عدد المشاهدات:
السائح في الأرض والسابح في السماء
اصطحب طالب علم وتلميذ من سن الطفولية, وكان الطالب اسمه متدبر, والتلميذ مفكر, فشب الطالب على التدبر في شئون الكون, وتغيراته, وما يحدث فيه من تغير الأحوال . وشب التلميذ على حب الاستطلاع على الآثار الأرضية, وعلم مراتب الجمادات, والنباتات, والحيوانات . ونما في كل واحد منهما ما هو مفطور عليه, وكان كل واحد يدعو الآخر إلى ما يحبه لنفسه, ثم حصلت المنافسة بينهما, فأدت إلى إقامة كل واحد منهما الحجة على صحة مبدئه ومقصده, وكان متدبر أقواهما حجة, ومفكر أقواهما تمسكا, فعين لهما مجلساً في نهاية كل شهر, يعرض كل واحد منهما على الآخر مباحثه ونتائج مجاهداته .
متدبر: نظر من صغره إلى نفسه فعلم بعد أن تلقى العقيدة الإسلامية, ومباديء أحاكم الشريعة أن الأحكام الشرعية لم يطالب بها هذا الجسم مجردا عن نور فيه زائد على قوي الحيوان, إذ لو كان حيوانا مجردا لما طولب بتلك الأحكام, ولا بلغ تلك المنازل العلية, منازل القرب من الله والحب في الله, والإخلاص والإحسان إلى العالم أجمع, بالرحمة والعاطفة, فنظر بشوق إلى سير هذا النور المودع في الإنسان, وجاهد نفسه حتى تخلصت من الميل إلى مقتضيات الجسم ولوازمه فزكت نفسه, وأنس بلذة في الوحدة حتى ترك طيب الأكل, ولين الثياب, وراحة النوم ، والرغبة في النساء, وسبح بفكره في تلك الآفاق متخيلاً تارة, ومتوهما أخرى .
تجرد عن كل تلك المقتضيات للفيض القدسي, فكانت تشرق عليه أنوار عرفان كالبرق الساطع, لا يلبث سطوعها إلا ريثما تحجب عنه فكان في تلك الأنفاس ينبسط وينقبض, فإذا غشته تلك الأنوار انبسط, وإن حجبت عنه انقبض, وكان قريبا منه عالم عارف بالنفوس, فتوجه إليه وعرض حاله عليه, فأمره بكثرة قراءة القرآن, ومطالعة كتب الحديث, وتراجم العلماء العاملين, وكلفه أن يحضر مجلسه في ليلتي الخميس والاثنين, فداوم على ذلك حتى حصلت له بهجة باستدامة هذا النور المشرق في أوقات صفائه, ثم تذكر صاحبه مفكر فسأل عنه, فقيل : كان غائبا له شهور وحضر أمس, فزاره مفكر .
متدبر: جلس مع مفكر فنظر إليه وقال : ما الذي أحنى ظهرك وأنهك قواك وغير معالم شبابك ؟.
متدبر : بعت رخيصا بغال, واستبدلت فانيا بباق وأقبلت بكليتي لأنال بغيتي التي يدوم بها أنسي, وتبقى بها بهجتي .
مفكر: تبسم مستهزئا ثم بكى آسفا قائلا : الإنسان بعقله, ومن فقد عقله فقد الخير كله, كم نهيتك فلم تنته, ولو استعملت ذكاءك في شيء نافع لانتفعت ونفعت, أضعت عشرين سنة من عمرك أتلفت فيها صحتك, وأفسدت قواك العقلية, ما الذي نلته ؟ وها أنا صار لي مال كثير, وعيال وخدم, وآمال وشهرة واسعة بأعمال, وأقص عليك نبذة من نتائج أبحاثي .
تعلم أني كنت أعارضك وتعارضني, ولولا عناية الله بي لاتبعتك, ولكن الحمد لله .
تعلم أن نفسي مياله إلى علم تخطيط الأرض, ومعرفة الأنواع التي عليها من النبات والحيوانات, وطبائع المجتمعات الإنسانية, والبحث عن عوائدهم وأخلاقهم من غير طمع في شيء آخر, فصرفت نفائس أوقاتي في كشف تلك الحقائق, حتى وصلت إلى قصدي, ورميت بنفسي في لجج بحر السياحة, تارة يرفعني وآونة يخفضني, متحملا تلك الآلام إلى نيل البغية, ومن جد وجد, فجبت القفار, وقطعت الفيافي, وشهدت عجائب الآثار الطبيعية والصناعية, وعاشرت أكثر المجتمعات الإنسانية, حتى علمت ما هم عليه, وبلغت مبلغاً به أتكلم مع كل مجتمع بلغته وأبين لهم ما هم في حاجة إليه لرقيهم, حتى أحبني جميع الأمم, ووثق بي كل أمير ووزير, وطولبت أن أكون رئيسا لجمهوريات فأبيت إلا أن أتمم سياحتي .
متدبر: ما الذي يقصده غير المسلمين بالمسلمين ؟
مفكر: هذا سؤال ينبغي أن يلقى عليك جوابه في خلوه, فإن ما علمته من تلك الأسرار لا يعمله أحد غيري, إلا ملك أو زير أو أمير من الأمم المناوئة للمسلمين .
متدبر: أمر بانصراف الجالسين, وأغلق باب الحجرة واخذ القلم والدواة, وطلب من مفكر أن يجيبه على سؤاله .
مفكر: تعلم أن الإنسان ميال بطبعه إلى العاجلة, وتعلم أن بشاشة دين الإسلام إذا باشرت تلك القلوب المطهرة من تلك الأطماع ملكتها, وأن حلاوة الإسلام إذا ذاقتها ألسنة العقول سارعت إليها, ما لم يحجبها طمع أو حظ وهوى, وقد ظهرت تلك البشاشة, وانتشرت تلك الحلاوة, حتى عمت مشارق الأرض ومغاربها في سنين تعد على الأصابع, فمحت في تلك المدة الوجيزة عروش الملوك وتيجانهم, وجعلت الإنسان عزيزاً لا يرى له رباً إلا الله, حتى صارت التيجان وأصحابها أحقر من الذباب مهما ارتفع, وأذل من الغبار مهما رفعته الريح, وأصبح الفقير في مزرعته يشعر بالعزة بالإسلام على الملك فوق سريره, هذا لتمسكه بقواعد الإسلام, فانزعجت قلوب أهل التيجان وحفدتهم وأعوانهم, وفكر في إطفاء هذا النور ولكن أبى الله إلا أن يتم نوره .
انتشر هذا النور في آسيا من جبال القوقاز إلى مياه الهند, وفي أفريقيا من مياه البحر الأبيض إلى رأس الصالح ( أخر أفريقيا جنوبا ), وفي أوروبا من مياه البسفور إلى بحر المنش, وعم أكثر جزر البحار شرقاً وغرباً, تغيرت بالإسلام معالم الأرض في طولها والعرض, وأشرقت أنوار العدل حتى صار كل مفكر أو باحث أو حكيم فيلسوفا يسارع إلى اعتناق الإسلام مفتخراً, وإلي العمل به شاكراً, وما نشر الإسلام في تلك الأصقاع إلا بشاشته وحلاوته, وكونه هو الدين الحق, ولم يكن سيف الإسلام إلا لدك أطوار الظلم من طغاة الملوك وظلمة الأغنياء, وسفلة المقلدين الجهلاء, الذين هم أشد من الطاعون ضرراً على بني الإنسان, وقطع عضو لحفظ الجسد أمر معقول ورحمة مشروعة . بقيت بقية من أهل الظلم عاملة سراً على إطفاء هذا النور, ولكن الله غالب على أمره, مكثوا زمنا يعملون في الخفاء, حتى انتهزوا فرصة تفرقة الدولة العباسية وتجزئة ملكها, فقاموا بحملة شعواء مشهورة في التاريخ, أفسدوا في الأرض, وسفكوا الدماء ظلماً, يدعون إلى باطل في صورة حق, وهي الحروب الصليبية, ولكن الحق يعلو ولا يعلى عليه, قاموا ليطفئوا نور الله بالخيبة بعد أن توغلوا في البلاد, ولكنهم تلقوا درسا تحققوا به مقدار نور الإسلام في قلوب المسلمين, الأمر الذي متى بدت منه بادرة, أنسى كل مسلم الحروب والأهواء .
متدبر: أيها المتفكر اجهد في البحث وأنت أيها الباحث ﴿فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ﴾ سورة الملك آيه3 واعلم أن الإنسان أقرب حيوان للتأثر بالظاهرة الكونية, خصوصا إذا كان فارغ الفؤاد من الكمالات الإنسانية التي بها يذوق لذة التفكر في الآثار الكونية, التي ترجع به إلى العلم بمبدئه ونهايته, وتحقق المشهودات والنظر إليها بالفكر العلمي, الذي يشير إلى خواصها المودعة فيها بقوة المبدع لها, والفكرة التي استنتجت فوائد تلك الخواص للانتفاع بها, ويذوق لذة الإيمان بمن وهب المادة وأودع فيها الخاصية ووهب العقل المرشد لعلم تسخيرها, بترتيب أو تركيب أو خلط أو مزج أو غير ذلك, حتى يتحقق كمال التحقق بمكانة الواهب المفيض سبحانه, ويعلم حق العلم أن هذه إنما جعلت ليستخدمها الإنسان في منفعتين : الأولي استعمالها في حفظ حياته وراحته . وشكر المنعم عليها بمساعدة عبيده والتقرب إليهم, ومساواتهم بنفسه, بحيث لو غفل عن إحدى المنفعتين كانت للضرر أقرب منها للنفع .
وإن كان السواد الأعظم تشغلهم المنفعة العاجلة فيزاحمون عليها, ويقفون عند من وهب له الفكر في انكشاف خواصها, مادحين له, شاكرين لفضله وتحصل لهم الدهشة, ويفتخرون بمن وهب له هذا الفكر – ولو كان ممن غضب عليهم الواهب سبحانه – لأنه يهب من يشاء مما شاء لا لعلة ولا لغرض, بل يظهر آياته على يد من يشاء عبرة للعباد وذكرى لآياته, وهذه البحار والهواء والجبال والحيوانات, تحدث ما يدهش العقول ويحير الألباب من المنفعة للنوع الحي, والشمس والقمر وغيرهما من جميع الكائنات .
وكثير من الناس من اتخذ هذه الأشياء آلهة تعبد من دون المفيض للخير, وكذلك أهل الغرة بالله تعالى – الذين غرتهم الدنيا – يكادون يعبدون من اخترع صنعة أو كشف خبيئة نسيانا للمفيض سبحانه, وغفلة عن الحق, حتى تهوي بهم الغرة إلى جهل الحق وإنكار الدين وإقبال على الزهو والكبر, والتهاون بأمور الدين ﴿ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ﴾ سورة الأنعام آية 44 وليس ذلك إلا من مجالسة أهل الغفلة, المغرورين بعاجل الأمر ، فلا يشغلك هذا الأمر الذي هو في الحقيقة موجب ليقظة القلب والفكر والتدبر في آيات الله سبحانه وتعالي وكثيرا ما أوجب هذا الأمر الغلو, حتى أنكر المغرور كثيرا من آيات الله وأوامره, حتى أنكر مقام الألوهية, ولم يتمتع إلا قليلا, ثم سيق إلى القبر مغضوبا عليه – والعياذ بالله تعالى – فندم ولات حين ندم, فتنبه أيها الناظر لهذه المظاهر, ولا يشغلك ما به تتقرب إلى الله فتتقرب به إلى النار, والله سبحانه وتعالي الموفق .
مواضع العبرة والعظة في هذه القصة
في قصة ( السائح في الأرض والسابح في السماء ) يبين الإمام المجدد أبو العزائم u, أصول الوصول لمعية الرسول ﴿ rوآله﴾ ويكشف لمريدي الوصول أيسر الطرق وأسهلها وأقربها إلى الله تعالى .
فالسائح في الأرض ( مفكر ) : ينتقل بجسمه من مكان إلى مكان ...
والسابح في السماء ( متدبر ) : ينتقل بقلبه من صفة إلى صفة, ومن مشهد إلى مشهد, وإن لم ينتقل بجسمه خطوة واحدة .
ولذا سئل بعض مشايخ الطرق, فقيل له : هل سافرت؟
فقال : سفر الأرض أم سفر السماء ؟ سفر الأرض ( لا ) ، وسفر السماء (بلى ) . وجاء رجل إلى عارف بالله فقال : قطعت إليك شقة طويلة . فقال له العارف : كان يكفيك خطوة واحدة, لو سافرت عن نفسك . وقال أحدهم : جلسة خير من ألف حجة ...والمراد جلسة تجمع الهم حتى يكاشف بالأفق العلي, فيكون قد انتقل من أفق إلى أفق على وهو في جلسته, لم ينتقل من مكانه ...وهذا هو حال السابح في السماء ( متدبر ), الذي علم العلم النافع, الموصل إلى المقصود الأعظم و أما السائح في الأرض ( مفكر ) ..فقد تلقى العلوم التي بها اعتدال اللسان والسمعة والشهرة والمنافسة في معرفة الأمراء والوزراء, والطمع في الوظائف ومزاحمة كلاب الدنيا ..وشتان بين الطريقين ، وبين المنهجين في الوصول إلى الله تعالى .
اصطحب طالب علم وتلميذ من سن الطفولية, وكان الطالب اسمه متدبر, والتلميذ مفكر, فشب الطالب على التدبر في شئون الكون, وتغيراته, وما يحدث فيه من تغير الأحوال . وشب التلميذ على حب الاستطلاع على الآثار الأرضية, وعلم مراتب الجمادات, والنباتات, والحيوانات . ونما في كل واحد منهما ما هو مفطور عليه, وكان كل واحد يدعو الآخر إلى ما يحبه لنفسه, ثم حصلت المنافسة بينهما, فأدت إلى إقامة كل واحد منهما الحجة على صحة مبدئه ومقصده, وكان متدبر أقواهما حجة, ومفكر أقواهما تمسكا, فعين لهما مجلساً في نهاية كل شهر, يعرض كل واحد منهما على الآخر مباحثه ونتائج مجاهداته .
متدبر: نظر من صغره إلى نفسه فعلم بعد أن تلقى العقيدة الإسلامية, ومباديء أحاكم الشريعة أن الأحكام الشرعية لم يطالب بها هذا الجسم مجردا عن نور فيه زائد على قوي الحيوان, إذ لو كان حيوانا مجردا لما طولب بتلك الأحكام, ولا بلغ تلك المنازل العلية, منازل القرب من الله والحب في الله, والإخلاص والإحسان إلى العالم أجمع, بالرحمة والعاطفة, فنظر بشوق إلى سير هذا النور المودع في الإنسان, وجاهد نفسه حتى تخلصت من الميل إلى مقتضيات الجسم ولوازمه فزكت نفسه, وأنس بلذة في الوحدة حتى ترك طيب الأكل, ولين الثياب, وراحة النوم ، والرغبة في النساء, وسبح بفكره في تلك الآفاق متخيلاً تارة, ومتوهما أخرى .
تجرد عن كل تلك المقتضيات للفيض القدسي, فكانت تشرق عليه أنوار عرفان كالبرق الساطع, لا يلبث سطوعها إلا ريثما تحجب عنه فكان في تلك الأنفاس ينبسط وينقبض, فإذا غشته تلك الأنوار انبسط, وإن حجبت عنه انقبض, وكان قريبا منه عالم عارف بالنفوس, فتوجه إليه وعرض حاله عليه, فأمره بكثرة قراءة القرآن, ومطالعة كتب الحديث, وتراجم العلماء العاملين, وكلفه أن يحضر مجلسه في ليلتي الخميس والاثنين, فداوم على ذلك حتى حصلت له بهجة باستدامة هذا النور المشرق في أوقات صفائه, ثم تذكر صاحبه مفكر فسأل عنه, فقيل : كان غائبا له شهور وحضر أمس, فزاره مفكر .
متدبر: جلس مع مفكر فنظر إليه وقال : ما الذي أحنى ظهرك وأنهك قواك وغير معالم شبابك ؟.
متدبر : بعت رخيصا بغال, واستبدلت فانيا بباق وأقبلت بكليتي لأنال بغيتي التي يدوم بها أنسي, وتبقى بها بهجتي .
مفكر: تبسم مستهزئا ثم بكى آسفا قائلا : الإنسان بعقله, ومن فقد عقله فقد الخير كله, كم نهيتك فلم تنته, ولو استعملت ذكاءك في شيء نافع لانتفعت ونفعت, أضعت عشرين سنة من عمرك أتلفت فيها صحتك, وأفسدت قواك العقلية, ما الذي نلته ؟ وها أنا صار لي مال كثير, وعيال وخدم, وآمال وشهرة واسعة بأعمال, وأقص عليك نبذة من نتائج أبحاثي .
تعلم أني كنت أعارضك وتعارضني, ولولا عناية الله بي لاتبعتك, ولكن الحمد لله .
تعلم أن نفسي مياله إلى علم تخطيط الأرض, ومعرفة الأنواع التي عليها من النبات والحيوانات, وطبائع المجتمعات الإنسانية, والبحث عن عوائدهم وأخلاقهم من غير طمع في شيء آخر, فصرفت نفائس أوقاتي في كشف تلك الحقائق, حتى وصلت إلى قصدي, ورميت بنفسي في لجج بحر السياحة, تارة يرفعني وآونة يخفضني, متحملا تلك الآلام إلى نيل البغية, ومن جد وجد, فجبت القفار, وقطعت الفيافي, وشهدت عجائب الآثار الطبيعية والصناعية, وعاشرت أكثر المجتمعات الإنسانية, حتى علمت ما هم عليه, وبلغت مبلغاً به أتكلم مع كل مجتمع بلغته وأبين لهم ما هم في حاجة إليه لرقيهم, حتى أحبني جميع الأمم, ووثق بي كل أمير ووزير, وطولبت أن أكون رئيسا لجمهوريات فأبيت إلا أن أتمم سياحتي .
متدبر: ما الذي يقصده غير المسلمين بالمسلمين ؟
مفكر: هذا سؤال ينبغي أن يلقى عليك جوابه في خلوه, فإن ما علمته من تلك الأسرار لا يعمله أحد غيري, إلا ملك أو زير أو أمير من الأمم المناوئة للمسلمين .
متدبر: أمر بانصراف الجالسين, وأغلق باب الحجرة واخذ القلم والدواة, وطلب من مفكر أن يجيبه على سؤاله .
مفكر: تعلم أن الإنسان ميال بطبعه إلى العاجلة, وتعلم أن بشاشة دين الإسلام إذا باشرت تلك القلوب المطهرة من تلك الأطماع ملكتها, وأن حلاوة الإسلام إذا ذاقتها ألسنة العقول سارعت إليها, ما لم يحجبها طمع أو حظ وهوى, وقد ظهرت تلك البشاشة, وانتشرت تلك الحلاوة, حتى عمت مشارق الأرض ومغاربها في سنين تعد على الأصابع, فمحت في تلك المدة الوجيزة عروش الملوك وتيجانهم, وجعلت الإنسان عزيزاً لا يرى له رباً إلا الله, حتى صارت التيجان وأصحابها أحقر من الذباب مهما ارتفع, وأذل من الغبار مهما رفعته الريح, وأصبح الفقير في مزرعته يشعر بالعزة بالإسلام على الملك فوق سريره, هذا لتمسكه بقواعد الإسلام, فانزعجت قلوب أهل التيجان وحفدتهم وأعوانهم, وفكر في إطفاء هذا النور ولكن أبى الله إلا أن يتم نوره .
انتشر هذا النور في آسيا من جبال القوقاز إلى مياه الهند, وفي أفريقيا من مياه البحر الأبيض إلى رأس الصالح ( أخر أفريقيا جنوبا ), وفي أوروبا من مياه البسفور إلى بحر المنش, وعم أكثر جزر البحار شرقاً وغرباً, تغيرت بالإسلام معالم الأرض في طولها والعرض, وأشرقت أنوار العدل حتى صار كل مفكر أو باحث أو حكيم فيلسوفا يسارع إلى اعتناق الإسلام مفتخراً, وإلي العمل به شاكراً, وما نشر الإسلام في تلك الأصقاع إلا بشاشته وحلاوته, وكونه هو الدين الحق, ولم يكن سيف الإسلام إلا لدك أطوار الظلم من طغاة الملوك وظلمة الأغنياء, وسفلة المقلدين الجهلاء, الذين هم أشد من الطاعون ضرراً على بني الإنسان, وقطع عضو لحفظ الجسد أمر معقول ورحمة مشروعة . بقيت بقية من أهل الظلم عاملة سراً على إطفاء هذا النور, ولكن الله غالب على أمره, مكثوا زمنا يعملون في الخفاء, حتى انتهزوا فرصة تفرقة الدولة العباسية وتجزئة ملكها, فقاموا بحملة شعواء مشهورة في التاريخ, أفسدوا في الأرض, وسفكوا الدماء ظلماً, يدعون إلى باطل في صورة حق, وهي الحروب الصليبية, ولكن الحق يعلو ولا يعلى عليه, قاموا ليطفئوا نور الله بالخيبة بعد أن توغلوا في البلاد, ولكنهم تلقوا درسا تحققوا به مقدار نور الإسلام في قلوب المسلمين, الأمر الذي متى بدت منه بادرة, أنسى كل مسلم الحروب والأهواء .
متدبر: أيها المتفكر اجهد في البحث وأنت أيها الباحث ﴿فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ﴾ سورة الملك آيه3 واعلم أن الإنسان أقرب حيوان للتأثر بالظاهرة الكونية, خصوصا إذا كان فارغ الفؤاد من الكمالات الإنسانية التي بها يذوق لذة التفكر في الآثار الكونية, التي ترجع به إلى العلم بمبدئه ونهايته, وتحقق المشهودات والنظر إليها بالفكر العلمي, الذي يشير إلى خواصها المودعة فيها بقوة المبدع لها, والفكرة التي استنتجت فوائد تلك الخواص للانتفاع بها, ويذوق لذة الإيمان بمن وهب المادة وأودع فيها الخاصية ووهب العقل المرشد لعلم تسخيرها, بترتيب أو تركيب أو خلط أو مزج أو غير ذلك, حتى يتحقق كمال التحقق بمكانة الواهب المفيض سبحانه, ويعلم حق العلم أن هذه إنما جعلت ليستخدمها الإنسان في منفعتين : الأولي استعمالها في حفظ حياته وراحته . وشكر المنعم عليها بمساعدة عبيده والتقرب إليهم, ومساواتهم بنفسه, بحيث لو غفل عن إحدى المنفعتين كانت للضرر أقرب منها للنفع .
وإن كان السواد الأعظم تشغلهم المنفعة العاجلة فيزاحمون عليها, ويقفون عند من وهب له الفكر في انكشاف خواصها, مادحين له, شاكرين لفضله وتحصل لهم الدهشة, ويفتخرون بمن وهب له هذا الفكر – ولو كان ممن غضب عليهم الواهب سبحانه – لأنه يهب من يشاء مما شاء لا لعلة ولا لغرض, بل يظهر آياته على يد من يشاء عبرة للعباد وذكرى لآياته, وهذه البحار والهواء والجبال والحيوانات, تحدث ما يدهش العقول ويحير الألباب من المنفعة للنوع الحي, والشمس والقمر وغيرهما من جميع الكائنات .
وكثير من الناس من اتخذ هذه الأشياء آلهة تعبد من دون المفيض للخير, وكذلك أهل الغرة بالله تعالى – الذين غرتهم الدنيا – يكادون يعبدون من اخترع صنعة أو كشف خبيئة نسيانا للمفيض سبحانه, وغفلة عن الحق, حتى تهوي بهم الغرة إلى جهل الحق وإنكار الدين وإقبال على الزهو والكبر, والتهاون بأمور الدين ﴿ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ﴾ سورة الأنعام آية 44 وليس ذلك إلا من مجالسة أهل الغفلة, المغرورين بعاجل الأمر ، فلا يشغلك هذا الأمر الذي هو في الحقيقة موجب ليقظة القلب والفكر والتدبر في آيات الله سبحانه وتعالي وكثيرا ما أوجب هذا الأمر الغلو, حتى أنكر المغرور كثيرا من آيات الله وأوامره, حتى أنكر مقام الألوهية, ولم يتمتع إلا قليلا, ثم سيق إلى القبر مغضوبا عليه – والعياذ بالله تعالى – فندم ولات حين ندم, فتنبه أيها الناظر لهذه المظاهر, ولا يشغلك ما به تتقرب إلى الله فتتقرب به إلى النار, والله سبحانه وتعالي الموفق .
مواضع العبرة والعظة في هذه القصة
في قصة ( السائح في الأرض والسابح في السماء ) يبين الإمام المجدد أبو العزائم u, أصول الوصول لمعية الرسول ﴿ rوآله﴾ ويكشف لمريدي الوصول أيسر الطرق وأسهلها وأقربها إلى الله تعالى .
فالسائح في الأرض ( مفكر ) : ينتقل بجسمه من مكان إلى مكان ...
والسابح في السماء ( متدبر ) : ينتقل بقلبه من صفة إلى صفة, ومن مشهد إلى مشهد, وإن لم ينتقل بجسمه خطوة واحدة .
ولذا سئل بعض مشايخ الطرق, فقيل له : هل سافرت؟
فقال : سفر الأرض أم سفر السماء ؟ سفر الأرض ( لا ) ، وسفر السماء (بلى ) . وجاء رجل إلى عارف بالله فقال : قطعت إليك شقة طويلة . فقال له العارف : كان يكفيك خطوة واحدة, لو سافرت عن نفسك . وقال أحدهم : جلسة خير من ألف حجة ...والمراد جلسة تجمع الهم حتى يكاشف بالأفق العلي, فيكون قد انتقل من أفق إلى أفق على وهو في جلسته, لم ينتقل من مكانه ...وهذا هو حال السابح في السماء ( متدبر ), الذي علم العلم النافع, الموصل إلى المقصود الأعظم و أما السائح في الأرض ( مفكر ) ..فقد تلقى العلوم التي بها اعتدال اللسان والسمعة والشهرة والمنافسة في معرفة الأمراء والوزراء, والطمع في الوظائف ومزاحمة كلاب الدنيا ..وشتان بين الطريقين ، وبين المنهجين في الوصول إلى الله تعالى .