عدد المشاهدات:
علم القدر
- كيف
صفة المقادير؟.
الجواب:
والمقادير جمع مفرده مقدور أي مقدر، وهذه المقادير الإلهية التي قدرها الله على
خلقه منها ما هو خير لهم ومنها ما هو شر لهم وذلك شأنه جلَّ
جلاله في اختباره لعباده قال الله تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ
وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾، [35،
الأنبياء]. فإذا
ابتلاهم بالخير سارعوا إلى شكر الله وحمده والثناء عليه عزَّ
شأنه، وإذا ابتلاهم بالشر سارعوا في الدعاء والتضرع إلى الله سبحانه
وتعالى في كشفه عنهم، ودفع السوء والضر عنهم، وأن صفات هذه المقادير كثيرة
جدًا بحسب الأحوال التي تأتي بها ولكنها ترجع في جملتها إلى هذين الأمرين (الخير
والشر) قال العارف بالله:
كل ما يجري فعن قدر برسوم خطها القلم
وقال الله تعالى:
﴿َوَخَلَقَ
كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾، [35،
الأنبياء]. وقال جلَّ
شأنه: ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ عَالِمُ الْغَيْبِ
وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ﴾، [2،
الفرقان]. فما من حركة ولا سكون ولا حياة
ولا موت ولا ضر ولا نفع ولا غنى ولا فقر ولا صحة ولا مرض ولا ذل ولا نعيم ولا شقاء
ولا إيمان ولا كفر ولا طاعة ولا معصية ولا أي شيء كائنًا ما كان إلا وهو بتقدير
الله عزَّ وجلَّ.
والمؤمن قد امتلأ قلبه بهذه العقيدة التي ترجع
كل شيء إلى الله جلَّ شأنه فما شاءه الله كان وما لم يشأ لم يكن جفت
الأقلام وطويت الصحف ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
- ما سبب علم القدر الذي طوي عن الرسل فمن
دونهم.
الجواب: إن في هذا السؤال كلمة محذوفة يقتضيها
السؤال ألا وهي (إخفاء) وعليه يكون السؤال هكذا ـ ما سبب إخفاء علم القدر الذي طوي
عن الرسل فمن دونهم؟.
وعلم القدر هو معرفة ما قدره الله من الأمور
في علمه القديم جلَّ شأنه، وإن القدر سر من أسرار الربوبية وغيب من
الغيوب الإلهية، ولا يطلع الله عليه أحدًا من عباده المقربين إلا من ارتضاه من
رسله وأنبيائه وورثتهم لأنهم أمناء الله على أسراره، وحفاظ الله على غيوبه، لأن
قلوبهم وسعت الأمجاد الإلهية والأقداس الربانية، والمعاني العظموتية، والكمالات
الكبريائية، والجلالات القهرماتيه، والجمالات الرحمانية والمواجهات السَّنيِة
والتنزلات الحنانية، وغيرها من معاني الحق تبارك
وتعالى.
فلا عجب أن تكون قلوبهم مكاشفة لأسرار القدر،
وقد أشار إلى هذه المعاني الإمام أبو العزائم رضي الله
عنه بقوله:
أشرقت شمسي على أرض القمر فانجلت للروح أسرار القدر
وقد قال الله تعالى:
﴿ وَمَا
كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن
رُّسُلِهِ مَن يَشَاء ﴾، [179،
آل عمران]. يعني
يختار من يشاء من رسله ليطلعهم على الغيب، وقال الله تعالى: ﴿فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ
أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ
يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا﴾، [26-27،
الجن]. يعنى أن علم الغيب الذاتي محظورا
على جميع الخلق إلا على من ارتضاه الله لنفسه من رسله فإنه يفتح الأبواب من بين
يديه ويكشف الحجاب له حتى يرى غيوب الله العلية فيراها من خلفه كما يراها من أمامه
وكما يراها أيضا من كل ناحية.
هذا وإن لورثة سيدنا رسول الله الكاملين نصيب
من هذا المشهد الأعلى على قدر كل منهم رضي الله
عنهم أجمعين، وعليه فإن علم
القدر الذي طوي عن الرسل، إنما هو العلم بجميع الأقدار الإلهية، أما العلم ببعضها
فقد بُسِطَ لهم عليهم السلام، وقد أوتي رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم منه النصيب الأكبر، وإن سبب إخفاء ما أخفاه الله عنهم من هذا العلم إنما
هو انفراد الذات الأحدية بغيوب وأقدار وأسرار لم يكاشفهم بها ليكون له جلَّ
جلاله التصرف التام المطلق
في جميع عوالمه من غير أن يكون لأحد من عباده ـ ولو كان من خاصة المرسلين ـ أي علم
بما سيفعله جلَّ شأنه وبما اختص به لذاته جلَّ
جلاله.
وفي هذا المقام يقول الله عزَّ
وجلَّ على لسان حبيبه
ومصطفاه صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ
لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ﴾،
[179، آل عمران].
ويقول أيضًا جلَّ شأنه: ﴿وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي
وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾،
[9، الأحقاف].
وإن كان في مقام آخر قد كاشفه الله حسب مشيئته بأسرار أقداره، وحقائق غيوبه ما كان
منها وما هو كائن وما سيكون حيث أخبرنا سيدنا رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم بالكثير منها في أحاديثه الشريفة
عن الغيبيات وذلك مثل: { ستفتحون بعدي مداين عظامًا وتتخذون
في أسواقها مجالس فإذا كان ذلك فردوا السلام وغضوا من أبصاركم واهدوا الأعمى
وأعينوا المظلوم}.[1]
وقال أيضًا صلى الله عليه وآله وسلم:
{ستكون فتن يصبح الرجل فيها مؤمنًا ويمسي كافرًا إلا من أحياه الله
بالعلم والرؤيا}.[2]
وحيث قال الله سبحانه وتعالى له صلى الله عليه وآله وسلم:
﴿وَاصْبِرْ
لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾، [48،
الطور]. فإنه صلى
الله عليه وآله وسلم مُمَدٌ بأعين الحق جلَّ
جلاله حيث يرى بهذه الأعين، ويدرك بهذه الأعين ويعلم ويسمع بهذه الأعين،
ولذلك فإنه صلى الله عليه وآله وسلم
يرى ويسمع من أخبار الغيوب الإلهية، وأسرار الأقدار الربانية، ما يحظى برؤية
اليسير منه غيره من النبيين والملائكة المقربين، ولنا شاهد على ذلك وهو أن سيدنا
جبريل عليه السلام وهو رئيس الملائكة وأمين الوحي
الإلهي لم يستطع أن يتجاوز سدرة المنتهى ووقف عند مقامه وعند منتهى علمه، وقد
تجاوز سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
السدرة وما فوقها وما فوق فوقها إلى ما شاء الله قربًا واقترابًا من حضرة الغيب
الأعلى جلَّ شأنه.
حيث رأى وسمع وعلم ما لم يدره أحد من قبل ولا
من بعد، وحيث أوحى الله إليه ما أوحاه من خاصة أسراره ومن غيوب أقداره.
ومع هذا كله فإن لله عزَّ
وجلَّ أقدارًا وغيوبًا
وأسرارًا لم يطلع عليها حبيبه ومصطفاه ولكن اختص بها الحق تبارك
وتعالى لذاته، وتفرد بها
لجنابه وهو سبحانه اللطيف الخبير والعليم الحكيم. قال الله تعالى في شأن رسله عليهم
السلام:
﴿وَلاَ
يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء﴾،
[255، البقرة].
صدق الله العظيم.
- ولأي شيء طوى؟.
الجواب: إن علم القدر وإن أطلع الله عليه رسله
وأنبياءه وورثتهم، إلا أن الله لم يطلعهم عليه إطلاعًا كليا وشاملاً من جميع
نواحيه كعلمه تعالى، ولكنه سبحانه أعلمهم بسر القدر على قدر طاقتهم، وعلى قدر ما
يعينهم على تبليغ دعوتهم ورسالتهم، وعلى قدر ما على مثله يهتدي به الناس ويؤمنون
وقد احتفظ الله سبحانه وتعالى لنفسه جلَّ شأنه بالإحاطة الكاملة، والعلم التام بجزئيات جميع
على القدر لينفرد سبحانه وتعالى بالإحاطة بكل شيء قال تعالى:
﴿عَالِمِ
الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي
الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾،
[3، سبأ].وإن
ما أخفاه الله عن رسله وعن أولياءه إنما هو رحمة من الله بهم، وشفقة منه جلَّ
جلاله عليهم.
هذا وإن ما علمه الأنبياء والرسل وورثتهم من
أسرار هذا الغيب إنما هو نزر يسير جدًا بالنسبة لأقدار الله عزَّ
وجلَّ، وإن ما أعلمهم الله
به من هذا القدر كان على سبيل التكريم لهم والتمييز لهم والتفضيل على سائر
العالمين.
هذا وإن علم القدر لا يطلبه طالب، ولا يبحث
عنه راغب، لأنه لا ينال به على من يحب من عباده والله ذو الفضل العظيم.
فهو علم لا ينال بالطلب، ولا بسعي إليه على
قدم، بل هو فضل من المتفضل جلَّ جلاله بتفضل لا باكتساب، ولكنه منحة من حضرة الكريم الوهاب، والله ورسوله
أعلم.
- ومتى ينكشف سر القدر؟.
الجواب: إن الله عزَّ
وجلَّ يتفضل على رسله
وأنبيائه وعلى ورثتهم بالكمال النسبي بالنسبة لذاته سبحانه
وتعالى ويتفضل عليهم بالكمال
المطلق بالنسبة لجميع عباده، فيمنحهم سمعًا من سمعه جلّ
شأنه، وبصرًا من بصره،
وعلما من لدنه، ونورًا من حضرة نوره تبارك
وتعالى، فيصير الواحد منهم
يسمع بالله ويبصر بالله، ويعلم بالله ويعمل بالله، وينور بنور الله، ويتحرك ويسكن
بالله، فيكون عبدًا ربانيًا قال الله تعالى في الحديث القدسي:
﴿عبدي أطعني
أجعلك ربانيا تقول للشيء كن فيكون﴾، وقال جلَّ
شأنه في الحديث القدسي: ﴿ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل
حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش
بها ورجله التي يمشي بها﴾،[3]
إلى آخر الحديث، وعند ذلك ينكشف لهم سر القدر أما الرسل والأنبياء فإن سر القدر
ينكشف لهم عند بدء الوحي.
هذا ولقد كانت النوافل في حق رسل الله
وأنبيائه فرائض، وكذلك كانت عند أهل الإيمان الكامل واليقين الحق، فإنهم رضي
الله عنهم
كانوا يسارعون في أدائها كما يسارعون في أداء الفرائض لأن رسول الله حثهم عليها،
وطلبها منهم، وكانوا يرون أن الاستجابة لرسول الله فرض عليهم ولو كان المطلوب منهم
نافلة تشبها برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتأسيًا به.
ومن هنا أحبهم الله وأعطاهم ما أعطاهم إيثارًا
لهم وتفضيلاً لهم على كثير من عباده المؤمنين.
- وأين ينكشف لهم؟.
الجواب: ومعنى هذا السؤال في أي شيء ينكشف
للرسل والأولياء سر القدر فنقول وبالله التوفيق، أنه ينكشف لهم في أنفسهم لأنها
محل العلم والمعرفة والتجليات القدسية بعلوم القدر وأسراره فتكون قلوبهم لوحًا
محفوظًا من شياطين الإنس والجن.
وقد سطر الله فيها هذه العلوم والأسرار،
تمكينًا لهم في هذا المقام وتثبيتًا لقلوبهم بما يفاض عليها من أسرار القدر وغيوبه
قال الله تعالى: ﴿يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ
آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ﴾،
[255، البقرة].
والقول الثابت هو قول الحق تبارك وتعالى
الذي يقذفه في قلوب أحبابه فيثبتهم به فلا يروعهم شيء، ولا يزعجهم شيء، ولا يقهرهم
شيء لمعاينتهم أسرار القدر، وفي هذا المعنى يقول الإمام أبو العزائم رضي
الله عنه:
أشرقت شمسي على أرض القمر فانجلت للروح أسرار القدر
صرت أفقًا لا تحيط بي النهـي بل محيط جامع غيب ظهـر
- ولمن ينكشف منهم؟.
الجواب:
إن لكل رسول ولكل ولي نصيب من العلم بالقدر وبأسراره على حسب مقام كل منهم عند
الله ورسوله، وذلك لأن منازل الرسل والأنبياء والأولياء تتفاوت عند الله عزَّ
وجلَّ، فإن لكل واحد منهم مقامًا معلوما له، وهو المقام الذي ينتهي إليه،
وقد قلنا أن القدر ينكشف لهم جميعًا على قدرهم، لأنهم أهل الله وخاصته من بين
عباده، وأحباب الله وخلفائه من دون بريته فكان لهم هذه الميزة والفضيلة جعلنا الله
منهم آمين.
وإنما
ينكشف علم القدر لرسل الله وكُمَّل أوليائه، كل واحد منهم على قدره، إذ أنهم
جميعًا قد اصطفاهم الله واجتباهم بنسب ودرجات متفاوتة، وأن ما ينكشف لأحدهم لا
ينكشف للآخر، وذلك لكثرة الأقدار الإلهية إلى ما لا نهاية، وما أخفاه الله عنهم
منها أكثر وأعظم لأن القدر عظيم جدًا بقدر عِظَم المُقَدِّر جلَّ
جلاله. فسبحان ذي القَدَّر والأقدار، وسبحان مقلب القلوب والأبصار، وسبحان
مدبر الأمر بالليل والنهار وهو العليم القدير.
لفضيلة
العارف بالله
الشيخ
محمد سلامة
مديرأوقاف
بور سعيد سابقا