آخر الأخبار
موضوعات

الثلاثاء، 22 نوفمبر 2016

- تعريف العبادة وأقسامها والغرض منها

عدد المشاهدات:
تعريف العبادة وأقسامها والغرض منها
تعريف العبادة :
هى فعل اختيارى , مناف للشهوات البدنية , يصدر عن نية يراد بها التقرب إلى الله  تعالى إطاعة للشريعة . فقولنا : فعل اختيارى , يخرج منه الفعل التسخيرى والقهرى  , ويدخل فيه الترك الذى هو على سبيل الاختيار , فإن الترك ضربان :
ضرب على سبيل  الاختيار وهو فعل , وضرب هو العدم المطلق لا اختيار معه بل هو عدم الاختيار وليس  بفعل ,
 وبقولنا : مناف للشهوات البدنية , يخرج منه ما ليس بطاعة . وأما الأفعال المباحة كالأكل والشرب ومجامعة المرأة فليست بعبادة من حيث أنها شهوة , ولكنها قد   تكون عبادة إذا تحرى بها حكم الشريعة .

وإنما قيل : تصدر عن نية يراد بها التقرب إلى  الله تعالى , لأنها إن خلت عن نية أو صدرت عن نية لم يقصد بها التقرب إلى الله تعالى بل أريد بها المراء لم تكن أيضاً عبادة وإنما قيل : طاعة للشريعة , لأن من أنشأ من نفسه  فعلا ليس بسائغ فى الشريعة لم يكن عبادة وإن قصد به التقرب إلى الله تعالى  .فالعبادة إذاً هى فعل بجميع الأوصاف كلها , والعبادة تكون محمودة إذا تعاطاها  الإنسان طوعا واختياراً لا اتفاقا واضطراراً , ودائما لا فى زمان دون زمان , ولأجل أن ذاتها حسنة لا لأجل غيرها , فمن أتمها على الوجه الأكمل
فهو الموصوف بقوله تعالى :   (  وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا  عَظِيمًا)
 وقال صلى الله عليه وسلم : ( أَخْلِصْ يَكْفِيكَ الْقَليلُ مِنَ الْعَمَلِ  " أخلص العمل يجزك منه قليلا ") الإحياء ج 4 ص 176
.
لا يقبل  الله تعالى إلا العمل الخالص لوجهه كما قال تعالى :  ( أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ)  فإن من فعل خيرا نحو أن يصلى لأنه اتفق اجتماعه مع المصلين فسايرهم , أو أكره أن يصلى , أوصلاها فى شهر رمضان مثلا دون سائر الأوقات , أو لأجل أن ينال بها جاها أو مالا فليس ذلك ممن يستحق بها محمدة . وكذا من ترك قبيحا إما اتفاقا أو اضطراراً أو خوفا , أو فى زمان دون زمان , أو لأن ينال بذلك أمراً دنيويا فليس بمحمود . ولهذا  قال الله تعالى : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) تنبيها منه سبحانه على أن من لم ينفق ماله هكذا ويعلوه خوف من الفقر وحزن على الإنفاق فلا يحصل له بذلك  فضيلة ,
 ثم قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ  الْكَافِرِينَ) .

أقسـام العبــادة :
1ـ العبادة علم وعمل :                                                                  
.  العبادة ضربان :علم وعمل , وحقهما أن يتلازما لأن العلم كالأس والعمل كالبناء ,    وكما لا يغنى أس ما لم يكن بناء ولا يثبت بناء ما لم يكن أس , كذلك لا يغنى علم بغير  عمل ولا عمل بغير علم ,

ولذلك قال الله تعالى :
(إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ  الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)والعلم أشرفها لكن لا يغنى بغير عمل , ولشرفه قال رجل للنبى  صلى الله عليه وسلم : أيمَا الأعمالُ أفضلُ يا رسولَ اللهِ ؟ فقال : ( العلم ) , فأعاد  عليه السؤالَ , فقال : ( العلمُ ) , فقال الرجل فى الثالثة : أسألك عن العمل ولا عن العلم , فقال عليه الصلاة والسلام : ( عملٌ قليلٌ معَ العلم خيرٌ مِنْ عملٍ كثيرٍ مَعَ  الجهلِ ) وقال عليه الصلاة والسلام : ( طلبُ العلِْم فريضةٌ على كُل مسلمٍ ) (1)
  .فالعلم ضربان : نظرى وعملى .                                                           
.فالنظرى : ما إذا علم كفى ولم يحتج فيه بعده إلى عمل , كمعرفة وحدانية الله   تعالى , ومعرفة ملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر , ومعرفة السموات والأرض وما  أشبه ذلك .                                                                                 .    
 والعملى : إذا علم لم يغن حتى يعمل به , كمعرفة الصلاة والزكاة والجهاد والصوم   والحج وبر الوالدين .                                                                    
.  والأعمال ثلاثة أضرب : عمل يختص بالقلب , وعمل يختص بالبدن , وعمل    مشترك فيه البدن والقلب                                                                          .
 والعلم إذا نظر إليه من حيث تحصيله فاكتسابه عمل , وإذا نظر إليه وقد اكتسب   وتصور فى القلب خرج فى تلك الحال عن أن يكون عملا , وللإنسان فى استفادة العلم
وإفادته ثلاثة أحوال : حال استفادة فقط , وحال استفادة ممن فوقه وإفادة لمن دونه ,   وحال إفادة فقط . وكل من يستحق أن يوجد مفيدا غير مستفيد ففوق كل ذى علم  عليم إلى أن ينتهى الأمر إلى علام الغيوب . فقد نبه تعالى على الحاجة إلى الاستفادة بما حكاه من قول سيدنا موسى عليه السلام لصاحبه : ( هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا   عُلِّمْتَ رُشْداً)  ونبه بما ذكر فى قصة سيدنا سليمان عليه السلام عن الهدهد بقوله : ( أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِه  ) أن الكبير قد يفتقر إلى الصغير فى بعض العلوم , فإذاً   الإنسان ما دام حيا يجب ألا يخرج عن كونه مستفيدا ومفيدا , كما قال عليه الصلاة   والسلام : ( الناسُ عالِمٌ ومتعلمٌ وما سِواهُما هَمَجٌ ) (5).                                    
2 ـ الواجب والمندوب :
ومن وجه آخر ضربان : واجب ومندوب ,
 فالواجب يقال له : العدل , والمندوب   يقال له : الإحسان . وهما المذكوران فى قوله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ  وَالْأِحْسَانِ) فالفرض أو العدل تحرى الإنسان ما إذا عمله أثبت وإذا تركه عوقب . والندوب أو الإحسان تحرى الإنسان ما إذا عمله أثبت وإذا تركه لم يعاقب .والإنصاف من العدل والتفضل من البر والإحسان , فالإنصاف هو مقابلة الخير من   الخير والشر من الشر بما يوازيه , والتفضل والبر مقابلة الخير أكثر منه والشر بأقل منه , فالإحسان والتفضل احتياط فى العدالة والإنصاف ليأمن به من وقوع خلل فيه , وذلك  أنك إذا زدت فى إعطاء ما عليك ونقصت فى أخذ مالك فقد احتطت وأخذت بالعزم   كدفع زيادة زكاة إلى الفقير , وترك ما أحل لك من مال اليتيم , فالعدالة إن كانت فالتفضل أحسن منها , وكذلك قال تعالى فيمن استوفى حقه فتحرى العدالة : 0  وَلَمَنِ  انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) وقال سبحانه بعد : ( وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) وقال عز وجل : ( وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) إشارة إلى أن الإحسان حسن والتفضل أحسن , وقال جل جلاله : ( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)
  فالإنسان إنما يكون محسنا متفضلا بعد أن يكون عادلا منصفا .فأما  من ترك ما يلزمه ثم تحرى ما لا يلزمه , فإنه لا يقال له متفضل , ولا يجوز  تعاطى التفضل إلا لمن كان مستوفيا وموفيا لنفسه , أما الحاكم المستوفى والموفى لغيره   فليس له إلا تحرى العدالة والنصفة .                                                       .
3 ـ العلوم من حيث الكيفية :
والعلوم من حيث الكيفية ضربان : تصور وتصديق , فالتصور هو أن يعرف   الإنسان معنى الشىء صح عنده ذلك بدلالة أم يصح , كمن عرف الصلاة وشرائطها  وإن لم تثبت صحتها عنده بدلالة , والتصديق هو أن يتصور الشىء ويثبت عنده بدلالة  نقتضى صحته .                                                                          
.والتصديق على ثلاثة أضرب :                                                            
 .1 ـ إما بغلبة الظن , وهو أن يكزن عليها دلالة وقد يعترضها شبه توهنها أو تبطلها ,   قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ  مُبْصِرُونَ )
 ـ وإما بعلم اليقين , وهو أن يصير بحيث يعلم ويعلم أنه يعلم ولا تعترضه شبه   توهنه , كالعلم مثلا أن 3 + 3 = 6 وأنه لا يصح أن يكون أكثر من ذلك أو أقل ,
 قال  الله تعالى : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا).               .
3 ـ وإما بعين اليقين , وهو أن يرى بعقله الشىء ويعاينه ببصيرته فى حال اليقظة   والنوم , وقد نبه الله تعالى على هذه الوجود بقوله سبحانه :( كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ  كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ . كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ . لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ).                                                                            
.  أما التصورات المجردة فللعامة الذين قال الله تعالى فيهم : ( وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ  وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) وأما غلبة الظن فللعامة الذين
مدحهم الله تعالى بقوله : ( الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ) وأما علم اليقين   فللخاصة , وأما عين اليقين ففى الدنيا للأنبياء ولبعض الصديقين , وإلى نحوه أشار صلى  الله عليه وسلم بقوله : ( تَنَامُ عَيْنىِ وَلاَ يَنَامُ قَلْبِى ) وبقوله صلى الله عليه وسلم : ( إِنّىِ  أَرَى مِنْ خَلْفىِ كَمَا أَرَى مِنْ قُدَّامِى ) وقال أمير المؤمنين على بن أبى طالب كرم الله  وجه : ( لو كُشِفَ الغِطاءُ ما ازددتُ يقيناً ) .
الغرض من العبادة :
للعبادة حِكَم كثيرة لا تحصى منها تطهير النفس وجلب صحتها .                          
لم يكلف الله الناس عبادته لينتفع هو تعالى بها انتفاع المولى باستعباد عبيده واستخدام             خدمه , فإن الله غنى عن العالمين , ولا ليؤدبهم فقد قال تعالى :(يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) بل كلفهم سبحانه ليزيل أنجاسهم وأمراضهم النفسية , لينالوا  بفضله ورحمته حياة أبدية , وسلامة باقية سرمدية , فإن من ولد يكون ميتا بالإضافة إلى  أصحاب الدار الآخرة , وفاقداً للعين التى بها يعرفهم , والسمع الذى به يسمع   تحاورهم , واللسان الذى به يخاطبونه وبه يخاطبهم , والعقل الذى به يعقل عنهم .
فليس تلكم الحياة العين والسمع وما للإنسان فى الحياة الدنيا , وكيف يكون ذلك وقد نفى الله ذلك عن الكفار وجعلهم أمواتا وصما وبكما وعميا ؟ .
إن الإنسان له قوة على تحصيل تلك الأمور فى ابتداء أمره , فإن أهمل نفسه فى ابتداء  أمره فلم يحصل لنفسه تلك الفضائل فى وقت التحصيل ضعفت القوة عن التحصيل , وفاته الخير فلا يمكنه بعد الفوت قبول ذلك , كالفحم إذا صار رماداً فلا يصير بعد ذلك ناراً , فمن استمر فى كفره وفسقه وتمادى فيه صار إماَّ ميتا أو مريضا أو أصم لا يقبل  الشفاء , ولذلك قال الله تعالى فيمن ثكل هذه القوة : (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ . وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) وقال تعالى فى  المؤمنين : (لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً)وقال فيهم : (أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَار).      
.   فمن استفاد الحياة والصحة والطهارة قبل أن تبطل عنه هذه القوى ـ أعنى قبول                  ذلك ـ فصار حياًّ سميعاً بصيراً طاهراً وحصل التزود كما أمره الله تعالى بقوله :  ( وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) واهتدى بالدليل الموصوف بقوله تعالى : ( وَإِنَّك لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ #صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) وائتمر بقول الله تعالى :( سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ  عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ) واقتدى بالموصوفين بقوله سبحانه : ( أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ)    فجدير أن يفلح فتحصل له هذه السعادة كما قال الله تعالى : ( لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).             ومن حكم العبادات شكر المنعم سبحانه على ما أنعم , فإن النفس إذا تطهرت من  نجاساتها وزالت عنها أمراضها أهلت لأن تكون مرآة مصقولة لنقش حقيقة العلم فيها , فتنكشف لها حقيقتها التى بانكشافها لها تنبلج أنوار الحق , فتعلم علما نسبيا بعض المواهب والنعم المفاضة فضلا من الله وهى لا تحصى عداًّ , ولا تستقصى حداًّ , ثم   تكاشف بما أعده الله للإنسان من النعم التى لا تتصورها الخيالات , من شهود جمال   إلهى , وتنعم بنعيم أبدى , ودوام بهجة لا تزول فتكون العبادة بعد تلك التزكية شكرا   لمنعم متفضل , ومسارعة إلى نيل رضوانه الأكبر , وفضله العظيم , ونعمته الحقيقة ,  قال الله تعالى : (اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً) وقال سبحانه وتعالى : (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)
فتكون العبادة  جامعة لمعانى الكمالات كلها , فهى تزكية للنفوس , وشكر لمنعم متفضل وهاب ,         ومسارعة إلى نيل الخير الحقيقى والنعيم الأبدى والرضوان الأكبر , وهناك حكمة عالية أخرى , يشهدها أهل المعرفة بالله , لا يمكن أن يصرح بها إلا بالإشارة , العبادة عمل  جليل جدا تبتهج به النفوس الفاضلة , ونسبة شريفة تفتخر بها الأرواح الطاهرة ,  ومشهد لا يوصف جماله ولا كماله تسارع إليه الأرواح الملكية , ومواجهة لملك عظيم  كبير متعال , وتمثل بين يدى واحد أحد فرد صمد منعم متفضل رزاق كريم بيان الأمراض والأنجاس التى لا يمكن إزالتها إلا بالشرع :
كما أن فى بدن الإنسان عوارض وأمورا موجودة عند الولادة أو توجد حالا فحالا بحكمة تقتضى ذلك , وهى تعد نجاسات لابد من إماطتها كلها أو إماطة فضولاتها , وذلك كالسلا(غشاء رقيق يحيط بالجنين ويخرج معه من بطن أمه) الذى يكون فيه الولد , والسرة والقلفة والعقيقة(شعر كل مولود من الناس ينبت وهو فى بطن أمه) الموجودة فى الصبى  عند الولادة , وكالأوساخ والقمل والظفر وشعر الإبط . كذلك فى نفس   الإنسان عوارض هى نجاسات وأمراض نفسانية يلزم إماطتها كالجهل والشره والعجلة  والشح والظلم ,
 ويدل بقوله تعالى : (خُلِقَ الْأِنْسَانُ مِنْ عَجَل) كون ذلك مخلوقا  فيه وأنه تعالى أمره بإماطته وإماطة فضلاته بالمجاهدة القوية ليصير شبيها بالصديقين , فذكر أنه مخلوق فيه كما ترى , ثم أمره أن يميط العجلة عن نفسه فقال : ( سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ)  وقوله تعالى : ( إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ) ثم أمره بالعلم   والعدل فى غير موضع من كتابه . وقوله تعالى : ( وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّح) ثم   قال تعالى : ( وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) فأمره باتقاء الشح , وقوله تعالى : (إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً .إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً .وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) ووصفه بالكفور والقتور فى قوله تعالى : ( وَكَانَ الْأِنْسَانُ كَفُوراً)  وقوله تعالى : (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْأِنْفَاقِ وَكَانَ الْأِنْسَانُ قَتُوراً)
 فأدخل عليه ( كان ) تنبيها على أن ذلك فيه غريزى موجود   قبل وليس هو بشىء طارىء عليه ( وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) ثم نهى عن  أكثر الجدل فالإنسان يحتاج أن يستعمل هذه القوى فى الدنيا كما يجب , ووقت ما يجب , وبقدر  ما يجب , وأن يميط عنه ما يضر ولا ينفع قبل خروجه من الدنيا حسب ما وردت به   الشريعة , فإنه متى لم يتطهر من النجاسة ولم يزل أمراض نفسه لم يجد سبيلا إلى نعيم     الآخرة ؛ بل ولا إلى طيب الحياة الدنيا , وذلك أن من تطهر تجلى عن قلبه الغشاوة فيعلم الحق حقا والباطل باطلا فلا يشغله إلا ما يعنيه , ولا يتناول إلا ما يعنيه , فيحيا حياة    طيبة كما قال تعالى : ( فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) ولا تصير مقتنياته فى الدنيا وبالا وعذاباكما قال الله تعالى فى الكفار : (وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ   يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ)  ويصير قلبه ـ متى تظهر ـ محل السكينة والأرواح الطيبة كما وصف الله المؤمنين بقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ) ويعرف الطريق التى بها التوصل إلى جنة المأوى ومصاحبة الملأ الأعلى فى مقعد صدق عند مليك مقتدر , فيسارع فى الخير ويسابق إلى مغفرة من ربه وجنة عرضها السموات والأرض . ومتى بقيت نجاسته  وتزايدت صار قلبه مقر الشبه والآثام كما قال تعالى : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ .تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) فلا يجد سبيلا إلى سعادة الدار الآخرة كما قال تعالى : (أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ .كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) فنبه على أنه لا يصلح لجنته ما لم تطهر ذاته عن أشياء هى مخلوقة فيها , وعلى  هذا دل قوله تعالى : ( مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ  مِنَ الطَّيِّبِ).                                                                           .  
 فحق الإنسان أن يراعى هذه القوى فيصلحها ويستعملها على الوجه الذى يجب وكما يجب ,  ليكون كمن وصفه الله تعالى بقوله : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ  سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)وقد يقع للإنسان شبهة فى أمر هذه  النجاسات فيقول : أترى أن ذلك من عند غير الله ؟ فإن كان من غيره فمن أين منبعه ؟  وإن كان منه فما المعنى فى أن أوجده الإنسان ثم أمره بأن يزيله ؟ فيقال : ما من شىء أوجده الله أو أمكن من إيجاده إلا وفيه حكمة ومنفعة وإن لم يعرف ذلك الإنسان , لكن  من الأشياء ما نفعه فى وقت مخصوص , أو إذا كان على قدر مخصوص , ثم إذا استغنى عنه أو زاد على قدر ما يحتاج إليه يجب أن يزال وذلك ظاهر بالتأمل , إذ من المعلوم أن السلى والسرة يحتاج إليهما لصيانة الولد فى وقت , ثم يستغنى عنهما فيكون إبقاؤها يعد  نجاسة , والشعر والظفر يحتاج إليهما إذا كانا على حد , وإذا زاد يجب إماطتها النجاسات المخلوقة فى ذات الإنسان وعلاجها وأضدادها , وبينت أن الفضيلة وسط بين رذيلتين , ولتمام الفائدة لا أخلى هذا المختصر   المبارك من بيان ما لا بد منه من ذكر النجاسات المخلوقة فى ذات الإنسان التى يجب أن   يعالجها بالأدوية الشرعية كما قال الله تعالى : )وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ((1)وقوله    تعالى : (وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُور)
 فأقول وبالله التوفيق :.  معلوم أن القوى قوة الشهوة وقوة الحمية وقوة الفكر , فبإصلاح قوة الشهوة تحصل    العفة فيحترز بها من الشره وإماتة الشهوة , ويتحرى المصلحة فى المأكول والمشروب  والملبوس والمنكوح وطلب الراحة وغير ذلك من اللذات الحسية , وبإصلاح قوة الحمية    تحصل الشجاعة فيحترز من الجبن والتهور والحسد , ويتحرى الاقتصاد فى الخوف    والغضب والأنفة وغير ذلك , وبإصلاح قوة الفكر تحصل الحكمة حتى يحترز من البله    والخبث ويتحرى الاقتصاد فى تدبير الأمور الدنيوية , وبإصلاح هذه القوى تحصل فى  الإنسان قوة العدالة , فيقتدى برسول الله rفى تزكية نفسه وحسن معاملته لغيره ,   فنفس الإنسان معادية له كما قال تعالى : (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي)  وقال صلى الله عليه وسلم: ( أَعْدَى عَدُوِّكَ نَفْسُكَ الَّتىِ بَيْنَ جَنْبَيْكَ)  فمن أدبها أو قمعها أمن     ظلمها , وإلى هذا أشار الله تعالى بقوله : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا  يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً)أى : لا يخاف أن تظلمه نفسه الشهوية , فالأعمال    الصالحة حصن منها لقوله تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَر).      
 .  فإذا أقام المسلم الصلاة إقامة تجعله عالما بمعنى ما يعمل , متيقنا نسبته فى عمله   وكمالاته الحقيقية عند مواجهته فى الصلاة التى هى أضداد صفات الحق , شهد بعين سره  نور مواجهة إله عظيم كبير معبود علٍّى موفق هاد , فينجذب بالكلية إلى التخلق بتلك  الأخلاق الربانية , والتجمل بالحظوة لتلك الجلوة العلية , ويقوى اشتياقه إلى دوام   مواجهة هذا النور المشرق الذى هو قره عين العارفين , وسر قوله صلى الله عليه وسلم: ( وَجُعِلَت قُرَّةُ   عَيْنىِ فىِ الصَّلاَةِ )  وقوله صلى الله عليه وسلم: ( أَوَّلُ الْوَقْتِ رِضْوَانٌ )(2) وقوله صلى الله عليه وسلم: ( أَبْرِدُوا  بِالصَّلاَةِ )(3) ومن لم تزك نفسه لا تصح له تلك المواجهة ؛ فيقف فى الصلاة بجسمه   وقلبه يتقلب فى طمع أو شح أو هوى , لم يكن ذلك لأن الله تعالى محجوب عن سره ,  بل لأن سره محجوب عن مواجهة الحق ، ونفسه مسجونه فى نجاساتها ولقسها ودنسها , والأَوْلى للمسلم أن يسارع إلى أولياء الله الذين تزكو بصحبتهم نفسه , ويزول بحبهم    لبسه , حتى تشرق عليه أنوار القربات , وتصح له أسرار المواجهات , وأكمل تلك المواجهات عند إقامة الصلاة .
الامام محمد ماضى ابو العزائم
الموقع الرسمى فوزى محمد ابوزيد

التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:




شارك فى نشر الخير