عدد المشاهدات:
سؤال: ما هي أكبر العوائق التي قد يواجهها من يرغبون في إيصال إلهامات أرواحهم وتبليغِ جماليّات القِيَمِ التي يؤمنون بها إلى قلوبِ الآخرين؟
الجواب: إنَّ أكبرَ عناصرِ الامتحانِ بالنسبةِ لِلْبَشَرِ هي الرغبات والأهواء الدنيوية، وقد ارتُكِبَ كمٌّ هائلٌ من المظالم ووقعَت حِزْمةٌ من الأزمات في المجتمعات التي تُطَوِّقُ هذه العناصرُ مشاعرَ أفرادِها وأفكارهم، وتُخيِّمُ عليها وتطغى، وتعرَّض العديدُ من رجال الحقِّ والحقيقة وفي مقدِّمتهم الأنبياء عليهم السلام لاعتداءاتٍ وهجماتٍ قاسيةٍ جاحدةٍ، ولشتّى أنواع الإهانات والافتراءات، بل وحتى لِمحاولات القتلِ وللمذابحِ أيضًا، كما أنَّ أوَّلَ حادثةٍ تكوي القلوب والأكباد قد وقعت في بيت سيدنا آدم عليه السلام الذي تنَزَّلَ عليه الوحي زخًّا زخًّا، ومع أن قابيل نشأ في مناخٍ كهذا إلا أنه قتلَ أخاه هابيل كي يَصِلَ إلى شهواتِهِ الدنيويّة الفانية، قال تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 27/5-30)، وهكذا بدأَتْ أَوَّلُ جريمةٍ بإغواء الشيطان للإنسان، وتتابعَ على إثرها الكثيرُ من حوادثِ الإغواء والانخداع، ولـمَّا تنتهِ بَعْدُ.
وكما ورد في أحَدِ الكتبِ المقدَّسَةِ؛ فإن سيدنا داود عليه السلام الذي أرسَلَهُ الله إلى بني إسرائيل ليُنقِذَهم من الاضطهاد والذُّلِّ وليقودَهم إلى العِزَّةِ والرِّفْعَةِ قد تعرَّضَ على أَلْسِنَةِ قومِهِ لافتراءاتٍ لا يُتَّهَمُ بها ولو حتى الأفراد العاديّون مثل الزنا والقتل، -حاشا وكلّا أن يقعَ منه ذلك عليه السلام- واضطره قومُه إلى الحلفِ بالله على التابوت، محاولين التضييقَ عليه وإلجاءه إلى ما لا يرغبُ في فِعْلِهِ.
أما سيِّدُنا رسولُ الله مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم فقد تعرَّض للعديد من الاتهامات على أيدي أعدائه؛ فَرَمَوهُ بأنه -حاشا وكلَّا ألف مَرّة ومَرّة- ساحرٌ مرّةً، قال تعالى: ﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ﴾ (سُورَةُ يُونُسَ: 2/10)، ومرّة أخرى بأنه شاعر، قال تعالى: ﴿بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ﴾ (سُورَةُ الأَنْبِيَاءِ: 5/21)، ومرّة أخرى بأنه كاهن، قال تعالى ردًّا عليهم: ﴿وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ﴾ (سُورَةُ الْحَآقَّةِ: 42/69)، وبذلوا جهدهم كي يمنعوا الحقائق التي سيُبَلِّغها عن ربه تعالى من أن تدخلَ في القلوبِ فَتُنِيرَها.
أَذْهَبْتُمْ طيباتكم في حياتكم الدنيا!
وقد تقعُ حوادث كهذه في يومنا هذا أيضًا، ومن المُؤكَّدِ أنّها لن تتوقَّفَ لاحِقًا، والمهمّ هو ألا نفعلَ مثلما فعلَ بعضُ الشعراء حينما خلَّدوها كملاحمَ للأحزانِ والهمومِ، ونقلوها إلى الأجيال اللاحقةِ كرسائل شكوى. أجل، إن المهمّ ههنا هو أن يتقبَّلَ الإنسانُ برضًا تامٍّ كلَّ هذه الملِمَّات التي تحلُّ به، وألَّا يتشكّى منها إلى الناس، وأن يتحيَّنَ الفُرَصَ وأوقاتَ العزلةِ فيلجَأَ إلى الله تعالى ويبثّ إليه سبحانه وتعالى ما يعتمِلُ في صدرِهِ، بيدَ أنه ينبغي له وهو يفعلُ ذلك ألا يُسمِعَ أحدًا صَرْخَتَهُ وصيحتَهُ؛ فاللهُ جلَّ جلالُهُ ولا أحدَ سواه هو مالكُ الزمانِ والمكان، والحكمُ حكمُهُ، ومِنْ ثَمَّ فليسَ مِنْ شأنِنا التدخُّلُ في النتائِجِ، وعلينا أن نحترمَ أحكامه تعالى بشأننا ونقدرها حقَّ قدرِها، ونمضي قدمًا في طريقِنا متمثِّلين قولَ الشاعر التركي الصوفي إبراهيم تَنُّوري:
ما أعذب البلاء إن كان من جلالِهْ!
وما أحلى الوفاء إن كان من جمالِهْ!
فـــــكـــــلاهــــــــمــــــــا صــــــــفــــــاءٌ لــلـــــــروح
فما أحلى لطفه! وما أعذب قهره!
فقد يأتي الجفاءُ من الجلالِ حينًا، والصفاءُ من الجمالِ حينًا آخر، ولا بدَّ من التسويةِ بينهما هما الاثنين؛ فلا يُفرَحُ بالصفاءِ، ولا يُستاءُ من الجفاءِ، ولنتَرَفَّعْ عن مثلِ قولِ: أَلِأَنني فعلتُ كذا وكذا أصابني ما أصابني؟ لماذا تحُلّ بي أنا دائمًا هذه الآلام والأزمات والشائعات والأحقاد والمظالم؟ وما أجملها في هذا الموضوع من كلماتٍ أبيات الشيخ “محمد لطفي أفندي” التي تَبُزُّ بِحُسنِها بريقَ اللؤلؤِ والمرجان:
يقول عاشق الحقّ عن مُرهَفِ الحِسِّ:
لا تـمــتــعــض مــمّــن يـؤذي
فمن امتعض من الأذى
قلّتْ درجتُه عن المؤذي
أجل، إن كنتم تتشوَّفون إلى الكمال في الآخرة فَحَذَاريكمْ أن تطلبوه هنا من الأشياء الدنيويّة؛ فما طلبُ ذلك من الدنيا إلا علامةٌ على النقصِ؛ وإنَّ انتظارَ أمورٍ دنيويّة مثل تصفيق الناس وتقديرهم ليس إلا استثمارًا خاسِرًا وزائفًا بالنسبة للآخرة، وقد حذَّرَنا القرآن الكريم من هذا فقال سبحانه وتعالى فيه: ﴿أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا﴾ (سُورَةُ الأَحْقَافِ: 20/46)، ولذا فحريٌّ بنا أنْ نُرجِئ إلى الدار الآخرة طلبَ كلِّ ما سيمُنُّ به الحقُّ تعالى علينا من أنواع اللُّطْفِ والنعيم، وألا نستَنْفِدَ ههنا في دار الفناء هذه كلَّ الخيرات والهِبات التي وُعِدنا بالحصول عليها في الآخرة.
وثمة قصة مُعَبِّرَة تُحكى فيما يتعلقُ بهذا الموضوع؛ إذ حُكيَ أنَّ زوجةَ أحد عباد الله الصالحين اشتكت إلى زوجِها صَلَفَ العيش وضيقه، وطلبت إليه أن يدعو الله كي يخلصهم من هذا الحال؛ فلم يكسر الرجل الصالح بخاطر زوجه وراح يدعو الله؛ فاستجاب الله دعاءه؛ فما برِحا مكانهما إلا وقد ظَهَرَتْ إلى جوارهما لَبِنَةٌ من الذهب؛ فقال الرجل الصالح لزوجِهِ: “ها هو ذا! إنها إحدى لَبِنَاتِ قصرِنا في الآخرة”، فقالت المرأةُ المباركة نادمةً على أن طَلَبَتْ من زَوجِها ما طَلَبَتْ: “رغمَ أنَّنا محتاجون حقًّا؛ لكنه وكَيلَا تضيعَ في هذه الدنيا الفانية جائزةٌ واحدةٌ سنحصلُ عليها بإذن الله في الآخرة عالمِ البقاءِ، وكَيلا تنقصَ لبنةٌ من لَبِنَاتِ قصرِنا في الجنّة؛ أسألُكَ أن تدعوَ الله تعالى ثانيةً -كما دعوتَهُ أوَّلًا- أن يَرُدَّ هذه اللبنة إلى مكانها”؛ فدعا الرجل الصالح ربَّـــهُ ثانيةً نزولًا منه على رغبةِ زوجتِهِ الصادقةِ هذهِ، فاختفَتْ تلك اللَّبِنَةُ فجأةً عن الأنظارِ، وعادت من حيثُ أَتَتْ.
أجل، إن القوَّةَ المنيعةَ لِمَنْ نَذَرُوا أنفسَهم للحقِّ، وتعلَّقَتْ قلوبُهم بغايةٍ ساميةٍ واستهدفوا إعادة نجمِ مستقبلِ أمَّتِهِم إلى بَريقِهِ ولَمَعَانِهِ من جديد؛ لَتَتَمَثَّلُ في أنْ يُباعِدوا بينهم وبين الدنيا، وأن يتحرّكوا بروحِ الاستغناءِ، ويقِفوا أنفسَهم على تحقيقِ سعادة الآخرين التامّة، وهذا لا يمنعُ مَنْ يعيشون على التجارة ويواصلون حياتهم بما يكسبون منها، ويدعمون خدمةَ الإيمان والقرآن مِنْ أن يطلبوا الدنيا كسبًا شريطةَ أن يهجروها قلبًا، غير أنه ينبغي لرجالِ الخدمة الذين يُمَثِّلون هذا العمل وقد نَذَرُوا أنفسَهم له أن يَثْبُتُوا في مواجهة الدنيا، وأن يتصرَّفُوا باستغناءٍ دائمًا؛ لأن استغناءَهم هو أعظمُ أَرْصِدَتِهم، وكلّما استغنوا أكثر كلّما أصغى الناس وَوَثِقوا بهم ووافقوا مطمئنِّين لِكلِّ مسألة يُشارُ إليهم بها، ومن ثمَّ يُؤَدُّون الوظائف والمهام الواجبةَ عليهم دون تردُّدٍ ولا شَكٍّ، ولو مثقال ذرّةٍ.
وبينما يجبُ أن يتحقَّقَ هذا ويحدثَ؛ إلا أنّ المؤسف هو كثرةُ عددِ من مال إلى الدنيا بدعوى “أنه لا بأس في الاستفادة منها قليلًا” في أول الأمر، ثم غاصَ وانخرط فيها حتى الأعماق؛ فانهزم أمامها بالرغم من أنهم حين انطلقوا في هذا السبيل كانوا متّحدين ويحملون روحَ التضحية والفداء؛ فكانوا كما قال الشيخ “محمد لطفي أفندي”:
كم من شخصيّاتٍ عظيمة
وسلاطين ذوي وجوهٍ نورانيّةٍ
وملوكٍ وأباطرةٍ كـ”كسرى أنو شيروان”
ولّوا وانهاروا واحدًا تلوَ الآخر، وغرقوا في بحر الدم والقيح والصديد الذي نُطلِق عليه اسمَ الدنيا، وإن استسلامَ رجالِ الحقِّ لمثل هذهِ الأفكار الشّيطانيّة، وقولُـهُم: “فلنكسب نحن أيضًا، ولتكن لنا منازلُنا وثرواتنا ولنعِشْ مثلهم…”؛ إنما يعني قضاءَهم على أرصِدتهم بأيديهم أنفسهم لا بأيدي غيرهم، ومن ثم يقضي القَدَرُ بأن تُسْلَبَ من أيديهم النِّعَمُ التي يملِكُونها، وأن تَنْزَلِقَ أقدامُهم ويضلُّوا، فإن يحدثْ خلافَ ما هو مرجوٌّ ومحمودٌ فإنّ الله جلَّ جلالُه يذهبُ بِمَنْ تعفَّنوا وصاروا أجسادًا بلا روحٍ، ويأتي بدلًا منهم ﴿بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ (سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 54/5).
السبيل إلى إرغام المتكبرين
لا بدَّ من حِماية قيمةِ وشَرَفِ التضحية والفدائيّة وصيانةِ ذلك في كلِّ الأحوالِ، وقد كان مفخرةُ الإنسانيّة المضحِّي الرئيسُ الذي يُمثِّلُ القمَّةَ في هذا الشأن؛ حالُهُ في ذلك كحالِهِ في غير ذلك من الأمور والمواضيع؛ فقد ارتحلَ صلى الله عليه وسلم إلى أُفُقِ روحِهِ ودرعُهُ مرهونة عند يهودي من أجلِ إطعامِ أهلِهِ، فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: “تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ، بِثَلاَثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ”[1].
ولم يكن سيدنا أبو بكر رضي الله عنه مختلِفًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو متخلِّفًا عنه في هذا الأمر؛ فلما حضَرَتْهُ الوفاةُ أبلغَ من حوله بأنه كانَ يُحاوِل طِيلةَ حياتِهِ ألا يستهلك ما يزيدُ عن حاجتِهِ، وأنه جمعَ ما زادَ عن حاجتِهِ ممّا خُصِّص له، فإذا هو ماتَ فليَرِجِعْ به المسلمون على بيت المال، فعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: “أَطَفْنَا بِغُرْفَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فِي مَرْضَتِهِ الَّتِي قُبِضَ فِيهَا، قَالَ: فَقُلْنَا: كَيْفَ أَصْبَحَ أَوْ كَيْفَ أَمْسَى خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم؟ قَالَ: فَاطَّلَعَ عَلَيْنَا إِطِّلَاعَةً، فَقَالَ: أَلَسْتُمْ تَرْضَوْنَ بِمَا أَصْنَعُ؟ قُلْنَا: بَلَى قَدْ رَضِينَا، قَالَ: وَكَانَتْ عَائِشَةُ هِيَ تُمَرِّضُهُ قَالَ: فَقَالَ: أَمَا إِنِّي قَدْ كُنْتُ حَرِيصًا عَلَى أَنْ أُوَفِّرَ لِلْمُسْلِمِينَ فَيْئَهُمْ مَعَ أَنِّي قَدْ أَصَبْتُ مِنَ اللَّحْمِ وَاللَّبَنِ، فَانْظُرُوا إِذَا رَجَعْتُمْ مِنِّي فَانْظُرُوا مَا كَانَ عِنْدَنَا فَأَبْلِغُوهُ عُمَرَ، قَالَ: وَمَا كَانَ عِنْدَهُ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، مَا كَانَ إِلَّا خَادِمٌ وَلَقْحَةٌ وَمِحْلَبٌ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عُمَرُ يُحْمَلُ إِلَيْهِ قَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ، لَقَدْ أَتْعَبَ مَنْ بَعْدَهُ[2].
وقد أدَّى سيِّدُنا عمرُ رضي الله عنه عملَه كخليفةٍ للمسلمين بنفسِ الفهمِ والشعورِ؛ فلم يتَّخِذْ له كرسيًّا لِلعرش قطّ، بل جلسَ في المسجد، وأدار شؤونَ الأمّة منه، ولم يتعذّر بمقولةِ “التكبّر على المتكبّر صدقة” من أجل أن يحيا حياةً فارهةً تموج بالأبهة والخيلاء، بالعكس من ذلك لقد استطاع -مع تواضعه- أن يُخضِعَ له دول العالم آنذاك، ولـمّا ذهبَ لاستلام مفاتيحِ المسجدِ الأقصى خرجَ حكّامُ القدس وقتها لِلقائِهِ رضي الله عنه وقد ارتدوا الملابس المزخرفة المزركشةَ، بينما كان هو متواضعًا لأقصى درجة كما تبين من ملابسه المرقعة وتعاقبه على الدابة مع خادمه، ولقد اشتهَرَ أنّه لما لقيَهُ أُمراءُ الأجنادِ قَبْلَ أن يَصِلَ إلى بيتِ المقدسِ قالوا: يا أمير المؤمنين إنك تقدم على أناس، وأنت على هذه الحالة قميصٌ مرقّعٌ، وعلى بعيرٍ مرحّلٍ!! هذا برذونٌ تركبه، -والبرذون ما بين الفرس والبغل، وله تبخترٌ في المشيِ- وهذا قميصٌ جديد تلبسُه، فلما جيءَ بالقميص وكان من الكتّان قال: ردّوا عليَّ قميصي واغسلوه، فغسلوا القميص المرقَّع، وجيءَ به ولَبِسَهُ، فلما قدَّموا إليه البرذون رفضَه وأمَرَ بردِّ بعيرهِ، وكان رحاله من الليف، فدخل إلى بيت المقدس والدورُ لخادِمِه في الركوب، فكان يقودُ البعيرَ وخادمه راكبٌ، فلما قدمَ على دهاقِنَتِهم، وقساوِسَتِهِم وأهلِ دينِهِم الذين عرفوا نعتَهُ عندهم قالوا: هذا الوصف الذي نجده عندنا في كتبنا، وسلموا إليه مفاتيح بيت المقدس[3]، وكما يتَّضِحُ تمامًا من هذه الحادثة فإنَّ التواضع والتفاني هو السبيل إلى إرغام متكبِّري العصر أيضًا، فمثل هذا الحال والتصرُّفِ يسحقُ أمامَهُ كلَّ أنواع الكِبْرِ والخيلاءِ ويدفنُها في أسفل سافلين. أجل، لقد كان هذا هو أسلوب سيدنا عمر رضي الله عنه وديدَنُه طيلةَ حياتِهِ، فلم يُفَكِّرْ في أيِّ وقتٍ قطُّ أن يورِّثَ أبناءه ولا أحفاده شيئًا، بل تركهم أمانة لفهم الصحابة الكرام ورعايتهم، وعلى هذه الحال انتقل إلى أفق روحه.
وقد كان سيدنا عثمان رضي الله عنه تاجرًا يُعَدُّ من أغنى أغنياءِ مكة والمدينة ، غير أنه وعلى حدِّ قولِ الأستاذِ بديعِ الزمانِ “ترك الدنيا قلبًا لا كَسْبًا”[4]، حيث إنّه لما دَعَت الحاجةُ إلى تجهيزِ جيشِ العُسْرَةِ الذي سيتحرّكُ إلى “تبوك” تبرّع رضي الله عنه بثلاثمائة بعيرٍ بأحلاسها وأقتابها دون أدنى تبرُّمٍ أو ضيقٍ أو ندمٍ على ما فعل، تبرع بذلك لا لشيء سوى رضا الله سبحانه وتعالى[5]، ولو أنَّ مفخرةَ الإنسانيّة صلى الله عليه وسلم قال له: أَنفِقْ كلّ مالك؛ لَمَا تَردد أبدًا ولأنفقه عن بكرةِ أبيهِ في سبيل الله على الفور.
وكانت حياة سيدنا علي رضي الله عنه تسير على نفس المنوال أيضًا، فكان حاكمًا لرقعة جغرافية ربما كانت مساحتها تفوق مساحة تركيا اليوم بعشرين ضعفًا، وبالرغم من أن حدود الدولة التي كانت تحت حكمه شهدت بعض المنازعات السياسية إلا أنها كانت شاسعة واسعة مترامية الأطراف لدرجةٍ تستطيع معها أن تستوعبَ أعظم إمبراطوريّتين قبلَ الإسلام؛ فارس والروم، ومع ذلك كان يلبسُ ثيابَ الشِّتاءِ في فصلِ الصيف وثياب الصيفِ في فصلِ الشتاء، فعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، قَالَ: كَانَ أَبُو لَيْلَى يَسْمُرُ مَعَ عَلِيٍّ، فَكَانَ يَلْبَسُ ثِيَابَ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ، وَثِيَابَ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ[6].
هذا هو الإسلام الحقيقي، فأين نحن منه؟
واليوم لا بد من سؤال من يقضون حيواتهم بالسياحة والتنقُّلِ من المصايف إلى المشاتي ويتشدَّقون قائلين: “نحن أيضًا نسير على نهج هؤلاء الصحابة الكرام”، ومن يفكّرون كيف سيكون مستقبل أولادهم وأحفادهم وينشغلون بذلك، ومن يتصرّفون وفقَ المثل الكاذب القائل “إنَّ مال الدولة بحرٌ من لا يشرب منه فهو أحمق”؛ لا بدَّ من سُؤالهم: “من هو قدوتكم، من هو مثلكم الأعلى؟” ألا يلزمهم كمؤمنين أن يستحيوا من الله تعالى ويبتعدوا تمامًا عن مثل هذه الأفكار التي لا تجول إلا بعقول أمثال قارون ورمسيس وآموفيس؟ إنني أسأل الله العظيم أن يوفق من نذروا أنفسهم للخدمة الإيمانية المثالية السامية إلى الحفاظ على مشاعر الحياء والخجل هذه؛ فلا يميلوا إلى الدنيا، وألَّا يُطاحَ بهم، وألَّا تذهب ريحهم، وأرجو من الله لهم أن يصبروا ويحتسبوا قائلين: “إننا نعضُّ على ديننا بالنواجذِ، ونصبرُ، وحسبنا ألا ينقصَ من أَجْرِنا في الآخرة شيء”، وعليهم أن يرضوا بالابتلاءِ والظلْمِ متمثِّلين قولَ “ضياء باشا” رحمه الله:
الجاهل يعيش في ترفٍ ونزهةٍ ورخاءٍ
والعارف يسبح في دوّامة المحن والبلاء
ولكن حَذَارِ أن يغبطوا الآخرين على حياتهم الفارهة المطنطنة، ويجدر بهم، بل وينبغي لهم أن يعتبروا الأشياء الدنيوية قذارات علقت بأطراف أقدامهم، وعليهم أن يسيروا بحماسة إلى الدار الآخرة، فإذا ما سُئِلُوا وهم يتقدَّمون إلى الحضرةِ الإلهيّة: “ماذا تركتم في الدنيا؟” أجابوا: “لا نتذكَّرُ شيئًا”، لأن الاستغناءَ والتفانيَ والتواضعَ هو أساسُ عملِنا، وتصرف رجال الغاية المثالية -الذين نذروا أنفسهم لإعادة تشيِيدِ صَرحِ الأخلاقِ المتهدِّمِ- تصرفًا خلاف ذلك سيؤدّي إلى خسارتهم اعتبارهم ومكانتهم لدى الحقِّ تعالى، كما أنه سَيُزَعْزِعُ مشاعرَ وثقةَ الناسِ بهم، وإن من ضلّوا عن الحقِّ إلى الباطلِ، وعن الطريقِ المستقيمِ إلى الطريقِ المعوجِّ، وما أكثر أمثلتهم في التاريخ! ليتدحرجون ويفنَون كقارون -حفظنا الله-، حتى وإن أظهروا أنفسَهم بمظْهَرِ سيدنا هارون عليه السلام.
أجل، ينبغي لأرباب التضحية والتفاني ألّا يتخلّوا عن مبدئهم هذا حتى ولو تمَّ إغراؤهم بأعلى الرتبِ وأرفع النياشين، ولو كانت الرتبة من قبيلِ فاتح إسطنبول مثلًا، أو فيينا بل فاتح روما، ولا بد أن نُغادِرَ الدنيا كما جئناها صفرًا لا نملِكُ من حطامِها شيئًا، وكما رأينا في الأمثلةِ المذكورةِ أعلاه -ولْيرَ هذه الأمثلة ويعتبر بها من يراها، وليغضّ الطرفَ عنها من يغضه؛ فمن رأى وعرفَ وغرفَ وقدَّرَ فإنّ ذلك سيكون شفيعًا له في الآخرة، وأما من استخفَّ ولم يُقدِّر ولم يهتمّ فإنّ المطارقَ ستنهالُ على رأسِهِ يوم الحساب.
“إنهم لا يخافون لومة لائم!”
سقطت الوردة بين الأشواك فدمى قلب العندليب
ونظرَ إلى الشوكة تارةً وإلى الوردة تارة وبكى العندليب (نائلي قديم)
إن الأمر كما قيل في البيت أعلاه؛ فكثيرةٌ هي الورودُ التي سقطت بين الأشواك، وكثيرةٌ هي البلابل التي أنَّت وبكت حزنًا عليها، واليوم أيضًا حان لِأبطال الغاية المثالية الأنينُ والبكاء؛ فما أكثر الافتراءات المزعومة والانتقادات والاستهزاءات والسخريات والمؤامرات والحيل ضدهم… عليهم في مواجهة كل هذه الابتلاءات أن يتحركوا وهم يتمثلون موقفًا وقورًا ثابتًا وفقَ المنطق الذي عبَّرَ عنه الشاعر التركي “نفعي” قائلًا:
ما تنعّمنا بالدنيا وما ابتغينا شيئًا من أهلها
وما لجأنا إلا إلى الحضرة الإلهيّة
وما أعذب قول الشاعر الحكيم “سعدي” حينما قال:
إن أصاب حجرُ المقلاعِ -خطأً- سلطانيّةً ذهبيّةً
فلا ترتفعُ قيمةُ الحجر، ولا تنقص قيمة السلطانيّة
وعليه فليرموكم بالأحجار كما شاؤوا، ما دمتم كأسًا ذهبيًّا؛ فَبِإذن الله تعالى وعنايته لن يستطيع أحدٌ أن ينالَ منكم ولا أن يؤذيَكم.
ولا سيما أن الله تعالى قال في القرآن الكريم ﴿وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ﴾ (سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 54/5)؛ فأرشدنا إلى التصرُّف والسلوك الذي يجب اتباعه في مثل هذه الحالات، هذا من جانب، ومن جانب آخر فإنه ينبغي اعتبارُ كلِّ ما يقعُ للإنسان من حوادثَ تتخطَّى الأسبابَ الظاهريّة امتحانًا وابتلاءً يؤدّي إلى التقرُّب من الحبيب صلى الله عليه وسلم، ولا سيّما أن بطلَ هذا الأفق مهمومُ هذا العصرِ الأستاذُ النُّورسي قال: “وليكن كلُّ ما قاسَيتُهُ في غضونِ ثمانٍ وعشرين سنة من الأذى والمصائب حلالًا زلالًا، أما الذين ظلموني وجرجروني من مدينة إلى أخرى، والذين أرادوا أن يَصِمُوني بمختلف التُّهَمِ والإهانات، وأفردوا لي أماكن في الزنزانات فقد غفرتُ لهم ذلك وتنازلْتُ عن حقوقي تجاههم“[7]، وعلى من يُدركون أنهم سالكو نفس الطريق أن يقولوا مثلما قال الشاعر الحروفي نسيمي:
أنا عاشقٌ لك ملوَّعٌ أيها الحبيب المحبوب
حتى وإن شققتَ قلبي بالخنجر فلن أتزحزحَ عن حبّك أو أؤوب
ولو وضع النجَّارُ منشارَه على رأسي مهدِّدًا
بل وإن شقّوني نصفين كزكريا مجدّدًا
وإن أحرقوا جسمي وذرُّوا رمادي
يا إلهي يا ستّارُ لن أتنازلَ عنك يا مرادي
وعليهم أن يُكثِّفُوا كل همَّتهم ويُسَخِّروها في عملِ ما يجب عمله دون أن يُلقُوا بالًا إلى الكلمات المبذولةِ، أو أن يشغلوا أذهانهم بها، وعليهم كذلك أن يسيروا ثابتين مرفوعي الرأس في السبيلِ الحقِّ الذي يعرفونه.
ولا يساورنَّكم شكٌّ في أن القلوب التي نذرت نفسها لخدمة الإيمان سوف تواصِلُ خدماتها في ظلِّ عناية الله ورعايتِهِ، ولن يُوقِفَ أو يُعَرقِلَ مسيرتها أحدٌ على الإطلاقِ طالما أنها استمرَّت في عملها وسيرها وقد أسلمت أمرها لله ودستورها في عملها:
لنرَ المولى ماذا سيُقدِّر
ما يُقَدِّرُه هو الأجملُ
[1] صحيح البخاري، الجهاد، 89، سنن الترمذي، البيوع، 7، سنن ابن ماجه، الرهون، 1.
[2] ابن سعد: الطبقات الكبرى، 3/ 173.
[3] ذكره عطية سالم في شرح بلوغ المرام، 86/3.
[4] سعيد النورسي: المثنوي النوري، الحبة، 231.
[5] سنن الترمذي، مناقب عثمان، 2؛ الطبراني: المعجم الكبير، 625/5.
[6] سنن ابن ماجه، المقدمة، 15؛ مسند الإمام أحمد 168/2.
[7] سعيد النورسي: لاحقة أميرداغ 2، ص 337-338.
الجواب: إنَّ أكبرَ عناصرِ الامتحانِ بالنسبةِ لِلْبَشَرِ هي الرغبات والأهواء الدنيوية، وقد ارتُكِبَ كمٌّ هائلٌ من المظالم ووقعَت حِزْمةٌ من الأزمات في المجتمعات التي تُطَوِّقُ هذه العناصرُ مشاعرَ أفرادِها وأفكارهم، وتُخيِّمُ عليها وتطغى، وتعرَّض العديدُ من رجال الحقِّ والحقيقة وفي مقدِّمتهم الأنبياء عليهم السلام لاعتداءاتٍ وهجماتٍ قاسيةٍ جاحدةٍ، ولشتّى أنواع الإهانات والافتراءات، بل وحتى لِمحاولات القتلِ وللمذابحِ أيضًا، كما أنَّ أوَّلَ حادثةٍ تكوي القلوب والأكباد قد وقعت في بيت سيدنا آدم عليه السلام الذي تنَزَّلَ عليه الوحي زخًّا زخًّا، ومع أن قابيل نشأ في مناخٍ كهذا إلا أنه قتلَ أخاه هابيل كي يَصِلَ إلى شهواتِهِ الدنيويّة الفانية، قال تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 27/5-30)، وهكذا بدأَتْ أَوَّلُ جريمةٍ بإغواء الشيطان للإنسان، وتتابعَ على إثرها الكثيرُ من حوادثِ الإغواء والانخداع، ولـمَّا تنتهِ بَعْدُ.
وكما ورد في أحَدِ الكتبِ المقدَّسَةِ؛ فإن سيدنا داود عليه السلام الذي أرسَلَهُ الله إلى بني إسرائيل ليُنقِذَهم من الاضطهاد والذُّلِّ وليقودَهم إلى العِزَّةِ والرِّفْعَةِ قد تعرَّضَ على أَلْسِنَةِ قومِهِ لافتراءاتٍ لا يُتَّهَمُ بها ولو حتى الأفراد العاديّون مثل الزنا والقتل، -حاشا وكلّا أن يقعَ منه ذلك عليه السلام- واضطره قومُه إلى الحلفِ بالله على التابوت، محاولين التضييقَ عليه وإلجاءه إلى ما لا يرغبُ في فِعْلِهِ.
أما سيِّدُنا رسولُ الله مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم فقد تعرَّض للعديد من الاتهامات على أيدي أعدائه؛ فَرَمَوهُ بأنه -حاشا وكلَّا ألف مَرّة ومَرّة- ساحرٌ مرّةً، قال تعالى: ﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ﴾ (سُورَةُ يُونُسَ: 2/10)، ومرّة أخرى بأنه شاعر، قال تعالى: ﴿بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ﴾ (سُورَةُ الأَنْبِيَاءِ: 5/21)، ومرّة أخرى بأنه كاهن، قال تعالى ردًّا عليهم: ﴿وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ﴾ (سُورَةُ الْحَآقَّةِ: 42/69)، وبذلوا جهدهم كي يمنعوا الحقائق التي سيُبَلِّغها عن ربه تعالى من أن تدخلَ في القلوبِ فَتُنِيرَها.
أَذْهَبْتُمْ طيباتكم في حياتكم الدنيا!
وقد تقعُ حوادث كهذه في يومنا هذا أيضًا، ومن المُؤكَّدِ أنّها لن تتوقَّفَ لاحِقًا، والمهمّ هو ألا نفعلَ مثلما فعلَ بعضُ الشعراء حينما خلَّدوها كملاحمَ للأحزانِ والهمومِ، ونقلوها إلى الأجيال اللاحقةِ كرسائل شكوى. أجل، إن المهمّ ههنا هو أن يتقبَّلَ الإنسانُ برضًا تامٍّ كلَّ هذه الملِمَّات التي تحلُّ به، وألَّا يتشكّى منها إلى الناس، وأن يتحيَّنَ الفُرَصَ وأوقاتَ العزلةِ فيلجَأَ إلى الله تعالى ويبثّ إليه سبحانه وتعالى ما يعتمِلُ في صدرِهِ، بيدَ أنه ينبغي له وهو يفعلُ ذلك ألا يُسمِعَ أحدًا صَرْخَتَهُ وصيحتَهُ؛ فاللهُ جلَّ جلالُهُ ولا أحدَ سواه هو مالكُ الزمانِ والمكان، والحكمُ حكمُهُ، ومِنْ ثَمَّ فليسَ مِنْ شأنِنا التدخُّلُ في النتائِجِ، وعلينا أن نحترمَ أحكامه تعالى بشأننا ونقدرها حقَّ قدرِها، ونمضي قدمًا في طريقِنا متمثِّلين قولَ الشاعر التركي الصوفي إبراهيم تَنُّوري:
ما أعذب البلاء إن كان من جلالِهْ!
وما أحلى الوفاء إن كان من جمالِهْ!
فـــــكـــــلاهــــــــمــــــــا صــــــــفــــــاءٌ لــلـــــــروح
فما أحلى لطفه! وما أعذب قهره!
فقد يأتي الجفاءُ من الجلالِ حينًا، والصفاءُ من الجمالِ حينًا آخر، ولا بدَّ من التسويةِ بينهما هما الاثنين؛ فلا يُفرَحُ بالصفاءِ، ولا يُستاءُ من الجفاءِ، ولنتَرَفَّعْ عن مثلِ قولِ: أَلِأَنني فعلتُ كذا وكذا أصابني ما أصابني؟ لماذا تحُلّ بي أنا دائمًا هذه الآلام والأزمات والشائعات والأحقاد والمظالم؟ وما أجملها في هذا الموضوع من كلماتٍ أبيات الشيخ “محمد لطفي أفندي” التي تَبُزُّ بِحُسنِها بريقَ اللؤلؤِ والمرجان:
يقول عاشق الحقّ عن مُرهَفِ الحِسِّ:
لا تـمــتــعــض مــمّــن يـؤذي
فمن امتعض من الأذى
قلّتْ درجتُه عن المؤذي
أجل، إن كنتم تتشوَّفون إلى الكمال في الآخرة فَحَذَاريكمْ أن تطلبوه هنا من الأشياء الدنيويّة؛ فما طلبُ ذلك من الدنيا إلا علامةٌ على النقصِ؛ وإنَّ انتظارَ أمورٍ دنيويّة مثل تصفيق الناس وتقديرهم ليس إلا استثمارًا خاسِرًا وزائفًا بالنسبة للآخرة، وقد حذَّرَنا القرآن الكريم من هذا فقال سبحانه وتعالى فيه: ﴿أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا﴾ (سُورَةُ الأَحْقَافِ: 20/46)، ولذا فحريٌّ بنا أنْ نُرجِئ إلى الدار الآخرة طلبَ كلِّ ما سيمُنُّ به الحقُّ تعالى علينا من أنواع اللُّطْفِ والنعيم، وألا نستَنْفِدَ ههنا في دار الفناء هذه كلَّ الخيرات والهِبات التي وُعِدنا بالحصول عليها في الآخرة.
وثمة قصة مُعَبِّرَة تُحكى فيما يتعلقُ بهذا الموضوع؛ إذ حُكيَ أنَّ زوجةَ أحد عباد الله الصالحين اشتكت إلى زوجِها صَلَفَ العيش وضيقه، وطلبت إليه أن يدعو الله كي يخلصهم من هذا الحال؛ فلم يكسر الرجل الصالح بخاطر زوجه وراح يدعو الله؛ فاستجاب الله دعاءه؛ فما برِحا مكانهما إلا وقد ظَهَرَتْ إلى جوارهما لَبِنَةٌ من الذهب؛ فقال الرجل الصالح لزوجِهِ: “ها هو ذا! إنها إحدى لَبِنَاتِ قصرِنا في الآخرة”، فقالت المرأةُ المباركة نادمةً على أن طَلَبَتْ من زَوجِها ما طَلَبَتْ: “رغمَ أنَّنا محتاجون حقًّا؛ لكنه وكَيلَا تضيعَ في هذه الدنيا الفانية جائزةٌ واحدةٌ سنحصلُ عليها بإذن الله في الآخرة عالمِ البقاءِ، وكَيلا تنقصَ لبنةٌ من لَبِنَاتِ قصرِنا في الجنّة؛ أسألُكَ أن تدعوَ الله تعالى ثانيةً -كما دعوتَهُ أوَّلًا- أن يَرُدَّ هذه اللبنة إلى مكانها”؛ فدعا الرجل الصالح ربَّـــهُ ثانيةً نزولًا منه على رغبةِ زوجتِهِ الصادقةِ هذهِ، فاختفَتْ تلك اللَّبِنَةُ فجأةً عن الأنظارِ، وعادت من حيثُ أَتَتْ.
أجل، إن القوَّةَ المنيعةَ لِمَنْ نَذَرُوا أنفسَهم للحقِّ، وتعلَّقَتْ قلوبُهم بغايةٍ ساميةٍ واستهدفوا إعادة نجمِ مستقبلِ أمَّتِهِم إلى بَريقِهِ ولَمَعَانِهِ من جديد؛ لَتَتَمَثَّلُ في أنْ يُباعِدوا بينهم وبين الدنيا، وأن يتحرّكوا بروحِ الاستغناءِ، ويقِفوا أنفسَهم على تحقيقِ سعادة الآخرين التامّة، وهذا لا يمنعُ مَنْ يعيشون على التجارة ويواصلون حياتهم بما يكسبون منها، ويدعمون خدمةَ الإيمان والقرآن مِنْ أن يطلبوا الدنيا كسبًا شريطةَ أن يهجروها قلبًا، غير أنه ينبغي لرجالِ الخدمة الذين يُمَثِّلون هذا العمل وقد نَذَرُوا أنفسَهم له أن يَثْبُتُوا في مواجهة الدنيا، وأن يتصرَّفُوا باستغناءٍ دائمًا؛ لأن استغناءَهم هو أعظمُ أَرْصِدَتِهم، وكلّما استغنوا أكثر كلّما أصغى الناس وَوَثِقوا بهم ووافقوا مطمئنِّين لِكلِّ مسألة يُشارُ إليهم بها، ومن ثمَّ يُؤَدُّون الوظائف والمهام الواجبةَ عليهم دون تردُّدٍ ولا شَكٍّ، ولو مثقال ذرّةٍ.
وبينما يجبُ أن يتحقَّقَ هذا ويحدثَ؛ إلا أنّ المؤسف هو كثرةُ عددِ من مال إلى الدنيا بدعوى “أنه لا بأس في الاستفادة منها قليلًا” في أول الأمر، ثم غاصَ وانخرط فيها حتى الأعماق؛ فانهزم أمامها بالرغم من أنهم حين انطلقوا في هذا السبيل كانوا متّحدين ويحملون روحَ التضحية والفداء؛ فكانوا كما قال الشيخ “محمد لطفي أفندي”:
كم من شخصيّاتٍ عظيمة
وسلاطين ذوي وجوهٍ نورانيّةٍ
وملوكٍ وأباطرةٍ كـ”كسرى أنو شيروان”
ولّوا وانهاروا واحدًا تلوَ الآخر، وغرقوا في بحر الدم والقيح والصديد الذي نُطلِق عليه اسمَ الدنيا، وإن استسلامَ رجالِ الحقِّ لمثل هذهِ الأفكار الشّيطانيّة، وقولُـهُم: “فلنكسب نحن أيضًا، ولتكن لنا منازلُنا وثرواتنا ولنعِشْ مثلهم…”؛ إنما يعني قضاءَهم على أرصِدتهم بأيديهم أنفسهم لا بأيدي غيرهم، ومن ثم يقضي القَدَرُ بأن تُسْلَبَ من أيديهم النِّعَمُ التي يملِكُونها، وأن تَنْزَلِقَ أقدامُهم ويضلُّوا، فإن يحدثْ خلافَ ما هو مرجوٌّ ومحمودٌ فإنّ الله جلَّ جلالُه يذهبُ بِمَنْ تعفَّنوا وصاروا أجسادًا بلا روحٍ، ويأتي بدلًا منهم ﴿بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ (سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 54/5).
السبيل إلى إرغام المتكبرين
لا بدَّ من حِماية قيمةِ وشَرَفِ التضحية والفدائيّة وصيانةِ ذلك في كلِّ الأحوالِ، وقد كان مفخرةُ الإنسانيّة المضحِّي الرئيسُ الذي يُمثِّلُ القمَّةَ في هذا الشأن؛ حالُهُ في ذلك كحالِهِ في غير ذلك من الأمور والمواضيع؛ فقد ارتحلَ صلى الله عليه وسلم إلى أُفُقِ روحِهِ ودرعُهُ مرهونة عند يهودي من أجلِ إطعامِ أهلِهِ، فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: “تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ، بِثَلاَثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ”[1].
ولم يكن سيدنا أبو بكر رضي الله عنه مختلِفًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو متخلِّفًا عنه في هذا الأمر؛ فلما حضَرَتْهُ الوفاةُ أبلغَ من حوله بأنه كانَ يُحاوِل طِيلةَ حياتِهِ ألا يستهلك ما يزيدُ عن حاجتِهِ، وأنه جمعَ ما زادَ عن حاجتِهِ ممّا خُصِّص له، فإذا هو ماتَ فليَرِجِعْ به المسلمون على بيت المال، فعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: “أَطَفْنَا بِغُرْفَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فِي مَرْضَتِهِ الَّتِي قُبِضَ فِيهَا، قَالَ: فَقُلْنَا: كَيْفَ أَصْبَحَ أَوْ كَيْفَ أَمْسَى خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم؟ قَالَ: فَاطَّلَعَ عَلَيْنَا إِطِّلَاعَةً، فَقَالَ: أَلَسْتُمْ تَرْضَوْنَ بِمَا أَصْنَعُ؟ قُلْنَا: بَلَى قَدْ رَضِينَا، قَالَ: وَكَانَتْ عَائِشَةُ هِيَ تُمَرِّضُهُ قَالَ: فَقَالَ: أَمَا إِنِّي قَدْ كُنْتُ حَرِيصًا عَلَى أَنْ أُوَفِّرَ لِلْمُسْلِمِينَ فَيْئَهُمْ مَعَ أَنِّي قَدْ أَصَبْتُ مِنَ اللَّحْمِ وَاللَّبَنِ، فَانْظُرُوا إِذَا رَجَعْتُمْ مِنِّي فَانْظُرُوا مَا كَانَ عِنْدَنَا فَأَبْلِغُوهُ عُمَرَ، قَالَ: وَمَا كَانَ عِنْدَهُ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، مَا كَانَ إِلَّا خَادِمٌ وَلَقْحَةٌ وَمِحْلَبٌ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عُمَرُ يُحْمَلُ إِلَيْهِ قَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ، لَقَدْ أَتْعَبَ مَنْ بَعْدَهُ[2].
وقد أدَّى سيِّدُنا عمرُ رضي الله عنه عملَه كخليفةٍ للمسلمين بنفسِ الفهمِ والشعورِ؛ فلم يتَّخِذْ له كرسيًّا لِلعرش قطّ، بل جلسَ في المسجد، وأدار شؤونَ الأمّة منه، ولم يتعذّر بمقولةِ “التكبّر على المتكبّر صدقة” من أجل أن يحيا حياةً فارهةً تموج بالأبهة والخيلاء، بالعكس من ذلك لقد استطاع -مع تواضعه- أن يُخضِعَ له دول العالم آنذاك، ولـمّا ذهبَ لاستلام مفاتيحِ المسجدِ الأقصى خرجَ حكّامُ القدس وقتها لِلقائِهِ رضي الله عنه وقد ارتدوا الملابس المزخرفة المزركشةَ، بينما كان هو متواضعًا لأقصى درجة كما تبين من ملابسه المرقعة وتعاقبه على الدابة مع خادمه، ولقد اشتهَرَ أنّه لما لقيَهُ أُمراءُ الأجنادِ قَبْلَ أن يَصِلَ إلى بيتِ المقدسِ قالوا: يا أمير المؤمنين إنك تقدم على أناس، وأنت على هذه الحالة قميصٌ مرقّعٌ، وعلى بعيرٍ مرحّلٍ!! هذا برذونٌ تركبه، -والبرذون ما بين الفرس والبغل، وله تبخترٌ في المشيِ- وهذا قميصٌ جديد تلبسُه، فلما جيءَ بالقميص وكان من الكتّان قال: ردّوا عليَّ قميصي واغسلوه، فغسلوا القميص المرقَّع، وجيءَ به ولَبِسَهُ، فلما قدَّموا إليه البرذون رفضَه وأمَرَ بردِّ بعيرهِ، وكان رحاله من الليف، فدخل إلى بيت المقدس والدورُ لخادِمِه في الركوب، فكان يقودُ البعيرَ وخادمه راكبٌ، فلما قدمَ على دهاقِنَتِهم، وقساوِسَتِهِم وأهلِ دينِهِم الذين عرفوا نعتَهُ عندهم قالوا: هذا الوصف الذي نجده عندنا في كتبنا، وسلموا إليه مفاتيح بيت المقدس[3]، وكما يتَّضِحُ تمامًا من هذه الحادثة فإنَّ التواضع والتفاني هو السبيل إلى إرغام متكبِّري العصر أيضًا، فمثل هذا الحال والتصرُّفِ يسحقُ أمامَهُ كلَّ أنواع الكِبْرِ والخيلاءِ ويدفنُها في أسفل سافلين. أجل، لقد كان هذا هو أسلوب سيدنا عمر رضي الله عنه وديدَنُه طيلةَ حياتِهِ، فلم يُفَكِّرْ في أيِّ وقتٍ قطُّ أن يورِّثَ أبناءه ولا أحفاده شيئًا، بل تركهم أمانة لفهم الصحابة الكرام ورعايتهم، وعلى هذه الحال انتقل إلى أفق روحه.
وقد كان سيدنا عثمان رضي الله عنه تاجرًا يُعَدُّ من أغنى أغنياءِ مكة والمدينة ، غير أنه وعلى حدِّ قولِ الأستاذِ بديعِ الزمانِ “ترك الدنيا قلبًا لا كَسْبًا”[4]، حيث إنّه لما دَعَت الحاجةُ إلى تجهيزِ جيشِ العُسْرَةِ الذي سيتحرّكُ إلى “تبوك” تبرّع رضي الله عنه بثلاثمائة بعيرٍ بأحلاسها وأقتابها دون أدنى تبرُّمٍ أو ضيقٍ أو ندمٍ على ما فعل، تبرع بذلك لا لشيء سوى رضا الله سبحانه وتعالى[5]، ولو أنَّ مفخرةَ الإنسانيّة صلى الله عليه وسلم قال له: أَنفِقْ كلّ مالك؛ لَمَا تَردد أبدًا ولأنفقه عن بكرةِ أبيهِ في سبيل الله على الفور.
وكانت حياة سيدنا علي رضي الله عنه تسير على نفس المنوال أيضًا، فكان حاكمًا لرقعة جغرافية ربما كانت مساحتها تفوق مساحة تركيا اليوم بعشرين ضعفًا، وبالرغم من أن حدود الدولة التي كانت تحت حكمه شهدت بعض المنازعات السياسية إلا أنها كانت شاسعة واسعة مترامية الأطراف لدرجةٍ تستطيع معها أن تستوعبَ أعظم إمبراطوريّتين قبلَ الإسلام؛ فارس والروم، ومع ذلك كان يلبسُ ثيابَ الشِّتاءِ في فصلِ الصيف وثياب الصيفِ في فصلِ الشتاء، فعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، قَالَ: كَانَ أَبُو لَيْلَى يَسْمُرُ مَعَ عَلِيٍّ، فَكَانَ يَلْبَسُ ثِيَابَ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ، وَثِيَابَ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ[6].
هذا هو الإسلام الحقيقي، فأين نحن منه؟
واليوم لا بد من سؤال من يقضون حيواتهم بالسياحة والتنقُّلِ من المصايف إلى المشاتي ويتشدَّقون قائلين: “نحن أيضًا نسير على نهج هؤلاء الصحابة الكرام”، ومن يفكّرون كيف سيكون مستقبل أولادهم وأحفادهم وينشغلون بذلك، ومن يتصرّفون وفقَ المثل الكاذب القائل “إنَّ مال الدولة بحرٌ من لا يشرب منه فهو أحمق”؛ لا بدَّ من سُؤالهم: “من هو قدوتكم، من هو مثلكم الأعلى؟” ألا يلزمهم كمؤمنين أن يستحيوا من الله تعالى ويبتعدوا تمامًا عن مثل هذه الأفكار التي لا تجول إلا بعقول أمثال قارون ورمسيس وآموفيس؟ إنني أسأل الله العظيم أن يوفق من نذروا أنفسهم للخدمة الإيمانية المثالية السامية إلى الحفاظ على مشاعر الحياء والخجل هذه؛ فلا يميلوا إلى الدنيا، وألَّا يُطاحَ بهم، وألَّا تذهب ريحهم، وأرجو من الله لهم أن يصبروا ويحتسبوا قائلين: “إننا نعضُّ على ديننا بالنواجذِ، ونصبرُ، وحسبنا ألا ينقصَ من أَجْرِنا في الآخرة شيء”، وعليهم أن يرضوا بالابتلاءِ والظلْمِ متمثِّلين قولَ “ضياء باشا” رحمه الله:
الجاهل يعيش في ترفٍ ونزهةٍ ورخاءٍ
والعارف يسبح في دوّامة المحن والبلاء
ولكن حَذَارِ أن يغبطوا الآخرين على حياتهم الفارهة المطنطنة، ويجدر بهم، بل وينبغي لهم أن يعتبروا الأشياء الدنيوية قذارات علقت بأطراف أقدامهم، وعليهم أن يسيروا بحماسة إلى الدار الآخرة، فإذا ما سُئِلُوا وهم يتقدَّمون إلى الحضرةِ الإلهيّة: “ماذا تركتم في الدنيا؟” أجابوا: “لا نتذكَّرُ شيئًا”، لأن الاستغناءَ والتفانيَ والتواضعَ هو أساسُ عملِنا، وتصرف رجال الغاية المثالية -الذين نذروا أنفسهم لإعادة تشيِيدِ صَرحِ الأخلاقِ المتهدِّمِ- تصرفًا خلاف ذلك سيؤدّي إلى خسارتهم اعتبارهم ومكانتهم لدى الحقِّ تعالى، كما أنه سَيُزَعْزِعُ مشاعرَ وثقةَ الناسِ بهم، وإن من ضلّوا عن الحقِّ إلى الباطلِ، وعن الطريقِ المستقيمِ إلى الطريقِ المعوجِّ، وما أكثر أمثلتهم في التاريخ! ليتدحرجون ويفنَون كقارون -حفظنا الله-، حتى وإن أظهروا أنفسَهم بمظْهَرِ سيدنا هارون عليه السلام.
أجل، ينبغي لأرباب التضحية والتفاني ألّا يتخلّوا عن مبدئهم هذا حتى ولو تمَّ إغراؤهم بأعلى الرتبِ وأرفع النياشين، ولو كانت الرتبة من قبيلِ فاتح إسطنبول مثلًا، أو فيينا بل فاتح روما، ولا بد أن نُغادِرَ الدنيا كما جئناها صفرًا لا نملِكُ من حطامِها شيئًا، وكما رأينا في الأمثلةِ المذكورةِ أعلاه -ولْيرَ هذه الأمثلة ويعتبر بها من يراها، وليغضّ الطرفَ عنها من يغضه؛ فمن رأى وعرفَ وغرفَ وقدَّرَ فإنّ ذلك سيكون شفيعًا له في الآخرة، وأما من استخفَّ ولم يُقدِّر ولم يهتمّ فإنّ المطارقَ ستنهالُ على رأسِهِ يوم الحساب.
“إنهم لا يخافون لومة لائم!”
سقطت الوردة بين الأشواك فدمى قلب العندليب
ونظرَ إلى الشوكة تارةً وإلى الوردة تارة وبكى العندليب (نائلي قديم)
إن الأمر كما قيل في البيت أعلاه؛ فكثيرةٌ هي الورودُ التي سقطت بين الأشواك، وكثيرةٌ هي البلابل التي أنَّت وبكت حزنًا عليها، واليوم أيضًا حان لِأبطال الغاية المثالية الأنينُ والبكاء؛ فما أكثر الافتراءات المزعومة والانتقادات والاستهزاءات والسخريات والمؤامرات والحيل ضدهم… عليهم في مواجهة كل هذه الابتلاءات أن يتحركوا وهم يتمثلون موقفًا وقورًا ثابتًا وفقَ المنطق الذي عبَّرَ عنه الشاعر التركي “نفعي” قائلًا:
ما تنعّمنا بالدنيا وما ابتغينا شيئًا من أهلها
وما لجأنا إلا إلى الحضرة الإلهيّة
وما أعذب قول الشاعر الحكيم “سعدي” حينما قال:
إن أصاب حجرُ المقلاعِ -خطأً- سلطانيّةً ذهبيّةً
فلا ترتفعُ قيمةُ الحجر، ولا تنقص قيمة السلطانيّة
وعليه فليرموكم بالأحجار كما شاؤوا، ما دمتم كأسًا ذهبيًّا؛ فَبِإذن الله تعالى وعنايته لن يستطيع أحدٌ أن ينالَ منكم ولا أن يؤذيَكم.
ولا سيما أن الله تعالى قال في القرآن الكريم ﴿وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ﴾ (سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 54/5)؛ فأرشدنا إلى التصرُّف والسلوك الذي يجب اتباعه في مثل هذه الحالات، هذا من جانب، ومن جانب آخر فإنه ينبغي اعتبارُ كلِّ ما يقعُ للإنسان من حوادثَ تتخطَّى الأسبابَ الظاهريّة امتحانًا وابتلاءً يؤدّي إلى التقرُّب من الحبيب صلى الله عليه وسلم، ولا سيّما أن بطلَ هذا الأفق مهمومُ هذا العصرِ الأستاذُ النُّورسي قال: “وليكن كلُّ ما قاسَيتُهُ في غضونِ ثمانٍ وعشرين سنة من الأذى والمصائب حلالًا زلالًا، أما الذين ظلموني وجرجروني من مدينة إلى أخرى، والذين أرادوا أن يَصِمُوني بمختلف التُّهَمِ والإهانات، وأفردوا لي أماكن في الزنزانات فقد غفرتُ لهم ذلك وتنازلْتُ عن حقوقي تجاههم“[7]، وعلى من يُدركون أنهم سالكو نفس الطريق أن يقولوا مثلما قال الشاعر الحروفي نسيمي:
أنا عاشقٌ لك ملوَّعٌ أيها الحبيب المحبوب
حتى وإن شققتَ قلبي بالخنجر فلن أتزحزحَ عن حبّك أو أؤوب
ولو وضع النجَّارُ منشارَه على رأسي مهدِّدًا
بل وإن شقّوني نصفين كزكريا مجدّدًا
وإن أحرقوا جسمي وذرُّوا رمادي
يا إلهي يا ستّارُ لن أتنازلَ عنك يا مرادي
وعليهم أن يُكثِّفُوا كل همَّتهم ويُسَخِّروها في عملِ ما يجب عمله دون أن يُلقُوا بالًا إلى الكلمات المبذولةِ، أو أن يشغلوا أذهانهم بها، وعليهم كذلك أن يسيروا ثابتين مرفوعي الرأس في السبيلِ الحقِّ الذي يعرفونه.
ولا يساورنَّكم شكٌّ في أن القلوب التي نذرت نفسها لخدمة الإيمان سوف تواصِلُ خدماتها في ظلِّ عناية الله ورعايتِهِ، ولن يُوقِفَ أو يُعَرقِلَ مسيرتها أحدٌ على الإطلاقِ طالما أنها استمرَّت في عملها وسيرها وقد أسلمت أمرها لله ودستورها في عملها:
لنرَ المولى ماذا سيُقدِّر
ما يُقَدِّرُه هو الأجملُ
[1] صحيح البخاري، الجهاد، 89، سنن الترمذي، البيوع، 7، سنن ابن ماجه، الرهون، 1.
[2] ابن سعد: الطبقات الكبرى، 3/ 173.
[3] ذكره عطية سالم في شرح بلوغ المرام، 86/3.
[4] سعيد النورسي: المثنوي النوري، الحبة، 231.
[5] سنن الترمذي، مناقب عثمان، 2؛ الطبراني: المعجم الكبير، 625/5.
[6] سنن ابن ماجه، المقدمة، 15؛ مسند الإمام أحمد 168/2.
[7] سعيد النورسي: لاحقة أميرداغ 2، ص 337-338.