عدد المشاهدات:
إن المتأمل للسيرة النبوية العطرة يجد مواقف في غاية الرقي والعظمة تستحق منا الدراسة الواعية والعميقة للاستفادة منها، ولإعادة قراءة واقعنا على أضواء دروسها الخالدة ولتكون لنا محطة جديدة لتغيير أحوال أمتنا نحو الأفضل.
اليوم، يستقبل المسلمون في جميع بقاع الأرض عامًا هجريًا جديدًا ـ، تحتفل فيه الأمة الإسلامية بهجرة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم،
فالأخذ بمعاني الهجرة ضرورة حياتية، لأن الهجرة لم تكن انتقالاً مادياً من بلد إلى آخر فحسب، ولكنها كانت انتقالاً معنوياً من حال إلى حال، إذ نقلت الدعوة الإسلامية من حالة الضعف إلى القوة ومن حالة القلة إلى الكثرة، ومن حالة التفرقة إلى الوحدة، ومن حالة الجمود إلى الحركة.
فقد ورد في صحيح مسلم رحمه الله أن مجاشع بن مسعود السلمي رضي الله عنه قال: "جئتُ بأخي أبي معبد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفتح، فقلت: يا رسول الله بايعه على الهجرة. فقال صلى الله عليه وسلم: "قد مضت الهجرةُ بأهلها" قال مجاشع: فبأي شيء تبايعه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "على الإسلام والجهاد والخير"" .
ويقول صلى الله عليه وسلم: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها" [3].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، واذا استنفرتم فانفروا"" [4].
إنه لمن آكد الأمور أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخرج من مكة خائفا، وإنما هاجر منتصرًا بثباته وأصحابه ومنتقلاً إلى الأصعب ليكمل خطوات الرسالة، فرغم الحصار، ورغم الأسر، واصل المسير إلى المدينة لإيجاد موطئ قدم للدعوة لكي تنعم بالأمن والاستقرار حتى تستطيع أن تبني نفسها من الداخل وتنطلق لتحقيق أهدافها في الخارج، ولما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وجود رأي عام مؤيد للدعوة في المدينة حثّ أصحابه إلى الهجرة إليها وقال لهم: "هاجروا إلى يثرب فقد جعل الله لكم فيها إخواناً وداراً تأمنون بها" [6].
ولقد كان هذا الهدف أملاً يراود رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال مرة لأصحابه فيما رواه البخاري رحمه الله عن أبي موسى الأشعري رصي الله عنه: "رأيتُ في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي يثرب" ، ومن لحظة الأمل هذه بدأ العمل، وبدأ الجهاد، وبدأت التضحيات.
"ولكي تكون قومة إسلامية على النمط الأول لا تكفي شدائد تاريخية تجمع غضب الأمة، بل لا بد من مرور كل مومن من مدرسة الشدائد، يتربى فيها تربية تمكنه من الانقطاع عن ماضيه، وحاضره، ومألوفه، وراحته، وعلاقته بكل ما يشده إلى الأرض وشهواتها، ليرتبط بموعود الله، ولتملأ جوانحه محبة الله، والشوق إلى لقائه. فيهون عليه الموت، ويهون عليه من دونها بذل المال والجهد. من هذه المدرسة مَرَّ المهاجرون والأنصار أفرادا. حتى إذا آنَ أن يتجمع منهم جند الجهاد، تجسدت فيهم تلك التربية، وهي روح الجماعة، تنظيما مرصوصا لا يُقاوَم" [7].
ومن المبادئ التي أكد عليها القائد الأعظم صلى الله عليه وسلم أن الدين لله ويكون الدين لله والوطن للجميع والأرض وضعها للآنام إشارة إلي أن الدولة الاسلامية تتسع لكل مواطنيها بتعدد طوائفهم وعقائدهم وشرائعهم دون إقصاء لهذا أو احتواء كما نص على ذلك أعظم دستور سطر في تاريخ البشر، دستور المدينة الذي أصبح فيما بعد ملهما لأهم وثائق حقوق الإنسان في العالم.
حري بنا اليوم إعادة بناء الشخصية الإسلامية بكل أبعادها التربوية والفكرية والثقافية ولحضارية والعلمية وفق المنهاج النبوي، حتى نتمكن من أن نستعيد الثقة في مشروعنا الرباني الذي يبشر بكل قيم الخير والعدل، لتكوين رجال يقتدون بخريج مدرسة الهجرة سيدنا أبو بكر الصديق، الذي حين ولي الخلافة خطب خطبته الخالدة: "أيها الناس فإني قد وُلِّيت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قومٌ الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم" [8].
إن الباطل قد يظهر وقد يتسلط وينتشر ويهيمن على حياة الناس، وقد يعلوا أصحابه ويُملى لهم حتى يظنوا أنهم قد بلغوا إلى المكانة التي لا يتصور معها ذل ولا هزيمة ولا قدرة على أحد للوقوف أمامهم، كل ذلك قد يكون وقد يطول ولكن عاقبته الهلاك والدمار وسوء المصير، كما قال الله تعالى: وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [9].
وإن الحق منصور لا محالة، غير أن هذا النصر قد يتأخر، وقد يصيب المؤمنين قبل تحققه أنواع من الأذى والقهر، ولكن العبرة بالخاتمة، والعاقبة للمتقين، قال تعالى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ المَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ [10]، ألم تكن الهجرة إيذانًا من الله بزوال الطغاة حين كان النبي صلى الله عليه وسلم يُشهد المسلمين مصارعَ الطغاة وهو ما رأه المسلمون حقيقةً شاخصةً في انتصار بدر.
لقد سميت الهجرة نصرا رغم أنه لم ترق قطرة دم، قال الله عز وجل: إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [11]، وهذا اتساع لأفق النصر، فالثبات علي المبدأ نصر، والالتزام بالحق نصر، والوصول للأهداف سواء مرحلية أو كلية نصر.
لكننا نحتاج إلى التربية على اليقين بهذه الحقائق، ونزع ما تراكم في نفوسهم من شكوك وظنون سيئة بالله تعالى نتيجة النكبات المتلاحقة.
ختاما لا بد من التأكيد على حقيقة مفادها أنه ليست الهجرة انتقال من بلد ناء إلي بلد قريب، أو من أرض مجدبة إلي أرض خصبة، بل هي هجرة القلوب قبل البيوت. إن رجلا هاجر وهو ضعيف مريض عاجز فأدركه الموت في الطريق فقال من قال: لو وصل المدينة وأكمل الهجرة لحاز الأجر كله، فأنزل الله قرآنا يهدي النفوس ويطمئن القلوب ويربط الأعمال بالنيات ابتداء وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً [12].
يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى: "كانت الهجرة والنصرة، وتأمين القاعدة الاقتصادية، والربط المتين لكل هذا بِعُرا الإيمان، وبالعَقد والبيعة المفَصَّلة المنظمة، خُطوة حاسمة في الطريق إلى دولة القرآن. كانت فرحةً عارمةً يوم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة. فرحة عَبَرت كل طبقات الناس، وهزتهم، وطبعت حياتهم. قال البراء بن عازب رضي الله عنه: "ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما رأيت الناس فرحوا بشيء كفرحهم به. حتى رأيت النساء والصبيان والإماء يقولون: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء! وقال أنس رضي الله عنه: شهدْتُه يوم دخل المدينة فما رأيت يوما قط كان أحسن ولا أضْوأ من يوم دخل المدينة علينا. وشهدته يوم مات فما رأيت يوما قط كان أقبح ولا أظلم من يوم مات" [13].
"يوم تاريخي طبع ذاكرة الأجيال، فهو يوم التحول الحقيقي في مسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه. يوم كامِن في ضمير الأمة مذخور ليوم تحوّلٍ ممكن تستجده لنا الدعوة إن شاء الله على ذلك المنهاج الخالد" [14].
لنا في سورة القصص بوارق الأمل في وعد الله تعالى رغم أنف الجبارين، قال عز وجل: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ [15].
اللهم اجعلنا مهاجرين إليك، فارين إليك، متأسين بشيخ الأنبياء إبراهيم عليه وعلى مهاجرنا الحبيب الصلاة التسليم، وهو يقول: إني ذاهب إلى ربي سيهدين
اليوم، يستقبل المسلمون في جميع بقاع الأرض عامًا هجريًا جديدًا ـ، تحتفل فيه الأمة الإسلامية بهجرة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم،
فالأخذ بمعاني الهجرة ضرورة حياتية، لأن الهجرة لم تكن انتقالاً مادياً من بلد إلى آخر فحسب، ولكنها كانت انتقالاً معنوياً من حال إلى حال، إذ نقلت الدعوة الإسلامية من حالة الضعف إلى القوة ومن حالة القلة إلى الكثرة، ومن حالة التفرقة إلى الوحدة، ومن حالة الجمود إلى الحركة.
فقد ورد في صحيح مسلم رحمه الله أن مجاشع بن مسعود السلمي رضي الله عنه قال: "جئتُ بأخي أبي معبد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفتح، فقلت: يا رسول الله بايعه على الهجرة. فقال صلى الله عليه وسلم: "قد مضت الهجرةُ بأهلها" قال مجاشع: فبأي شيء تبايعه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "على الإسلام والجهاد والخير"" .
ويقول صلى الله عليه وسلم: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها" [3].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، واذا استنفرتم فانفروا"" [4].
إنه لمن آكد الأمور أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخرج من مكة خائفا، وإنما هاجر منتصرًا بثباته وأصحابه ومنتقلاً إلى الأصعب ليكمل خطوات الرسالة، فرغم الحصار، ورغم الأسر، واصل المسير إلى المدينة لإيجاد موطئ قدم للدعوة لكي تنعم بالأمن والاستقرار حتى تستطيع أن تبني نفسها من الداخل وتنطلق لتحقيق أهدافها في الخارج، ولما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وجود رأي عام مؤيد للدعوة في المدينة حثّ أصحابه إلى الهجرة إليها وقال لهم: "هاجروا إلى يثرب فقد جعل الله لكم فيها إخواناً وداراً تأمنون بها" [6].
ولقد كان هذا الهدف أملاً يراود رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال مرة لأصحابه فيما رواه البخاري رحمه الله عن أبي موسى الأشعري رصي الله عنه: "رأيتُ في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي يثرب" ، ومن لحظة الأمل هذه بدأ العمل، وبدأ الجهاد، وبدأت التضحيات.
"ولكي تكون قومة إسلامية على النمط الأول لا تكفي شدائد تاريخية تجمع غضب الأمة، بل لا بد من مرور كل مومن من مدرسة الشدائد، يتربى فيها تربية تمكنه من الانقطاع عن ماضيه، وحاضره، ومألوفه، وراحته، وعلاقته بكل ما يشده إلى الأرض وشهواتها، ليرتبط بموعود الله، ولتملأ جوانحه محبة الله، والشوق إلى لقائه. فيهون عليه الموت، ويهون عليه من دونها بذل المال والجهد. من هذه المدرسة مَرَّ المهاجرون والأنصار أفرادا. حتى إذا آنَ أن يتجمع منهم جند الجهاد، تجسدت فيهم تلك التربية، وهي روح الجماعة، تنظيما مرصوصا لا يُقاوَم" [7].
ومن المبادئ التي أكد عليها القائد الأعظم صلى الله عليه وسلم أن الدين لله ويكون الدين لله والوطن للجميع والأرض وضعها للآنام إشارة إلي أن الدولة الاسلامية تتسع لكل مواطنيها بتعدد طوائفهم وعقائدهم وشرائعهم دون إقصاء لهذا أو احتواء كما نص على ذلك أعظم دستور سطر في تاريخ البشر، دستور المدينة الذي أصبح فيما بعد ملهما لأهم وثائق حقوق الإنسان في العالم.
حري بنا اليوم إعادة بناء الشخصية الإسلامية بكل أبعادها التربوية والفكرية والثقافية ولحضارية والعلمية وفق المنهاج النبوي، حتى نتمكن من أن نستعيد الثقة في مشروعنا الرباني الذي يبشر بكل قيم الخير والعدل، لتكوين رجال يقتدون بخريج مدرسة الهجرة سيدنا أبو بكر الصديق، الذي حين ولي الخلافة خطب خطبته الخالدة: "أيها الناس فإني قد وُلِّيت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قومٌ الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم" [8].
إن الباطل قد يظهر وقد يتسلط وينتشر ويهيمن على حياة الناس، وقد يعلوا أصحابه ويُملى لهم حتى يظنوا أنهم قد بلغوا إلى المكانة التي لا يتصور معها ذل ولا هزيمة ولا قدرة على أحد للوقوف أمامهم، كل ذلك قد يكون وقد يطول ولكن عاقبته الهلاك والدمار وسوء المصير، كما قال الله تعالى: وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [9].
وإن الحق منصور لا محالة، غير أن هذا النصر قد يتأخر، وقد يصيب المؤمنين قبل تحققه أنواع من الأذى والقهر، ولكن العبرة بالخاتمة، والعاقبة للمتقين، قال تعالى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ المَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ [10]، ألم تكن الهجرة إيذانًا من الله بزوال الطغاة حين كان النبي صلى الله عليه وسلم يُشهد المسلمين مصارعَ الطغاة وهو ما رأه المسلمون حقيقةً شاخصةً في انتصار بدر.
لقد سميت الهجرة نصرا رغم أنه لم ترق قطرة دم، قال الله عز وجل: إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [11]، وهذا اتساع لأفق النصر، فالثبات علي المبدأ نصر، والالتزام بالحق نصر، والوصول للأهداف سواء مرحلية أو كلية نصر.
لكننا نحتاج إلى التربية على اليقين بهذه الحقائق، ونزع ما تراكم في نفوسهم من شكوك وظنون سيئة بالله تعالى نتيجة النكبات المتلاحقة.
ختاما لا بد من التأكيد على حقيقة مفادها أنه ليست الهجرة انتقال من بلد ناء إلي بلد قريب، أو من أرض مجدبة إلي أرض خصبة، بل هي هجرة القلوب قبل البيوت. إن رجلا هاجر وهو ضعيف مريض عاجز فأدركه الموت في الطريق فقال من قال: لو وصل المدينة وأكمل الهجرة لحاز الأجر كله، فأنزل الله قرآنا يهدي النفوس ويطمئن القلوب ويربط الأعمال بالنيات ابتداء وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً [12].
يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى: "كانت الهجرة والنصرة، وتأمين القاعدة الاقتصادية، والربط المتين لكل هذا بِعُرا الإيمان، وبالعَقد والبيعة المفَصَّلة المنظمة، خُطوة حاسمة في الطريق إلى دولة القرآن. كانت فرحةً عارمةً يوم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة. فرحة عَبَرت كل طبقات الناس، وهزتهم، وطبعت حياتهم. قال البراء بن عازب رضي الله عنه: "ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما رأيت الناس فرحوا بشيء كفرحهم به. حتى رأيت النساء والصبيان والإماء يقولون: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء! وقال أنس رضي الله عنه: شهدْتُه يوم دخل المدينة فما رأيت يوما قط كان أحسن ولا أضْوأ من يوم دخل المدينة علينا. وشهدته يوم مات فما رأيت يوما قط كان أقبح ولا أظلم من يوم مات" [13].
"يوم تاريخي طبع ذاكرة الأجيال، فهو يوم التحول الحقيقي في مسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه. يوم كامِن في ضمير الأمة مذخور ليوم تحوّلٍ ممكن تستجده لنا الدعوة إن شاء الله على ذلك المنهاج الخالد" [14].
لنا في سورة القصص بوارق الأمل في وعد الله تعالى رغم أنف الجبارين، قال عز وجل: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ [15].
اللهم اجعلنا مهاجرين إليك، فارين إليك، متأسين بشيخ الأنبياء إبراهيم عليه وعلى مهاجرنا الحبيب الصلاة التسليم، وهو يقول: إني ذاهب إلى ربي سيهدين