آخر الأخبار
موضوعات

الأحد، 27 نوفمبر 2016

- شروط الإيمان وخصال المؤمنين 2

عدد المشاهدات:
شروط الإيمان وخصال المؤمنين
إذا علم الإنسان شرائط الإيمان وخصال المؤمنين، علم ما الإيمان ويعرف من المؤمن  بالحقيقة.

الإيمان مقول على نوعين: ظاهر وباطن.
الإيمان الظاهر: هو الإقرار باللسان بستة أشياء:
( أ ) الإقرار بأن للعالم صانعا واحدا، حيا قادرا، حكيما أحدا، صمدا عالما، مريدا    مدبرا، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، غنيا بذاته عن المكان والزمان، منزها   عن الكم والكيف والنظير والند والضد، عليا عن الإدراك إذ لا يعلم حقيقته إلا هو  وحده سبحانه، وهو الله خالق الخلق كلهم ومدبرهم لا شريك له في ذلك .
( ب ) الإقرار بأن له ملائكة صفوة الله من خلقه، أقامهم لعبادته وطاعته وجعلهم  حفظة لخلقه، ووكل كل طائفة بالقيام بشأن مما قدره ودبره وأراده من شئونه، التي  يبديها في خلقه ولا يبتديها في عالم سماواته وأرضه ) لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ((1).
( جـ ) الإقرار بأنه قد اصطفى صفوة من بني آدم، وهم رسله وأمناؤه الذين يبلغون الناس كلامه سبحانه المنزل عليهم، ويدعونهم إلى توحيده سبحانه والعمل بما أمر.
( ء ) الإقرار بأن هذه الأشياء التي جاءت بها الأنبياء عليهم السلام من الوصايا والأنباء   باللغات المختلفة، منزلة معانيها من الله سبحانه وتعالى وحيا أوحى الله به إليهم بطرق  الوحي المعلومة شرعا وثبتت عقلا.
( هـ ) الإقرار بأن القيامة لا محالة كائنة وهي النشأة الآخرة، وأن الخلق كلهم يبعثون    ويحشرون ويحاسبون ويثابون بما عملوا من خير ومعروف، ويجازون بما عملوا من شر        ومنكر، أو يغفر الله وهو الغفور الرحيم، وذلك قول الله تعالى: ) آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا  أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ((2). وقال: ) وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ((3).
( و ) ويكمل الإيمان الظاهر بأن يقر المؤمن بأن سيدنا ومولانا محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل  وخيرهم، وأن كتابه مهيمن على جميع الكتب، وأن الدلائل والبراهين التي أقامها الله    تعالى في القرآن تكفي لمن سلم قلبه من العناد وطهرت نفسه من الخبث، أن يتحقق أنه  رسول الله، وأن القرآن كلام الله، وأن من لم يؤمن به صلى الله عليه وسلم كافر، وأن القضاء والقدر  خيره وشره من الله تقديرا وإرادة وإيجادا، وأن التكلم فيه بدون علم وتسليم ربما أدى  إلى سلب الإيمان، ولا يكمل الإيمان الظاهر إلا بالعمل على قدر الاستطاعة بما أمر الله  به، والنهي مطلقا عما نهى الله عنه إلا لضرورة شرعية.
ومجموع هذا هو الإيمان الظاهر الذي دعت الأنبياء عليهم السلام الأمم المنكرة لهذه  الأشياء إلى الإقرار بها، وهو يؤخذ تلقينا كما يتلقن الصغار من الكبار والجهال من العلماء.

الإيمان الباطن:
عقد القلب على اليقين الحق بما أقر به لسانه فهذه هو حقيقة الإيمان، بحيث يكون
عقد القلب كعقد قلب من شهد بعيني رأسه عقدا لا يعتريه شك ولا ريب.

المؤمن ظاهرا:
هو المقر بهذه الأشياء بلسانه، المتميز من اليهود ومن النصارى والصابئين والمجوس   والذين أشركوا، وبهذا الإقرار يجري عليه أحكام المسلمين من الصلاة والزكاة والحج     والصوم وما شاكلها من مفروضات شريعة الإسلام وسنة المؤمنين.

المؤمن ظاهرا وباطنا:
أما الذين مدحهم الله في كتبه ووعدهم الجنة، فهم الذين يتيقنون بضمائر قلوبهم  حقائق هذه الأشياء المقر بها، وأما الطريق إليه سبحانه فهو بالتفكر والاعتبار والقيام    بشرائطها وواجب حقها كما قال الله تعالى: ) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا  مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ((1).

أكمل شرائط المؤمنين
أولا: التوكل على الله
منها التوكل على الله كما قال الله تعالى: ) وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ((2) وقال لنبيه عليه الصلاة والسلام: ) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ ((3) وأريد أن  أبين ما التوكل ومن المتوكل على الله بالحقيقة ؟؟ .
اعلم يا أخي أن التوكل هو الاعتماد على الغير عند الحاجة بأن ينوب عنك فيها، واعلم أنه إذا كان المتوكل عليه ثقة يكون قلب المتوكِّل عليه ساكنا ونفسه مطمئنة، وإذا كان غير ثقة يكون قلب المتوكل عليه غير ساكن ونفسه غير مطمئنة.
واعلم يا أخي أن الناس كلهم متوكلون ولكن أكثر توكلهم على غير الله، من ذلك توكل الصبيان على آبائهم فيما يحتاجون إليه من الطعام والشراب واللبس وغيرها من  الحاجات، فهم طول النهار مشغولون باللعب لا يفكرون في أمر المعاش ولا يهمهم طلبه  لاتكالهم على آبائهم وقلوبهم ساكنة ونفوسهم هادئة ليقينهم بآبائهم، وهكذا العبيد
مشتغلون بخدمة مواليهم لا يفكرون في طلب المعاش اتكالا على مواليهم فيما يحتاجون  إليه، وهكذا جنود السلطان وخدمه لا يفكرون في طلب المعاش اتكالا على السلطان في   أرزاقهم المفروضة لهم، فهم مشتغلون في خدمة سلطانهم.

وأما غير هؤلاء من الناس فهم طائفتان: الأغنياء والفقراء، فأما الأغنياء فاتكالهم على ذخائرهم وأموالهم وقلوبهم ساكنة ونفوسهم هادئة، ولكن الحرص والرغبة والطمع    في الزيادة تحثهم على الطلب، وهم في الطلب متوكلون على رأس أموالهم وحرفهم  وحذقهم بالبيع والشراء في طلب الربح، وأما الفقراء فهم الصناع الذين يعملون   بأبدانهم واتكالهم على صناعتهم وقوة أبدانهم، وأما الكذابون فاتكالهم على الناس في  مواساتهم من فضل ما في أيديهم.

فبهذا الاعتبار لا تجد أحدا متوكلا على الله حسن التوكل إلا الأنبياء وصالح المؤمنين، وذلك أن الأنبياء قبل أن يوحى إليهم يكونون كأحد أبناء الدنيا في طلب المعيشة، حتى  إذا جاءهم الوحي والنبوة تركوا طلب المعاش واشتغلوا بتبليغ الرسالة، ويتوكلون على الله فيما يحتاجون إليه من عرض الدنيا، ويتيقنون به عز وجل وتطمئن به نفوسهم، لأنهم  يعلمون ويتيقنون بأن مرسلهم يكفيهم ما يحتاجون إليه في طاعتهم إذا اشتغلوا في خدمته، كما أن الملوك يكفون جنودهم ما يحتاجون إليه في طاعتهم، هكذا المؤمنون المحققون الذين هم ورثة الأنبياء يقتدون بهم ويسلكون مسلكهم فيما دلهم الله عليه، قال تعالى: ) لَقَدْ  كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ((1) فالتوكل إذن أحد الخصال التي يبين بها من المؤمن حقا .
ثانياً: الإخلاص في العمل والدعاء:
من أكمل البراهين على أن المؤمن كامل الإيمان ذائق حلاوة الإخلاص في العمل  والدعاء لما أمر الله تعالى بقوله سبحانه وتعالى: ) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ((2) وقال تعالى: )  لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ ((3).

1- فالإخلاص في العمل:
هو أن لا يطلب بما يعمل جزاءاً ولا شكوراً من أحد من  خلق الله، مثل إخلاص الوالدين في تربيتهما الأولاد، فإنهما لا يطلبان جزاءاً ولا شكوراً

لأنهما قد علما بأنها واجبة في الجبلة، ومثل إخلاص العبيد الصالحين الذين يخدمون  مواليهم من غير خوف من الضرب ولا طلب للعوض، لأنهم قد علموا بأن خدمتهم هي      شيء تقتضيها الحكمة، فالعبد الذي يخدم مولاه خوفا من الضرب أو طلبا للعوض عبد   سوء، وهكذا من لا يطيع ربه إلا خوفا من النار أو رغبة في الأكل والشرب والجماع في   الجنة فهو أيضا عبد سوء، والعبد السوء لا يكون مخلصا في الدعاء ولا في العمل .

2- الإخلاص في الدعاء:
لا يكون المؤمن مخلصا في دعائه حقيقة الإخلاص ما دام    له تدبير وحول وقوة في دفع ما يدعو لكشفه، حتى يتحقق بالعجز عن دفعه بحوله وقوته وماله وأهله والناس أجمعين، مثال ذلك ما يحصل لأهل السفينة فإنهم يدعون الله تعالى   مع اعتمادهم على الربان ( رئيس النواتية ) وعلى الملاحين ( النواتية ) فإذا علاهم موج  كالظلل وجزع الربان والملاحون ودهشوا عند ذلك يخلص الكل الدعاء لله، كما قال  سبحانه وتعالى: ) دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ((1) .
وقد يحصل الإخلاص الحقيقي في الدعاء للأفراد الذين كوشفوا بحقيقة التوحيد  وتحققوا أن الضار والنافع هو الله، فإنهم لخشيتهم من الله لا يتحققون بنفع الأشياء النافعة   ولا بضرر الأشياء الضارة، فهم يدعون الله مخلصين أن يدفع عنهم الضر ويمنحهم   النفع، ولا تخلو الأحوال التي تصيب بني آدم في أبدانهم وأموالهم وأهليهم من الحكم الربانية فيفزعون إلى الله تعالى ويسألون العارف أن يدعو الله لهم ليكشف الله عنهم ما ألم   بهم، فإن دعاء العارف يتلقنه الجاهل ويهدي النفوس إلى معرفته سبحانه، فيعلمون  عند ذلك بنظرهم التجاء العقلاء في دعائهم وتضرعهم إلى الله تعالى، ليكشف عنهم           ما هم فيه، أن لهم إلها جبارا عالما قادرا يسمع دعاءهم ويعلم ما هم فيه، وهو قادر على نجاتهم، يراهم وإن كانوا لا يرونه، ولا يدرون أين هو.وعلى هذا القياس كل ما يصيب الناس من الجهد والبلاءـ فيضطرهم ذلك إلى الدعاء والتضرع إلى الله عز وجل، مثل الغلاء والوباء والآم الأطفال ومصائب الأخيار وما شاكلها من الأمور السماوية التي لا سبيل لأحد في دفعها عنهم إلا الله تعالى، فيكون ذلك دلالة لهم على الله عز وجل، وهداية إليه كما قال سبحانه: ) أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ  إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ((2).

ثالثاً: الصبر
الصبر هو الصفة التي يتجمل بها من عرف الله، ويتحلى بها من يرجو ثوابه وهي  علامة اليقين وحصن المتقين، كما قيل: ( الصبر رأس الإيمان ) وقال تعالى: ) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ ((1). وقال للمؤمنين: ) اصْبِرُوا وَصَابِرُوا ((2) الآية.
واعلم يا أخي أن الصبر هو الثبات في حال الشدائد بلا جزع لما يرجى من محمود العاقبة، والصبر مشتق من مرارة الصبر.
واعلم يا أخي أن الناس أكثرهم يصبرون في الشدائد ولا يكون صبرهم بالله ولا  لله، لأنهم يجزعون ويضطربون ويشكون ويظنون بالله ظن السوء كما قال الله تعالى في قصة المنافقين: ) وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا ((3) وذلك أن منهم من ظن أن  تلك الشدائد التي أصابتهم جور منه إذ قضاها عليهم، ومن ظن أنه ليس من قضائه  وحكمه، ومنهم من ظن ليس يعلم ما هم عليه من الجهد والبلوى، ومنهم من يعلم  أنه يعلمه ولكنه يظن أنه لا يفكر فيهم ولا يهمه أمرهم، ومنهم من يظن أنه قاسي القلب قليل الرحمة وما شاكلها من ظنون السوء.

فأما الأنبياء والمؤمنون فإنهم يصبرون في الشدائد والبلوى ويكون صبرهم بالله ولله،  وذلك لأنهم يرون ويعتقدون أن الشدائد التي تصيب الخلق فيها ضروب من المصلحة لهم  وإن كان يخفى على كثير من العقلاء ما تلك المصلحة والحكمة، كما بينا في باب الدعاء  والإخلاص عند الشدائد، ومن حكمه في آلام النفوس الحيوانية دون غيرها من نفوس        النباتات والجمادات، حكمة ذلك أن آلام نفوس الحيوانات رحمة من الله تعالى بها  لتسارع إلى دفع الأمراض المسببة للألم لتحافظ على سلامة أجسادها من التلف والفساد.
رابعاً: الرضا بالقضاء والقدر
هو طيب النفس بما يجرى على الإنسان من المقادير, وجريان المقادير بالقضاء هو علم الله السابق بما رتبته القدرة وخصصته الإرادة فيما كان وما يكون، وإبراز ذلك في  زمانه ومكانه، والرضا بالقضاء والقدر صفة الرسل عليهم الصلاة والسلام وورثتهم من  الصديقين والشهداء وقليل ما هم، لأنه عن التحقق بحقيقة التوحيد ومكاشفة حق

اليقين، قال الله تعالى: ) لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ ((1) وقال تعالى: ) رَضِيَ   اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ((2) والحقيقة أنه لا يرضى بمرارة ما يجري به القضاء بطيب نفس إلا العارفون بالله تعالى، وفي رضاء هابيل بالقضاء حتى قتل ولم يمد يده، ورضاء  السحرة بالقضاء حتى صلبهم فرعون، ورضاء سيدنا الخليل بإلقائه في النار وقتل ولده طيبة بذلك نفسه، ورضاء سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بكسر رباعيته وبالأذيات،   كل ذلك هو الرضاء حقيقة عن حق اليقين، ورضاء الصحابة رضوان الله عليهم طيبة   نفوسهم بالقتل في حب الله تعالى وحب رسوله صلى الله عليه وسلم .

علامة المؤمنين المتحققين:
أن لا يخافوا ولا يرجوا غير الله تعالى لكمال توحيدهم وصدق يقينهم، كما أن الأولاد  لا يخافون ولا يرجون إلا الآباء والأمهات، وهكذا الصبيان لا يخافون إلا من المؤدب،  والتلامذة لا يخافون إلا من الأساتذة، وهكذا الجند لا يخافون إلا من صاحب الجيش،     والناس كلهم لا يخافون إلا من سلطانهم القادر على أنفسهم، وكما حكى عن الملائكة     فقال: ) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ((3) فالملائكة لا يخافون إلا من  ربهم وهكذا العلماء، وقال الله تعالى: )  إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ((4) الذين يشاهدونه ويرونه كما قال تعالى: ) وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ ((5) وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم   حين سأله الأعرابي ما الإحسان؟ فقال: » الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكنتراه فإنه يراك « فهذه الرؤية والمشاهدة بعين الحقيقة وهي أن لا ترى في الدارين أحداً غيره، والتباعد عما نهى .

الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة :
من أكمل شرائط الإيمان وخصال المؤمنين كما رغب الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: ) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى ((1) وقال: )بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ  خَيْرٌ وَأَبْقَى ((2) وآيات كثيرة في القرآن في التزهيد في الدنيا والترغيب في الآخرة. واعلم يا أخي أن الإنسان مطبوع على أن لا يترك النفع الحاضر والعاجل ويزهد فيه،ويطلب الغائب الآجل ويرغب فيه، إلا بعد ما يتبين له فضل الآجل على العاجل. واعلم بأن المؤمنين والحكماء والأنبياء إنما زهدوا في الدنيا وتركوا عاجل شهواتها،  ورغبوا في الآخرة وطلبوا آجل نعيمها على نعيم الدنيا، وشاهدوها بعيون قلوبهم ونور   عقولهم كما شاهد أبناء الدنيا أمورها بحواسهم.

واعلم يا أخي بأن الطريق إلى معرفة حقيقة الآخرة ومشاهدة أحوالها، بالاعتبار والتفكر في أمور الدنيا  والمقارنة بينها وبين أمور الآخرة بالعقول السليمة من الآراء  الفاسدة، والنفوس الصافية من الأخلاق الرديئة، ونتائج المقدمات الصحيحة   الضرورية، بيان ذلك أن العاقل اللبيب إذا فكر في قول الجمهور من الناس، وتسميتهم  هذه الدار التي نشأوا فيها باسم الدنيا وذمهم نعيمها، يدل على الدار الآخرة وشرفها، لأن لفظة الدنيا تدل على الآخرة، كما أن لفظة الآخرة تدل على الأولى، لأنهما من جنس   المضاف.

ومن وجه آخر إذا اعتبرت أحوال الناس في الدنيا وجدتهم كلهم طائفتين: أخياراً،  وأشراراً، فأما الأخيار فهم الذين يعملون من الأعمال مارسهم لهم من الشريعة الإلهية،  ولا يطلبون على ذلك عوضاً من جر منفعة إلى أجسادهم أو دفع مضرة عنها فعند ذلك   يقال لهم أخيار على الإطلاق وأنهم من أبناء الآخرة.

وأما الذين يطلبون العوض فيما يعملون من الخير والشر من جر المنفعة إلى أنفسهم أو دفع المضرة عنها، ولا يفكرون في المعاد ولا يرجون في الآخرة الخير، ولا يخافون  العقاب ولا يهمهم أمر النفس ولا النظر في حالها بعد الموت، فيقال عند ذلك إنهم أشرار وإنهم من أبناء الدنيا.
ووجه آخر إذا اعتبر أحوال هؤلاء الأخيار الذين تقدم ذكرهم، وأنهم قد أفنوا
أعمارهم كلها فيما وصفنا من أعمال الخير، ثم ماتوا ولم يحصل لهم عوض على ما عملوه    قبل الموت، فتعلم العقول وتقضي بالحق، لأن ذلك لا يضيع عند الله شيئاً، فيصح بهذا  الاعتبار أنه بعد الممات الذي هو مفارقة النفس الجسد حالة أخرى يجازي فيها الأخيار، وهي التي تسمى الدار الآخرة، وهكذا إذا اعتبر حال الأشرار الذين سعوا في الأرض بالفساد طول أعمارهم ثم ماتوا ولم يعاقبوا على ما فعلوا، فتعلم العقول وتقضي بأن   هؤلاء لم يفوزوا، وأن حالهم بعد الممات ليس كحال أولئك الأخيار، وذلك قوله  تعالى: ) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا  الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ((1).

هذا وإذا قد ذكرنا طرفا من خصال المؤمنين وشرائط الإيمان وخصال الكافرين وماهية الكفر، فنريد أن نذكر طرفا من علم المؤمنين الراسخين، وخصال العارفين    المستبصرين، الذين هم ورثة النبيين وأنصار المرسلين وإخوان الصديقين المتألهين    الربانيين، الذين هم في أعلى رتبة الإنسانية أعلى عليين، ونذكر أيضا طرفا من صفة  إخوان الشياطين الضالين المضلين الذين هم في أدنى رتبة الإنسانية مما يلي رتبة البهيمية أسفل السافلين، ونبين كل ذلك في مذكرة السالكين التي سنشرح فيها بمشيئة الله تعالى   الطريقة المستقيمة واصطلاحات أهلها وآدابهم وأحوالهم، وإن سبق لي أني تكلمت في    قسم علوم اليقين من كتاب: ( أصول الوصول ) على بعض علوم أهل اليقين، إلا أني سأوضح ما يتعلق بالطريق في كتاب: ( التذكرة ) بمشيئة الله تعالى وعنايته وحسن   توفيقه. والله تعالى أسأل أن يمن عليّ، وعلى جميع اخوتي المؤمنين، بمنن التوبة والإنابة   والإخلاص والصدق والمحبة والمعرفة والسعادة في الدنيا والآخرة إنه مجيب الدعاء.
استفت قلبك ولو أفتاك وأفتوك المفتون:
لا يكون الإنسان إنسانا له قلب إلا بعد معرفة نفسه مبدأ ونهاية، وبقدر ما ينكشف له   من الكمالات والفضائل التي تأهل للتجمل بها، والتكمل بمعانيها، والترقي لمراتبها،   تكون معرفته للفضائل والرذائل عن كشف وعيان، وتتفاوت مراتب المعرفة، فقد  تكون فضائل رتبة رذائل أخرى بالنسبة لمبلغ العلم بالنفس واستعدادتها، وبالنسبة  للمقادير التي اكتسبها العقل من التجارب والنظر، لأن للعقل وسائط يستمد بها الحكم
على الأشياء بيقين أو بظن وحدس تخمين تكون كالمقدمات المنتجة، وبقدر يقين تلك  المقدمات تكون النتائج، فكلما كانت المعلومات والتجريبات أكثر، كلما كان للقلب    طمأنينة بالحكم وسكون، وهذا في حيطة المعقولات.

فإذا زكت النفس واستعد الخيال للتمثيل، واجه القلب حضرة الملكوت الأعلى، بعد معرفته بكمالات الملك الأدنى، وفطرته على الأجمل من لوازمه والأكمل من  أموره، وبمواجهة القلب للملكوت الأعلى لا يحتاج إلى العقل، لأنه صار عقلا يعقل عن  الملكوت، ويمد الخيال بصور الكمالات الملكوتية، وبديع الجمالات الروحانية، فتكون  تلك الصور منطبعة في لوح الخيال أمام النفس المدركة التي قام بها الإنسان، فترى الإنسان يحاول أن يتجمل بتلك الفضائل والكمالات، ويتحلى بحلل تلك المعاني  الجميلة، وتحصل المواجهة بين الصورة الملكوتية، وبين صورته الإنسانية، فيرى نفسه  في حاجه إلى تكميله، وتتميم حقيقته بتلك الجمالات، ولذلك فإنك ترى أهل النفوس  الزكية يرون أنفسهم دائما مسيئين لمواجهتهم للملكوت، وانتزاع الخيال لتلك الصور العلية الجميلة، التي تتعشقها النفس، فتشتاق أن تتشبه بها ويكون القلب في هذا الحال  بالنسبة للأحكام الشرعية هو الحاكم حقيقة، لأن الأحكام الشرعية حدود الله، التي من    تعداها أو داناها هلك أو كاد.

فإذا اقتضى الوقت حكما من أحكام الشريعة، وعرضه على قلبه فربما لا يطمئن   القلب إليه، لأنه متحقق أنه الحد، ويجب أن يجعل له حيطة، خشية من أن يداني   الحد، فيقع بين حكم المفتي وحكم قلبه، فيكون الترجيح لحكم القلب، لأنه إنما                      يطالب بالأكمل والأجمل والأحوط، ويكون تلقيه عن القلب، لأنه تلقى عن الحق، وعمله به عمل بالحكم الشرعي لمقامه ورتبته.

وتزكية النفس هو الجهاد الأكبر، لأن الإنسان مسكين بين جاذب ودافع، إن كان   له قلب فقلبه يدفعه عن حظه وهواه العاجل إلى حظه وهواه الآجل، ونفسه الحيوانية  وأعضاؤه العاملة وما في فطرته من الاحتياج، وما جبل عليه من الأمل تجذبه إلى  ما يلائمه ويلذذه ويعظمه أمام الخلق إلى المنافسة وإلى التكاثر، وهي أمور محسوسات سريعة الإنتاج، تشغل القلب والجوارح، وكثيرا ما يكون السالك على المنهج القويم مخلصا في العزم، صادقا في القصد، مفطورا على الخير، فيناله من عمله وحاله إقبال   الناس ومواساتهم بما يلائمه وما يسد الضرورة والكماليات فتبتهج نفسه، وتأنس
جوارحه، ويطيب بما نال، فيتناسى المقصد الأول والعزم، ويغيب عن الحضور والمراقبة، ويعمل عمل المعتاد بدون استحضار، وربما – والعياذ بالله تعالى – انحط إلى   أن صار العمل لقصد هذا النوال الدنيء وبلوغ هذا المتاع القليل.

كل تلك العقبات تجعل الرجل دائم المجاهدة، كثير المفاكرة، طويل المحاسبة لنفسه،  حتى يتمكن الخيال من أن يمثل الصورة الكاملة الملكوتية مثالا لا يحجب عنها، حتى إذا  حصل السهو أو النسيان تذكرت فأبصرت تلك الصورة فحنت وجاهدت ) إِنَّ الَّذِينَ  اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ((1) وفي هذه المنزلة  يكون الإنسان فرحا بالقليل من الدنيا، مطمئنا بالله تعالى، وإذا سخر الله له الدنيا قام   بها هكذا وهكذا، رغبة فيما عند الله وخوفا من أن تلابس قلبه أو تتجمل له فيألف أو  يكاد فهو لا يسأل الناس لأنه تقي، ولا يرد لأنه موحد، وهو مع الله في حاليه إن كان لا يملك قوت يوم، أو كان يملك الأرض وما فيها، فلا العدم يشغل قلبه لثقته بوعد الرزاق الكريم، ولا ادخار الكنوز ينسيه حقيقة اضطراره  وفقره إلى الولي المختار المريد، فهو في احتياجه لقوت يوم غني بربه، وفي ادخاره للكنوز شديد في احتياجه إلى الله   تعالى، وجماله الفقر في الحالين وكماله الاضطرار في المشهدين، حتى إذا كملت تزكية    النفس قلب القلب مقلبه، والبصر مبصره من الملكوت إلى العزة فصح نزل العبودية،وكمل الخوف من مقام الربوبية ) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ((2).
الامام محمد ماضى ابو العزائم
الموقع الرسمى لفضيلة الشيخ فوزى محمد أبوزيد
التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:




شارك فى نشر الخير