عدد المشاهدات:
- مسلك الكذب عند الطفل وسبل التخلص منه
يعتبر الكذب من السلوكيات القبيحة التي كثيراً ما يتصف بها الأطفال، حيث يتعلمون ذلك من البيئة حولهم، فيحصلون على بعض الفوائد من وراء الكذب، إما على الوالدين، أو الإخوة، أو الأقارب، أو غيرهم.
والكذب من الأخلاق المذمومة في الإسلام حيث قال الله تعالى مادحاً عباده الأتقياء بأنهم يتجنبون الكذب: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان:72]، والزور هو الكذب كما فسره ابن جريج رحمه الله، وفي الحديث الذي رواه الحاكم في المستدرك قال عليه الصلاة والسلام: ((إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار)).
ولما كان الكذب من الأخلاق المذمومة، فإن اهتمام الأب المسلم بتخليص ولده من شره يعتبر أمراً هاماً جداً، خاصة وأنه يتنافى مع طبيعة المؤمن، وأساس تكوينه، فلا يمكن أن يتصف المؤمن الحق بخلق الكذب والخيانة، فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب))، فالإنسان في أساس فطرته وتكوينه مفطور على الخير وحب الحق فلا يكون خائناً ولا كذاباً، وإنما يتصف بهذه الصفات المذمومة عن طريق الاكتساب من البيئة حوله، ومن مؤثرات الشهوات والأهواء وغيرها.
والأب المسلم يعود ولده الصدق من أول حياته، ويجنبه الكذب في جميع الأحوال فإن "الصدق أساس الحسنات وجماعها، والكذب أساس السيئات ونظامها"، فلو تعود الولد الصدق كان له أساساً لباقي الحسنات والأعمال الصالحة، وأعظمها الإخلاص لله تعالى، ولو تعود الكذب كان له أساساً وقاعدة لجميع السيئات والقبائح، وعلى رأسها النفاق الذي يقوم على الكذب والخيانة.
ويلجأ الولد إلى الكذب لأسباب تسوقه إلى ذلك، فالولد الذي لم تشبع غريزته من امتلاك الألعاب والأدوات، ولم تتمكن أسرته من تحقيق الإشباع لهذا الجانب في نفسه، فإنه يلجأ إلى الكذب، وادعاء ما ليس له، ليشبع رغبته وميله هذا. ولا شك أن هذه القضية مهمة، خاصة في العائلة الفقيرة التي لا تستطيع أن تحقق لأولادها جميع متطلباتهم، وربما يكون أمثل حل لهذه المشكلة -حفاظاً على الولد من اللجوء إلى الكذب- هو قيام الأب حسب استطاعته بتأمين بعض احتياجات الأولاد - خاصة من الألعاب - الصغيرة والقليلة التكلفة، مع الجودة في الصناعة والمتانة، بحيث يمكن أن يحتفظ بها الولد أطول مدة ممكنة، فيوزع هذه الألعاب والاحتياجات على الأولاد، مخصصاً لكل ولد منهم لعبة أو حاجة تخصه دون غيره، فيكون بذلك قد أشبع شيئاً من هذه الرغبة في نفوس أولاده دون أن تضر بميزانية الأسرة أو ترهقها، ويراعي قبل هذا الإجراء وبعده أن يركز في أولاده مفاهيم القضاء والقدر، وأن ما خصهم الله به من الفقر وقلة ذات اليد هو خير لهم، ورفع لمنزلتهم في الآخرة، مستعيناً في ذلك بما جاء في القرآن الكريم والسنة المطهرة من الأقوال المباركة المطمئنة للنفس في هذا الجانب.
وهناك نوع آخر من الكذب يستخدمه الأطفال بهدف حب الظهور بين الأقران. وهذا الكذب مذموم أيضاً، ودور الوالد هنا هو أن يواجه ولده بالحقيقة - إن أحس وشعر بأن ولده يفعل هذا - وأن هذا السلوك من الكذب، والادعاء غير الصحيح، ثم يحاول بعد ذلك أن يلفته إلى الصفات الحسنة في نفسه والتي ربما خفيت عليه، ويلفته إلى ما لديه من ممتلكات وألعاب وغير ذلك، ويشعره بأنه لا داعي للكذب، ويلزمه إن أراد أن يقص على أصدقائه ويخبرهم بما عنده أن يخبرهم بالحقيقة دون كذب، وإن ترك إخبارهم بذلك كان أفضل وأحسن؛ ليتعلم الإخلاص والبعد عن الرياء والسمعة.
ونوع آخر من الكذب يستخدمه الولد ليحمي نفسه من العقاب فإن أخبر والده بالحقيقة ربما عاقبه وعنفه، فإن حدث أن كسر الولد زجاج النافذة حاول أن يخفي آثار فعلته، ويبتعد عن المكان، فإن سئل عن الفاعل نفى التهمة عن نفسه خشية أن يعاقب.
هذا النوع من الكذب والغش لا يفعله الولد إلا إذا علم أن العقاب الذي ينتظره أليم وعنيف، وأنه إذا قال الحقيقة لن ينجو، بل ربما كان الكذب أقرب إلى النجاة، لهذا فإن الولد يكذب، ولو أن الأب الفطن حاول أن يعلم أولاده أن الصدق نجاة لهم من العقاب، فإن الأولاد يسارعون إلى الصدق ويتعودونه إذا أيقنوا أنه سوف ينجيهم من العقاب.
وعلى الأب أن يوطن نفسه على أن يلتزم بما وعد به الأولاد، فلا يعاقبهم إن صدقوا القول واعترفوا بالخطأ - مهما كان الجرم كبيراً - بل يبين لهم أن ذلك خطأ لا يحبه الله ولا الوالدان، وأنهم بصدقهم قد نجوا من العقاب، ويحذرهم من العودة لمثل هذا الخطأ مرة أخرى.
وإن رأى الأب أنه لا بد من العقاب مراعياً في ذلك التوسط والحكمة، فإنه يشعر الأولاد بأن العقوبة هي - مثلاً - خصم نصف المصروف اليومي لمدة أسبوع لمن كسر زجاج النافذة، والتعهد بعدم العودة، فإن اعترف أحدهم بذلك طبق العقوبة عليه دون زيادة ولو سامحه لسرعة اعترافه وتأسفه وندمه كان ذلك حسناً. وبذلك يؤصل الوالد في نفس أولاده حب الصدق، وذم الكذب، وأن الصدق منجاة، وأن الكذب مهلكة ولا فائدة من ورائه.
ولا ينبغي للأب أن يسهل لولده الإفلات بكذبه دون أن يشعر بذلك، ويفهمه أنه قد كذب، وأن والده علم بذلك؛ وهذا لأن نجاة الولد بالكذب يشجعه على المزيد منه، ويحمسه على تعاطيه.
ويحاول الأب أن يتجنب قدر الإمكان أسلوب الاتهام بمجرد الشك، فلا ينسب إلى الولد عملاً يشك في أنه قد اقترفه، حتى يتيقن بأنه هو الفاعل؛ لأن اتهام الولد مع إمكانية براءته، ولو بنسبة بسيطة يؤدي إلى إحساس الولد بالظلم والجور، وعدم الثقة في والده؛ بل ربما دفعه ذلك إلى الكذب ليتخلص من العقوبة الظالمة. فلو حدث أن عاد الأب إلى البيت فوجد صنبور الماء مفتوحاً، أو علبة دهان الجدار ملقاة، وقد سال منها الدهان في فناء الحديقة، ولم يكن في البيت سوى الولد، فإنه لا ينبغي اتهام الولد باقتراف هذه الأعمال، خاصة إن سئل عنها وأفاد بأنه لم يعملها، فربما أن الخادمة قبل خروجها نسيت إغلاق الصنبور، وربما أن قطة مرت على علبة الدهان فعبثت بها وأسقطتها فسال الدهان، والاحتمالات في هذا كثيرة، والمقصود هو أن لا يتهم الولد بمجرد الشك دون دليل قطعي لا يحتمل التأويل.
وإن صدر عن الولد كذب في مواقف مختلفة، وكاد أن يصبح الكذب له عادة، فإن "علاج هذا المرض أن يعلم عقوبة الله للكاذب، وأن يتيقن أنه مع استدامته الكذب لا بد أن يطلع على حاله … فيربو حياؤه وخجله، واحتقار الناس له، وتكذيبهم إياه في الصدق، وقلة ثقتهم به على ما اكتذبه". فإن علم الولد ذلك وتيقن به خاف من الله وهاب احتقار الناس له، وتكذيبهم له حتى وإن صدق، ويحاول الأب أن يطبق ذلك مع ولده عملياً، فإن أخبره بشيء لم يصدقه وإن كان صادقاً، بل يخبره أنه تعود منه الكذب، وربما أنه في هذه المرة قد كذب أيضاً. فيحس الولد ويعاني ألم هذا الصد، فيتجنب الكذب، ويجاهد نفسه في ذلك. ويساعده الأب ويشجعه ويكافئه إن نجح والتزم الصدق، ويحذر الوالد كل الحذر من المعاقبة العاجلة بالضرب والتعنيف، فإن هذه الطريقة غير مجدية؛ بل ربما زادت الولد مكراً وكذباً؛ فيتعلم النفاق ويتظاهر لوالده بالمظهر الذي يريده الأب، دون أن يكون الولد نفسه مقتنعاً بهذا المظهر.
والأب يراعي في مسألة كذب الأطفال قضية مهمة جداً، وهي: أن الطفل لا يدرك الكذب إلا بعد الخامسة من العمر، ويسيطر على الطفل قبل بلوغ السنوات الثلاث خيال واسع، فيكون كذبه في هذه الفترة غير مقصود أو متعمَّد، وهذا النوع من الكذب يسمى "الكذب التخيلي"، ولا خطر فيه، بل يمكن استغلال خصوبة خيال الطفل في هذه الفترة بتوجيهه نحو الروايات الخيالية المفيدة لإشباع هذه الرغبة عنده، كما أن الطفل الصغير في بعض الأحيان لا يفرق بين الخيال والواقع، فربما رأى مناماً، أو سمع قصة خيالية فظنها حقيقة واقعية حدثت فعلاً. وهذا النوع من الكذب يسمى "الكذب الالتباسي"، ويزول مع نمو الطفل وكبر سنه.
وهذان النوعان من الكذب لا ينبغي معاقبة الولد عليهما، خاصة الأولاد دون سن الخامسة فهم لا يدركون الحقيقة، ولا يقصدون الكذب، ولا بأس على الأب أن يوضح للولد - إن صدر منه شيء من هذا الكذب - أن هذا من الخيال، أو أن هذه القصة أو الرواية غير صحيحة، بل هي خرافية وهكذا، فإن كبر الولد وزادت خبرته انتهى عن هذه العادة بطبيعته.
وكما أشير من قبل أن خلق الكذب يكتسب من البيئة، وأن الطفل لا يولد كذاباً فإن أول طريق وأعظم طريق يتعلم الولد ويكتسب من خلاله الكذب ويعتاده: هو عن طريق الوالدين والإخوة، وكل من يحتك به ويعايشه يومياً، فالوالد الذي لا يفي بوعوده للولد ولا ينجزها له يتعلم الولد منه الكذب ويقتدي به في ذلك؛ لهذا حذر رسول الله r من هذا فقال: ((إن الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل ولا أن يعد الرجل ابنه ثم لا ينجز له))، وذلك لأن الولد يعتاد الكذب ويقتدي بوالده في ذلك. وأعجب من هذا أن يصف الرسول r التمويه للطفل بأي شيء لاجتذابه دون أن يُعطى من الكذب حيث قال: ((من قال لصبي تعال هاك ثم لم يعطه فهي كذبة))، وهكذا تعاليم الشريعة العظيمة تحتاط من الكذب حتى على الصبي الصغير الذي لا يعقل، وما ذاك إلا لاستئصال هذه الصفة القبيحة، وعدم تعويد الطفل عليها، فإن حدث أن اضطر الوالد إلى عدم الوفاء للولد بوعد ما سارع إلى توضيح القضية له والمبررات، وذلك لئلا يقع في نفسه أن والده يكذب عليه.
ومن الكذب التمويهي الذي يعمله بعض الآباء وله أثر سيئ على الولد يظهر أحيانًا عندما يتظاهر الوالد بمعاقبة أحد الأولاد لأنه ضرب أخاه الصغير، فيمثل الأب أنه يضربه وهو في الحقيقة لا يضربه، فهذا السلوك الخاطئ من الأب يعلم الولد المشتكي الكذب والغش، إذ إنه يعلم أن والده يكذب عليه، إلى جانب أن الولد المُعاقب هو أيضًا يتعلم مشروعية الكذب بهذه الطريقة، وبهذا الأسلوب الخادع.
ويراعي الأب مع الولد الكبير أن لا يُكذِّبه فيما يروي له بل يصدقه، فإن تيقن من كذب رواية ما واجهه بذلك في غير اتهام قائلًا: "هل أنت متأكد من هذه القصة يا بني؟ فإن الله يراك ويسمعك"، وبهذه الطريقة يعلق الأب الولد بجانب العقيدة والغيب، فيعلم أن هناك رقيبًا عليه يحصي كذبه وصدقه، فيكون ذلك مدعاة له لالتزام الصدق وتجنب الكذب.
يعتبر الكذب من السلوكيات القبيحة التي كثيراً ما يتصف بها الأطفال، حيث يتعلمون ذلك من البيئة حولهم، فيحصلون على بعض الفوائد من وراء الكذب، إما على الوالدين، أو الإخوة، أو الأقارب، أو غيرهم.
والكذب من الأخلاق المذمومة في الإسلام حيث قال الله تعالى مادحاً عباده الأتقياء بأنهم يتجنبون الكذب: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان:72]، والزور هو الكذب كما فسره ابن جريج رحمه الله، وفي الحديث الذي رواه الحاكم في المستدرك قال عليه الصلاة والسلام: ((إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار)).
ولما كان الكذب من الأخلاق المذمومة، فإن اهتمام الأب المسلم بتخليص ولده من شره يعتبر أمراً هاماً جداً، خاصة وأنه يتنافى مع طبيعة المؤمن، وأساس تكوينه، فلا يمكن أن يتصف المؤمن الحق بخلق الكذب والخيانة، فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب))، فالإنسان في أساس فطرته وتكوينه مفطور على الخير وحب الحق فلا يكون خائناً ولا كذاباً، وإنما يتصف بهذه الصفات المذمومة عن طريق الاكتساب من البيئة حوله، ومن مؤثرات الشهوات والأهواء وغيرها.
والأب المسلم يعود ولده الصدق من أول حياته، ويجنبه الكذب في جميع الأحوال فإن "الصدق أساس الحسنات وجماعها، والكذب أساس السيئات ونظامها"، فلو تعود الولد الصدق كان له أساساً لباقي الحسنات والأعمال الصالحة، وأعظمها الإخلاص لله تعالى، ولو تعود الكذب كان له أساساً وقاعدة لجميع السيئات والقبائح، وعلى رأسها النفاق الذي يقوم على الكذب والخيانة.
ويلجأ الولد إلى الكذب لأسباب تسوقه إلى ذلك، فالولد الذي لم تشبع غريزته من امتلاك الألعاب والأدوات، ولم تتمكن أسرته من تحقيق الإشباع لهذا الجانب في نفسه، فإنه يلجأ إلى الكذب، وادعاء ما ليس له، ليشبع رغبته وميله هذا. ولا شك أن هذه القضية مهمة، خاصة في العائلة الفقيرة التي لا تستطيع أن تحقق لأولادها جميع متطلباتهم، وربما يكون أمثل حل لهذه المشكلة -حفاظاً على الولد من اللجوء إلى الكذب- هو قيام الأب حسب استطاعته بتأمين بعض احتياجات الأولاد - خاصة من الألعاب - الصغيرة والقليلة التكلفة، مع الجودة في الصناعة والمتانة، بحيث يمكن أن يحتفظ بها الولد أطول مدة ممكنة، فيوزع هذه الألعاب والاحتياجات على الأولاد، مخصصاً لكل ولد منهم لعبة أو حاجة تخصه دون غيره، فيكون بذلك قد أشبع شيئاً من هذه الرغبة في نفوس أولاده دون أن تضر بميزانية الأسرة أو ترهقها، ويراعي قبل هذا الإجراء وبعده أن يركز في أولاده مفاهيم القضاء والقدر، وأن ما خصهم الله به من الفقر وقلة ذات اليد هو خير لهم، ورفع لمنزلتهم في الآخرة، مستعيناً في ذلك بما جاء في القرآن الكريم والسنة المطهرة من الأقوال المباركة المطمئنة للنفس في هذا الجانب.
وهناك نوع آخر من الكذب يستخدمه الأطفال بهدف حب الظهور بين الأقران. وهذا الكذب مذموم أيضاً، ودور الوالد هنا هو أن يواجه ولده بالحقيقة - إن أحس وشعر بأن ولده يفعل هذا - وأن هذا السلوك من الكذب، والادعاء غير الصحيح، ثم يحاول بعد ذلك أن يلفته إلى الصفات الحسنة في نفسه والتي ربما خفيت عليه، ويلفته إلى ما لديه من ممتلكات وألعاب وغير ذلك، ويشعره بأنه لا داعي للكذب، ويلزمه إن أراد أن يقص على أصدقائه ويخبرهم بما عنده أن يخبرهم بالحقيقة دون كذب، وإن ترك إخبارهم بذلك كان أفضل وأحسن؛ ليتعلم الإخلاص والبعد عن الرياء والسمعة.
ونوع آخر من الكذب يستخدمه الولد ليحمي نفسه من العقاب فإن أخبر والده بالحقيقة ربما عاقبه وعنفه، فإن حدث أن كسر الولد زجاج النافذة حاول أن يخفي آثار فعلته، ويبتعد عن المكان، فإن سئل عن الفاعل نفى التهمة عن نفسه خشية أن يعاقب.
هذا النوع من الكذب والغش لا يفعله الولد إلا إذا علم أن العقاب الذي ينتظره أليم وعنيف، وأنه إذا قال الحقيقة لن ينجو، بل ربما كان الكذب أقرب إلى النجاة، لهذا فإن الولد يكذب، ولو أن الأب الفطن حاول أن يعلم أولاده أن الصدق نجاة لهم من العقاب، فإن الأولاد يسارعون إلى الصدق ويتعودونه إذا أيقنوا أنه سوف ينجيهم من العقاب.
وعلى الأب أن يوطن نفسه على أن يلتزم بما وعد به الأولاد، فلا يعاقبهم إن صدقوا القول واعترفوا بالخطأ - مهما كان الجرم كبيراً - بل يبين لهم أن ذلك خطأ لا يحبه الله ولا الوالدان، وأنهم بصدقهم قد نجوا من العقاب، ويحذرهم من العودة لمثل هذا الخطأ مرة أخرى.
وإن رأى الأب أنه لا بد من العقاب مراعياً في ذلك التوسط والحكمة، فإنه يشعر الأولاد بأن العقوبة هي - مثلاً - خصم نصف المصروف اليومي لمدة أسبوع لمن كسر زجاج النافذة، والتعهد بعدم العودة، فإن اعترف أحدهم بذلك طبق العقوبة عليه دون زيادة ولو سامحه لسرعة اعترافه وتأسفه وندمه كان ذلك حسناً. وبذلك يؤصل الوالد في نفس أولاده حب الصدق، وذم الكذب، وأن الصدق منجاة، وأن الكذب مهلكة ولا فائدة من ورائه.
ولا ينبغي للأب أن يسهل لولده الإفلات بكذبه دون أن يشعر بذلك، ويفهمه أنه قد كذب، وأن والده علم بذلك؛ وهذا لأن نجاة الولد بالكذب يشجعه على المزيد منه، ويحمسه على تعاطيه.
ويحاول الأب أن يتجنب قدر الإمكان أسلوب الاتهام بمجرد الشك، فلا ينسب إلى الولد عملاً يشك في أنه قد اقترفه، حتى يتيقن بأنه هو الفاعل؛ لأن اتهام الولد مع إمكانية براءته، ولو بنسبة بسيطة يؤدي إلى إحساس الولد بالظلم والجور، وعدم الثقة في والده؛ بل ربما دفعه ذلك إلى الكذب ليتخلص من العقوبة الظالمة. فلو حدث أن عاد الأب إلى البيت فوجد صنبور الماء مفتوحاً، أو علبة دهان الجدار ملقاة، وقد سال منها الدهان في فناء الحديقة، ولم يكن في البيت سوى الولد، فإنه لا ينبغي اتهام الولد باقتراف هذه الأعمال، خاصة إن سئل عنها وأفاد بأنه لم يعملها، فربما أن الخادمة قبل خروجها نسيت إغلاق الصنبور، وربما أن قطة مرت على علبة الدهان فعبثت بها وأسقطتها فسال الدهان، والاحتمالات في هذا كثيرة، والمقصود هو أن لا يتهم الولد بمجرد الشك دون دليل قطعي لا يحتمل التأويل.
وإن صدر عن الولد كذب في مواقف مختلفة، وكاد أن يصبح الكذب له عادة، فإن "علاج هذا المرض أن يعلم عقوبة الله للكاذب، وأن يتيقن أنه مع استدامته الكذب لا بد أن يطلع على حاله … فيربو حياؤه وخجله، واحتقار الناس له، وتكذيبهم إياه في الصدق، وقلة ثقتهم به على ما اكتذبه". فإن علم الولد ذلك وتيقن به خاف من الله وهاب احتقار الناس له، وتكذيبهم له حتى وإن صدق، ويحاول الأب أن يطبق ذلك مع ولده عملياً، فإن أخبره بشيء لم يصدقه وإن كان صادقاً، بل يخبره أنه تعود منه الكذب، وربما أنه في هذه المرة قد كذب أيضاً. فيحس الولد ويعاني ألم هذا الصد، فيتجنب الكذب، ويجاهد نفسه في ذلك. ويساعده الأب ويشجعه ويكافئه إن نجح والتزم الصدق، ويحذر الوالد كل الحذر من المعاقبة العاجلة بالضرب والتعنيف، فإن هذه الطريقة غير مجدية؛ بل ربما زادت الولد مكراً وكذباً؛ فيتعلم النفاق ويتظاهر لوالده بالمظهر الذي يريده الأب، دون أن يكون الولد نفسه مقتنعاً بهذا المظهر.
والأب يراعي في مسألة كذب الأطفال قضية مهمة جداً، وهي: أن الطفل لا يدرك الكذب إلا بعد الخامسة من العمر، ويسيطر على الطفل قبل بلوغ السنوات الثلاث خيال واسع، فيكون كذبه في هذه الفترة غير مقصود أو متعمَّد، وهذا النوع من الكذب يسمى "الكذب التخيلي"، ولا خطر فيه، بل يمكن استغلال خصوبة خيال الطفل في هذه الفترة بتوجيهه نحو الروايات الخيالية المفيدة لإشباع هذه الرغبة عنده، كما أن الطفل الصغير في بعض الأحيان لا يفرق بين الخيال والواقع، فربما رأى مناماً، أو سمع قصة خيالية فظنها حقيقة واقعية حدثت فعلاً. وهذا النوع من الكذب يسمى "الكذب الالتباسي"، ويزول مع نمو الطفل وكبر سنه.
وهذان النوعان من الكذب لا ينبغي معاقبة الولد عليهما، خاصة الأولاد دون سن الخامسة فهم لا يدركون الحقيقة، ولا يقصدون الكذب، ولا بأس على الأب أن يوضح للولد - إن صدر منه شيء من هذا الكذب - أن هذا من الخيال، أو أن هذه القصة أو الرواية غير صحيحة، بل هي خرافية وهكذا، فإن كبر الولد وزادت خبرته انتهى عن هذه العادة بطبيعته.
وكما أشير من قبل أن خلق الكذب يكتسب من البيئة، وأن الطفل لا يولد كذاباً فإن أول طريق وأعظم طريق يتعلم الولد ويكتسب من خلاله الكذب ويعتاده: هو عن طريق الوالدين والإخوة، وكل من يحتك به ويعايشه يومياً، فالوالد الذي لا يفي بوعوده للولد ولا ينجزها له يتعلم الولد منه الكذب ويقتدي به في ذلك؛ لهذا حذر رسول الله r من هذا فقال: ((إن الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل ولا أن يعد الرجل ابنه ثم لا ينجز له))، وذلك لأن الولد يعتاد الكذب ويقتدي بوالده في ذلك. وأعجب من هذا أن يصف الرسول r التمويه للطفل بأي شيء لاجتذابه دون أن يُعطى من الكذب حيث قال: ((من قال لصبي تعال هاك ثم لم يعطه فهي كذبة))، وهكذا تعاليم الشريعة العظيمة تحتاط من الكذب حتى على الصبي الصغير الذي لا يعقل، وما ذاك إلا لاستئصال هذه الصفة القبيحة، وعدم تعويد الطفل عليها، فإن حدث أن اضطر الوالد إلى عدم الوفاء للولد بوعد ما سارع إلى توضيح القضية له والمبررات، وذلك لئلا يقع في نفسه أن والده يكذب عليه.
ومن الكذب التمويهي الذي يعمله بعض الآباء وله أثر سيئ على الولد يظهر أحيانًا عندما يتظاهر الوالد بمعاقبة أحد الأولاد لأنه ضرب أخاه الصغير، فيمثل الأب أنه يضربه وهو في الحقيقة لا يضربه، فهذا السلوك الخاطئ من الأب يعلم الولد المشتكي الكذب والغش، إذ إنه يعلم أن والده يكذب عليه، إلى جانب أن الولد المُعاقب هو أيضًا يتعلم مشروعية الكذب بهذه الطريقة، وبهذا الأسلوب الخادع.
ويراعي الأب مع الولد الكبير أن لا يُكذِّبه فيما يروي له بل يصدقه، فإن تيقن من كذب رواية ما واجهه بذلك في غير اتهام قائلًا: "هل أنت متأكد من هذه القصة يا بني؟ فإن الله يراك ويسمعك"، وبهذه الطريقة يعلق الأب الولد بجانب العقيدة والغيب، فيعلم أن هناك رقيبًا عليه يحصي كذبه وصدقه، فيكون ذلك مدعاة له لالتزام الصدق وتجنب الكذب.