عدد المشاهدات:
الناسك والمخترع
كان وديع بن رافع في جامعة العلوم والفنون ببغداد بقسم علوم النفس, فكان يميل بفطرته لمذهب السلف الصالح, لصفاء جوهر نفسه ولعلمه بقدر الدنيا : فكان يصرف أوقات الفراغ في زيارة الزهاد, والعباد, والعلماء بالله تعالي, وكانوا كثيرين, تقف على أبوابهم الأمراء والوزراء والعلماء, لأن التربية كانت موجبة لتزكية النفوس, جامعة للقلوب إلى علام الغيوب .
وكان له صديق في قسم الفنون والصناعات والحكمة اسمه رقيع, صحبه من صغره, فنشأ وديع ناسكا حريصا على تزكية نفسه, آنسا بالوحدة, نافراً من الخلق, راغباً في الحق, ونشأ رقيع ميالا للبحث في خواص الكائنات, حتى برع في علم الطبيعيات, وفنون الكيمياء, والصيدلة, والطب, وخطأ كثيرا من اليونانيين والفرس والرومان, وأخذ يحكم بعد التجربة والامتحان, حتى اخترع في الطب والصناعات ما نفع به العالم أجمع, وصارت له شهرة في عالم الصناعات والفنون ، وازدحم عي أبوابه العلماء, والصناع والتجار .
وفي يوم خرج للنزهة في البادية, فمر على صومعة على عين, فنزل تحت شجرة, وسأل عن الذي في هذه الصومعة راغباً في زيارته, فأخبر أنه ناسك, له زمن طويل في هذه الصومعة فرغب فيه ليروح نفسه من عناء الأعمال, وقام فدق باب الصومعة أكثر من ساعة فلم يجبه أحد فلزم الباب وزادت رغبته, وبعد زمن سمع قائلا يقول :
الناسك وديع, أضعت أنفاسا هي فوق النفائس ، ماذا تريده مني أو ترويه عني ؟
المخترع رقيع, اسمح لي بزيارتك, لأنتفع برؤيتك, وأشكر نعمة الله على بالعقل, ومنته علىَّ بنفع عباده .
ففتح وديع باب الصومعة .
الناسك وديع, أدخل منفردًا وقدم التوبة, وأسرع بالأوبة, فالأنفاس مراحل العمر, والسعيد من عمرها بالطاعة, والشقي من أضاعها في معاصيه سبحانه .
المخترع رقيع, سمعت كلام الناسك, فاقشعر جلدي, وذرفت عيناي, وخشعت تعظيما له, ودخلت واجلا, فرأيت ملكا في هيكل إنساني, ونجماً مشرقاً في جسم آدمي, إذا به رجل في الخمسين من عمره أصفر اللون, أبيض الشفتين,غائر العينين, كث اللحية, ذقنه ملتصقة بصدره وما وقع بصري عليه إلا وخرس اللسان, وصغرت الدنيا في نظري, ونسيت مخترعاتي, وما حصلته من المال والشهرة والثياب, وتذكرت هول الموت وما بعده .
وعلمت أن الناسك زهد في نعيم يزول وخير يفنى, وملاذ هو والحيوان فيها سواء مسارعا إلى نعيم يبقى, ومسرات دائمة ونجاة من هول لابد منه للإنسان إن لم يفر من الوقوع فيه .
فلما رآني الناسك قال بسرعة : ألست رقيعًا ؟ فخشع قلبي هيبة وقلت : بلى ياسيدي ، فقال وديع لرقيع أتذكر كذا وكذا ؟
فعظمت حيرتي, واحتقرت الدنيا وما فيها ومن فيها,, بعد إن كنت أراني بلغت بمخترعاتي مقاماً عند الملوك, ومنزلة عند العالم أجمع لم يبلغها أحد, وأيقنت أن كل علو في الدنيا وشهرة ومكانة لا بقاء لها, وأن كل المخترعات والصناعات إنما هي نتائج تمرين الأعضاء, وأبحاث العقول, وأن فوائدها تعود عل الأجسام . وربما أضر المخترع العالم أجمع بما اخترعه, كمخترع الآلات الجهنمية, وكالمتفنن في أنواع الخمر وكمخترع الأزياء والأثاثات والأواني التي تعين على شهوة الأكل والشراب والنكاح . وكمخترع التلغرافات اللاسلكية, فإنها كشفت عورات بعض المجتمعات الإنسانية الآمنة الراضية عن الله, لأهل القوة والطمع الساعين في الأرض بالفساد والقهر .
وقف رقيع يحاسب نفسه بعد أن كان يرى نفسه أسعد الناس في عصره وأرفعهم قدراً . قوي عامل الفكر به حتى علم كم أضر مجتمعات, وكم شغل الحس بالآلات التي اخترعها, المنبهة للشهوات, وكم أفسد آدابا وأخلاقاً, فإن الإنسان قبل تلك المخترعات كان في أمن من الشرور العامة .
بكي رقيع بكاءً شديدًا, وأحنى ظهره أمام الناسك قائلاً : أتقبلني خادما لك ؟ عسى الله أن يتوب على فأنال قسطا مما فزت به, فقد أضعت عمري باحثاً فيما أصلح به المادة, لينتفع الإنسان بها, وغفلت عن تربية نفسي وتزكيتها, فجعلت من الحديد آلة تدفع الجسم بقوة تمزق الحجر لو قابلها, وسميتها المسكتة ( البندقية ) فاستعملها الظلمة للانتقام, والجبابرة للاستيلاء على الأمم, وكم اخترعت آلات وأدوات كلها لمضرة بني الإنسان, وعلا بكاؤه قائلاً : هل لي ياسيدي من توبة ؟ هل ترضاني لك عبداً ؟ فلما سمع من معه خارج الصومعة بكاءه, أكبروا الأمر وقالوا : كيف يبكي من يتملق الأمراء بين يديه أمام الناسك المهان الذي لم ينفع الناس بشيء ؟ ولبلادته وجهله هرب من الناس إلى هذا المكان, وهموا بقتل الناسك شفقة على رقيع .
فلما فتحوا باب الصومعة ووقع نظرهم على الناسك ارتجفت قلوبهم مما كوشفت به تلك القلوب .
مواضع العبرة والعظة في هذه القصة .
يكشف الإمام المجدد أبو العزائم uفي قصة ( الناسك والمخترع ) .... الفروق الجوهرية بين الحضارة الإسلامية والمدنية الغربية .. ويبين من خلالها أن المدنية الغربية المزيفة قد أودت بالعالم إلى أزمة كبيرة لا خلاص منها إلا بالرجوع إلى أنوار الإسلام وإشراقا ته وحضاراته .
فالناسك, ( وديع بن رافع ) في هذه القصة رمز للأمة الإسلامية التي أكرمها المولى بأشرف العلوم وأجلها وهو معرفة الله والعلم به سبحانه وتعالي وبأيامه وبأحكامه وبحكمة أحكامه .. فجملها ذلك العلم بالعقيدة الحقة والعبادة الخالصة والمعاملة الحسنة والأخلاق الفاضلة وسرى ذلك النور من الأمة الإسلامية إلى الأمم المختلفة الأخلاق والأنساب والعادات, فجعلها تمتزج بعضها ببعض, وتتجنس بجنس واحد هو الإسلام, وكان المسلمون كجسم واحد موصل جيد التوصيل للحضارة وأما المخترع, (رقيع ) فهو رمز للغرب وحضارته الوحشية الهمجية, الذي برع في علوم الكونيات التي أشار إليها القرآن الكريم في قوله تعالى : ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ ذلك العلم الذي اغتر به الغرب فاستخدمه في ضرر العالم باختراع أسلحة الدمار (نووية – كيميائية – بجيولوجية) .. بل وأدى بالغرب إلى الإلحاد ونسبة الولد له تنزه سبحانه, بالاعتقاد بألوهية عيسي بن مريم أو بنوته لله رب العالمين ...
وما ذكره الإمام المجدد أبو العزائم وكشفه مبكراً في قصة ( الناسك والمخترع ) تحدث عنه الفيلسوف الفرنسي رجاء جارودى مؤخراً حين قال : ( إن المفهوم الغربي الذي يعتمد على التكنيك للتكنيك, والعلم للعلم سيؤدي إلى العدم . وأن الحياة من أجل لا شيء هي انتحار بطيء, وأن هذا كله يأتي من نسيان تبعية الأساليب ونسيان الأبعاد الروحية للحياة . وقال جارودي أيضاً : (إن الحضارة الغربية في سبيلها إلى الموت لا لأنها تفتقد الأساليب ولكن لأنها تفتقر إلى الغايات ) . وهذا ما سبق إليه الإمام المجدد في قصة الناسك والمخترع .. وما وضعه من حلول حيث أكد على ضرورة عودة المخترع إلى رحاب الناسك .
كان وديع بن رافع في جامعة العلوم والفنون ببغداد بقسم علوم النفس, فكان يميل بفطرته لمذهب السلف الصالح, لصفاء جوهر نفسه ولعلمه بقدر الدنيا : فكان يصرف أوقات الفراغ في زيارة الزهاد, والعباد, والعلماء بالله تعالي, وكانوا كثيرين, تقف على أبوابهم الأمراء والوزراء والعلماء, لأن التربية كانت موجبة لتزكية النفوس, جامعة للقلوب إلى علام الغيوب .
وكان له صديق في قسم الفنون والصناعات والحكمة اسمه رقيع, صحبه من صغره, فنشأ وديع ناسكا حريصا على تزكية نفسه, آنسا بالوحدة, نافراً من الخلق, راغباً في الحق, ونشأ رقيع ميالا للبحث في خواص الكائنات, حتى برع في علم الطبيعيات, وفنون الكيمياء, والصيدلة, والطب, وخطأ كثيرا من اليونانيين والفرس والرومان, وأخذ يحكم بعد التجربة والامتحان, حتى اخترع في الطب والصناعات ما نفع به العالم أجمع, وصارت له شهرة في عالم الصناعات والفنون ، وازدحم عي أبوابه العلماء, والصناع والتجار .
وفي يوم خرج للنزهة في البادية, فمر على صومعة على عين, فنزل تحت شجرة, وسأل عن الذي في هذه الصومعة راغباً في زيارته, فأخبر أنه ناسك, له زمن طويل في هذه الصومعة فرغب فيه ليروح نفسه من عناء الأعمال, وقام فدق باب الصومعة أكثر من ساعة فلم يجبه أحد فلزم الباب وزادت رغبته, وبعد زمن سمع قائلا يقول :
الناسك وديع, أضعت أنفاسا هي فوق النفائس ، ماذا تريده مني أو ترويه عني ؟
المخترع رقيع, اسمح لي بزيارتك, لأنتفع برؤيتك, وأشكر نعمة الله على بالعقل, ومنته علىَّ بنفع عباده .
ففتح وديع باب الصومعة .
الناسك وديع, أدخل منفردًا وقدم التوبة, وأسرع بالأوبة, فالأنفاس مراحل العمر, والسعيد من عمرها بالطاعة, والشقي من أضاعها في معاصيه سبحانه .
المخترع رقيع, سمعت كلام الناسك, فاقشعر جلدي, وذرفت عيناي, وخشعت تعظيما له, ودخلت واجلا, فرأيت ملكا في هيكل إنساني, ونجماً مشرقاً في جسم آدمي, إذا به رجل في الخمسين من عمره أصفر اللون, أبيض الشفتين,غائر العينين, كث اللحية, ذقنه ملتصقة بصدره وما وقع بصري عليه إلا وخرس اللسان, وصغرت الدنيا في نظري, ونسيت مخترعاتي, وما حصلته من المال والشهرة والثياب, وتذكرت هول الموت وما بعده .
وعلمت أن الناسك زهد في نعيم يزول وخير يفنى, وملاذ هو والحيوان فيها سواء مسارعا إلى نعيم يبقى, ومسرات دائمة ونجاة من هول لابد منه للإنسان إن لم يفر من الوقوع فيه .
فلما رآني الناسك قال بسرعة : ألست رقيعًا ؟ فخشع قلبي هيبة وقلت : بلى ياسيدي ، فقال وديع لرقيع أتذكر كذا وكذا ؟
فعظمت حيرتي, واحتقرت الدنيا وما فيها ومن فيها,, بعد إن كنت أراني بلغت بمخترعاتي مقاماً عند الملوك, ومنزلة عند العالم أجمع لم يبلغها أحد, وأيقنت أن كل علو في الدنيا وشهرة ومكانة لا بقاء لها, وأن كل المخترعات والصناعات إنما هي نتائج تمرين الأعضاء, وأبحاث العقول, وأن فوائدها تعود عل الأجسام . وربما أضر المخترع العالم أجمع بما اخترعه, كمخترع الآلات الجهنمية, وكالمتفنن في أنواع الخمر وكمخترع الأزياء والأثاثات والأواني التي تعين على شهوة الأكل والشراب والنكاح . وكمخترع التلغرافات اللاسلكية, فإنها كشفت عورات بعض المجتمعات الإنسانية الآمنة الراضية عن الله, لأهل القوة والطمع الساعين في الأرض بالفساد والقهر .
وقف رقيع يحاسب نفسه بعد أن كان يرى نفسه أسعد الناس في عصره وأرفعهم قدراً . قوي عامل الفكر به حتى علم كم أضر مجتمعات, وكم شغل الحس بالآلات التي اخترعها, المنبهة للشهوات, وكم أفسد آدابا وأخلاقاً, فإن الإنسان قبل تلك المخترعات كان في أمن من الشرور العامة .
بكي رقيع بكاءً شديدًا, وأحنى ظهره أمام الناسك قائلاً : أتقبلني خادما لك ؟ عسى الله أن يتوب على فأنال قسطا مما فزت به, فقد أضعت عمري باحثاً فيما أصلح به المادة, لينتفع الإنسان بها, وغفلت عن تربية نفسي وتزكيتها, فجعلت من الحديد آلة تدفع الجسم بقوة تمزق الحجر لو قابلها, وسميتها المسكتة ( البندقية ) فاستعملها الظلمة للانتقام, والجبابرة للاستيلاء على الأمم, وكم اخترعت آلات وأدوات كلها لمضرة بني الإنسان, وعلا بكاؤه قائلاً : هل لي ياسيدي من توبة ؟ هل ترضاني لك عبداً ؟ فلما سمع من معه خارج الصومعة بكاءه, أكبروا الأمر وقالوا : كيف يبكي من يتملق الأمراء بين يديه أمام الناسك المهان الذي لم ينفع الناس بشيء ؟ ولبلادته وجهله هرب من الناس إلى هذا المكان, وهموا بقتل الناسك شفقة على رقيع .
فلما فتحوا باب الصومعة ووقع نظرهم على الناسك ارتجفت قلوبهم مما كوشفت به تلك القلوب .
مواضع العبرة والعظة في هذه القصة .
يكشف الإمام المجدد أبو العزائم uفي قصة ( الناسك والمخترع ) .... الفروق الجوهرية بين الحضارة الإسلامية والمدنية الغربية .. ويبين من خلالها أن المدنية الغربية المزيفة قد أودت بالعالم إلى أزمة كبيرة لا خلاص منها إلا بالرجوع إلى أنوار الإسلام وإشراقا ته وحضاراته .
فالناسك, ( وديع بن رافع ) في هذه القصة رمز للأمة الإسلامية التي أكرمها المولى بأشرف العلوم وأجلها وهو معرفة الله والعلم به سبحانه وتعالي وبأيامه وبأحكامه وبحكمة أحكامه .. فجملها ذلك العلم بالعقيدة الحقة والعبادة الخالصة والمعاملة الحسنة والأخلاق الفاضلة وسرى ذلك النور من الأمة الإسلامية إلى الأمم المختلفة الأخلاق والأنساب والعادات, فجعلها تمتزج بعضها ببعض, وتتجنس بجنس واحد هو الإسلام, وكان المسلمون كجسم واحد موصل جيد التوصيل للحضارة وأما المخترع, (رقيع ) فهو رمز للغرب وحضارته الوحشية الهمجية, الذي برع في علوم الكونيات التي أشار إليها القرآن الكريم في قوله تعالى : ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ ذلك العلم الذي اغتر به الغرب فاستخدمه في ضرر العالم باختراع أسلحة الدمار (نووية – كيميائية – بجيولوجية) .. بل وأدى بالغرب إلى الإلحاد ونسبة الولد له تنزه سبحانه, بالاعتقاد بألوهية عيسي بن مريم أو بنوته لله رب العالمين ...
وما ذكره الإمام المجدد أبو العزائم وكشفه مبكراً في قصة ( الناسك والمخترع ) تحدث عنه الفيلسوف الفرنسي رجاء جارودى مؤخراً حين قال : ( إن المفهوم الغربي الذي يعتمد على التكنيك للتكنيك, والعلم للعلم سيؤدي إلى العدم . وأن الحياة من أجل لا شيء هي انتحار بطيء, وأن هذا كله يأتي من نسيان تبعية الأساليب ونسيان الأبعاد الروحية للحياة . وقال جارودي أيضاً : (إن الحضارة الغربية في سبيلها إلى الموت لا لأنها تفتقد الأساليب ولكن لأنها تفتقر إلى الغايات ) . وهذا ما سبق إليه الإمام المجدد في قصة الناسك والمخترع .. وما وضعه من حلول حيث أكد على ضرورة عودة المخترع إلى رحاب الناسك .