آخر الأخبار
موضوعات

السبت، 12 نوفمبر 2016

- وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ

عدد المشاهدات:
قوله تعالى : "وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ"(281).
"وَاتَّقُوا يَوْمًا"

هذه الآية الشريفة آخر آية نزلت على رسول الله تعالى ، ورفع بعدها إلى الرفيق الأعلى ، على خلاف بين العلماء ، قيل : بعد سبعة أيام ، وقيل : بعد سبعين يوما ، وهى خاتمه الدين . وهى الآية التى أجمل الله فيها كنز حقائق الإيمان ، والمراقبة ، والرغبة ، والرهبة ، وقد بينت لك فيما سبق أن التقوى أربعة أنواع : تقوى اليوم بدليل هذه الآية ، وتقوى النار بدليل قول الله تعالى : "وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ"([18]) وتقوى الرب ، قال سبحانه : "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ"([19]) وتقوى الله تعالى ، قال سبحانه : "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ"([20]).

والتقوى مقام من مقامات كمال أهل الإحسان الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ورد فى البخارى عندما سأله جبريل قائلا له : ما الإحسان ؟ بعد سؤاله عن الإسلام والإيمان ، فقال e: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك".

وأهل مقام الإحسان أرقاهم من كان كأنه يرى الله تعالى ، وراقيهم من يكون على حق اليقين بأن الله يراه ، فيتمثله فلا يغيب عنه ولا يحجب ، وهذا هو مقام التقوى.

ولفظة "تقوى" مأخوذة من وقى ، وتصريفها معلوم فى متون اللغة ، وهى الوقاية بحصون العلم الذى رسم على جوهر النفس ، لأن العلم الحقيقى هو تصور النفس رسوم المعلوم ، وأما العلم الذى يفهم بطول الممارسة والمذاكرة فإنه لا يرسم على جوهر النفس.

ولذلك فإنك ترى أكثرى من حصل العلم بالمذاكرة والمدارسة لا يستحضر معانية عند حضور سلطان الشهوات ، أو صولة الغضب ، أو باعث الطمع ، ولكن أهل التقوى ، مهما قهرتهم البواعث لا يغيبون عما تتمثله جواهر نفوسهم من هيبة مذيبة للقلوب ، وخشية جاذبة للأرواح إلى حضرة الفتاح ، وتقوى يحصنهم الله بما من الوقوع فيما يغضبه جل جلاله ، بل ويبعدهم عما يكرهه من التوسع فى المباحات ، وهذا مقام الزهاد. . .

وقوله تعالى : "واتقوا يوما" أى تصوروا ذلك اليوم وما يكون فيه مما بينه الله لكم فى آيات الوعيد ، ومن نعيم مقيم يبتدئ بالجنة ، وينتهى إلى الجلوس على منبر من نور قدام عرش الرحمن ، والفوز بالرضوان الأكبر لأهل الذكر الأكبر.

هذا ما وعد الله به أولياءه ، ومن تمثل تلك المنازلات الرحمانية والعواطف الربانية اضمحلت فى عينه الدنيا وما فيها ، ولو حيزت إليه بحذافيرها ، بل تضاءل هذا النعيم الموهوم ، والحظ الزائل المزعوم.

أما ما توعد الله به أعداءه وأهل الكفر به من آلام فى الدنيا أنتجتها المعاصى بسلب العافية فى أبانها ، وسلب النعمة –أعاذنا الله من ذلك –وسلب الإيمان ، والتوكل على الله ، والثقة به ، ومن عداوة أهل التقوى والعارفين بالله ، ثم من تسليط الظلمة ، ثم من سوء الخاتمة عند الموت ، ثم ما يناله الكافر والمنافق والمذنب من عذاب القبر ، مما يصدق به أهل الإيمان ، وينكره أهل الكفر بالله ، ثم بعد ذلك من بعث ونشر ، ثم ما بعده من حشر وصراط وميزان ، ثم الهوى فى الهاوية.

 حفظنا الله وإخواننا المسلمين من هذه الشرور . وهذا تفصيل ما أجمل فى لفظة تقوى اليوم . وبعيشك ، هل لو تصور المسلم تلك الحقائق موقنا بحدوثها ووقوعها ، هل ينسى تقوى اليوم فضلا عن تقوى النار ، وتقوى الله تعالى ؟!! اللهم زدنا علما.

"تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ"

بينت لك التقوى ، وبينت لك اليوم ، وهذا الخطاب لأهل مقام الإسلام ،
وأما أهل مقام الإيمان فالتقوى عندهم من النار المحققة لديهم ،
 وأهل مقام الإحسان تقواهم من ربنا سبحانه ، وأهل مقام اليقين الحق يتقون الله تعالى ، قال سبحانه : "وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ"([21]).

فأهل مقام الإيقان لهم كمال شهود المغيبات عنا مما ورد به الشرع ، والرجوع : الانتقال من مكان إلى مكان ، أى تنتقلون من دار الدنيا إلى البرزخ ، ومنه إلى الدار الآخرة حيث تحلون فى الأماكن التى ذكرناها ، ثم يكون الرجوع إلى الله تعالى لأهل مقام الإيقان الكامل ، لأن غيرهم لا يرجع إلى الله تعالى بل إلى النار أو إلى الجنة ، قال تعالى : "كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ"([22]) .

وجائز أن يكون معنى : "ترجعون فيه إلى الله" بمشاهدة مقامات التوحيد العالية شهودا يجعل الإنسان فى فناء عن الوجود بواجب الوجود ، ويكون فى مقام ربه عنده ، أو أعلى من ذلك أن يكون مع الله ، أو يكون الله تعالى معه قال سبحانه : "إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ"([23]) وكفى بمعية الله تعالى للعبد شرفا وتلك المعية فى الدنيا والآخرة ، ومن حرمها فى الدنيا فقد حرمها فى الآخرة.

قال سبحانه مخبرا عن حبيبه الله صلى الله عليه وسلم: "إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا"([24]) حين حزن أبو بكر وهو مع رسول الله الله صلى الله عليه وسلم فى الغار عندما رأى المشركين على شفير الغار وقال : يا رسول الله لو ألقى أحدهم بصره تحت قدمه لرآنا ، فقال : [يا أبا بكر لا تحزن أن الله معنا] ، وخبر الصادق الأمين حقيقة ثابتة وما نقول فى اثنين الله ثالثهما ، فإذا كان الله مع رسول الله eومع أبى بكر ، فما جاز أن يكون لأبى بكر مع رسول الله الله صلى الله عليه وسلم جاز أن يكون لأي مسلم جمله الله بما جمل به أبا بكر من يقين وعمل ، وعزم وهمة ، فى إعلاء الكلمة وحفظ رسول الله eولا حرج على فضل الله تعالى .

وإنى أعتقد أن الله تعالى يمنح معية الإحسان لأفراد من أمة محمد الله صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة ، وهذا يسمى رجوعا بالمعنى ، وإذا فكثير من أفراد الوجود كورثة رسول الله الله صلى الله عليه وسلم وكإبدال الرسل والصديقين وكالعلماء العاملين هم مع اله والله معهم قال تعالى : "فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ"([25]).

إذا فالرجوع محقق ، والارتحال من الدنيا حق يقين ، وكيف لا ونحن نشيع فى كل يوم نظراءنا من الأناسى قهرا عنا ؟ !! ولو أن الواحد منهم يفدى بالمال والأولاد لقدمت الأموال والأولاد فداء له ، ولكن الله قاهر فوق عباده جعل الموت عبر للمعتبر.

وأنى لأري الناس يبكون على الموتى حزنا وأسفا ، وكان الأولى أن يبكوا على أنفسهم عند نزول هذه الصدمة القهرمانية ، وقد يمشى الناس خلف الجنازة وهم يتحدثون فى الدنيا أو يطمعون فى مال الميت كأنهم لن يموتوا ، وكفى بهذا نسيانا لهذا اليوم العظيم حفظنا الله تعالى.

"ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ"

أتى سبحانه بثم هنا للدلالة على أن تلك التوفية لا تكون إلا فى يوم القيامة ، والتوفية هى إعطاء الحقوق وافية غير منقوصة ، وهذا متحقق بالمعاصى ، فإن الله يجازى المسيء على قدر إساءته ، ولكنها غير متحققة فى الطاعات فإن الله يعطى على الحسنة أضعاف أمثالها ، ولك هنا ان تقول : هذه خاصة بأهل المعاصى بدليل قوله تعالى : "ما كسبت" فإن شهود العبد أن له كسبا دليل على أنه لم يبلغ مقام الإحسان . قال تعالى : "وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ"([26]).

وجائز أن تكون عامة ، ويكون جزاء المحسنين بقدر إحسانهم ، وما زاد على ذلك يكون بفضل الله تعالى ، ويكون الكسب هو العمل الذى عمله كل إنسان ، وإذا كان كذلك فما ورد من الآيات التى تنسب للإنسان عملا كقوله تعالى : "وَقُلِ اعْمَلُوا"([27]) وقوله تعالى : "بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ"([28]) وغير ذلك إحسان من الله تعالى على إحسان ، وذلك بخلق الأعمال بقدرته أولا ، ونسبتها إلى العبد ثانيا ، ويجعلها له ثالثا ، ثم يتفضل رابعا بإعطائه أجرا عليها ، وليس له فيها شئ فسبحان من بيده الفضل.

ولأهل مشاهد التوحيد فى تلك المعانى مشاهد خاصة بهم ، ومن حرمه الله من تلك المشاهد فأولى له أن يسلم بها لينال قسط من أجر المسلمين لله ولرسوله eوللعلماء الربانيين . أما من حرمه الله منها وأنكرها ، فهذا سجل الله عليه الحرمان يوم القيامة.

"وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ"

نفى الله الظلم عن نفسه لمعنيين عظيمين ، الأول : أنه هو الذى خلق الأجسام والأرواح والأعمال ، فهو يملكها ملكا مطلقا ، وله أن يتصرف فيما شاء بما شاء ، ولذلك تكون أعماله مبرأة من الظلم ، ويستحيل عليه سبحانه الظلم لكمال ذاته وأسمائه وصفاته.

والمعنى الثانى الذى نجارى به المعقول : أنه سبحانه حكم وعدل ، فيجازى على السيئة بسيئة مثلها فانتفى الظلم ، ويجازى على الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ، فثبت الفضل ومعنى قوله تعالى : "وهم لا يظلمون" ، على التأويل الأول هؤلاء المخالفون لأحكام الله تعالى لا يظلمون أى لا يعاقبون إلا عقوبة على قدر أعمالهم ، وعلى التأويل الثانى فالعاملون من أهل الإيمان بالله أو الكفر لا يظلمون ، فالمحسن يرد إليه إحسانه مزيدا عليه بما يتفضل الله به ، والمسيء ترد إليه إساءته بقدرها ، والله يغفر لمن يشاء . فثبت أن الله ذو الفضل العظيم ، وأنه الحكم العدل ، تنزه وتعالى . ولا يظلم ربك أحدا
التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:




شارك فى نشر الخير