عدد المشاهدات:
لم يعش العالم الإسلامي منذ بواكير حياته حتى اليوم، وفي أي عهد من عهوده -حسب علمنا- الحالة المزرية التي يعيشها الآن، ولم يضق أفقه كما ضاق الآن. والأسوأ من هذا أنه ليس في وضع يؤهله لا لمشاهدة الفرق الشاسع بين موقعه الحالي وما كان يجب أن يكون عليه، ولا لتقويم هذا الفرق وبحث أسبابه؛ فهو في كسل وراحة بال لا يعاني من أي مخاض فكري، ولا يقدم أي تفكير بناء، ولا يملك مشروعًا للنهوض من وهدته، ولا يشعر بجيشان انفعاليّ للتغيير. لفَّتْه طبقة ضبابية من اللامبالاة وعدم الاهتمام، وخبا في قلبه شوقُ الحياة ونبضها... لا يملك -إن استثنينا رغباته الجسدية- أي أمل أو تطلع الى المستقبل... أصبح أحيانًا حارسًا للجبارين، وأحيانًا متسولاً على الطراز الحديث، أو متلويًّا في قبضة الفقر والحاجة، أو في حالة يرثى لها من الجهل والتعصب.
لم يعد هذا العالم الإسلامي مهتما ما أمر به الدين الإسلامي من التمسك بالفضيلة، والعيش في كرامة، والانفتاح على العلم وقراءة الوجود قراءة صحيحة، والتنقيب في أرجاء الكون بكل دقة، وتفسير الأسس التكوينية والأوامر التشريعية أفضل تفسير وأفضل تقويم، وإذا كانت هناك فئة قليلة تهمها هذه الأمور وهذه الأوامر فقد مُنعت من الكلام وسُدّت أفواهها ومُنع الناس من الإنصات إليها. كما أن أنواعاً من السفاهات التي نقلت إليه من المجتمعات الأخرى، أصبحت من أكثر الأمور المرغوبة، وتم الترويج لها بالوسائل التكنولوجية وبحملات مكثفة. الجماهير السائبة تعيش حالة من التشوش والذهول، وأجيال الشباب واقعة في شباك الفحش والمخدّرات تتوجه نحو التفسخ والانحلال تحت مقولة: "دعني أعشْ على هواي اوبين التعصب الاعمى للمناهج والفرق والجماعات واصبح الشباب بين تائم فى احضان المخدرات او بين الافكار الهدامة التى تفرق الامة واصبح كل فرقة من الامة تتعالى على غيرها حتى كدنا ان نتقاتل باسم الدين والدين براء من هذه الافكار ".
عندما يلقي الأنسان نظرة على القوة الديناميكية الإسلامية وغناها، يود أن يرى كل جانب من جوانب العالم الإسلامي معمورًا، وكل مدنه كقطع من الجنان، وحواضره وقراه شبيهة بالفردوس... يود أن يرى أُناسه مفعمين بالأمل وبالسعادة... قد شغلتهم حمى البحث عن الحقيقة، يقضون أوقاتهم بين الكتب والمختبرات، قد اختزلوا ساعات نومهم ولهوهم في سبيل البحوث والتدقيقات، ووهبوا أرواحهم للحق تعالى...
ولكن الحقيقة المؤلمة هي ان المأمول عكس الواقع المشاهد تماماً. فإن بحثت الآن في طول العالم الإسلامي وعرضه عن أصحاب تلك الأرواح التي عمرت الدنيا فيما مضى، فلا تجد إلا أعداداً تعد على أصابع اليد من المثقفين من ذلك الطراز من ناحية الروح والمعنى، ولا تجد معماريين -باستثناء عدد قليل- يعمرون ويسندون جوانبنا المتصدعة والآيلة إلى السقوط.
بينما كان من المتوقع من منتسبي هذا الدين أن يكونوا أسعد مَن في هذه الأرض وأكثرهم تفاؤلاً -بالنسبة للعالم الآخر- وأكثر أملاً، وفي الصفوف الأولى من العالم في كل مسألة، وأن يكونوا بعزمهم وإيمانهم، وثباتهم مرشدي العالم، يقدمون له المشاريع الأصلية، ويحلون مشاكله اليومية. والحقيقة أننا كنا نتوقع أن يزدهر العلم والمعرفة في بستانه، وننتظر أن يكون هو الأسوة والقدوة الحسنة أمام العالم في مضمار الخلق الجميل والقيم الإنسانية الرفيعة... كنا نتوقع أنه عندما يرِد ذكر العدالة وسيادة القانون والحق، وحرية الفكر والعقيدة يخطر العالم الإسلامي على البال. ولكن هل هو اليوم في هذا الوضع؟... هيهات . هيهات! لقد تعددت السهام المصوبة إلى إيمان المؤمنين فأصابته إصابات بالغة حتى تكسرت النصال على النصال، واقتيد العزم عندهم حتى استسلم، وتكسرت عندهم أجنحة الإرادة، وسُلّمت المعرفة والعلم لتصبحا خادمين على مذبح الأيدولوجيات. ومع أن كلامًا كثيرًا يقال حول الخلق الرفيع فإن الواقع المعاش يكذّب هذه الأقوال، حتى غدت العدالة تُباع وتشترى كأي متاع آخر، وباتتْ حقوق الناس تحت تصرف القوى الغاشمة حتى أصبحت قوى تسلط تسحق الضعفاء. أما الحرية والإخاء والمساواة فقد أصبحت خيالاً صعب المنال، وأصبح توقير الإنسان والقيم الإنسانية مجرد مواضيع ميتة تطرح في المؤتمرات وفي الندوات فقط.
إلى جانب كل هذا فهناك حقيقة أخرى وهي أن العالم الاسلامي الذي يشغل موقعًا جغرافيًا واسعًا متأخر إلى درجة كبيرة في العلم والتكنولوجيا والفن والتجارة. ويمكن ذكر الشيء نفسه بالنسبة لمكانتنا في العالم. ولو كنا -في ظل كل هذه السلبيات- في سلام واتفاق فيما بيننا، لَهان الأمر بعض الشيء... ولكن هيهات!.. فهذا العالم الكبير يقوم بإنتاج وتوليد أشياء عجيبة لا يمكن التنافس فيها؛ ينتج الحقد والكراهية والعداء وتلويث الآخرين، وإرساء كل خططه على الخصومة والعداء. وتتصرف كل أمة هذا التصرف فيما بينها. أجل!... فمنذ سنوات عديدة كانت تقوية جبهات العداء والخصومة هي شغلنا الشاغل فيما بيننا... اخترعنا مخاطر وهْمية وعداوات مصطنعة، وفرّقنا بين الجماعات وزرعنا بينها الفتن. فحوّلنا هذه المساحة الجغرافية المباركة إلى وديان خوف وفزع وأرض رعب وذعر.
ومع أن ديننا السامي يَعِد بسعادة الدنيا والآخرة، ويرينا آفاقًا إنسانية رحبة وواسعة، ويعطي حياتنا ما يزيدها خصبًا وانفتاحًا، إلا أن هؤلاء الأناس الغارقين في الدنيا لا يعبأون بكل هذا، ولا ينفذ إليهم تأثير الإسلام الساحر، لأنني لا أرى أي علامات تأثير عليهم. فكل ما أراه هو ضعف الناس وعدم وفائهم، والخصومة المرعبة عند الملحدين، إلى درجة أنك لو قمت بأي نشاط ديني فإنك ستواجه الملحدين عند خطوتك الأولى، وفي الخطوة الثانية سيكون إيمانك وعقيدتك وآمالك وأفكارك الميتافيزيقية موضعاً للهزء والسخرية، وتتعرض من قبل بعض الفئات إلى اللوم. وعندما تدافع عن الحوار مع الآخرين وعن المسامحة وقبول الآخرين واحتضان الجميع، تتعرض من قِبل جهات معنية إلى رشقات من القذائف، ويتوجه نحوكم سيل من التهديد من قِبل من نستطيع تسميتهم بـ"خوارج اليوم".. وإن عشت كما يأمرك دينك تعرّضت للهجوم من قبل بعض البؤر التي لم تقدّم حتى الآن أي شيء إيجابي ولم يكن لها نصيب في أي أمر ناجح، وتحاك ضدك المؤمرات تلو المؤامرات. ثم تتحول هذه الهجمات الشرسة من قبل الذين يهينون الدين والمتديّنين، ويشوهون ماضيك وتاريخك، ويستهينون بقيَمك الملّية والدينية، ويشتمون آباءك وأجدادك... تتحول كل مظاهر هذا الانحراف والضلال وعدم التوازن إلى شراب سام وإلى صديد يسيل إلى داخلك ويجرّعك آلام الغربة ولوعتها.
أمام كل هذه السلبيات كم من الناس يصيبهم اليأس ويغرقوا فيه ويقولوا: "لا خير بعدُ في هذه الدنيا، وسيكون المستقبل أسوأ وأظلم".. وكم منهم من يفقد أمَله فيرخي لنفسه العنان ويدَع نفسه للتيار!... وهذا أمر طبيعي لكل من لم يُربّ على الإيمان وعلى الأمل... أجل! إن كان كل ما يتم بناؤه اليوم سيُهدم في المستقبل، وإن كان المخلصون يُتعقبون كالمجرمين ويُطاردون، وإن كان كل فرد يريد إقامة هذه الدنيا حسب أهوائه ورغباته، ويحطّم في هذا السبيل كل من يخالفه أو يختلف معه في آرائه وقيمه -وهذا ما يجرى في هذا الجزء البائس من الجغرافيا منذ عصرين- فلا يبقى عند أحد أي أمل أو أي عزم.
إن من الغريب أن هؤلاء الطغاة الأقزام والمنافقين من حولهم الذين يرتابون من أي عمل منجز باسم
. الدين والأخلاق والفضيلة ومن كل خدمة أيجابية، ويتهمون كل من يقوم بأي نشاط في هذا الإطار في هذه الدنيا البائسة المنكودة الخط، وينطرون إليهم وكأنهم شقاة وجناة... من الغريب إنهم لا يرون الحالة المأساوية لدنيا المسلمين وينسونها أو يتناسونها، بينما تسود في هذه المنطقة الجغرافية حالة رهيبة من الركود والشلل، فالأدمغة فيها لم تعد تنتج شيئًا منذ عصور، وكل مصادر القوة فيها معطلة... الخرائب في كل ناحية من نواحيها، والبوم ينعق فوق هذه الخرائب. والأنكى من هذا غدت هذه الدنيا العظيمة للمسلمين وكأنها مأوى تأوي إليها عفونات العالم... مأوى للعاطلين وللضعفاء. نذَروا أنفسهم لخدمة الإيمان من الذين نستطيع إطلاق اسم "جيل الفكر" عليهم. ولكن من المؤسف أن نرى أنّ أصواتهم تطغى على أفعالهم، وضجيجهم أقوى من أنشطتهم. فصراخهم -وهم يقومون بأنشطتهم وفعالياتهم- يؤدي أحياناً إلى شر أكثر مما يؤدي إلى الخير، وإلى زيادة مخاوف الذين أحاطت بهم الأوهام والمخاوف، وإلى فزع الملحدين، ويدفع بـ"كارهي الإسلام والنافرين منه" إلى النشاط ضده.. فإذا بالأصوات الصاخبة ترتفع من كل جانب، ثم تَتَتابع الهمهمات والشكاوى، ثم يأتي وقت تتحرك فيه المخابرات الأجنبية، وكتائب الجنود الأجانب. وفي النتيجة يتم تدمير كل ما بُني في السابق، وتُقطع الطرق، وتهدم الجسور، ويرجع كل شيء القهقرى إلى الوراء، وتتم تصفية كل تلك النشاطات والخدمات على مذبح الحقد والكراهية وطغيان العداء الأعمى... هذا هو ما جرى حتى الآن، فقد تشكلت معسكرات مختلفة في المجتمع نفسه، وحدثت نزاعات ومناوشات بين هذه المعسكرات، وجاء زمان تحولت فيه المناوشات والمبارزات الفكرية إلى مناوشات بالأيدي حتى اختلطت جميع الأوراق.
علماً بأن العقل والمعرفة والحكمة تشكل أساسًا مهمًّا في الإسلام. فالتفكر والتدبر والاستدلال والاجتهاد من ضرورات المجتمعات اللإسلامية. والرسول صلى الله عليه وسلم يدعو أمته إلى اتخاذ منطق العقل مرشداً لهم في ظل الوصايا القرآنية. فهو عندما يقول "قوام المرء بعقله، ولا دين لمن لا عقل له" (شعب الإيمان للبيهقي، 4/157) إنما يدعونا إلى أن نستخدم العقل والمنطق في كل أمر من أمورنا. والحقيقة أنه صلى الله عليه وسلم كان دائمًا بجانب العلم. ويبجّل العلماء، ولأول مرة كان هو القائل بأن العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، كما أنه هو القائل: "الحكمة ضالة المؤمن، فحيث وجدها فهو أحق بها" (رواه الترمذي وابن ماجه).
ولكن الغريب أنه على الرغم من قيامه بحثِّ أمته على العلم والحكمة، وعلى الرغم من مئات الآيات والأحاديث في هذا المضمار، وإصراره المتكرر في هذا الشأن، فإن المسلمين منذ عدة عصور لم يفهموا هذا، ووضعوا بينهم وبين العلم والمعرفة والفن حجاباً. بل الأسوأ من هذا أنهم أصبحوا من ناحية الفكر والبحث عاقرين وعقيمين وراكدين، وتركوا أنفسهم للاسترخاء إلى درجة أن دخولهم تحت حكم الآخرين ووصايتهم لم ينبّههم من غفلتهم هذه، ولم يدفعهم لمعرفة ما يجري حولهم، ومعظمهم لا يعرفون الحقيقة، ولا يملكون ميلاً للبحث عنها، ولا عشقاً لها. ولم أشاهد أحدًا منهم يشعر بالخجل والحرج لارتباطنا الوثيق في هذه الدنيا بغيرنا في مجال العلم والتكنولوجيا. فإن وجد بعضهم فهم في وضع لا يستطيعون فيه إسماع أصواتهم. أما عبوديتنا لله تعالى ومستوى إخلاصنا في الإيمان فهي تعادل تمامًا سلبياتنا الأخرى، وعباداتنا قد تحولت إلى فولكلور وإلى مجرد تقليد من التقاليد. وكان من الممكن أن يحطَّ عنا بعض أوزارنا لو كنا نحترم ونوقّر تقاليدنا... ولكن هيهات! فقد ترك هذا لمجريات الايام.
عندما يكون هذا هو الوضع فلا يمكن الحديث عن جوهر الإسلام في هذا العالم الإسلامي، ولا عن الفهم الصحيح لأوامره التشريعية، ولا عن استيعاب أسسه التكوينية وفقهها وتفسيرها والإحاطة بها. لذا ففي هذه المنطقة الجغرافية المظلمة التي تعيش فيها مجموعات من المسلمين، فقَدتْ لونها وملامحها، والتي تشوهت فيها لغتها ولهجتها حتى لم تعد مفهومة، نحتاج أول ما نحتاجه إلى إشعال عشق للحقيقة، وبعث لحب العلم والرغبة في البحث، ووجدان مفعم بنقاء الدين وجوهره. ولا يمكن أن ينقذ هذا العالم من هذه الوهدة السحيقة التي سقط فيها إلا مَن تَربّى على منهاج تربيته الأصيلة الذاتية من ذوي الأرواح الشابّة والعقول المتوقدة، ممن نذروا أنفسهم للحق تعالى، وتوحدوا في الهدف وفي الإيمان نفسه، لا يرجون منفعة شخصية.. من أصحاب الإرادة والعزم.. الساعين في الخدمة الإيمانية... العازمين على تخطي جميع المصاعب والعقبات.. من أبطال العلم والمعرفة والعزيمة الذين لايرجون أي نفع مادّي أو معنوي، سواء في الدنيا أو في الآخرة. لقد عشنا حتى الآن على أمل مجيء هؤلاء الأبطال، وسنبقى نعيش في انتظار قدومهم.
لم يعد هذا العالم الإسلامي مهتما ما أمر به الدين الإسلامي من التمسك بالفضيلة، والعيش في كرامة، والانفتاح على العلم وقراءة الوجود قراءة صحيحة، والتنقيب في أرجاء الكون بكل دقة، وتفسير الأسس التكوينية والأوامر التشريعية أفضل تفسير وأفضل تقويم، وإذا كانت هناك فئة قليلة تهمها هذه الأمور وهذه الأوامر فقد مُنعت من الكلام وسُدّت أفواهها ومُنع الناس من الإنصات إليها. كما أن أنواعاً من السفاهات التي نقلت إليه من المجتمعات الأخرى، أصبحت من أكثر الأمور المرغوبة، وتم الترويج لها بالوسائل التكنولوجية وبحملات مكثفة. الجماهير السائبة تعيش حالة من التشوش والذهول، وأجيال الشباب واقعة في شباك الفحش والمخدّرات تتوجه نحو التفسخ والانحلال تحت مقولة: "دعني أعشْ على هواي اوبين التعصب الاعمى للمناهج والفرق والجماعات واصبح الشباب بين تائم فى احضان المخدرات او بين الافكار الهدامة التى تفرق الامة واصبح كل فرقة من الامة تتعالى على غيرها حتى كدنا ان نتقاتل باسم الدين والدين براء من هذه الافكار ".
عندما يلقي الأنسان نظرة على القوة الديناميكية الإسلامية وغناها، يود أن يرى كل جانب من جوانب العالم الإسلامي معمورًا، وكل مدنه كقطع من الجنان، وحواضره وقراه شبيهة بالفردوس... يود أن يرى أُناسه مفعمين بالأمل وبالسعادة... قد شغلتهم حمى البحث عن الحقيقة، يقضون أوقاتهم بين الكتب والمختبرات، قد اختزلوا ساعات نومهم ولهوهم في سبيل البحوث والتدقيقات، ووهبوا أرواحهم للحق تعالى...
ولكن الحقيقة المؤلمة هي ان المأمول عكس الواقع المشاهد تماماً. فإن بحثت الآن في طول العالم الإسلامي وعرضه عن أصحاب تلك الأرواح التي عمرت الدنيا فيما مضى، فلا تجد إلا أعداداً تعد على أصابع اليد من المثقفين من ذلك الطراز من ناحية الروح والمعنى، ولا تجد معماريين -باستثناء عدد قليل- يعمرون ويسندون جوانبنا المتصدعة والآيلة إلى السقوط.
بينما كان من المتوقع من منتسبي هذا الدين أن يكونوا أسعد مَن في هذه الأرض وأكثرهم تفاؤلاً -بالنسبة للعالم الآخر- وأكثر أملاً، وفي الصفوف الأولى من العالم في كل مسألة، وأن يكونوا بعزمهم وإيمانهم، وثباتهم مرشدي العالم، يقدمون له المشاريع الأصلية، ويحلون مشاكله اليومية. والحقيقة أننا كنا نتوقع أن يزدهر العلم والمعرفة في بستانه، وننتظر أن يكون هو الأسوة والقدوة الحسنة أمام العالم في مضمار الخلق الجميل والقيم الإنسانية الرفيعة... كنا نتوقع أنه عندما يرِد ذكر العدالة وسيادة القانون والحق، وحرية الفكر والعقيدة يخطر العالم الإسلامي على البال. ولكن هل هو اليوم في هذا الوضع؟... هيهات . هيهات! لقد تعددت السهام المصوبة إلى إيمان المؤمنين فأصابته إصابات بالغة حتى تكسرت النصال على النصال، واقتيد العزم عندهم حتى استسلم، وتكسرت عندهم أجنحة الإرادة، وسُلّمت المعرفة والعلم لتصبحا خادمين على مذبح الأيدولوجيات. ومع أن كلامًا كثيرًا يقال حول الخلق الرفيع فإن الواقع المعاش يكذّب هذه الأقوال، حتى غدت العدالة تُباع وتشترى كأي متاع آخر، وباتتْ حقوق الناس تحت تصرف القوى الغاشمة حتى أصبحت قوى تسلط تسحق الضعفاء. أما الحرية والإخاء والمساواة فقد أصبحت خيالاً صعب المنال، وأصبح توقير الإنسان والقيم الإنسانية مجرد مواضيع ميتة تطرح في المؤتمرات وفي الندوات فقط.
إلى جانب كل هذا فهناك حقيقة أخرى وهي أن العالم الاسلامي الذي يشغل موقعًا جغرافيًا واسعًا متأخر إلى درجة كبيرة في العلم والتكنولوجيا والفن والتجارة. ويمكن ذكر الشيء نفسه بالنسبة لمكانتنا في العالم. ولو كنا -في ظل كل هذه السلبيات- في سلام واتفاق فيما بيننا، لَهان الأمر بعض الشيء... ولكن هيهات!.. فهذا العالم الكبير يقوم بإنتاج وتوليد أشياء عجيبة لا يمكن التنافس فيها؛ ينتج الحقد والكراهية والعداء وتلويث الآخرين، وإرساء كل خططه على الخصومة والعداء. وتتصرف كل أمة هذا التصرف فيما بينها. أجل!... فمنذ سنوات عديدة كانت تقوية جبهات العداء والخصومة هي شغلنا الشاغل فيما بيننا... اخترعنا مخاطر وهْمية وعداوات مصطنعة، وفرّقنا بين الجماعات وزرعنا بينها الفتن. فحوّلنا هذه المساحة الجغرافية المباركة إلى وديان خوف وفزع وأرض رعب وذعر.
ومع أن ديننا السامي يَعِد بسعادة الدنيا والآخرة، ويرينا آفاقًا إنسانية رحبة وواسعة، ويعطي حياتنا ما يزيدها خصبًا وانفتاحًا، إلا أن هؤلاء الأناس الغارقين في الدنيا لا يعبأون بكل هذا، ولا ينفذ إليهم تأثير الإسلام الساحر، لأنني لا أرى أي علامات تأثير عليهم. فكل ما أراه هو ضعف الناس وعدم وفائهم، والخصومة المرعبة عند الملحدين، إلى درجة أنك لو قمت بأي نشاط ديني فإنك ستواجه الملحدين عند خطوتك الأولى، وفي الخطوة الثانية سيكون إيمانك وعقيدتك وآمالك وأفكارك الميتافيزيقية موضعاً للهزء والسخرية، وتتعرض من قبل بعض الفئات إلى اللوم. وعندما تدافع عن الحوار مع الآخرين وعن المسامحة وقبول الآخرين واحتضان الجميع، تتعرض من قِبل جهات معنية إلى رشقات من القذائف، ويتوجه نحوكم سيل من التهديد من قِبل من نستطيع تسميتهم بـ"خوارج اليوم".. وإن عشت كما يأمرك دينك تعرّضت للهجوم من قبل بعض البؤر التي لم تقدّم حتى الآن أي شيء إيجابي ولم يكن لها نصيب في أي أمر ناجح، وتحاك ضدك المؤمرات تلو المؤامرات. ثم تتحول هذه الهجمات الشرسة من قبل الذين يهينون الدين والمتديّنين، ويشوهون ماضيك وتاريخك، ويستهينون بقيَمك الملّية والدينية، ويشتمون آباءك وأجدادك... تتحول كل مظاهر هذا الانحراف والضلال وعدم التوازن إلى شراب سام وإلى صديد يسيل إلى داخلك ويجرّعك آلام الغربة ولوعتها.
أمام كل هذه السلبيات كم من الناس يصيبهم اليأس ويغرقوا فيه ويقولوا: "لا خير بعدُ في هذه الدنيا، وسيكون المستقبل أسوأ وأظلم".. وكم منهم من يفقد أمَله فيرخي لنفسه العنان ويدَع نفسه للتيار!... وهذا أمر طبيعي لكل من لم يُربّ على الإيمان وعلى الأمل... أجل! إن كان كل ما يتم بناؤه اليوم سيُهدم في المستقبل، وإن كان المخلصون يُتعقبون كالمجرمين ويُطاردون، وإن كان كل فرد يريد إقامة هذه الدنيا حسب أهوائه ورغباته، ويحطّم في هذا السبيل كل من يخالفه أو يختلف معه في آرائه وقيمه -وهذا ما يجرى في هذا الجزء البائس من الجغرافيا منذ عصرين- فلا يبقى عند أحد أي أمل أو أي عزم.
إن من الغريب أن هؤلاء الطغاة الأقزام والمنافقين من حولهم الذين يرتابون من أي عمل منجز باسم
. الدين والأخلاق والفضيلة ومن كل خدمة أيجابية، ويتهمون كل من يقوم بأي نشاط في هذا الإطار في هذه الدنيا البائسة المنكودة الخط، وينطرون إليهم وكأنهم شقاة وجناة... من الغريب إنهم لا يرون الحالة المأساوية لدنيا المسلمين وينسونها أو يتناسونها، بينما تسود في هذه المنطقة الجغرافية حالة رهيبة من الركود والشلل، فالأدمغة فيها لم تعد تنتج شيئًا منذ عصور، وكل مصادر القوة فيها معطلة... الخرائب في كل ناحية من نواحيها، والبوم ينعق فوق هذه الخرائب. والأنكى من هذا غدت هذه الدنيا العظيمة للمسلمين وكأنها مأوى تأوي إليها عفونات العالم... مأوى للعاطلين وللضعفاء. نذَروا أنفسهم لخدمة الإيمان من الذين نستطيع إطلاق اسم "جيل الفكر" عليهم. ولكن من المؤسف أن نرى أنّ أصواتهم تطغى على أفعالهم، وضجيجهم أقوى من أنشطتهم. فصراخهم -وهم يقومون بأنشطتهم وفعالياتهم- يؤدي أحياناً إلى شر أكثر مما يؤدي إلى الخير، وإلى زيادة مخاوف الذين أحاطت بهم الأوهام والمخاوف، وإلى فزع الملحدين، ويدفع بـ"كارهي الإسلام والنافرين منه" إلى النشاط ضده.. فإذا بالأصوات الصاخبة ترتفع من كل جانب، ثم تَتَتابع الهمهمات والشكاوى، ثم يأتي وقت تتحرك فيه المخابرات الأجنبية، وكتائب الجنود الأجانب. وفي النتيجة يتم تدمير كل ما بُني في السابق، وتُقطع الطرق، وتهدم الجسور، ويرجع كل شيء القهقرى إلى الوراء، وتتم تصفية كل تلك النشاطات والخدمات على مذبح الحقد والكراهية وطغيان العداء الأعمى... هذا هو ما جرى حتى الآن، فقد تشكلت معسكرات مختلفة في المجتمع نفسه، وحدثت نزاعات ومناوشات بين هذه المعسكرات، وجاء زمان تحولت فيه المناوشات والمبارزات الفكرية إلى مناوشات بالأيدي حتى اختلطت جميع الأوراق.
علماً بأن العقل والمعرفة والحكمة تشكل أساسًا مهمًّا في الإسلام. فالتفكر والتدبر والاستدلال والاجتهاد من ضرورات المجتمعات اللإسلامية. والرسول صلى الله عليه وسلم يدعو أمته إلى اتخاذ منطق العقل مرشداً لهم في ظل الوصايا القرآنية. فهو عندما يقول "قوام المرء بعقله، ولا دين لمن لا عقل له" (شعب الإيمان للبيهقي، 4/157) إنما يدعونا إلى أن نستخدم العقل والمنطق في كل أمر من أمورنا. والحقيقة أنه صلى الله عليه وسلم كان دائمًا بجانب العلم. ويبجّل العلماء، ولأول مرة كان هو القائل بأن العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، كما أنه هو القائل: "الحكمة ضالة المؤمن، فحيث وجدها فهو أحق بها" (رواه الترمذي وابن ماجه).
ولكن الغريب أنه على الرغم من قيامه بحثِّ أمته على العلم والحكمة، وعلى الرغم من مئات الآيات والأحاديث في هذا المضمار، وإصراره المتكرر في هذا الشأن، فإن المسلمين منذ عدة عصور لم يفهموا هذا، ووضعوا بينهم وبين العلم والمعرفة والفن حجاباً. بل الأسوأ من هذا أنهم أصبحوا من ناحية الفكر والبحث عاقرين وعقيمين وراكدين، وتركوا أنفسهم للاسترخاء إلى درجة أن دخولهم تحت حكم الآخرين ووصايتهم لم ينبّههم من غفلتهم هذه، ولم يدفعهم لمعرفة ما يجري حولهم، ومعظمهم لا يعرفون الحقيقة، ولا يملكون ميلاً للبحث عنها، ولا عشقاً لها. ولم أشاهد أحدًا منهم يشعر بالخجل والحرج لارتباطنا الوثيق في هذه الدنيا بغيرنا في مجال العلم والتكنولوجيا. فإن وجد بعضهم فهم في وضع لا يستطيعون فيه إسماع أصواتهم. أما عبوديتنا لله تعالى ومستوى إخلاصنا في الإيمان فهي تعادل تمامًا سلبياتنا الأخرى، وعباداتنا قد تحولت إلى فولكلور وإلى مجرد تقليد من التقاليد. وكان من الممكن أن يحطَّ عنا بعض أوزارنا لو كنا نحترم ونوقّر تقاليدنا... ولكن هيهات! فقد ترك هذا لمجريات الايام.
عندما يكون هذا هو الوضع فلا يمكن الحديث عن جوهر الإسلام في هذا العالم الإسلامي، ولا عن الفهم الصحيح لأوامره التشريعية، ولا عن استيعاب أسسه التكوينية وفقهها وتفسيرها والإحاطة بها. لذا ففي هذه المنطقة الجغرافية المظلمة التي تعيش فيها مجموعات من المسلمين، فقَدتْ لونها وملامحها، والتي تشوهت فيها لغتها ولهجتها حتى لم تعد مفهومة، نحتاج أول ما نحتاجه إلى إشعال عشق للحقيقة، وبعث لحب العلم والرغبة في البحث، ووجدان مفعم بنقاء الدين وجوهره. ولا يمكن أن ينقذ هذا العالم من هذه الوهدة السحيقة التي سقط فيها إلا مَن تَربّى على منهاج تربيته الأصيلة الذاتية من ذوي الأرواح الشابّة والعقول المتوقدة، ممن نذروا أنفسهم للحق تعالى، وتوحدوا في الهدف وفي الإيمان نفسه، لا يرجون منفعة شخصية.. من أصحاب الإرادة والعزم.. الساعين في الخدمة الإيمانية... العازمين على تخطي جميع المصاعب والعقبات.. من أبطال العلم والمعرفة والعزيمة الذين لايرجون أي نفع مادّي أو معنوي، سواء في الدنيا أو في الآخرة. لقد عشنا حتى الآن على أمل مجيء هؤلاء الأبطال، وسنبقى نعيش في انتظار قدومهم.