهو شوك البرية, التى تسميه العامة أم غيلان, يمزق الثياب لا طعام فيه ولا شراب, فهذا فى الناس يضر ولا ينفع ويكثر ولا يدفع, ومثله كما قال الله تعالى : ) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ( [4]
وقال الإمام الشافعى رضى الله عنه ليونس بن عبد الأعلى : والله ما أقول لك إلا نصحاً, إنه ليس إلى السلامة من الناس سبيل,فانظر ما يصلحك فافعله .
وقال الثورى رضى الله عنه : رضاء الناس غاية لا تدرك, فأحمق الناس من طلب ما لا يدرك, نسأل الله العفو والعافية .
وفى هذا الموضع نبين الآداب التى يراعيها المسلم مع جلسائه:
1 - فإخوانك الذين معك فى الصناعة أو المزرعة أو التجارة يلزمك أن تجتهد فىاستجلاب مودتهم لك, وحبهم بما يمكنك مما لا يغضب الله, و لا يخالف السنة.
2 - ويجب عليك أن تحفظ لسانك عن ذكر عوراتهم وهفواتهم أمامهم أو خلفهم, فإن كل إنسان لا يخلو من عيوب يجتهد أن يخفيها عن الناس, ولكنها تظهر قهراً عنه, وإنما المعصوم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
3 - وكما أنك يا أخى تحب أن تخفى صغائرك وهفواتك عن الناس, فالواجب عليك .
أن تخفى هفوات أخيك وصغائره وعيوبه عن الناس وعنه فى حضوره ما دامت ليست مما يضره دينا ولا دنيا,فإن كانت تلك الأعمال مما يضره دينا أو دنيا فالواجب عليك أن تختلى به وتنصحه بطريقة يقبلها, لا تريد بذلك احتقاره ولا تهديده والتنديد به .
4 - ومن أكمل صفات أهل الأدب أن يحفظوا سر المجالس, ومن أقبح صفات أهل النقائص أن الرجل يجلس فى المجلس ثم يقوم منه فينشر أخباره لكل من لقيه, وقد يبلغ الجهل ببعض الحمقى أنهم ينشرون معاصيهم ورذائلهم حتى خلوتهم بنسائهم, يقول صلى الله عليه وسلم:" المجالس بالأمانات " وورد : " إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة رجل أسبل الله عليه ستره فكشف عنه ستر الله " ومعنى ذلك أن الرجل يعمل المعصية ليلا أو فى خفاء عن الناس ثم يخرج فيذكر عمله للناس .
5 - ومن محاسن الآداب فى المجالسة أن لا يتجسس المؤمن ولا يتحسس, وأن يجتهد المؤمن أن يجعل فى كل مجلس جلس فيه عملا صالحاً يرفع له من ذكر الله, ونصيحة أخ, أو رد غيبة عن أخ صالح, أو توبة عن ذنب عمله فى المجلس.
6 - ومن آداب المجالسة أن يتباعد الرجل عن الجلوس بجوار زوجة غيره, ولا يسارع إلى قضاء حوائجها مادام معها محرم لها, ولا يلامس جسمها لمعاونتها فى مشى أو ركوب أو نزول إلا إذا كان محرما لها, وإذا دعت الضرورة أن يتكلم معها يجب أن يجعلها خلفه على يمينه أو يساره إذا كان واقفاً,وإن كان جالساً أن يجلسها إن استطاع فى الجهة التى لا تكون مواجهة له بل يجعل محل نظره الجهة التى لا يراها فيها, وإن دعت الضرورة أن يواجهها بوجهه فعليه أن يغض بصره أو يطأطئ رأسه أو يلفت عنقه, فإن عمله هذا مرضاة لله محمدة عند الناس, موجبة الخلق وثقتهم, وموجب لكمال حياء المرأة, فإن الأصل فى المرأة الحياء,وإنما يقوى عندها إذا تجمل الرجل به أمامها .ولا يجوز لك يا أخى أن تختلى بامرأة أجنبية منك مهما وثقت من نفسك, فإنك أعلم بنفسك من غيرك, فإذا كنت واثقا من نفسك أن خلوتك بها لا تشغل قلبك ولا تنقض وضوءك لما تراقبه من الخوف من الله ومن عقوبته سبحانه, فهل تثق أن المرأة بلغت ذلك ؟! فإن لم تخف على نفسك يا أخى فخف عليها أن توقعها فى المعاصى.
7 - ومن آداب المجالسة أن يجلس الصبيان وراء الظهور, وأن يترك الرجل البسط مع الصبيان مطلقاً إلا مع ابنه أو ابن أخيه أومن له به نسب من سن السنة الخامسة, حفظاً لآداب الصبى وبعداً عن الشبه.
8 - ومن آداب المجالسة أن يجتهد المسلم فى حفظ لسانه مما يخجل من ذكر العورات, وإذا كان لابد من ذكر شئ من العورات فليعبر عنه بكناية أو إشارة .
9 - ومن الآداب التى يراعيها المسلم أن لا يطمع فيما فى يد أخيه, ويجتهد أن لا يخسره شيئاً من ماله, والأولى أن يكون متفضلاً مسارعاً إلى فعل الخير مساعدا أخاه بماله ونفسه,فإن ذلك من أخلاق المؤمنين الذين يمنحهم الله فضله ورحمته ورضوانه.
وأساس المجالسة التسامح, فإن الرجل المتسامح الكريم الأخلاق إذا سمع كلمة من مجالس تكدره, أو رأى عملا يكدره, حمله من أخيه على أجمل محاملة فيدوم بذلك الصفاء .
ومعلوم أن أكثر الخصومات والمنازعات قد تنتج من كلمة يقولها الجليس لجليسه بسلامة نية, فيردها عليه بحماقة ويتأولها شر تأويل فتوقد نار البغضاء,ومعظم النار من مستصغر الشر, فقد يقول الأخ الكلمة الثقيلة على أذن أخيه لا يقصد بها إلا خيراً, ولو حمل الأخ كلمة أخيه على أجمل محاملة لدام الصفاء والوفاء, ولكان المسلمون كالجسد الواحد كما شبههم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وإن اللسان شر أبواب جهنم, وخير أبواب الجنة, يقول r : " وهل يكب الناسَ على مناخرهم فى النار إلا حصائدُ ألسنتهم " وقال تعالى : ) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ #تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ# وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ# يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ([3]
المجالس التى ابتدعها الناس :
وقد ابتدع الناس مجالس يقتلون فيها أوقاتهم, ويسودون فيها صحفهم, أما أنهم يقتلون فيها أوقاتهم فإنها ليست لعمل فى الدين ولا فى الدنيا, وكفى الإنسان العاقل المطالب فى كل نفس بحق متعته, أن يأتى يوم القيامة وقد ترك القيام بواجب أوقاته .
وأما كون تلك المجالس تسود الصحف فلأنهم يجلسون فيها إما لشرب المحرم, أو للتعاون على الإثم والعدوان, أو لكشف عورات الناس, أو للفخر والرياء, وقد
عظمت البلية, حتى كثرت تلك الأماكن المعدة لتلك المجالس, وصارت مفسدة للأخلاق, فإن شياطين الإنس جعلوا لها أماكن فى المواضع العامة, وأعدوا فيها كل منكر من طعام وشراب, ونساء متبرجات وغلمان, كل ذلك مصائب لإلقاء المسلمين فى مهاوى غضب الله تعالى, حتى صار سخيف العقل يخرج من بيته الطلق الهواء, الجميل الفراش والرياش, وهو فيه آمر مطاع, فإذا سئل إلى أين ؟ يقول " أستنشق الهواء, فيذهب إلى بؤرة فساد فى سط شارع, تنبعث منه روائح القاذورات,وأنفاس المارة, وتعلو به الضوضاء بأصوات السوقة,فيجلس وعلى يمينه مواقف السيارات وعلى يساره روث الحيوانات, فيستنشق هواءاً ممزوجا بأخبث الروائح, بين قوم يكون معهم محتقراً منتقدا, فيخسر ماله ودينه وجاهه, ويشرب فى أقداح تنفس فيها المرضى بالأمراض القتالة, وربما جلس بجواره مريض بمرض يجب شرعا الفرار منه, يجلس المسلم بهذا الحال فى هذه المجالس, فيسمع الظهر, والعصر, والمغرب, والعشاء, ينادى لها المؤذن, وكأنه أصم لا يسمع, وبهيم لا يعقل .
وعندى أن المساجد الآن أنقى هواء من الملاهى, وأدعى لانشراح الصدر, ولترويح النفس,فإن المسلم إذا توجه إلى المسجد يستنشق هواءاً جيداً نقياً,لأن المساجد غالبا تكون فى الأماكن البعيدة عن القاذورات, وتكون كثيرة النوافذ, ويجد فيها المسلم من يجالسه فيها دينا وخلقا وأدبا, ويجد فيها من يثنى عليه ويحبه لقيامه بما فرض الله عليه, ويتعرف فيه بإخوان الصدق, الذين يكونوا جمالا له فى غناه, ومالا له فى فقره, يسألون عنه إن غاب, ويثنون عليه ويسرون به إن حضر, ويخلصون له .
فيا أيها الأخ التارك لقصرك, الذى جمع أنواع مسراتك, التارك لبيت ربك الذى به نيل سعادتك فى الدنيا والآخرة, المسارع إلى الملاهى, ما الذى اكتسبته من العلم أو الجاه أو الصحة ؟! ومن هم الإخوان الذين تكتسبهم فى الملاهى ؟! وهم أخدانك مادمت غنيا قادراً على مساعدتهم, فإذا دعت الضرورة ـولا يخلو إنسان من الضرورة ـ كانوا عليك لا لك, كل هذا فى الدنيا, وفى الآخرة عذاب شديد, وخصومة بينك وبينهم, وعداوة شديدة .
إذا أردت يا أخى, أن تؤاخى إخوان صفاء وخلان وفاء فاجتهد أن تصطفى لك إخوانا من المساجد, ومن مجالس العلم النافع, ومن أهل التقوى والصلاح, وكل أخ غير هؤلاء فهو عليك, لا لك, وكل جليس لا تدعوك الضرورة إلى مجالسته غير هؤلاء, فهو مرض ينبغى أن يفارقه الإنسان بحكمة حكيم, خصوصاً شياطين الإنس,
الذين يعينون على معصية الله, ومخالفة سنة رسول الله, فإنهم ألد الأعداء وأسوأ الجلساء .
وقد أمرنا الدين بالاجتماع وعين لنا مكان الاجتماع وزمانه, لتدوم صحتنا وتجدد بهجتنا, وتقوى أمتنا, والله أسأل أن يشرح صدرنا للعمل بالكتاب والسنة, ويصرفنا عن العمل لحظنا وهوانا, إنه مجيب الدعاء, آمين .
من المأثور عن آداب المجالسة :
قال صلى الله عليه وسلم : " ثلاثة من المروءة فى الحضر : تلاوة كتاب الله عز وجل, وعمارة مساجده, واتخاذ الإخوان فى الله تعالى " .
وكان سعيد بن العاص يقول : لجليسى على ثلاث : إذا دنا رحبت به, وإذا حدَّث أقبلت عليه, وإذا جلس أوسعت له .
وعن ابن عباس قيل له : من أحب الناس إليك ؟قال : جليسى . وكان يقول : ما اختلف رجل إلى مجلسى ثلاثا من غير حاجة تكون له إلىَّ, فعلمت مكافأة من الدنيا .
وقال الأحنف بن قيس : الإنصاف يثبت المودة, ومع كرم العشرة تطول الصحبة, وكان يقول : ثلاث خلال تجلب بهن المحبة, الإنصاف فى المعاشرة, والمواساة فى الشدة, والانطواء على المودة .
وقال بعض الصوفية : لا تعاشر من الناس إلا من لا تزيد عنده ببر, ولا تنقص بإثم, ومن يتوب عنك إذا أذنبت, ويعتذر إليك إذا أسأت, ويحمل عنك مؤونة نفسه, ويكفيك مئونة نفسك, وهذا من أعز الأوصاف فى هذا الوقت .
وكان أبو ذر يقول : الوحدة خير من جليس السوء, و الجليس الصالح خير من الوحدة .
وروى عن إمام الأئمة الحسن بن يسار البصرى رحمة الله أن رجلا قال له : يا أبا سعيد إن قوما يحضرون مجلسك, ليس بغيتهم الفائدة منك, ولا الأخذ عنك, إنما همهم تتبع سَقَط كلامك وتعنتك فى السؤال, ليعيبوك بذلك, فتبسم الحسن ثم قال: هون عليك يا ابن أخى, فإنى حدثت نفسى بسكنى الجنان فطمعت, وحدثت نفسى بمعانقة الحور الحسان فطمعت, وحدثت نفسى بمجاورة الرحمن فطمعت, وما حدثت نفسى قط بالسلامة من الناس,لأنى قد علمت أن خالقهم, ورازقهم, ومحييهم ومميتهم .
لم يسلم منهم, فكيف أحدث نفسى بالسلامة منهم ؟!.
وبمعناه ما روى عن سيدنا موسى عليه السلام أنه قال: "يا رب, احبس عنى ألسنة الناس, فقال الله تبارك وتعالى : يا موسى, هذا شئ لم أرده لنفسى, فكيف أريده لك ؟!" وفى لفظ آخر : " لو خصصت بهذا أحدا, لخصصت نفسى بالسلامة منهم " .
قال محمد بن الحنفية رضى الله عنه: ليس بلبيب من لم يعاشر بالمعروف من لا يجد من معاشرته بدا, حتى يجعل الله له منه فرجا, فمعاملته لمن يتقى ومخالطته إخوان الاضطرار ومعاشرته التقى أو مصافاته؛ من أحسن الإحسان.
وقال بعض الأدباء : الناس أربعة : فواحد حلو كله فهذا لا يشبع منه, وآخر كله مر وهذا لا يؤكل منه, وواحد فيه حموضة, فخذ من هذا قبل أن يأخذ منك, وآخر فيه ملوحة فخذ منه إذا احتجب إليه .
وقال بعض الأئمة : الناس أربعة فاصحب ثلاثة ولا تصحب واحداً : رجل يدرى ويدرى أنه يدرى فهذا عالم فاتبعوه, ورجل يدرى ولا يدرى أنه يدرى, فهذا نائم فنبهوه, ورجل لا يدرى ويدرى أنه فهذا جاهل فعلموه, ورجل لا يدرى ولا يدرى أنه لا يدرى فهذا منافق فاجتنبوه, ومثل هذا الرابع قول سهل : ما عصى الله عز وجل بمعصية شر من الجهل, وأعظم من الجهل : الجهل بالجهل .
وقال بعض الأدباء : ثلاثة, فاصحب رجلين واهرب من الثالث : رجل أعلم منك فاصحبه تتعلم منه, ورجل أنت أعلم منه يقبل منك فاصحبه تعلمه, ورجل معجب بنفسه لا علم عنده ولا تعلم فاهرب من هذا . وكان أبو مهران يقول : أخرج من منزلى فأنا بين ثلاثة : إن لقيت من هو أعلم منى فهو يوم فائدتى أتعلم منه, وإن لقيت من هو مثلى فهذا يوم مذاكرتى, وإن لقيت من هو دونى فهو يوم مثوبتى, أعلمه فأحتسب فيه الأجر .
وقال أبو جعفر محمد بن على لابنه جعفر بن محمد عليهما السلام :لا تصحبن من الناس خمسة واصحب من شئت : الكذاب فإنك منه على غرور, وهو مثل السراب يقرب منك البعيد ويبعد منك القريب, والأحمق فإنك لست منه على شئ, يريد أن ينفعك فيضرك, والبخيل فإنه يقطع بك أحوج ما تكون إليه, والجبان فإنه يسلمك ماله ونفسه عند الشدة, والفاجر فإنه يبيعك بأكله أو بأقل منها, قلت : وما أقل منها ؟
قال : الطمع .
وقال بعض الحكماء : كل إنسان مع شكله كما أن كل طير مع جنسه, وقال بعض الحكماء : عاملوا الناس بمحض المودة, وعاملوا العامة بالرغبة والرهبة, وسوسوا السفلة بالمخافة, ومثل جملة الناس كمثل جملة الشجر, منهم من له ظل ليس فيه ثمر, وهذا الذى فيه نفع من الدنيا ولا ثمر له فى العقبى, ويحتاج إليه فى الوقت, ومنهم من فيه ثمر وليس له ظل, وهذا يصلح للآخرة ولا يصلح للدنيا, ومنهم من فيه ظل وثمر فهذا الذى يصلح للدين والدنيا وهو أعزها , ومنهم من لا ظل له ولا ثمر وهذا هو الذى لا يحتاج إليه, فمثله فى الشجر الغضا وهو شوك البرية, التى تسميه العامة أم غيلان, يمزق الثياب لا طعام فيه ولا شراب, فهذا فى الناس يضر ولا ينفع ويكثر ولا يدفع, ومثله كما قال الله تعالى : ) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ( [4]
وقال الإمام الشافعى رضى الله عنه ليونس بن عبد الأعلى : والله ما أقول لك إلا نصحاً, إنه ليس إلى السلامة من الناس سبيل,فانظر ما يصلحك فافعله .
وقال الثورى رضى الله عنه : رضاء الناس غاية لا تدرك, فأحمق الناس من طلب ما لا يدرك, نسأل الله العفو والعافية .