عدد المشاهدات:
يَستعمل اللهُ تعالى أحيانًا بعضَ الناس في أعمال ومناصب متنوعة، ثم إذا بهم يحسبون أنفسهم أفضل وأعلى من غيرهم، فما الأمور اللازمة في موقف كهذا؟
على من خلقه الله من ماء مهين أن يجيش قلبه بمشاعر الشكر والمنّة والتواضع والمحو والفناء عندما تهطل عليه نعمُ الله تعالى غَدَقًا، وعليه أن يرى نفسه أدنى من الآخرين أيًّا كانت مكانته، وأن يقولَ كما قال "إمام ألوار":
كلُّ عبدٍ هو قَمْحٌ وَحَسَن وَوَحْدِي أَنَا التِّبْنُ وَوَحْدِيَ الْقَبِيحُ
وإن شئتم فأطلقوا على هذه الرؤية تواضعًا أو محوًا أو نكرانًا للذات، فالحقيقة أن الوجود كفسيلةٍ تتمدد وتنمو في ثنايا هذه الرؤية. كان من الممكن أن يسقط نَيزَكٌ
ما أجمل قول الشاعر:
والبذرُ في التُرْب إنْ لم يُدفن أنَّى يكونُ لفيض ربِّك مَظهر
والمرء إن كان لربِّك مُخْبِت فبرحمة الرحمن فضلًا قد سَم
أي إن البذرة إن لم تُدفن في التراب، وتستسلم للعفن والفناء فلن تُنبِت السنابل؛ فهي لن تُنبِت إلا إن انسحقت تحت التراب، فصارت ترابًا وفنيت عن ذاتها.
أجل، لا بدّ أن تفنى البذرة لتنبعث من العدم وتصبح خلقًا جديدًا؛ وهكذا فليعدَّ كلُّ امرئ نفسه أيًّا كان موقعه في الحياة الاجتماعية؛ ومَن لم يفكّر إلا في هذا السبيل فلن يخسر بمشيئة الله حتى في أشدّ الابتلاءات؛ لأنه وطَّنَ نفسه على هضم النفس، لا يطرب بالانتصارات ولا يستسلم للتضييق والهجوم والإهانات؛ نعم، إنّ مَن يرى نفسه كالبذرة تحت التراب لا يأبه بمن يسير فوقه، لكن من يرى لنفسه منزلة بأي وجهٍ قد يضيق ذرعًا حتى من أجل أتفه الأمور، ويستوحي أمورًا يقرؤها في نظرات الناس وإيحاءاتهم وتجهُّم وجوههم بل في ابتساماتهم أيضًا، ويعدّها استخفافًا به وتفريطًا في تقديره تقديرًا يليق به.
أجل، إنَّ مَن يضع نفسَه في منزلةٍ ما، إن لم يَلْق من الآخرين ما يتوقعه من المعاملة فقد يستنبط تأويلات سلبية من أي شيء، أمَّا مَن تحصن بحصن المحو وتخلَّق بالتواضع ووضَع نفسَه تحت الأقدام فلن يؤذيه ما يوجَّه إليه من إهانات وتضييق وضغط؛ فهو لا يضيق ذرعًا بذلك بل إنه ليرى نفسه من أهل هذه السلبيّات، ويستغل هذا الموقف لمحاسبة جديدة لنفسه، فمثلًا لو سقطت جوزة على رأسه لقال: "كان من الممكن أن يسقط نَيزَكٌ بسبب وضعي الحالي"، ويؤمن بأنّ وراء كل حادثة كثيرًا من الحِكَم والمصالح؛ لأن الله تعالى له في كل شأن حكمةٌ، ولا يفعل شيئًا عبثًا.
هذا وقد أصبح للتواضع والمحو والحياء أهميةٌ عظمى في الدعوة إلى الله خاصة في هذا العصر الذي طغت فيه الأنانية.
تأملوا الوردة تجدوها تَنبت في التراب، ولا تنبت في الزمرّد أو المرجان أو الياقوت أو الذهب أو الفضة، رغم القيمة الثمينة لهذه الجواهر التي تُخلق بمشيئة الله في باطن الأرض وقاع البحار، بل إن ورد الورود صلوات ربي وسلامه عليه قد نبت في التراب؛ أجل، إن أمه الطاهرة وأباه وأجداده أيضًا من تراب، فلنكن كالتراب إذا ما شئنا أن نكون منبتًا للورد.
التخلص من الأنانية
إنّ اتباع نهج السنة المطهّرة في علاقتنا بالناس له بالغ الأهمية لئلّا نرى أنفسنا متميزين عن غيرنا، ولتغدو خصلة المحو والتواضع والشعور بها خصلة رئيسة في طبيعتنا الإنسانية؛ فمثلًا يقول مفخرة الإنسانية محمد صلى الله عليه وسلم: «أَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِمًا» (وفي رواية: «مُؤْمِنًا»)[1].
إذًا مَن رقّت مشاعره واتّسع فكره ووجدانه حتى أحبّ للآخرين ما يحبّ لنفسه فإنه مسلم ومؤمن حقًّا؛ ونقيضه لو أن إنسانًا لم يحبّ لغيره ما أحبّه لنفسه، ويريد لغيره ما لا يريده لنفسه فقد خرج عن البيئة الوقائية للإيمان الحقيقي، ومشى على أرضٍ زَلجة قد ينزلق عنها ويتدحرج في أي آن.
هذا وعلينا في الوقت نفسه أن نحمل أفعال الآخرين بل وحتى تصرفاتهم التي لا نستسيغها على محمل حسن، ونقولَ في أنفسنا: "لعل ثمة مصلحة لا أعرفها بنى عليها هذا الإنسان تصرفه، ولعل لديه فكرة انطلق منها ولم أستطع أن أدركها، ورُبَّ حكمة دعته للقيام بهذا التصرف الذي لا يروق لي"؛ أي علينا أن نُحسن الظن بتصرفات الناس ما استطعنا، تلك التصرفات التي تبدو خاطئة في الظاهر، إلا أنّها تحتمل تأويلًا معقولًا، وقابلة للتفسير والتأويل؛ وهذه النظرة تجنِّبنا سوء الظن بالناس وتحملنا على حسن الظن بهم؛ هذا فضلًا عن أنها تحفظنا من أن تتحكم أنانيتنا في كلّ شيء.
عندما يغدو التواضع فطرة
لن تغدوَ هذه الخصال أمورًا فطرية إلا إذا أدركنا أنّا بحاجة إلى إعادة تأهيل حسّاسة، فلنلجأ أولًا إلى اسم الله "الرب" لنقضي حياتنا في كنفه ورعايته، وليكن لدينا عزم وإقدام على أن نصبح ممّن يشملهم سبحانه وتعالى بتربيته ورعايته، بل علينا أن نحاسب أنفسنا كل يوم عدة مرات لنرى أين نحن من مبادئ الدين.
وهذه المسألة تقتضي المداومة والثبات، يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ تَعَالَى أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ»[2].
ومعلوم أنّ تتابع قطرات الماء يؤثر حتى في الصخر ويثقبه؛ أجل، ليست قوة الماء هي التي تؤثر في الصخر بل ديمومة القطرات، فالمواظبة على إعادة التأهيل والتربية وحضور مجالس ذكر الله سبحانه وتعالى من أهم ما ينبغي أن نراعيه في هذه المسألة.
ومن قبلُ كانت التكايا والمدارس تشمل كلّ الحياة، فقامتا بهذه المهمة معًا في تساند وتعاضد في فترة ما، وكان روّادهما الذين أسلموا أنفسهم إليهما يبلغون مستوى الإنسانية الحقّة بالمجاهدة وتربية النفس وتطوير قابلياتهم العقلية والقلبية والروحية.
أجل، إن هذه الأماكن المباركة كانت تهدي روادها إلى سبل السير في آفاق القلب والروح والسرّ، بله فتح العقول لتعلّم المسائل العلمية؛ نعم، لو دُرسَت هذه المسائل في دائرة العقل فحسب لقبعت في قوالب ضيقة من مفاهيم العقليين والمعتزلة، وقد يتعذر القول بأن من ساروا اليوم على هذا الخط -رغم سعة الإمكانيات- قد جرّوا أي نفع للناس، أما من يناجون قلوبَ الناس حقًّا فأولئك هم الذين يواصلون معراجهم في أفق القلب والروح.
على من خلقه الله من ماء مهين أن يجيش قلبه بمشاعر الشكر والمنّة والتواضع والمحو والفناء عندما تهطل عليه نعمُ الله تعالى غَدَقًا، وعليه أن يرى نفسه أدنى من الآخرين أيًّا كانت مكانته، وأن يقولَ كما قال "إمام ألوار":
كلُّ عبدٍ هو قَمْحٌ وَحَسَن وَوَحْدِي أَنَا التِّبْنُ وَوَحْدِيَ الْقَبِيحُ
وإن شئتم فأطلقوا على هذه الرؤية تواضعًا أو محوًا أو نكرانًا للذات، فالحقيقة أن الوجود كفسيلةٍ تتمدد وتنمو في ثنايا هذه الرؤية. كان من الممكن أن يسقط نَيزَكٌ
ما أجمل قول الشاعر:
والبذرُ في التُرْب إنْ لم يُدفن أنَّى يكونُ لفيض ربِّك مَظهر
والمرء إن كان لربِّك مُخْبِت فبرحمة الرحمن فضلًا قد سَم
أي إن البذرة إن لم تُدفن في التراب، وتستسلم للعفن والفناء فلن تُنبِت السنابل؛ فهي لن تُنبِت إلا إن انسحقت تحت التراب، فصارت ترابًا وفنيت عن ذاتها.
أجل، لا بدّ أن تفنى البذرة لتنبعث من العدم وتصبح خلقًا جديدًا؛ وهكذا فليعدَّ كلُّ امرئ نفسه أيًّا كان موقعه في الحياة الاجتماعية؛ ومَن لم يفكّر إلا في هذا السبيل فلن يخسر بمشيئة الله حتى في أشدّ الابتلاءات؛ لأنه وطَّنَ نفسه على هضم النفس، لا يطرب بالانتصارات ولا يستسلم للتضييق والهجوم والإهانات؛ نعم، إنّ مَن يرى نفسه كالبذرة تحت التراب لا يأبه بمن يسير فوقه، لكن من يرى لنفسه منزلة بأي وجهٍ قد يضيق ذرعًا حتى من أجل أتفه الأمور، ويستوحي أمورًا يقرؤها في نظرات الناس وإيحاءاتهم وتجهُّم وجوههم بل في ابتساماتهم أيضًا، ويعدّها استخفافًا به وتفريطًا في تقديره تقديرًا يليق به.
أجل، إنَّ مَن يضع نفسَه في منزلةٍ ما، إن لم يَلْق من الآخرين ما يتوقعه من المعاملة فقد يستنبط تأويلات سلبية من أي شيء، أمَّا مَن تحصن بحصن المحو وتخلَّق بالتواضع ووضَع نفسَه تحت الأقدام فلن يؤذيه ما يوجَّه إليه من إهانات وتضييق وضغط؛ فهو لا يضيق ذرعًا بذلك بل إنه ليرى نفسه من أهل هذه السلبيّات، ويستغل هذا الموقف لمحاسبة جديدة لنفسه، فمثلًا لو سقطت جوزة على رأسه لقال: "كان من الممكن أن يسقط نَيزَكٌ بسبب وضعي الحالي"، ويؤمن بأنّ وراء كل حادثة كثيرًا من الحِكَم والمصالح؛ لأن الله تعالى له في كل شأن حكمةٌ، ولا يفعل شيئًا عبثًا.
هذا وقد أصبح للتواضع والمحو والحياء أهميةٌ عظمى في الدعوة إلى الله خاصة في هذا العصر الذي طغت فيه الأنانية.
تأملوا الوردة تجدوها تَنبت في التراب، ولا تنبت في الزمرّد أو المرجان أو الياقوت أو الذهب أو الفضة، رغم القيمة الثمينة لهذه الجواهر التي تُخلق بمشيئة الله في باطن الأرض وقاع البحار، بل إن ورد الورود صلوات ربي وسلامه عليه قد نبت في التراب؛ أجل، إن أمه الطاهرة وأباه وأجداده أيضًا من تراب، فلنكن كالتراب إذا ما شئنا أن نكون منبتًا للورد.
التخلص من الأنانية
إنّ اتباع نهج السنة المطهّرة في علاقتنا بالناس له بالغ الأهمية لئلّا نرى أنفسنا متميزين عن غيرنا، ولتغدو خصلة المحو والتواضع والشعور بها خصلة رئيسة في طبيعتنا الإنسانية؛ فمثلًا يقول مفخرة الإنسانية محمد صلى الله عليه وسلم: «أَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِمًا» (وفي رواية: «مُؤْمِنًا»)[1].
إذًا مَن رقّت مشاعره واتّسع فكره ووجدانه حتى أحبّ للآخرين ما يحبّ لنفسه فإنه مسلم ومؤمن حقًّا؛ ونقيضه لو أن إنسانًا لم يحبّ لغيره ما أحبّه لنفسه، ويريد لغيره ما لا يريده لنفسه فقد خرج عن البيئة الوقائية للإيمان الحقيقي، ومشى على أرضٍ زَلجة قد ينزلق عنها ويتدحرج في أي آن.
هذا وعلينا في الوقت نفسه أن نحمل أفعال الآخرين بل وحتى تصرفاتهم التي لا نستسيغها على محمل حسن، ونقولَ في أنفسنا: "لعل ثمة مصلحة لا أعرفها بنى عليها هذا الإنسان تصرفه، ولعل لديه فكرة انطلق منها ولم أستطع أن أدركها، ورُبَّ حكمة دعته للقيام بهذا التصرف الذي لا يروق لي"؛ أي علينا أن نُحسن الظن بتصرفات الناس ما استطعنا، تلك التصرفات التي تبدو خاطئة في الظاهر، إلا أنّها تحتمل تأويلًا معقولًا، وقابلة للتفسير والتأويل؛ وهذه النظرة تجنِّبنا سوء الظن بالناس وتحملنا على حسن الظن بهم؛ هذا فضلًا عن أنها تحفظنا من أن تتحكم أنانيتنا في كلّ شيء.
عندما يغدو التواضع فطرة
لن تغدوَ هذه الخصال أمورًا فطرية إلا إذا أدركنا أنّا بحاجة إلى إعادة تأهيل حسّاسة، فلنلجأ أولًا إلى اسم الله "الرب" لنقضي حياتنا في كنفه ورعايته، وليكن لدينا عزم وإقدام على أن نصبح ممّن يشملهم سبحانه وتعالى بتربيته ورعايته، بل علينا أن نحاسب أنفسنا كل يوم عدة مرات لنرى أين نحن من مبادئ الدين.
وهذه المسألة تقتضي المداومة والثبات، يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ تَعَالَى أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ»[2].
ومعلوم أنّ تتابع قطرات الماء يؤثر حتى في الصخر ويثقبه؛ أجل، ليست قوة الماء هي التي تؤثر في الصخر بل ديمومة القطرات، فالمواظبة على إعادة التأهيل والتربية وحضور مجالس ذكر الله سبحانه وتعالى من أهم ما ينبغي أن نراعيه في هذه المسألة.
ومن قبلُ كانت التكايا والمدارس تشمل كلّ الحياة، فقامتا بهذه المهمة معًا في تساند وتعاضد في فترة ما، وكان روّادهما الذين أسلموا أنفسهم إليهما يبلغون مستوى الإنسانية الحقّة بالمجاهدة وتربية النفس وتطوير قابلياتهم العقلية والقلبية والروحية.
أجل، إن هذه الأماكن المباركة كانت تهدي روادها إلى سبل السير في آفاق القلب والروح والسرّ، بله فتح العقول لتعلّم المسائل العلمية؛ نعم، لو دُرسَت هذه المسائل في دائرة العقل فحسب لقبعت في قوالب ضيقة من مفاهيم العقليين والمعتزلة، وقد يتعذر القول بأن من ساروا اليوم على هذا الخط -رغم سعة الإمكانيات- قد جرّوا أي نفع للناس، أما من يناجون قلوبَ الناس حقًّا فأولئك هم الذين يواصلون معراجهم في أفق القلب والروح.