عدد المشاهدات:
بيان أنه لا مدينة إلا بالإسلام :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم( المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ) ، ليس كل مجتمع من المجتمعات مدينة بالمعنى الذي يكون به الاجتماع و التعاون إلى نيل الخيرات ، فإن أكبر المجتمعات - من حيث هي مجتمعات - قد تدفعها الغايات إلى أن تكون قرارة شرور ، و مهاوي مفاسد ، و مدارج للهلاك ، و إنما المجتمعات التي تعتبر في نظر الحكماء أنها مدينة بالمعنى الصحيح هي المجتمعات التي يتعاون كل واحد منهم على نيل الخير الحقيقي للجميع ، و لما كان الخير الحقيقي الذي بنيله يفوز الإنسان بالسعادتين - السعادة الحسية و السعادة الروحانية - و لا ينال هذا الخير الحقيقي إلا بمجتمع يتعاونون جميعا على نيله .
و من ظن أن مطلق اجتماع بني الإنسان في الأرض يكون مجتمعا يتعاون أهله على نيل الخيرات الحقيقية ، فقد أخطأ ، لأن للنمل مدنا منظمة بها رؤساء و قواد و صناع و فعلة ، و كذلك للنحل مدن بها سلطان و وزراء و جيوش و صناع و فعلة ، و كذلك للطيور مدن منظمة كأنها تسير على قوانين مرسومة ، و للقردة و غيرها من الأنواع التي تتعاون على دفع ما يضرها و جلب ما ينفعها بوجه ما ، فإن فرضنا أن كل مجتمع من بني الإنسان يدفع الضرر عن نفسه و يجلب النافع لنفسه يكون مدينة فاضلة ، فذلك ما لا يقول به إنسان ، لأن تلك المجتمعات هي أشبه بمجتمعات الحيوانات ، إلا أنها أرقى منها من حيث أن الإنسان يمكنه أن يتفنن في آلات الدفاع عن نفسه ، و يحتال في جلب النافع لها أكثر من الحيوانات الأخرى . و هو بهذا المعنى لم يكن إنسانا حقيقة ، و لكنه حيوان امتاز عن بقية أنواع الحيوانات الأخرى بقوى لا بد له منها .
إذا تقرر ذلك ، يظهر أن مراد العلماء بالمدينة - في حقيقة الأمر - هي مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم في عصره ، لأن المجتمع الذي كان يتعاون حقيقة فيها كان على نيل الخير الحقيقي لكل أفراد بني الإنسان ، و محو الشر مطلقا عن كل أفراد بني الإنسان ، و لذلك فان لفظ المدينة المنورة كان علما عليها . و هكذا كل مجتمع في أرض اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدر استطاعته فهم من أهل المدينة المنورة ، و غيرهم ليس من بني الإنسان و إن كان على صورته ، حتى و لو كان لهم اجتماعات و قوة و منعة و صناعات و فنون ، فإنهم إنما يمثلون مدينة النمل ، أو مدينة النحل ، أو مدينة الطيور ، أو يمثلون غابة جمعت وحوشا مفترسة و غير مفترسة ، و ذلك لأنهم لم يتعاونوا على نيل الخير الحقيقي الذي هو خير في الحقيقة للإنسان من وجوهه الفاضلة ، بل تعاونوا على نيل ما هو خير للحيوان من غير وجوهه الفاضلة .
و لست مبالغا إن قلت : الإنسان لم يصر إنسانا حقيقة إلا بالإسلام ، يعني أن الإنسان لم يفهم مرتبته من الوجود - فهماﹰيجعله يعتقد أن كل ما في السماوات و الأرض خلق لأجل الإنسان و أن الإنسان خلق الله - إلا بالإسلام ، حتى بلغ بالمسلم من معرفته بقدر نفسه ، و فهمه منزلته من الوجود بما بين له رسول الله صلى الله عليه وسلم من كتاب الله تعالى ، أن بعض الصحابة كان إذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلمأمرا يتعلق بالجهاد ، أو بأمور لمصلحة خاصة يقول : أرأي يا رسول الله أم وحي ؟ فإن كان الرأي فعندي كذا و كذا ، و إن كان الوحي فسمعا و طاعة .
أين كان هذا النور و العلم قبل الإسلام ؟ أكان و الإنسان يعبد العجل ؟ أم كان و الإنسان يعبد الشمس و الجعل ( الجعران ) ؟ أم كان و الإنسان يعبد الملوك و يجعل لهم معابد ؟ أم كان و الإنسان يعبد الرسل ؟ فيقول النصارى : المسيح ربنا ، و يقول اليهود : عزير ربنا ؟ أم كان و الإنسان يعبد أحجارا ينحتها بيده ؟ . فبعيشك أيها المنصف ، أي مجتمع قبل الإسلام كان يمثل مدينة كاملة فاضلة يتعاون أهلها على الخير الحقيقي ؟ فإن كان الإنسان مضطرا إلى التعاون الذي يوجب الاجتماع ، فإن ذلك ليس خصوصية لهم ، فإن كثيرا من أنواع الحيوانات تتعاون على جلب ما ينفعها و دفع ما يضرها ، و كفى بالإنسان تعسا - و هو ابن الإنسان الذي أسجد الله له ملائكته و خلق له كل ما في السماوات و ما في الأرض جميعا منه و خلقه لعبادته سبحانه - أن يكون اجتماعه كاجتماع النمل أو النحل أو الطيور أو الأنعام السائمة .
طهارة الحس و النفس في المجتمع الفاضل :
معلوم أن الإنسان الذي هو إنسان مكون من قوتين : قوة النفس و قوة الجسم ، و لا أعني بالنفس النفس الحيوانية التي هي الدم ، إنما أعني بالنفس القوة الناطقة المدركة المفكرة المدبرة المبينة في كتاب ( معارج المقربين ) و كتاب ( النور المبين ) التي سبق الكلام عليها . فهو من جهة جسمه حيوان متنجس بكل نجاسات الحيوان : من الظلم و الحرص و الإباحة و الحمق و الجهالة ، فإذا أعانته النفس الناطقة على تلك النجاسات ، كان شرا من الشيطان الرجيم ، و لا بد له من إزالة تلك النجاسات ، و لعلك يا أخي تتعجب من هذا ، فلا تعجب ، فاني سأبين لك في هذا الموضوع بمثل ظاهر أنواع تلك النجاسات ، التي هي في الإنسان ، و لا يمكن زوال تلك النجاسات بالعقل فقط ، فإن تلك النجاسات لها سلطان على العقل ، فتجعله عونا لها ، و لا يمكن أيضا أن تزول كل تلك النجاسات بالعمل بكل الكتب السماوية السابقة ، لأن كل كتاب سماوي أنزله الله لشفاء مرض من الأمراض الإنسانية ، و إزالة نوع من أنواع النجاسات بحسب مقتضى كل زمان ، حتى بعث الله خاتم الرسل عليه صلوات الله و سلامه و أنزل عليه الكتاب الذي هو شفاء من كل الأمراض الإنسانية و طهارة من كل النجاسات الآدمية ، فمن لم يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن إنسانا بالمعنى ، و إنما تكون صورته صورة إنسان ، و حقيقته حيوان ، و سيتمنى يوم القيامة أن يكون ترابا .
هنا يحسن أن أمثل لك النجاسات النفسانية بالنجاسات الجسمانية ، التي هي في فطرة الإنسان ، و أبين لك أنه لا بد من إزالتها ، و إلا كان الإنسان أقل من الحيوان :
من البديهي أن في الإنسان أمراضا و نجاسات لا يمكن إزالتها إلا بوصايا الإسلام ، كما أن في بدن الإنسان عوارض و أمورا موجودة عند الولادة ، أو توجد حالا فحالا بحكم يقتضي ذلك ، و هي تعد نجاسات لا بد من إماطتها كلها أو إماطة فضولاتها ، و ذلك كالسلى (1) الذي يكون فيه الولد ، و السرة و القلفة و العقيقة الموجودة في الصبي في الولادة ، و كالأظفار و شعر العانة و شعر الإبط .
(1) هو ما يكون حول الطفل عند ولادته .
كذلك في نفس الإنسان عوارض هي نجاسات و أمراض نفسانية يلزم إماطتها ، كالجهل و الشره و العجلة و الشح و الظلم ، و قد أثبت القرآن تلك النجاسات ، و أمر الله بإماطتها و إماطة فضلاتها بقوله تعالى ) خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ ( سورة الأنبياء آية (37) ، فذكر أنه مخلوق منه كما ترى ، ثم أمره أن ينحيه عن نفسه و أن لا يستعين به فقال تعالى ) سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ ( سورة الأنبياء آية (37) ، و قال تعالى )وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًاجَهُولًا ( سورة الأحزاب آية (72) ، ثم أمره بالعلم و العدل في غير موضع من كتابه سبحانه بقوله تعالى ) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَايَعْقِلُهَاإِلَّاالْعَالِمُونَ ( سورة العنكبوت آية (43) ، و قوله تعالى ) إِنَّاللّهَ يَأْمُرُبِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِيالْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَ الْمُنكَرِوَ الْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( سورة النحل آية (90) ، و قوله تعالى ) وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ ( سورة النساء آية (128) ، ثم قال ) وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( سورة التغابن آية (16) ، فأمره بإتقاء الشح مع إحضاره إياه ، و قوله تعالى ) إِنَّالْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَامَسَّهُ الشَّرُّجَزُوعًا وَإِذَامَسَّهُ الْخَيْرُمَنُوعًا( سورة المعارج آيات (19-21) ، فوصفه بالكفور و القتور في قوله تعالى ) وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا (سورة الإسراء آية (67) و قوله سبحانه ) قُل لَّوْأَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّيلاإِذًالَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإنسَانُ قَتُورًا( سورة الإسراء آية (100) ، فأدخل عليه ( كان ) تنبيها على أن ذلك فيه غريزي موجود من أول نشأته ، و ليس بطاريء عليه ، و قوله تعالى ) وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَشَيْءٍ جَدَلًا ( سورة الكهف آية (54) فنهى عن أكثر الجدال .
فالإنسان يحتاج أن يستعمل هذه القوى في الدنيا بالحالة المناسبة ، حتى يحفظ رتبة الوسط بين عالم الملائكة و الحيوانات و الشياطين ، مع طهارة نفسه مما يزيد على الحالة الوسطى منها ، فإنه إن لم يتطهر من النجاسة بمجاهدة نفسه ، لم يجد سبيلا إلى نعيم الآخرة ، بل و لا إلى طيب الحياة الدنيا ، و ذلك أن من تطهر تجلى عن قلبه الغشاوة ، فيعلم الحق حقا ، و الباطل باطلا ، فلا يشغله إلا ما يعنيه ، و لا يتناول إلا ما يعينه ، فيحيا حياة طيبة كما قال تعالى ) فَلَنُحْيِيَنَّهُحَيَاةًطَيِّبَةً ( سورة النحل آية (97) ، فلا تصير ذخائره في الدنيا وبالا عليه و عذابا كما قال الله تعالى ) فَلاَتُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَايُرِيدُاللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَافِي الْحَيَاةِالدُّنْيَاوَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ( سورة التوبة آية (55) ، و يصير قلبه - إذا تطهر - مقر السكينة و الأرواح الطيبة ، كما وصف الله تعالى المؤمنين بقوله ) هُوَالَّذِيأَ نزَلَ ا لسَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُواإِيمَانًامَّعَ إِيمَانِهِمْ( سورة الفتح آية (4) ، و عرف الطريق التي بها التوصل إلى جنة المأوى ، و مصاحبة الملأ الأعلى ) فِي مَقْعَدِصِدْقٍ عِندَمَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ ( سورة القمر آية (55) ، فيسارع في الخيرات و يسابق إلى مغفرة من ربه .و متى بقيت نجاسته و تزايدت ، صار قلبه قرارة شبه و آثام
و قد يقع للإنسان شبهة في أمر هذه النجاسات فيقول : أترى أن ذلك من عند غير الله ؟ فإن كان من عند غيره فمن أين وجد ؟ و إن كان منه فما المعنى في أن أوجده في الإنسان ثم أمره بأن يزيله ؟ فيقال : ما من شيء أوجده الله أو أمكن أن يوجده إلا و فيه منفعة و حكمة - و إن لم يعرف الإنسان ذلك - لكن من الأشياء ما نفعه في وقت مخصوص على قدر مخصوص ، ثم إذا استغنى عنه أو زاد على قدر ما يحتاج إليه ، يجب أن يزال و ذلك ظاهر . إذ من المعلوم السلى و السرة يحتاج إليهما لصيانة الولد في وقت ، ثم يستغنى عنهما ، فيكون إبقاؤهما يعد نجاسة ، و إذا زاد يجب إماطتهما ، فتلك النجاسات و الأمراض الفطرية في نفس الإنسان التي هي كالأعضاء الزائدة فيه المتقدم ذكرها ، لا يمكن شفاؤه منها ، و إزالتها منه ، إلا بإتباع وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، و بالعمل بأحكام الإسلام قهرا ، و إلا فإن الاجتماعات - و إن حصلت - لا تكون فاضلة ، و لا يتكون منها مدينة كاملة بمعناها ، و الأمر جلي لمن وضحت له حقيقة المدينة المنورة ، و له أن يأتينا بمثلها و لو خيالا قبل الإسلام ، و ليبرهن على وجودها بعد أن ترك المسلمون العمل ببعض أحكام الإسلام ، هي في الحقيقة لا توجد و لو تخيلا ، اللهم إلا أن تكون مجتمعات ضالة أو فاسقة ، أو مبدلة .
و سأشرح لك أيها المطالع المستبصر - أيدك الله و وفقك للعمل بشرائع الإسلام - حقيقة تلك المدن ، و بعد فهمك تلك الحقائق يمكنك أن تحكم على المدن التي ليست إسلامية بأحكام تناسبها .
كل مجتمع لا بد و أن تكون له فضائل و محاسن و كمالات يتعاون على نيلها ، فالمجتمع الفاضل كمالاته و خيره و فضائله حقيقة ، يتعاون رئيس المجتمع ، هو و كل واحد من أفراده ، على نيل تلك الكمالات ، و تحصيل هذه السعادات . أما المجتمعات الأخرى – التي ليست إسلامية - فقد انمسخت فيها تلك المعاني و رانت الغايات و الأغراض الدنيئة و الآراء الفاسدة على قوة الفكر و لطائف القلب و نور العقل ، حتى صارت القبائح محاسن ، و الرذائل فضائل ، و النقائص كمالات ، و لعن الله الطمع ، و أبعد الله الأمل الفاسد .
المجتمع الفاضل رئيسه صورة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ممدة بروح الإلهام الرحماني ، ينبعث منه هذا النور على أقرب العاملين به ، فيمدنا منه بنور الرحمة و حب العدالة و حقيقة الفقه و جمال الكرم ، و الرغبة الحقيقية في نيل النعيم الأبدي و حسن الأحدوثة في الآخرين ، و الخشية الحقيقية من القهار المنتقم الجبار ، و هكذا تنبعث تلك الأنوار من كل عامل إلى من هم دونه ، حتى تسري تلك الروح في أحقر عامل و أسفل طبقة من أفراد المجتمع .
المدينة المنورة
لما كان لفظ مدينة كناية عن المجتمع الإنساني المتضامن المرتبطة أفراده ارتباطا تاما ، الساعي كل فرد منه في طلب الخير الحقيقي للجميع ، و دفع الشرور الحقيقية عن الجميع ،حتى يمثل عائلة واحدة أو جسدا واحدا ، بشرط أن يكون سعي المجتمع لنيل الخير لكل فرد ، و سعي كل فرد لنيل الخير للمجتمع ، سواء كان هذا المجتمع الأصغر أو الأوسط ، فان العقل لا يمنع من نيل هذا الكمال لكل أفراد الإنسان على وجه المعمورة ، و إن منعه الشرع ، و متى توفرت تلك الشروط كان المجتمع المتصف بتلك الصفات هو المجتمع الفاضل ، و لا يمكن أن يتكون هذا المجتمع بمعناه الحقيقي إلا بالإسلام ، و ذلك لأن الخير الحقيقي من حيث هو خير لذاته ، لا يمكن للعقل الإنساني أن يدركه ، لغلبة الشهوة و تسلط الحمية ، و حبس نور الفكر في سجن الحظوظ و الأهواء ، و تلك القوى الثلاثة التي هي : الشهوة و الحمية و الفكر ، هي القوى التي بها نيل الفضائل الإنسانية و الكمالات الروحانية إذا تزكت و تطهرت ، فإن لم تطهر من لقسها و تتزكى من نجاستها كان الإنسان بشهوته أدنى من البهيم الأعجم ، و بحميته أضر من ضواري الوحوش ، و بفكرته أشر من إبليس اللعين .
و لم ينزل الله تعالى كتابا على رسول من الرسل قبل القرآن الشريف جامعا لما به نيل الكمال الحقيقي ، و شفاء الأنفس من أمراضها ، و تجملها بأجمل أوصافها ، و كبح جماح الشهوة و إطفاء نار الحمية ، و تصفية الفكر من درن الحظوظ و الأهواء ، و قاذورات الأطماع و الميول المهلكة ، لأننا بتصفحنا التوراة و الإنجيل نتحقق أن التوراة بينت لنا أسفار الرسل السابقين و ما تحملوه من الصعوبات في محو الشرك ، و إزالة العقائد الباطلة ، و حذرت من ارتكاب بعض الكبائر بغير بيان الحكمة العمرانية ، و لا شرح لتدبير الفرد و لا تدبير المجتمع المنزلي ، فضلا عن بيان سياسة المجتمع الديني ، و لم توضح حكم تلك الأحكام من جهة علوم النفس لتنكشف أسرار الأخلاق الفاضلة ، و تحصل حقيقة الرحمة في القلوب ، و يرى الإنسان بالعين التي يرى بها نفسه في كل أموره ، فكانت التوراة يفهم منها الحكيم أن الله تعالى ينزل بعدها كتابا يبين مبهمها ، و يفصل مجملها ، و يكشف أسرار حكمها ، و يزيد عليها ما لا بد منه ، مما ينال به الإنسان كماله النفساني و الجسماني ، حتى يكون إنسانا بمعناه ، خليفة الرب و صورته ، كما أخبرت التوراة . و هذا الكتاب هو القرآن الذي به بلوغ الإنسان كماله المدني في الدنيا ، و الجسماني الروحاني في الآخرة ، حتى يكون خليفة للرب سبحانه في الدنيا ، و في مقعد صدق عند مليك مقتدر في الآخرة ، و لو لم تكن فيها البشائر بهذا الكتاب ، و بمن أنزل عليه لحكم القاريء لها أنها تبشر به ، و لولا أن الأمر بديهي لسردت مثلا كثيرة من سفر التالوت بالتوراة ، و أمثلة على الأصول التي أتت بها الرسل عليهم الصلاة و السلام قبل سيدنا محمد و مولانا صلى الله عليه وسلم .
هذا الإنجيل من تصفحه تراه كتابا يتضمن رواية حوادث مبهمة ، تتضمن تاريخ رجل حصل على يده عجائب و غرائب مدهشة للعقول ، و كل ما جاء فيه من الدعوة مؤسس على ترك العمل مطلقا في تلك الدار الدنيا ، حتى ترك السعي في نيل ما لا بد منه ، و ترك معاملة الناس مطلقا ، حتى لو أنهم ضربوا الإنسان يلزمه أن يعينه على ضربه ، حتى أمر بترك ما في اليد من المال ، و تلك الرواية و إن صحت بطرقها المعتبرة عقلا و تاريخا ، فإنا نسلم ما ورد فيها مما لا يحارب العقل و لا يخالف الشرع الذي شرعه الله للناس على ألسنة رسله عليهم الصلاة و السلام ، فلم يرد في الإنجيل إلا الوصايا بأخلاق تكاد أن تكون طرفا لا وسطا ، و لم يتضمن أساسا من أساسات العمران ، و لا أصلا من أصول النظامات المدنية ، و لا ناموسا من نواميس المنازعات التي تحصل بين الناس بالضرورة ، للزوم التبادل في المنفعة ، و المنافسات في اللوازم .
فكأننا لو جمعنا التوراة و الإنجيل ، و حكمنا أنهما الكتابان اللذان لا بد للمجتمع الإنساني من العمل بهما ، لأختل نظام المجتمع ، و انمحت الحضارة و المدنية ، و تقهقر المجتمع الإنساني إلى حالة البداوة الأولى ، و لكنك أيها الحكيم المستبصر إذا قرأت القرآن و بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم له بالعمل و القول ، لعلمت حق العلم أنه خاتم الكتب ، و لتحققت أن كل مجتمع قبله لم يكن فاضلا بالمعنى ، و أن كل مجتمع على غير تعاليمه و وصاياه مجتمع جاهلي ، و هنا أبين لك الفضائل التي نالها المجتمع بالقرآن ، و الكمال الذي رقى إليه بإتباعه القرآن ، و السعادة الحقيقية التي فاز بها بالقرآن .
المجتمع الإسلامي الفاضل :
لم يكن المجتمع الإسلامي متكونا بالاتفاق ، و لم تتركب أعضاؤه من رجال نبغوا على أيدي حكماء فلاسفة ، و تلك قضية بديهية حجتها التواتر . و لكن القرآن الشريف بين بالتفصيل تدبير القوى الإنسانية ، من أول سقوط رأس الإنسان من رحم أمه ، بصريح العبارة ، أو بعمله صلى الله عليه وسلم ، فنبه على ما يلزم العمل به في تقويم كل قوة تكون في الإنسان ، فإن أول قوة تولد مع الإنسان الميل إلى الغذاء ، فسن السنن اللازمة لتدبير تلك القوة ، بالحالة التي يكون بها حفظ الصحة على الإنسان ، و تقوية جميع أعضائه الرئيسية ، ثم تتولد في الإنسان بعد تلك القوى قوة الغضب ، فشرح اللازم لها من تدبيرها و تقويمها ، ثم قوة الكرامة ، فأيقـظ القلوب إلى مراعاتها و حفظها على الطفل و تدبيرها ، حتى تكون معراجا له إلى نيل الكمال الإنساني ، و الجمالات التي يكون بها المسلم كاملا في إيمانه بالترفع عن الدنايا ، و البعد عن سفاسف الأمور ، سر قوله صلى الله عليه وسلم( إن الله يحب معالي الأمور و يكره سفسافها ) في الطبراني الكبير عن الحسن بن علي ، و قوله صلى الله عليه وسلم ( علو الهمة من الإيمان ) و قوله سبحانه و تعالى ) وَلِلَّهِ الْعِـزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ( سورة المنافقون آية (8) ، ثم تنشأ بعد ذلك قوة الشوق إلى المعارف ، و بالرغبة في معرفة ما يحيط به ، و علم خواصه .
و قد بين القرآن الكريم فضل العالم و أثنى عليه ، و شنع على الجاهل ، و حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على التعلم و فرض علينا العلم ، و جعل أول واجب علينا معرفة الله تعالى ، و العلم و الرغبة فيه - و بين للوالدين أن يعتـنيا بتلك القوة في الولد - و معرفة آياته ، و الفرق بين الملك و الرسول و النبي و الولي ، و العقوبة ، و فهم مكارم الأخلاق و ما تنتجه ، و كشف الوسائل التي بها تطيب الحياة الدنيا و تسعد الحياة الآخرة ، كل ذلك بمثل تناسب قوة الشوق في الولد . ثم تنشأ قوة الأثرة ، فبين الطرق التي تـنمي تلك القوة ، و تجعلها عاملة في الاستئثار بالكمالات النفسانية ، و المعارف و الصناعات المفيدة ، التي بها يكون الولد عاملا للنفع العام ، راضيا بما لا بد منه من الضروريات الحيوانية ، سر قوله سبحانه و تعالى ) وَيُؤْثِرُونَ عَلَىأَنفُسِهِمْ وَلَوْكَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ( سورة الحشر آية (9) .
ربىﱠ رسول الله صلى الله عليه وسلمعلى تلك المباديء الشريفة ، سيدنا عليا بن أبي طالب كرم الله وجهه ، و زيد بن حارثة ، و عبد الله بن عمر ، و عبد الله بن عمرو ، و عبد اله بن عباس ، و سيدنا و مولانا الحسن و الحسين ، بعد تربية السيدة الزهراء عليها السلام ، و غيرهم ممن ولدوا في عصر الرسالة . و كل صحابي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - و إن كان من سن الخمسين من عمره - فإنه ولد ولادة جديدة ، و تربى تربية قرآنية ، هذا مجمل ما ورد في تربية الطفل التربية الإسلامية .
ثم بين القرآن الشريف تربية المجتمع المنزلي ، فجعل لكل فرد من أفراد العائلة حقوقا واجبة له ، و حقوقا واجبة عليه ، و قد بين ذلك في أكثر سور القرآن ، فلم تخل من الأوامر بالإحسان إلى الوالدين ، و الصلة للأرحام و أبناء القرابة حتى صار المجتمع المنزلي كجسد واحد ، يعمل كل عضو لمجموع ، و قد شرحت جملا من تدبير الفرد و تدبير المنزل في كتاب ( النور المبين ) و كتاب ( معارج المقربين ) .
الفرد المسلم كالمجتمع :
و على هذا النمط من تزكية النفس و تدبير الجسم تكـﹷون المجتمع الإسلامي ، فأصبح الفرد الواحد من المسلمين كالمجتمع بالنسبة لما وجب عليه أن يقوم به لنفسه و لغيره ، من نيل الخير الحقيقي ، و دفع الشرور ، فترى المسلم حقيقة حكيما عالما بعلوم النفس و أمراضها ، و بالأدوية التي تعيد لها صحتها ، و التدابير التي تحفظها عليها ، و المجاهدات التي تزيد تلك الصحة ، مداويا لغيره بعلمه و عمله ، و حالته و معاملته ، طبيبا جسمانيا ، عالما بأعضاء البدن الظاهرة و الباطنة ، و خواصها و ارتباطها ببعضها ، لأن القرآن كلفه أن ينظر في نفسه و في الآفاق ، و أن يبحث بفكره حتى يعلم خواص ما في نفسه و ما في السماوات و الأرض .
و أكثر آيات القرآن المجيد توجب على المسلم تحصيل العلوم التي تجعله مشاهدا لآيات الله ، عالما بغرائب تصريف قدرته سبحانه ، و عجيب حكمته في إبداع كل شيء ، و تمييز كل نوع من المخلوقات بخواص لا يشاركه فيها غيره ، فهو بمقتضى الواجب عليه يعلم أسباب الأمراض ، و يعلم ما يدفعها من حمية و استعمال مهيئات الشفاء ، و الشافي هو الله ، و تراه فقيها عالما بأصول الدين مكاشفا بمراد الحق في حكمة أحكامه ، الأمر الذي يجعله يحترز عن الشبهات ، و يستنبط الجزئيات عند مقتضى ذلك بالمعاملات من الكليات ، تراه يقول الفصل فصلا ، و يحكم بالعدل و يبين حججه ، و ينصف المظلوم من الظالم بما أراه الله ، و ما منﱠ به عليه من النور في قلبه .
ترى المسلم يحسن سياسة المجتمع المدني على الوجه الذي يجعل المجتمع كجسد واحد ائتلافا و تعاونا ، حتى يكونوا متحابين بروح الله ( القرآن ) ، معتصمين بحبل الله ( القرآن ) ، مقتدين بنور الله ( رسول الله صلى الله عليه وسلم) . ترى المسلم قائدا حكيما عالما بفنون سياسة الجهاد ، مع الرحمة و الرأفة ، شجاعا كريما لا يهزم له جيش ، و لا يتجاوز الوسط : العدالة و العفة . ترى المسلم معلما إماما يقتدى به مبينا لأسرار الحكمة ، موضحا لغوامض المسائل ، عالما بطرق التعليم ، و مقدار كل نفس و ما يناسبها من العلم و الصناعة و الفنون . ترى المسلم أستاذا عظيما في كل الصناعات ، لأن القرآن المجيد أوجب عليه معرفة الآثار المحيطة به ، لا معرفة تحديد و كمية ، بل معرفة تجعله خليفة عن ربه ، ينتفع بما أودعه الله فيها من الخواص بالتركيب و التحليل و الخلط و المزج و التطهير ، و غير ذلك مما أوجبه الله على المسلم ، و جعل في العمل به رغد عيشه في الحياة الدنيا ، و مشاهدة قدرة ربه فيها ، و السعادة في الآخرة ، فما من صناعة من الصناعات ، أو فن من الفنون ، و لا علم من العلوم المتعلقة بتدبير النفس أو البدن أو بسياسة المجتمعات أو بخواص الكائنات ، إلا و قد بينها الله تعالى في القرآن إجمالا و تفصيلا ، و شرح ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا و عملا . ترى المسلم بكل تلك الفنون و الصناعات يميل إلى أشرف الصناعات و أرفعها ، و ينافس في أكملها و أسماها ، و من تتبع سيرة الصحابة و التابعين لهم بإحسان إلى أواخر الدولة العباسية ، يظهر له أن المسلم كان مع علمه بكل الفنون و الصناعات لا يرضى إلا بأشرفها ، فيشتغل بالصناعات الدنيئة لنفسه و أهله كالحياكة و الخياطة و الغزل و تنظيف الحجرات و تطهيرها ، و معاونة الخدم على ضروريات المنزل من حلب الشاة و خدمة نفسه و ترقيع الثياب و خصف النعال ، و غير ذلك تواضعا لله تعالى و تزكية لنفسه ، و كان أكثر من يعمل هذه الصناعات الدنيئة في المجتمع الإسلامي غير المسلمين . و لكن المسلم تراه بين كتبه أو على منصة القضاء ، أو على ظهر جواده ، مجاهدا في ذات الله ، إعلاء لكلمته سبحانه ، و محوا للظلم و الباطل ، و قطعا لجراثيم الفساد ، أو في وسط حلقة الدرس ، أو سائحا يجوب الفيافي و القـفار لاستكشاف مجهولات الأرض و النباتات و الأنهار و الجبال و المعادن ، أو على ناقته في جلب المتاجر لأخوته المؤمنين ، أو في وسط مزرعته لتربية النباتات ، أو على كرسي الإمارة أو الوزارة ، أو في معامل الصناعات ، يشحذ فكره لاختراع آلة نافعة للطب أو للصناعة أو الزراعة أو التجارة أو الجهاد ، أو في مجلس صلح ، أو ملبيا لصارخ ، حتى لا تكاد ترى مسلما إلا و يرى الخير عند أخيه كالخير عند نفسه ، و مساعدة أخيه مساعدة لنفسه ، و كل فرد منهم ينافس في أنفس الصناعات ، لا ليكون عظيما في تلك الدار الدنيا ، أو غنيا أو مشهورا ، أو مقربا من الأمراء و الوزراء ، أو ذا جاه استعمله في أغراضه السافلة ، بل ليكون عضوا عاملا في جسد المجتمع الإسلامي ، عاملا لكل الجسد ، كل ذلك عملا بما أوجبه عليه القرآن ، و إقتداء بعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، و ’ربﱠ جاهل بأسرار القرآن و السنة يقول : إني أبالغ في بيان تلك الحقيقة ، فأجيبه : الجهل ليس عذرا ، ليس بينك و بين أن تراني مقصرا في هذا الموضوع عاجزا عن وفائه و تلوم علي في تقصيري ، إلا أن تطالع تاريخ العرب قبل إشراق تلك الشمس العلية ، و ما كانوا عليه من الجاهلية و خبث النفوس و شظف العيش ، و دناءة الهمة ، حتى كان أكبرهم نفسا يرى أن نهب مال جاره هو الرزق الحلال ، و تـقـرأ تاريخهم بعد أن سطعت أنوار تلك الشمس ، كيف أبدلهم الله تعالى فصاروا ملائكة روحانيين حكماء ، أمناء علماء حلماء ، أخضعوا الأمم و ساسوهم ، و محوا الظلم و الشرك ، و نشروا الفنون و الصناعات ، حتى سرت تلك الأنوار القدسية فعمت المعمورة ، إما بنور الهداية و التوحيد و الإسلام لله رب العالمين ، أو بالعدالة و الرحمة و محو الظلم .
هذا هو المسلم ، و تلك أعماله و أحواله ، و كان المجتمع الإسلامي جسما صحيحا مستقيما تام الأعضاء متـناسبها ، في عنفوان الشبيبة ، كل فرد منه متجمل بتلك الشمائل ، عامل بما أوجبه عليه الإسلام .
شروق أنوار الإسلام على أيدي أئمة الهدى :
ظهرت تلك الفضائل و الكمالات بطريقة أدهشت عقول المفكرين ، و حيرت ألباب كبار المستعمرين ، حتى تحقق حكماء بني الإنسان أن إشراق تلك الأنوار الكاملة و ظهور تلك الفضائل الحقيقية و انتشارها على المجتمع الإنساني بأسرع من انتشار ضوء الشمس على الأفق ، ليس من قدرة بني الإنسان ، و إنما هو من تصريف قدرة القادر الحكيم ، الذي أنزله على نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم) لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنيَنصُرُهُوَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّاللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ( سورة الحديد آية (25) ، و إلا فما هي العدة ؟ و أين هي العدد ؟ و كلهم كانوا لا يتجاوزون عدد الأصابع ألفا ، لم يقف بهم العزم عند حد حتى ملكوا شواطيء بحر المانش بأوروبا ، و مياه الباسفيكي بالصين و الهند و جبال القوقاز ، حتى أصبح معظم رؤوس القارات مسمى بأسمائهم ، مثل بوغاز جبل طارق ، و رأس الرجاء الصالح ( رأس الرجل الصالح ) و غيرهما ، و لم يفتحوا تلك القارات من همج كسكاني أمريكا و شمال أوروبا في عصرهم ؟ أو متوحشين كسكاني أواسط أفريقيا و استراليا ، و لكن محوا ظلم ملوك جبابرة طغاة ، حصنوا ملكهم بالعـﹷدد و العـﹻدد ، و سادوه على الجبروت و القهر ، و أحاطوه بآراء المفكرين من نوابغ مهرة السياسيين ، حتى كانت العقول لا تتصور أن يـزول هذا الملك ، و لا أن يتغير هذا الحال ، إلا باختلال المجموعة الشمسية ، فلم يكن إلا عشـية أو ضحاها ، حتى صار الإنسان أخا للإنسان ، و انهارت عروش الجبابرة الطغاة ، و اندكت دعائم صرح المدن الجاهلية الضالة و المبدلة ، و أشرقت أنوار المساواة و الحرية و العدالة و المدينة الفاضلة ، بشروق أشعة أنوار الإسلام على أيدي أئمة الهدى الأناسي صورة ، الملائكة حقيقة ، قاموا و القرآن إمامهم ، و ما شهدوه من أعمال النبي صلى الله عليه وسلمقائدهم ، حتى ملأوا الأرض عدلا و نورا ، بعد أن كانت ممتلئة ظلما و جورا ، و هم هم الذين لم تكن لهم في المدينة قدم ، و لا بالحضارة معرفة ، و ليس عهدهم بالبداوة ببعيد ، لم تكن عددهم إلا نفوسا أشفقت على المجتمع الإنساني من غضب الله و مقته ، و قلوبا ملئت رحمة على بني جنسهم و إخوانهم في الإنسانية فقاموا لخلاصهم بإخلاص ، و الله معهم لأنهم سارعوا في مرضاته سبحانه ، و بذلوا نفوسهم في إعلاء كلمته جل جلاله ، فهم هم الذين خلصوا بني الإنسان في الحقيقة و نفس الأمر من خطايا الشرك ، و كبائر توهم أن الإله يحل في عبد ، و رذائل الأخلاق الوحشية ، و سوء الصفات الإبليسية ، حتى صار من دخل الإسلام أشبه بالملائكة ، و من استظل بظلهم من أهل الذمة متمتعين بلذة الحياة الإنسانية ، لأن الأعمال بنتائجها ، لا ما يدعيه المدعون أنهم نصارى من أن المسيح خلصهم ، لا و الله ، و لكنهم أوقعوا أنفسهم في أشر مما كانوا عليه قبله عليه السلام ، و الأمر جلي لذي عقل يعقل .
لم يفتحوا تلك الفتوحات بخدع السياسة ، و لا بخبث المقاصد و السعي بتفرقة الجماعة ، و إغراء أفراد الأمة على بعضهم ، و انتشار المفاسد في المجتمعات بعثة رجال الفساد ، و نساء الفساد ، تارة بفساد أخلاق المجتمع بفعل الفواحش من انتشار الخمر و الزنا بينهم ، و آونة بفتح بيوت ظاهرها للتعليم و باطنها هواية الفضائل الإسلامية ، و التضامن الإسلامي و العوائد الحسنة القومية ، و قصم عـرى الإخاء ، و فتح أبواب الشكوك و الريـب ، و تقبيح المحاسن أمام النشء ، و هم في دار التعليم ، حتى يينتـقش في قلب التلميذ بغض أهله و عوائدهم ، و يتشبع قلبه بحب العوائد الخبيثة ، فينشأ على بغض دينه ، و يكون آلة صماء في أيدي الذين لا يريدون الخير لبني الإنسان - خصوصا للمسلمين - كما يفعل أعداء الإنسانية و وحوش هذا الزمن ، و تنزه الإسلام و المسلمون عن تلك الوحـشية ، و عن الخبائث الإبليسية .
و دام هذا المجد للمسلمين حتى مازج نور الإيمان في القلوب ظلمات الأهواء و الحظوظ ، و خالط الإخلاص لوجه الله درن الأمل و العلو في الأرض بغير الحق ، حجـب جمال الدار الآخرة عن العقول زهرة تلك الفانية ، فانقسمت عرى العصبة الديـنية ، و انحلت عقدة الثقة بالله ، فاستبدلوا الإخلاص لذات الله بالإخلاص لأنفسهم ، و الصدق في معاملة الله بالصدق في نيل أغراضهم ، و جعلوا كتاب الله وراء ظهورهم ، و سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم نسيا منسيا ، فجعل الله بأسهم بينهم شديدا ، و سلط بعضهم على بعض ، و مكن العدو منهم سر قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي ( إذا عصاني من عرفني سلطت عليه من لم يعرفني ) (1).
(1) و مصداق قوله صلى الله عليه وسلم ( يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة على قصعتها، قلنا : يا رسول الله أمن قلة بنا يومئذ ؟ قال : أنتم يومئذ كثير و لكنكم غثاء كغثاء السيل ، تنزع المهابة من قلوب عدوكم و يجعل في قلوبكم الوهن ، قالوا : و ما الوهن ؟ قال : حب الحياة و كراهة الموت ) . رواه أحمد في مسنده .
فأصبح المسلمون و هم كثيرو العدد ، و أقوياء الأبدان على أرض من الكنوز خصبة و جو صاف معتدل ، أذلاء لمن لم يكن لهم مدينة تذكر و لا عمل يشكر ، و لم يرسل منهم نبي ، و لم يظهر فيهم ولي ، بل كانوا هم و زنوج أفريقيا و أمريكا سواء ، هؤلاء في المنطقة الملتهبة و هم في المنطقة الثلجية ، سوط نقمة من المنتقم و عاجل عقوبة من القهار ، حتى أصبح من يدعي الإسلام يجهل ما علمه أعداء الإسلام من فضائله ، فهم يبحثون عن فضائل الإسلام لينهجوا على نهجه ، و المدعون للإسلام بألسنتهم يرون أن ما كان عليه أئـمة الهدى ليس شيئا في جانب ما عليه من سلطهم الله عليهم للنقمة ، و كفي بذلك عمي عن الشمس المشرقة ضحوة ، و من لم يرى الشمس ضحوة في جو صاف لا يلام إذا جحد القـمر و النجوم .
الفضائل العمرانية بالإسلام :
المدينة مدينة الإسلام و الحضارة حضارة الإسلام ، و الفضائل فضائل الإسلام ، و المجتمع الفاضل مجتمع الإسلام . أقول ذلك و أعلم أن المفتون بحظه و شهوته ، السابح في نهر بهيميته ، و المسترسل في غلوائه ، قد زينت له نفسه الخبيثة خبائث الأعمال و رذائل الأخلاق ، فحكم بضلاله و أفتى بجهالته أنه في عصر مدينة و فضائل ، حتى بلغت به الجهالة و العمى عن معرفة نفسه و تدبيرها منفردة و مجتمعة إلى درجة صار يضرب بها المثل في الرقي فـيقول : نحن أبناء القرن العشرين ، قد يجهل ما أقول ، بل ينكره علي ، و أنا و الحمد لله لا أخاطب حيوانا يرتع في غيضته ، يجهل ما له و ما عليه ، و إنما أكتب لإنسان بمعناه .
و لما كان هذا المجد الحقيقي ، و العز و الخير الحقيقيان لا تنال إلا بإعداد العدد و العدة للقيام بنيل هذه السعادة المنشودة ، و لا تحصل السعادة إلا بالتعاون ، و لا تعاون إلا بالمجتمع ، و لا يتكون مجتمع فاضل إلا إذا علم أفراده الخير الحقيقي و اتحدوا على طلبه ، و لا اتحاد إلا بتعصب حقيقي ، لذلك أحببت أن أتكلم عن التعصب .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم( المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ) ، ليس كل مجتمع من المجتمعات مدينة بالمعنى الذي يكون به الاجتماع و التعاون إلى نيل الخيرات ، فإن أكبر المجتمعات - من حيث هي مجتمعات - قد تدفعها الغايات إلى أن تكون قرارة شرور ، و مهاوي مفاسد ، و مدارج للهلاك ، و إنما المجتمعات التي تعتبر في نظر الحكماء أنها مدينة بالمعنى الصحيح هي المجتمعات التي يتعاون كل واحد منهم على نيل الخير الحقيقي للجميع ، و لما كان الخير الحقيقي الذي بنيله يفوز الإنسان بالسعادتين - السعادة الحسية و السعادة الروحانية - و لا ينال هذا الخير الحقيقي إلا بمجتمع يتعاونون جميعا على نيله .
و من ظن أن مطلق اجتماع بني الإنسان في الأرض يكون مجتمعا يتعاون أهله على نيل الخيرات الحقيقية ، فقد أخطأ ، لأن للنمل مدنا منظمة بها رؤساء و قواد و صناع و فعلة ، و كذلك للنحل مدن بها سلطان و وزراء و جيوش و صناع و فعلة ، و كذلك للطيور مدن منظمة كأنها تسير على قوانين مرسومة ، و للقردة و غيرها من الأنواع التي تتعاون على دفع ما يضرها و جلب ما ينفعها بوجه ما ، فإن فرضنا أن كل مجتمع من بني الإنسان يدفع الضرر عن نفسه و يجلب النافع لنفسه يكون مدينة فاضلة ، فذلك ما لا يقول به إنسان ، لأن تلك المجتمعات هي أشبه بمجتمعات الحيوانات ، إلا أنها أرقى منها من حيث أن الإنسان يمكنه أن يتفنن في آلات الدفاع عن نفسه ، و يحتال في جلب النافع لها أكثر من الحيوانات الأخرى . و هو بهذا المعنى لم يكن إنسانا حقيقة ، و لكنه حيوان امتاز عن بقية أنواع الحيوانات الأخرى بقوى لا بد له منها .
إذا تقرر ذلك ، يظهر أن مراد العلماء بالمدينة - في حقيقة الأمر - هي مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم في عصره ، لأن المجتمع الذي كان يتعاون حقيقة فيها كان على نيل الخير الحقيقي لكل أفراد بني الإنسان ، و محو الشر مطلقا عن كل أفراد بني الإنسان ، و لذلك فان لفظ المدينة المنورة كان علما عليها . و هكذا كل مجتمع في أرض اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدر استطاعته فهم من أهل المدينة المنورة ، و غيرهم ليس من بني الإنسان و إن كان على صورته ، حتى و لو كان لهم اجتماعات و قوة و منعة و صناعات و فنون ، فإنهم إنما يمثلون مدينة النمل ، أو مدينة النحل ، أو مدينة الطيور ، أو يمثلون غابة جمعت وحوشا مفترسة و غير مفترسة ، و ذلك لأنهم لم يتعاونوا على نيل الخير الحقيقي الذي هو خير في الحقيقة للإنسان من وجوهه الفاضلة ، بل تعاونوا على نيل ما هو خير للحيوان من غير وجوهه الفاضلة .
و لست مبالغا إن قلت : الإنسان لم يصر إنسانا حقيقة إلا بالإسلام ، يعني أن الإنسان لم يفهم مرتبته من الوجود - فهماﹰيجعله يعتقد أن كل ما في السماوات و الأرض خلق لأجل الإنسان و أن الإنسان خلق الله - إلا بالإسلام ، حتى بلغ بالمسلم من معرفته بقدر نفسه ، و فهمه منزلته من الوجود بما بين له رسول الله صلى الله عليه وسلم من كتاب الله تعالى ، أن بعض الصحابة كان إذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلمأمرا يتعلق بالجهاد ، أو بأمور لمصلحة خاصة يقول : أرأي يا رسول الله أم وحي ؟ فإن كان الرأي فعندي كذا و كذا ، و إن كان الوحي فسمعا و طاعة .
أين كان هذا النور و العلم قبل الإسلام ؟ أكان و الإنسان يعبد العجل ؟ أم كان و الإنسان يعبد الشمس و الجعل ( الجعران ) ؟ أم كان و الإنسان يعبد الملوك و يجعل لهم معابد ؟ أم كان و الإنسان يعبد الرسل ؟ فيقول النصارى : المسيح ربنا ، و يقول اليهود : عزير ربنا ؟ أم كان و الإنسان يعبد أحجارا ينحتها بيده ؟ . فبعيشك أيها المنصف ، أي مجتمع قبل الإسلام كان يمثل مدينة كاملة فاضلة يتعاون أهلها على الخير الحقيقي ؟ فإن كان الإنسان مضطرا إلى التعاون الذي يوجب الاجتماع ، فإن ذلك ليس خصوصية لهم ، فإن كثيرا من أنواع الحيوانات تتعاون على جلب ما ينفعها و دفع ما يضرها ، و كفى بالإنسان تعسا - و هو ابن الإنسان الذي أسجد الله له ملائكته و خلق له كل ما في السماوات و ما في الأرض جميعا منه و خلقه لعبادته سبحانه - أن يكون اجتماعه كاجتماع النمل أو النحل أو الطيور أو الأنعام السائمة .
طهارة الحس و النفس في المجتمع الفاضل :
معلوم أن الإنسان الذي هو إنسان مكون من قوتين : قوة النفس و قوة الجسم ، و لا أعني بالنفس النفس الحيوانية التي هي الدم ، إنما أعني بالنفس القوة الناطقة المدركة المفكرة المدبرة المبينة في كتاب ( معارج المقربين ) و كتاب ( النور المبين ) التي سبق الكلام عليها . فهو من جهة جسمه حيوان متنجس بكل نجاسات الحيوان : من الظلم و الحرص و الإباحة و الحمق و الجهالة ، فإذا أعانته النفس الناطقة على تلك النجاسات ، كان شرا من الشيطان الرجيم ، و لا بد له من إزالة تلك النجاسات ، و لعلك يا أخي تتعجب من هذا ، فلا تعجب ، فاني سأبين لك في هذا الموضوع بمثل ظاهر أنواع تلك النجاسات ، التي هي في الإنسان ، و لا يمكن زوال تلك النجاسات بالعقل فقط ، فإن تلك النجاسات لها سلطان على العقل ، فتجعله عونا لها ، و لا يمكن أيضا أن تزول كل تلك النجاسات بالعمل بكل الكتب السماوية السابقة ، لأن كل كتاب سماوي أنزله الله لشفاء مرض من الأمراض الإنسانية ، و إزالة نوع من أنواع النجاسات بحسب مقتضى كل زمان ، حتى بعث الله خاتم الرسل عليه صلوات الله و سلامه و أنزل عليه الكتاب الذي هو شفاء من كل الأمراض الإنسانية و طهارة من كل النجاسات الآدمية ، فمن لم يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن إنسانا بالمعنى ، و إنما تكون صورته صورة إنسان ، و حقيقته حيوان ، و سيتمنى يوم القيامة أن يكون ترابا .
هنا يحسن أن أمثل لك النجاسات النفسانية بالنجاسات الجسمانية ، التي هي في فطرة الإنسان ، و أبين لك أنه لا بد من إزالتها ، و إلا كان الإنسان أقل من الحيوان :
من البديهي أن في الإنسان أمراضا و نجاسات لا يمكن إزالتها إلا بوصايا الإسلام ، كما أن في بدن الإنسان عوارض و أمورا موجودة عند الولادة ، أو توجد حالا فحالا بحكم يقتضي ذلك ، و هي تعد نجاسات لا بد من إماطتها كلها أو إماطة فضولاتها ، و ذلك كالسلى (1) الذي يكون فيه الولد ، و السرة و القلفة و العقيقة الموجودة في الصبي في الولادة ، و كالأظفار و شعر العانة و شعر الإبط .
(1) هو ما يكون حول الطفل عند ولادته .
كذلك في نفس الإنسان عوارض هي نجاسات و أمراض نفسانية يلزم إماطتها ، كالجهل و الشره و العجلة و الشح و الظلم ، و قد أثبت القرآن تلك النجاسات ، و أمر الله بإماطتها و إماطة فضلاتها بقوله تعالى ) خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ ( سورة الأنبياء آية (37) ، فذكر أنه مخلوق منه كما ترى ، ثم أمره أن ينحيه عن نفسه و أن لا يستعين به فقال تعالى ) سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ ( سورة الأنبياء آية (37) ، و قال تعالى )وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًاجَهُولًا ( سورة الأحزاب آية (72) ، ثم أمره بالعلم و العدل في غير موضع من كتابه سبحانه بقوله تعالى ) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَايَعْقِلُهَاإِلَّاالْعَالِمُونَ ( سورة العنكبوت آية (43) ، و قوله تعالى ) إِنَّاللّهَ يَأْمُرُبِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِيالْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَ الْمُنكَرِوَ الْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( سورة النحل آية (90) ، و قوله تعالى ) وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ ( سورة النساء آية (128) ، ثم قال ) وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( سورة التغابن آية (16) ، فأمره بإتقاء الشح مع إحضاره إياه ، و قوله تعالى ) إِنَّالْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَامَسَّهُ الشَّرُّجَزُوعًا وَإِذَامَسَّهُ الْخَيْرُمَنُوعًا( سورة المعارج آيات (19-21) ، فوصفه بالكفور و القتور في قوله تعالى ) وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا (سورة الإسراء آية (67) و قوله سبحانه ) قُل لَّوْأَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّيلاإِذًالَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإنسَانُ قَتُورًا( سورة الإسراء آية (100) ، فأدخل عليه ( كان ) تنبيها على أن ذلك فيه غريزي موجود من أول نشأته ، و ليس بطاريء عليه ، و قوله تعالى ) وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَشَيْءٍ جَدَلًا ( سورة الكهف آية (54) فنهى عن أكثر الجدال .
فالإنسان يحتاج أن يستعمل هذه القوى في الدنيا بالحالة المناسبة ، حتى يحفظ رتبة الوسط بين عالم الملائكة و الحيوانات و الشياطين ، مع طهارة نفسه مما يزيد على الحالة الوسطى منها ، فإنه إن لم يتطهر من النجاسة بمجاهدة نفسه ، لم يجد سبيلا إلى نعيم الآخرة ، بل و لا إلى طيب الحياة الدنيا ، و ذلك أن من تطهر تجلى عن قلبه الغشاوة ، فيعلم الحق حقا ، و الباطل باطلا ، فلا يشغله إلا ما يعنيه ، و لا يتناول إلا ما يعينه ، فيحيا حياة طيبة كما قال تعالى ) فَلَنُحْيِيَنَّهُحَيَاةًطَيِّبَةً ( سورة النحل آية (97) ، فلا تصير ذخائره في الدنيا وبالا عليه و عذابا كما قال الله تعالى ) فَلاَتُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَايُرِيدُاللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَافِي الْحَيَاةِالدُّنْيَاوَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ( سورة التوبة آية (55) ، و يصير قلبه - إذا تطهر - مقر السكينة و الأرواح الطيبة ، كما وصف الله تعالى المؤمنين بقوله ) هُوَالَّذِيأَ نزَلَ ا لسَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُواإِيمَانًامَّعَ إِيمَانِهِمْ( سورة الفتح آية (4) ، و عرف الطريق التي بها التوصل إلى جنة المأوى ، و مصاحبة الملأ الأعلى ) فِي مَقْعَدِصِدْقٍ عِندَمَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ ( سورة القمر آية (55) ، فيسارع في الخيرات و يسابق إلى مغفرة من ربه .و متى بقيت نجاسته و تزايدت ، صار قلبه قرارة شبه و آثام
و قد يقع للإنسان شبهة في أمر هذه النجاسات فيقول : أترى أن ذلك من عند غير الله ؟ فإن كان من عند غيره فمن أين وجد ؟ و إن كان منه فما المعنى في أن أوجده في الإنسان ثم أمره بأن يزيله ؟ فيقال : ما من شيء أوجده الله أو أمكن أن يوجده إلا و فيه منفعة و حكمة - و إن لم يعرف الإنسان ذلك - لكن من الأشياء ما نفعه في وقت مخصوص على قدر مخصوص ، ثم إذا استغنى عنه أو زاد على قدر ما يحتاج إليه ، يجب أن يزال و ذلك ظاهر . إذ من المعلوم السلى و السرة يحتاج إليهما لصيانة الولد في وقت ، ثم يستغنى عنهما ، فيكون إبقاؤهما يعد نجاسة ، و إذا زاد يجب إماطتهما ، فتلك النجاسات و الأمراض الفطرية في نفس الإنسان التي هي كالأعضاء الزائدة فيه المتقدم ذكرها ، لا يمكن شفاؤه منها ، و إزالتها منه ، إلا بإتباع وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، و بالعمل بأحكام الإسلام قهرا ، و إلا فإن الاجتماعات - و إن حصلت - لا تكون فاضلة ، و لا يتكون منها مدينة كاملة بمعناها ، و الأمر جلي لمن وضحت له حقيقة المدينة المنورة ، و له أن يأتينا بمثلها و لو خيالا قبل الإسلام ، و ليبرهن على وجودها بعد أن ترك المسلمون العمل ببعض أحكام الإسلام ، هي في الحقيقة لا توجد و لو تخيلا ، اللهم إلا أن تكون مجتمعات ضالة أو فاسقة ، أو مبدلة .
و سأشرح لك أيها المطالع المستبصر - أيدك الله و وفقك للعمل بشرائع الإسلام - حقيقة تلك المدن ، و بعد فهمك تلك الحقائق يمكنك أن تحكم على المدن التي ليست إسلامية بأحكام تناسبها .
كل مجتمع لا بد و أن تكون له فضائل و محاسن و كمالات يتعاون على نيلها ، فالمجتمع الفاضل كمالاته و خيره و فضائله حقيقة ، يتعاون رئيس المجتمع ، هو و كل واحد من أفراده ، على نيل تلك الكمالات ، و تحصيل هذه السعادات . أما المجتمعات الأخرى – التي ليست إسلامية - فقد انمسخت فيها تلك المعاني و رانت الغايات و الأغراض الدنيئة و الآراء الفاسدة على قوة الفكر و لطائف القلب و نور العقل ، حتى صارت القبائح محاسن ، و الرذائل فضائل ، و النقائص كمالات ، و لعن الله الطمع ، و أبعد الله الأمل الفاسد .
المجتمع الفاضل رئيسه صورة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ممدة بروح الإلهام الرحماني ، ينبعث منه هذا النور على أقرب العاملين به ، فيمدنا منه بنور الرحمة و حب العدالة و حقيقة الفقه و جمال الكرم ، و الرغبة الحقيقية في نيل النعيم الأبدي و حسن الأحدوثة في الآخرين ، و الخشية الحقيقية من القهار المنتقم الجبار ، و هكذا تنبعث تلك الأنوار من كل عامل إلى من هم دونه ، حتى تسري تلك الروح في أحقر عامل و أسفل طبقة من أفراد المجتمع .
المدينة المنورة
لما كان لفظ مدينة كناية عن المجتمع الإنساني المتضامن المرتبطة أفراده ارتباطا تاما ، الساعي كل فرد منه في طلب الخير الحقيقي للجميع ، و دفع الشرور الحقيقية عن الجميع ،حتى يمثل عائلة واحدة أو جسدا واحدا ، بشرط أن يكون سعي المجتمع لنيل الخير لكل فرد ، و سعي كل فرد لنيل الخير للمجتمع ، سواء كان هذا المجتمع الأصغر أو الأوسط ، فان العقل لا يمنع من نيل هذا الكمال لكل أفراد الإنسان على وجه المعمورة ، و إن منعه الشرع ، و متى توفرت تلك الشروط كان المجتمع المتصف بتلك الصفات هو المجتمع الفاضل ، و لا يمكن أن يتكون هذا المجتمع بمعناه الحقيقي إلا بالإسلام ، و ذلك لأن الخير الحقيقي من حيث هو خير لذاته ، لا يمكن للعقل الإنساني أن يدركه ، لغلبة الشهوة و تسلط الحمية ، و حبس نور الفكر في سجن الحظوظ و الأهواء ، و تلك القوى الثلاثة التي هي : الشهوة و الحمية و الفكر ، هي القوى التي بها نيل الفضائل الإنسانية و الكمالات الروحانية إذا تزكت و تطهرت ، فإن لم تطهر من لقسها و تتزكى من نجاستها كان الإنسان بشهوته أدنى من البهيم الأعجم ، و بحميته أضر من ضواري الوحوش ، و بفكرته أشر من إبليس اللعين .
و لم ينزل الله تعالى كتابا على رسول من الرسل قبل القرآن الشريف جامعا لما به نيل الكمال الحقيقي ، و شفاء الأنفس من أمراضها ، و تجملها بأجمل أوصافها ، و كبح جماح الشهوة و إطفاء نار الحمية ، و تصفية الفكر من درن الحظوظ و الأهواء ، و قاذورات الأطماع و الميول المهلكة ، لأننا بتصفحنا التوراة و الإنجيل نتحقق أن التوراة بينت لنا أسفار الرسل السابقين و ما تحملوه من الصعوبات في محو الشرك ، و إزالة العقائد الباطلة ، و حذرت من ارتكاب بعض الكبائر بغير بيان الحكمة العمرانية ، و لا شرح لتدبير الفرد و لا تدبير المجتمع المنزلي ، فضلا عن بيان سياسة المجتمع الديني ، و لم توضح حكم تلك الأحكام من جهة علوم النفس لتنكشف أسرار الأخلاق الفاضلة ، و تحصل حقيقة الرحمة في القلوب ، و يرى الإنسان بالعين التي يرى بها نفسه في كل أموره ، فكانت التوراة يفهم منها الحكيم أن الله تعالى ينزل بعدها كتابا يبين مبهمها ، و يفصل مجملها ، و يكشف أسرار حكمها ، و يزيد عليها ما لا بد منه ، مما ينال به الإنسان كماله النفساني و الجسماني ، حتى يكون إنسانا بمعناه ، خليفة الرب و صورته ، كما أخبرت التوراة . و هذا الكتاب هو القرآن الذي به بلوغ الإنسان كماله المدني في الدنيا ، و الجسماني الروحاني في الآخرة ، حتى يكون خليفة للرب سبحانه في الدنيا ، و في مقعد صدق عند مليك مقتدر في الآخرة ، و لو لم تكن فيها البشائر بهذا الكتاب ، و بمن أنزل عليه لحكم القاريء لها أنها تبشر به ، و لولا أن الأمر بديهي لسردت مثلا كثيرة من سفر التالوت بالتوراة ، و أمثلة على الأصول التي أتت بها الرسل عليهم الصلاة و السلام قبل سيدنا محمد و مولانا صلى الله عليه وسلم .
هذا الإنجيل من تصفحه تراه كتابا يتضمن رواية حوادث مبهمة ، تتضمن تاريخ رجل حصل على يده عجائب و غرائب مدهشة للعقول ، و كل ما جاء فيه من الدعوة مؤسس على ترك العمل مطلقا في تلك الدار الدنيا ، حتى ترك السعي في نيل ما لا بد منه ، و ترك معاملة الناس مطلقا ، حتى لو أنهم ضربوا الإنسان يلزمه أن يعينه على ضربه ، حتى أمر بترك ما في اليد من المال ، و تلك الرواية و إن صحت بطرقها المعتبرة عقلا و تاريخا ، فإنا نسلم ما ورد فيها مما لا يحارب العقل و لا يخالف الشرع الذي شرعه الله للناس على ألسنة رسله عليهم الصلاة و السلام ، فلم يرد في الإنجيل إلا الوصايا بأخلاق تكاد أن تكون طرفا لا وسطا ، و لم يتضمن أساسا من أساسات العمران ، و لا أصلا من أصول النظامات المدنية ، و لا ناموسا من نواميس المنازعات التي تحصل بين الناس بالضرورة ، للزوم التبادل في المنفعة ، و المنافسات في اللوازم .
فكأننا لو جمعنا التوراة و الإنجيل ، و حكمنا أنهما الكتابان اللذان لا بد للمجتمع الإنساني من العمل بهما ، لأختل نظام المجتمع ، و انمحت الحضارة و المدنية ، و تقهقر المجتمع الإنساني إلى حالة البداوة الأولى ، و لكنك أيها الحكيم المستبصر إذا قرأت القرآن و بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم له بالعمل و القول ، لعلمت حق العلم أنه خاتم الكتب ، و لتحققت أن كل مجتمع قبله لم يكن فاضلا بالمعنى ، و أن كل مجتمع على غير تعاليمه و وصاياه مجتمع جاهلي ، و هنا أبين لك الفضائل التي نالها المجتمع بالقرآن ، و الكمال الذي رقى إليه بإتباعه القرآن ، و السعادة الحقيقية التي فاز بها بالقرآن .
المجتمع الإسلامي الفاضل :
لم يكن المجتمع الإسلامي متكونا بالاتفاق ، و لم تتركب أعضاؤه من رجال نبغوا على أيدي حكماء فلاسفة ، و تلك قضية بديهية حجتها التواتر . و لكن القرآن الشريف بين بالتفصيل تدبير القوى الإنسانية ، من أول سقوط رأس الإنسان من رحم أمه ، بصريح العبارة ، أو بعمله صلى الله عليه وسلم ، فنبه على ما يلزم العمل به في تقويم كل قوة تكون في الإنسان ، فإن أول قوة تولد مع الإنسان الميل إلى الغذاء ، فسن السنن اللازمة لتدبير تلك القوة ، بالحالة التي يكون بها حفظ الصحة على الإنسان ، و تقوية جميع أعضائه الرئيسية ، ثم تتولد في الإنسان بعد تلك القوى قوة الغضب ، فشرح اللازم لها من تدبيرها و تقويمها ، ثم قوة الكرامة ، فأيقـظ القلوب إلى مراعاتها و حفظها على الطفل و تدبيرها ، حتى تكون معراجا له إلى نيل الكمال الإنساني ، و الجمالات التي يكون بها المسلم كاملا في إيمانه بالترفع عن الدنايا ، و البعد عن سفاسف الأمور ، سر قوله صلى الله عليه وسلم( إن الله يحب معالي الأمور و يكره سفسافها ) في الطبراني الكبير عن الحسن بن علي ، و قوله صلى الله عليه وسلم ( علو الهمة من الإيمان ) و قوله سبحانه و تعالى ) وَلِلَّهِ الْعِـزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ( سورة المنافقون آية (8) ، ثم تنشأ بعد ذلك قوة الشوق إلى المعارف ، و بالرغبة في معرفة ما يحيط به ، و علم خواصه .
و قد بين القرآن الكريم فضل العالم و أثنى عليه ، و شنع على الجاهل ، و حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على التعلم و فرض علينا العلم ، و جعل أول واجب علينا معرفة الله تعالى ، و العلم و الرغبة فيه - و بين للوالدين أن يعتـنيا بتلك القوة في الولد - و معرفة آياته ، و الفرق بين الملك و الرسول و النبي و الولي ، و العقوبة ، و فهم مكارم الأخلاق و ما تنتجه ، و كشف الوسائل التي بها تطيب الحياة الدنيا و تسعد الحياة الآخرة ، كل ذلك بمثل تناسب قوة الشوق في الولد . ثم تنشأ قوة الأثرة ، فبين الطرق التي تـنمي تلك القوة ، و تجعلها عاملة في الاستئثار بالكمالات النفسانية ، و المعارف و الصناعات المفيدة ، التي بها يكون الولد عاملا للنفع العام ، راضيا بما لا بد منه من الضروريات الحيوانية ، سر قوله سبحانه و تعالى ) وَيُؤْثِرُونَ عَلَىأَنفُسِهِمْ وَلَوْكَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ( سورة الحشر آية (9) .
ربىﱠ رسول الله صلى الله عليه وسلمعلى تلك المباديء الشريفة ، سيدنا عليا بن أبي طالب كرم الله وجهه ، و زيد بن حارثة ، و عبد الله بن عمر ، و عبد الله بن عمرو ، و عبد اله بن عباس ، و سيدنا و مولانا الحسن و الحسين ، بعد تربية السيدة الزهراء عليها السلام ، و غيرهم ممن ولدوا في عصر الرسالة . و كل صحابي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - و إن كان من سن الخمسين من عمره - فإنه ولد ولادة جديدة ، و تربى تربية قرآنية ، هذا مجمل ما ورد في تربية الطفل التربية الإسلامية .
ثم بين القرآن الشريف تربية المجتمع المنزلي ، فجعل لكل فرد من أفراد العائلة حقوقا واجبة له ، و حقوقا واجبة عليه ، و قد بين ذلك في أكثر سور القرآن ، فلم تخل من الأوامر بالإحسان إلى الوالدين ، و الصلة للأرحام و أبناء القرابة حتى صار المجتمع المنزلي كجسد واحد ، يعمل كل عضو لمجموع ، و قد شرحت جملا من تدبير الفرد و تدبير المنزل في كتاب ( النور المبين ) و كتاب ( معارج المقربين ) .
الفرد المسلم كالمجتمع :
و على هذا النمط من تزكية النفس و تدبير الجسم تكـﹷون المجتمع الإسلامي ، فأصبح الفرد الواحد من المسلمين كالمجتمع بالنسبة لما وجب عليه أن يقوم به لنفسه و لغيره ، من نيل الخير الحقيقي ، و دفع الشرور ، فترى المسلم حقيقة حكيما عالما بعلوم النفس و أمراضها ، و بالأدوية التي تعيد لها صحتها ، و التدابير التي تحفظها عليها ، و المجاهدات التي تزيد تلك الصحة ، مداويا لغيره بعلمه و عمله ، و حالته و معاملته ، طبيبا جسمانيا ، عالما بأعضاء البدن الظاهرة و الباطنة ، و خواصها و ارتباطها ببعضها ، لأن القرآن كلفه أن ينظر في نفسه و في الآفاق ، و أن يبحث بفكره حتى يعلم خواص ما في نفسه و ما في السماوات و الأرض .
و أكثر آيات القرآن المجيد توجب على المسلم تحصيل العلوم التي تجعله مشاهدا لآيات الله ، عالما بغرائب تصريف قدرته سبحانه ، و عجيب حكمته في إبداع كل شيء ، و تمييز كل نوع من المخلوقات بخواص لا يشاركه فيها غيره ، فهو بمقتضى الواجب عليه يعلم أسباب الأمراض ، و يعلم ما يدفعها من حمية و استعمال مهيئات الشفاء ، و الشافي هو الله ، و تراه فقيها عالما بأصول الدين مكاشفا بمراد الحق في حكمة أحكامه ، الأمر الذي يجعله يحترز عن الشبهات ، و يستنبط الجزئيات عند مقتضى ذلك بالمعاملات من الكليات ، تراه يقول الفصل فصلا ، و يحكم بالعدل و يبين حججه ، و ينصف المظلوم من الظالم بما أراه الله ، و ما منﱠ به عليه من النور في قلبه .
ترى المسلم يحسن سياسة المجتمع المدني على الوجه الذي يجعل المجتمع كجسد واحد ائتلافا و تعاونا ، حتى يكونوا متحابين بروح الله ( القرآن ) ، معتصمين بحبل الله ( القرآن ) ، مقتدين بنور الله ( رسول الله صلى الله عليه وسلم) . ترى المسلم قائدا حكيما عالما بفنون سياسة الجهاد ، مع الرحمة و الرأفة ، شجاعا كريما لا يهزم له جيش ، و لا يتجاوز الوسط : العدالة و العفة . ترى المسلم معلما إماما يقتدى به مبينا لأسرار الحكمة ، موضحا لغوامض المسائل ، عالما بطرق التعليم ، و مقدار كل نفس و ما يناسبها من العلم و الصناعة و الفنون . ترى المسلم أستاذا عظيما في كل الصناعات ، لأن القرآن المجيد أوجب عليه معرفة الآثار المحيطة به ، لا معرفة تحديد و كمية ، بل معرفة تجعله خليفة عن ربه ، ينتفع بما أودعه الله فيها من الخواص بالتركيب و التحليل و الخلط و المزج و التطهير ، و غير ذلك مما أوجبه الله على المسلم ، و جعل في العمل به رغد عيشه في الحياة الدنيا ، و مشاهدة قدرة ربه فيها ، و السعادة في الآخرة ، فما من صناعة من الصناعات ، أو فن من الفنون ، و لا علم من العلوم المتعلقة بتدبير النفس أو البدن أو بسياسة المجتمعات أو بخواص الكائنات ، إلا و قد بينها الله تعالى في القرآن إجمالا و تفصيلا ، و شرح ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا و عملا . ترى المسلم بكل تلك الفنون و الصناعات يميل إلى أشرف الصناعات و أرفعها ، و ينافس في أكملها و أسماها ، و من تتبع سيرة الصحابة و التابعين لهم بإحسان إلى أواخر الدولة العباسية ، يظهر له أن المسلم كان مع علمه بكل الفنون و الصناعات لا يرضى إلا بأشرفها ، فيشتغل بالصناعات الدنيئة لنفسه و أهله كالحياكة و الخياطة و الغزل و تنظيف الحجرات و تطهيرها ، و معاونة الخدم على ضروريات المنزل من حلب الشاة و خدمة نفسه و ترقيع الثياب و خصف النعال ، و غير ذلك تواضعا لله تعالى و تزكية لنفسه ، و كان أكثر من يعمل هذه الصناعات الدنيئة في المجتمع الإسلامي غير المسلمين . و لكن المسلم تراه بين كتبه أو على منصة القضاء ، أو على ظهر جواده ، مجاهدا في ذات الله ، إعلاء لكلمته سبحانه ، و محوا للظلم و الباطل ، و قطعا لجراثيم الفساد ، أو في وسط حلقة الدرس ، أو سائحا يجوب الفيافي و القـفار لاستكشاف مجهولات الأرض و النباتات و الأنهار و الجبال و المعادن ، أو على ناقته في جلب المتاجر لأخوته المؤمنين ، أو في وسط مزرعته لتربية النباتات ، أو على كرسي الإمارة أو الوزارة ، أو في معامل الصناعات ، يشحذ فكره لاختراع آلة نافعة للطب أو للصناعة أو الزراعة أو التجارة أو الجهاد ، أو في مجلس صلح ، أو ملبيا لصارخ ، حتى لا تكاد ترى مسلما إلا و يرى الخير عند أخيه كالخير عند نفسه ، و مساعدة أخيه مساعدة لنفسه ، و كل فرد منهم ينافس في أنفس الصناعات ، لا ليكون عظيما في تلك الدار الدنيا ، أو غنيا أو مشهورا ، أو مقربا من الأمراء و الوزراء ، أو ذا جاه استعمله في أغراضه السافلة ، بل ليكون عضوا عاملا في جسد المجتمع الإسلامي ، عاملا لكل الجسد ، كل ذلك عملا بما أوجبه عليه القرآن ، و إقتداء بعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، و ’ربﱠ جاهل بأسرار القرآن و السنة يقول : إني أبالغ في بيان تلك الحقيقة ، فأجيبه : الجهل ليس عذرا ، ليس بينك و بين أن تراني مقصرا في هذا الموضوع عاجزا عن وفائه و تلوم علي في تقصيري ، إلا أن تطالع تاريخ العرب قبل إشراق تلك الشمس العلية ، و ما كانوا عليه من الجاهلية و خبث النفوس و شظف العيش ، و دناءة الهمة ، حتى كان أكبرهم نفسا يرى أن نهب مال جاره هو الرزق الحلال ، و تـقـرأ تاريخهم بعد أن سطعت أنوار تلك الشمس ، كيف أبدلهم الله تعالى فصاروا ملائكة روحانيين حكماء ، أمناء علماء حلماء ، أخضعوا الأمم و ساسوهم ، و محوا الظلم و الشرك ، و نشروا الفنون و الصناعات ، حتى سرت تلك الأنوار القدسية فعمت المعمورة ، إما بنور الهداية و التوحيد و الإسلام لله رب العالمين ، أو بالعدالة و الرحمة و محو الظلم .
هذا هو المسلم ، و تلك أعماله و أحواله ، و كان المجتمع الإسلامي جسما صحيحا مستقيما تام الأعضاء متـناسبها ، في عنفوان الشبيبة ، كل فرد منه متجمل بتلك الشمائل ، عامل بما أوجبه عليه الإسلام .
شروق أنوار الإسلام على أيدي أئمة الهدى :
ظهرت تلك الفضائل و الكمالات بطريقة أدهشت عقول المفكرين ، و حيرت ألباب كبار المستعمرين ، حتى تحقق حكماء بني الإنسان أن إشراق تلك الأنوار الكاملة و ظهور تلك الفضائل الحقيقية و انتشارها على المجتمع الإنساني بأسرع من انتشار ضوء الشمس على الأفق ، ليس من قدرة بني الإنسان ، و إنما هو من تصريف قدرة القادر الحكيم ، الذي أنزله على نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم) لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنيَنصُرُهُوَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّاللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ( سورة الحديد آية (25) ، و إلا فما هي العدة ؟ و أين هي العدد ؟ و كلهم كانوا لا يتجاوزون عدد الأصابع ألفا ، لم يقف بهم العزم عند حد حتى ملكوا شواطيء بحر المانش بأوروبا ، و مياه الباسفيكي بالصين و الهند و جبال القوقاز ، حتى أصبح معظم رؤوس القارات مسمى بأسمائهم ، مثل بوغاز جبل طارق ، و رأس الرجاء الصالح ( رأس الرجل الصالح ) و غيرهما ، و لم يفتحوا تلك القارات من همج كسكاني أمريكا و شمال أوروبا في عصرهم ؟ أو متوحشين كسكاني أواسط أفريقيا و استراليا ، و لكن محوا ظلم ملوك جبابرة طغاة ، حصنوا ملكهم بالعـﹷدد و العـﹻدد ، و سادوه على الجبروت و القهر ، و أحاطوه بآراء المفكرين من نوابغ مهرة السياسيين ، حتى كانت العقول لا تتصور أن يـزول هذا الملك ، و لا أن يتغير هذا الحال ، إلا باختلال المجموعة الشمسية ، فلم يكن إلا عشـية أو ضحاها ، حتى صار الإنسان أخا للإنسان ، و انهارت عروش الجبابرة الطغاة ، و اندكت دعائم صرح المدن الجاهلية الضالة و المبدلة ، و أشرقت أنوار المساواة و الحرية و العدالة و المدينة الفاضلة ، بشروق أشعة أنوار الإسلام على أيدي أئمة الهدى الأناسي صورة ، الملائكة حقيقة ، قاموا و القرآن إمامهم ، و ما شهدوه من أعمال النبي صلى الله عليه وسلمقائدهم ، حتى ملأوا الأرض عدلا و نورا ، بعد أن كانت ممتلئة ظلما و جورا ، و هم هم الذين لم تكن لهم في المدينة قدم ، و لا بالحضارة معرفة ، و ليس عهدهم بالبداوة ببعيد ، لم تكن عددهم إلا نفوسا أشفقت على المجتمع الإنساني من غضب الله و مقته ، و قلوبا ملئت رحمة على بني جنسهم و إخوانهم في الإنسانية فقاموا لخلاصهم بإخلاص ، و الله معهم لأنهم سارعوا في مرضاته سبحانه ، و بذلوا نفوسهم في إعلاء كلمته جل جلاله ، فهم هم الذين خلصوا بني الإنسان في الحقيقة و نفس الأمر من خطايا الشرك ، و كبائر توهم أن الإله يحل في عبد ، و رذائل الأخلاق الوحشية ، و سوء الصفات الإبليسية ، حتى صار من دخل الإسلام أشبه بالملائكة ، و من استظل بظلهم من أهل الذمة متمتعين بلذة الحياة الإنسانية ، لأن الأعمال بنتائجها ، لا ما يدعيه المدعون أنهم نصارى من أن المسيح خلصهم ، لا و الله ، و لكنهم أوقعوا أنفسهم في أشر مما كانوا عليه قبله عليه السلام ، و الأمر جلي لذي عقل يعقل .
لم يفتحوا تلك الفتوحات بخدع السياسة ، و لا بخبث المقاصد و السعي بتفرقة الجماعة ، و إغراء أفراد الأمة على بعضهم ، و انتشار المفاسد في المجتمعات بعثة رجال الفساد ، و نساء الفساد ، تارة بفساد أخلاق المجتمع بفعل الفواحش من انتشار الخمر و الزنا بينهم ، و آونة بفتح بيوت ظاهرها للتعليم و باطنها هواية الفضائل الإسلامية ، و التضامن الإسلامي و العوائد الحسنة القومية ، و قصم عـرى الإخاء ، و فتح أبواب الشكوك و الريـب ، و تقبيح المحاسن أمام النشء ، و هم في دار التعليم ، حتى يينتـقش في قلب التلميذ بغض أهله و عوائدهم ، و يتشبع قلبه بحب العوائد الخبيثة ، فينشأ على بغض دينه ، و يكون آلة صماء في أيدي الذين لا يريدون الخير لبني الإنسان - خصوصا للمسلمين - كما يفعل أعداء الإنسانية و وحوش هذا الزمن ، و تنزه الإسلام و المسلمون عن تلك الوحـشية ، و عن الخبائث الإبليسية .
و دام هذا المجد للمسلمين حتى مازج نور الإيمان في القلوب ظلمات الأهواء و الحظوظ ، و خالط الإخلاص لوجه الله درن الأمل و العلو في الأرض بغير الحق ، حجـب جمال الدار الآخرة عن العقول زهرة تلك الفانية ، فانقسمت عرى العصبة الديـنية ، و انحلت عقدة الثقة بالله ، فاستبدلوا الإخلاص لذات الله بالإخلاص لأنفسهم ، و الصدق في معاملة الله بالصدق في نيل أغراضهم ، و جعلوا كتاب الله وراء ظهورهم ، و سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم نسيا منسيا ، فجعل الله بأسهم بينهم شديدا ، و سلط بعضهم على بعض ، و مكن العدو منهم سر قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي ( إذا عصاني من عرفني سلطت عليه من لم يعرفني ) (1).
(1) و مصداق قوله صلى الله عليه وسلم ( يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة على قصعتها، قلنا : يا رسول الله أمن قلة بنا يومئذ ؟ قال : أنتم يومئذ كثير و لكنكم غثاء كغثاء السيل ، تنزع المهابة من قلوب عدوكم و يجعل في قلوبكم الوهن ، قالوا : و ما الوهن ؟ قال : حب الحياة و كراهة الموت ) . رواه أحمد في مسنده .
فأصبح المسلمون و هم كثيرو العدد ، و أقوياء الأبدان على أرض من الكنوز خصبة و جو صاف معتدل ، أذلاء لمن لم يكن لهم مدينة تذكر و لا عمل يشكر ، و لم يرسل منهم نبي ، و لم يظهر فيهم ولي ، بل كانوا هم و زنوج أفريقيا و أمريكا سواء ، هؤلاء في المنطقة الملتهبة و هم في المنطقة الثلجية ، سوط نقمة من المنتقم و عاجل عقوبة من القهار ، حتى أصبح من يدعي الإسلام يجهل ما علمه أعداء الإسلام من فضائله ، فهم يبحثون عن فضائل الإسلام لينهجوا على نهجه ، و المدعون للإسلام بألسنتهم يرون أن ما كان عليه أئـمة الهدى ليس شيئا في جانب ما عليه من سلطهم الله عليهم للنقمة ، و كفي بذلك عمي عن الشمس المشرقة ضحوة ، و من لم يرى الشمس ضحوة في جو صاف لا يلام إذا جحد القـمر و النجوم .
الفضائل العمرانية بالإسلام :
المدينة مدينة الإسلام و الحضارة حضارة الإسلام ، و الفضائل فضائل الإسلام ، و المجتمع الفاضل مجتمع الإسلام . أقول ذلك و أعلم أن المفتون بحظه و شهوته ، السابح في نهر بهيميته ، و المسترسل في غلوائه ، قد زينت له نفسه الخبيثة خبائث الأعمال و رذائل الأخلاق ، فحكم بضلاله و أفتى بجهالته أنه في عصر مدينة و فضائل ، حتى بلغت به الجهالة و العمى عن معرفة نفسه و تدبيرها منفردة و مجتمعة إلى درجة صار يضرب بها المثل في الرقي فـيقول : نحن أبناء القرن العشرين ، قد يجهل ما أقول ، بل ينكره علي ، و أنا و الحمد لله لا أخاطب حيوانا يرتع في غيضته ، يجهل ما له و ما عليه ، و إنما أكتب لإنسان بمعناه .
و لما كان هذا المجد الحقيقي ، و العز و الخير الحقيقيان لا تنال إلا بإعداد العدد و العدة للقيام بنيل هذه السعادة المنشودة ، و لا تحصل السعادة إلا بالتعاون ، و لا تعاون إلا بالمجتمع ، و لا يتكون مجتمع فاضل إلا إذا علم أفراده الخير الحقيقي و اتحدوا على طلبه ، و لا اتحاد إلا بتعصب حقيقي ، لذلك أحببت أن أتكلم عن التعصب .