عدد المشاهدات:
إخوانى جماعة المؤمنين: لا يزال كلام ربِّ العالمين يذكرنا بمنَّة الله عزَّ وجلَّ وإعظامه لخير النبيين فى كل وقتٍ وحين، مبيِّناً أن نُصرة الله عزَّ وجلَّ له تغنيه عن جميع الناصرين، وتأييد الله سبحانه وتعالى يغنيه عن كثرة المرافقين، لأن الله تولَّاه بولايته، وأيَّده بنصره وجعله دائماً وأبداً فى كفالة الله وحرزه وصيانته، يذكِّرنا الله عزَّ وجلَّ بذلك لنعى جميعاً أن من تولَّى الله والاه مولاه، ومن اعتصم بالله كفاه الله همَّ كلِّ من عاداه، ومن يتق الله جعل الله له فى كل أمر فرجاً قريباً، بتيسير ولطف الله جلَّ فى علاه، فيقول لنا عن حبيبه ومصطفاه، وهو يخاطب الأولين والآخرين: (إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا) (40التوبة).
ولم يقل إلَّا تنصروه فقد ينصره الله - لأن هذا يعنى أن نصرالله يأتى لاحقاً، لكنه يقول: إلا تنصروه، أو تخذلوه (فقد نصره الله) ــ لأن نصر الله من قبل القبل، فقد نصره الله بصيغة الماضى، نصره الله قبل خلق الكائنات، وقبل ملئ الأرض بالمعمورات، وبمن عليها من سكان، فإن نصر الله يقين ثابت لحبيبه صلَّى الله عليه وسلَّم -ـ فكيف نصر الله حبيبه فى هجرته؟ -ـ لأن نصر الله لحبيبه مستمر طوال بعثته.
نصره عند خروجه من مكة إلى المدينة، ونصره عند دخوله المدينة، فقد خرج من مكة وقد أحاط بالبيت أكثر من أربعين رجلاً مدجّجين بالسلاح، وكانوا يتحدثون ويقولون لبعضهم: إن محمداً يزعم أن رسالته ستنتشر وسيكون له جنان كجنان الأردن وبلاد العراق، فخرج عليهم وقال: (نعم أنا أقول هذا)، فلم يسمعوه، ثم أخذ حفنة من التراب وطاف عليهم وهم جلوس، ووضع على رأس كل فارس منهم حفنة من تراب، وخرج من بينهم سالماً غانماً بتاييد الله، ونصرة الله لحبيبه صلى الله عليه وسلَّم، وظلوا على حالهم حتى جاء قائدهم أبو جهل يمرُّ عليهم، وقال لهم: أين محمدٌ؟، قالوا: فى المنزل. قال لهم : خيـَّبكم الله، لقد خرج من بينكم، وما ترك رجلاً منكم إلاّ ووضع على رأسه حفنةً من التراب، وخلع حذاءه وأخذ يقرعهم به تأديباً لهم -ـ لأن الحبيب صلى الله عليه وسلمّ خرج من بينهم ولم يشعروا به: (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) (9يس)، فلم يروه ولم يسمعوه.
ثم مشى إلى الغار، وآثاره واضحة، لأنه كان من معجزاته صلى الله عليه وسلَّم أن الكون كله يساعده، فإذا مشى على الرمال تتجمَّد تحت قدمه حتى لا تسيخ قدمه فيها، فلا يرى له أثر على الرمل، وإذا مشى على الصخر يلين تحت قدمه حتى لا يشعر بمشقة، فيترك أثراً لقدمه فى الصخرة الصماء، فتتبعوا آثار أقدامه على جبل ثور حتى وصلوا إلى قمة الغار، فحماه الله من الأبصار
وعندما اقتربوا من الغار، وأراد بعضهم أن ينظر من تحت الغار، قال الصديق الشفيق: يا رسول الله، لو نظر أحدهم تحت قدميه لرأنا. قال: يا أبا بكر، ما ظنُّك باثنين الله ثالثهما؟!! انظر، فنظر فى مؤخرة الغار، فوجد بحراً متلاطم الأمواج، يقف بساحله سفينة على أكمل أهبّة الإستعداد للسفر، والبحارة عليها جاهزون، فقال صلى الله عليه وسلَّم: ( إن جاءوا من هنا خرجنا من هاهنا).
(إلا تنصروه فقد نصره الله) ــ فكان نصر الله لحبيب الله ومصطفاه، وسلَّمه من جميع أعدائه، حتى خرج من الغار، وفى الطريق حماه من كل عدوٍّ، بل جعل العدوَّ له صديقاً، فبعد أن كان سراقة ينافس الريح للحصول على الجائزة بالقبض على الحبيب وعلى رفيقه، تحوَّل بأمر الله إلى صديق!! كلما قابل نفراً من الكفار قال لهم: لا تمشوا فى هذا الطريق فقد كفيتموه، إنى سلكت هذا الطريق كله وليس فيه أثرٌ لمحمدٍ - مع أنه الطريق الذى يمشى فيه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وصدق الإمام البوصيرى رضى الله عنه يقول:
ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على خير البرية لم تنسج ولم تحمِ
وقاية الله أغنت عن مضاعفـــةٍ من الدروع وعن عالٍ من الإطمِ
فالصدق فى الغار والصديق لم يرما وهم يقولون ما بالغار من إرمِ
فوقاية الله كفته صلَّى الله عليه وسلَّم مكر كل أعدائه بأمر الله .
ثم كان إعجاز الله لنبيِّه ومصطفاه، لأنه أراد ان يدخله المدينة دخول الفاتحين المنصورين الظافرين، فقبل دخوله المدينة بحوالى خمسة كيلومترات، خرجت قبيلة أسلم وعلى رأسهم قائدهم بريدة بن الحُصيب الأسلمى، وهم سبعون رجلاّ وقالوا نذهب ونأخذ هذا الرجل، وننال الجائزة مائة جمل، فلما وصلوا إلى حضرة النبى وصحبه إعترضهم بريدة وقال: من الرجل؟، قال: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلَّم - ولم ينكر ذاته الشريفة، ولم يغيِّر ــ ثم قال صلى الله عليه وسلَّم: ومن أنت؟ قال: بريدة الأسلمى، فقال صلى الله عليه وسلَّم: سلمت يا أبا بكر. يا بريدة أما آن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله؟!!.
(أَفَمَنْ شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلاسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) (22الزمر)
فشرح الله صدره للإسلام، ثم التفت إلى من معه وقال لهم: ما ترون؟، قالوا: نحن معك، فأسلموا أجمعون، ثم قال بريدة: يا رسول الله، أتدخل المدينة هكذا؟، قال: نعم، قال بريدة: لا والله لا يكون أبداً، فخلع عمامته، وجعلها علماً أبيضَ على رأس رمحه [رايةً]، وصفَّ رجاله صَفَّين، صَفّأً على اليمين، وصَفّاً على اليسار، وسار فى المقدمة رافعاً علمه، وقال: يا رسول الله تقدَّم فسِر بين الصفين، فهذا مكانك كما أمر ربُّ العالمين.
قوّة تشريفية إلهيـّة أرسلها ربُّ البرية - حرس إلهى - ليدخل النبى المدينة ومخايل النصر تظهر فى جبينه الوضَّاح فى كل البطاح وكل البقاع. وكانت ثيابه قد أصابها شيئٌ من السفر، لأن السفر إستغرق أسبوعاً، وإذا بالزبير بن العوّام، وطلحة الخير بن عبيد الله، كانا فى تجارة إلى بلاد الشام ومعهما ملا بس بيضاء نقيَّة لا تليق إلا بالملوك، فقابلوا الحبيب صلى الله عليه وسلَّم، فقالوا: يا رسول الله، أتدخل المدينة هكذا؟!!، لا والله لا يكون هذا أبداً، معنا ملابس اشتريناها ممن يبيعونها لملوك عُمان، وملوك حضرموت، فتفضَّل يا رسول الله ثوبين فالبسهما، فلبس صلى الله عليه وسلَّم ملابس الملوك، ومشى فى حراسة ملك الملوك متجملاً بقول الله: (إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله) (40التوبة).
أين يسكن؟!!، وأين ينزل؟!!. تنافس الأنصار، وكل واحد منهم يريد أن ينزل الرسول عنده فى داره، وما علموا أن الله عزَّ وجلَّ قد ملّك للنبى صلى الله عليه وسلَّم بيتاً فى المدينة، منذ ثلاثمائة عام، بحُجَّةٍ موثَّقة!!.
فقد خرج تُبّع ملك اليمن بجندٍ لا قبل لها غازياً المدينة ــ قبل هجرة النبى صلى الله عليه وسلَّم بثلاثمائة عام -ـ ولما أحاط جنده بالمدينة، وكان قد سبقه اليهود إليها، لأنهم يعلمون أنها موضع هجرة النبىِّ الذى سيبعث فى آخر الزمان - خرج إليه أحبار اليهود وقالوا: أعزَّ الله الملك، إنك لن تستطيع أن تفتح هذه المدينة. قال: ولِـمَ؟، قالوا: لأنها عندنا فى كتبنا مبعث نبىٍّ يبعثه الله فى آخر الزمان، ويختم الله عزَّ وجلَّ به الأنبياء أجمعين.
وكان يصحب معه أربعين عالماً يستشيرهم فى خواص أموره فاستشارهم، فأيدوهم فى هذا الكلام، فبنى لكل عالم بيتاً وزوَّجه جارية، وأعطاه من النفقات ما يكفيه، وجعل لكل عالم منهم بيتاً من طابق واحد، وجعل لزعيمهم بيتاً من طابقين، وأسكنه فيه وأعطاه خطاباً مختوماً إلى حضرة النبىِّ وقال له: هذا بيته بنيته له، وعند هجرة النبى يكون ملكاً له، وكتب وثيقة وقال فيها أبياتاً تشهد بأنه أسلم لحضرة النبى.
ولما وصل النبى صلى الله عليه وسلَّم إلى موضع مسجده المبارك، وأناخت ناقته بأمر الله، لأنه كان يقول لهم: (دعوها فإنها مأمورة)[1]- وجاء الأنصار يتهافتون على حمل متاعه إلى دورهم، وجاء أبو أيّوب النصارى، وقال أنا أقربهم داراً، قال صلى الله عليه وسلَّم: لك ذلك يا أبا أيوب، ولما دخل البيت واستقر فيه، قال: يا أبا أيوب، أين خطاب تُبع؟. فأخرج الخطاب من خزانة يحفظه فيها عن أجداده منذ ثلاثمائة عام، وفي الوثيقة يقول:
شـــــهدت على أحمد أنه رسـولٌ من الله بارى النَّسم
فإن مُدّ عمرى إل عمــره لكنت نصــيراً له وابن عــم
وجالدت بالسـيف أعداءه وفرَّجت عن صدره كلَّ غـــمّ
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: (أول من آمن بى تُبـّع. يرحم الله تُبعاً، يبعث أمة وحده)[2]ـ فسكن فى بيته الذى بناه له تُبع بأمر ربِّه، ولم يسكن بيت أحدٍ بناه له من الخلق، لأنه كان فى كفالة الحق، ولا يزال تصيبه عناية الحق، قال صلى الله عليه وسلم: (المهاجر من هجر ما نهى الله عنه)[3]، وقال صلى الله عليه وسلَّم: ( لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونيَّة)[4]..
إخوانى جماعة المؤمنين : إن النصر فى كل زمان ومكان بيد النصير عزَّ وجلَّ:
(وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ الله الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) (126آل عمران).
فإن شئنا أن ينصرنا الله كما نصر حبيبه ومصطفاه على أعدائه، وعلى الخلافات التى بين بعضنا، والتى إنتشرت فى مجتمعنا، علينا أن ننتصر أولاً على أنفسنا ونجعلها على شرع الله، قائمةً بكتاب الله، متابعة هدى حبيب الله ومصطفاه، وهنا لا تقف أمامنا أية عائقة أو عقبة فى الأرض ولا فى السماء، لأن النصر قال لنا فيه الله:
(إِنْ تَنْصُرُوا الله يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (7محمد).
فكيف ننصر الله؟!!. ننصر شرعه بأن نجعله هو القائم بيننا، وهو المهيمن على شئون حياتنا، وهو المسيطر على أخلاقنا وسلوكنا، وهو الدستور الذى ننفذه فيما بيننا. فإذا نصرنا الله وشرع الله، وأقمنا حياتنا فى بيوتنا على شرع الله، وأحوالنا فى مجتمعنا على هدى كتاب الله وسنة حبيبه ومصطفاه، فلن تقف أمامنا أى قوة وإن عظمت.
( كَتَبَ الله لاغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (21المجادلة)
متى؟!!، إذا كنا على منهاج الله، وإذا كنا على شرع الله.
***************************
خطبة جمعة لفضيلة الشيخ المجدد فوزى محمد ابوزيد
ولم يقل إلَّا تنصروه فقد ينصره الله - لأن هذا يعنى أن نصرالله يأتى لاحقاً، لكنه يقول: إلا تنصروه، أو تخذلوه (فقد نصره الله) ــ لأن نصر الله من قبل القبل، فقد نصره الله بصيغة الماضى، نصره الله قبل خلق الكائنات، وقبل ملئ الأرض بالمعمورات، وبمن عليها من سكان، فإن نصر الله يقين ثابت لحبيبه صلَّى الله عليه وسلَّم -ـ فكيف نصر الله حبيبه فى هجرته؟ -ـ لأن نصر الله لحبيبه مستمر طوال بعثته.
نصره عند خروجه من مكة إلى المدينة، ونصره عند دخوله المدينة، فقد خرج من مكة وقد أحاط بالبيت أكثر من أربعين رجلاً مدجّجين بالسلاح، وكانوا يتحدثون ويقولون لبعضهم: إن محمداً يزعم أن رسالته ستنتشر وسيكون له جنان كجنان الأردن وبلاد العراق، فخرج عليهم وقال: (نعم أنا أقول هذا)، فلم يسمعوه، ثم أخذ حفنة من التراب وطاف عليهم وهم جلوس، ووضع على رأس كل فارس منهم حفنة من تراب، وخرج من بينهم سالماً غانماً بتاييد الله، ونصرة الله لحبيبه صلى الله عليه وسلَّم، وظلوا على حالهم حتى جاء قائدهم أبو جهل يمرُّ عليهم، وقال لهم: أين محمدٌ؟، قالوا: فى المنزل. قال لهم : خيـَّبكم الله، لقد خرج من بينكم، وما ترك رجلاً منكم إلاّ ووضع على رأسه حفنةً من التراب، وخلع حذاءه وأخذ يقرعهم به تأديباً لهم -ـ لأن الحبيب صلى الله عليه وسلمّ خرج من بينهم ولم يشعروا به: (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) (9يس)، فلم يروه ولم يسمعوه.
ثم مشى إلى الغار، وآثاره واضحة، لأنه كان من معجزاته صلى الله عليه وسلَّم أن الكون كله يساعده، فإذا مشى على الرمال تتجمَّد تحت قدمه حتى لا تسيخ قدمه فيها، فلا يرى له أثر على الرمل، وإذا مشى على الصخر يلين تحت قدمه حتى لا يشعر بمشقة، فيترك أثراً لقدمه فى الصخرة الصماء، فتتبعوا آثار أقدامه على جبل ثور حتى وصلوا إلى قمة الغار، فحماه الله من الأبصار
وعندما اقتربوا من الغار، وأراد بعضهم أن ينظر من تحت الغار، قال الصديق الشفيق: يا رسول الله، لو نظر أحدهم تحت قدميه لرأنا. قال: يا أبا بكر، ما ظنُّك باثنين الله ثالثهما؟!! انظر، فنظر فى مؤخرة الغار، فوجد بحراً متلاطم الأمواج، يقف بساحله سفينة على أكمل أهبّة الإستعداد للسفر، والبحارة عليها جاهزون، فقال صلى الله عليه وسلَّم: ( إن جاءوا من هنا خرجنا من هاهنا).
(إلا تنصروه فقد نصره الله) ــ فكان نصر الله لحبيب الله ومصطفاه، وسلَّمه من جميع أعدائه، حتى خرج من الغار، وفى الطريق حماه من كل عدوٍّ، بل جعل العدوَّ له صديقاً، فبعد أن كان سراقة ينافس الريح للحصول على الجائزة بالقبض على الحبيب وعلى رفيقه، تحوَّل بأمر الله إلى صديق!! كلما قابل نفراً من الكفار قال لهم: لا تمشوا فى هذا الطريق فقد كفيتموه، إنى سلكت هذا الطريق كله وليس فيه أثرٌ لمحمدٍ - مع أنه الطريق الذى يمشى فيه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وصدق الإمام البوصيرى رضى الله عنه يقول:
ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على خير البرية لم تنسج ولم تحمِ
وقاية الله أغنت عن مضاعفـــةٍ من الدروع وعن عالٍ من الإطمِ
فالصدق فى الغار والصديق لم يرما وهم يقولون ما بالغار من إرمِ
فوقاية الله كفته صلَّى الله عليه وسلَّم مكر كل أعدائه بأمر الله .
ثم كان إعجاز الله لنبيِّه ومصطفاه، لأنه أراد ان يدخله المدينة دخول الفاتحين المنصورين الظافرين، فقبل دخوله المدينة بحوالى خمسة كيلومترات، خرجت قبيلة أسلم وعلى رأسهم قائدهم بريدة بن الحُصيب الأسلمى، وهم سبعون رجلاّ وقالوا نذهب ونأخذ هذا الرجل، وننال الجائزة مائة جمل، فلما وصلوا إلى حضرة النبى وصحبه إعترضهم بريدة وقال: من الرجل؟، قال: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلَّم - ولم ينكر ذاته الشريفة، ولم يغيِّر ــ ثم قال صلى الله عليه وسلَّم: ومن أنت؟ قال: بريدة الأسلمى، فقال صلى الله عليه وسلَّم: سلمت يا أبا بكر. يا بريدة أما آن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله؟!!.
(أَفَمَنْ شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلاسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) (22الزمر)
فشرح الله صدره للإسلام، ثم التفت إلى من معه وقال لهم: ما ترون؟، قالوا: نحن معك، فأسلموا أجمعون، ثم قال بريدة: يا رسول الله، أتدخل المدينة هكذا؟، قال: نعم، قال بريدة: لا والله لا يكون أبداً، فخلع عمامته، وجعلها علماً أبيضَ على رأس رمحه [رايةً]، وصفَّ رجاله صَفَّين، صَفّأً على اليمين، وصَفّاً على اليسار، وسار فى المقدمة رافعاً علمه، وقال: يا رسول الله تقدَّم فسِر بين الصفين، فهذا مكانك كما أمر ربُّ العالمين.
قوّة تشريفية إلهيـّة أرسلها ربُّ البرية - حرس إلهى - ليدخل النبى المدينة ومخايل النصر تظهر فى جبينه الوضَّاح فى كل البطاح وكل البقاع. وكانت ثيابه قد أصابها شيئٌ من السفر، لأن السفر إستغرق أسبوعاً، وإذا بالزبير بن العوّام، وطلحة الخير بن عبيد الله، كانا فى تجارة إلى بلاد الشام ومعهما ملا بس بيضاء نقيَّة لا تليق إلا بالملوك، فقابلوا الحبيب صلى الله عليه وسلَّم، فقالوا: يا رسول الله، أتدخل المدينة هكذا؟!!، لا والله لا يكون هذا أبداً، معنا ملابس اشتريناها ممن يبيعونها لملوك عُمان، وملوك حضرموت، فتفضَّل يا رسول الله ثوبين فالبسهما، فلبس صلى الله عليه وسلَّم ملابس الملوك، ومشى فى حراسة ملك الملوك متجملاً بقول الله: (إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله) (40التوبة).
أين يسكن؟!!، وأين ينزل؟!!. تنافس الأنصار، وكل واحد منهم يريد أن ينزل الرسول عنده فى داره، وما علموا أن الله عزَّ وجلَّ قد ملّك للنبى صلى الله عليه وسلَّم بيتاً فى المدينة، منذ ثلاثمائة عام، بحُجَّةٍ موثَّقة!!.
فقد خرج تُبّع ملك اليمن بجندٍ لا قبل لها غازياً المدينة ــ قبل هجرة النبى صلى الله عليه وسلَّم بثلاثمائة عام -ـ ولما أحاط جنده بالمدينة، وكان قد سبقه اليهود إليها، لأنهم يعلمون أنها موضع هجرة النبىِّ الذى سيبعث فى آخر الزمان - خرج إليه أحبار اليهود وقالوا: أعزَّ الله الملك، إنك لن تستطيع أن تفتح هذه المدينة. قال: ولِـمَ؟، قالوا: لأنها عندنا فى كتبنا مبعث نبىٍّ يبعثه الله فى آخر الزمان، ويختم الله عزَّ وجلَّ به الأنبياء أجمعين.
وكان يصحب معه أربعين عالماً يستشيرهم فى خواص أموره فاستشارهم، فأيدوهم فى هذا الكلام، فبنى لكل عالم بيتاً وزوَّجه جارية، وأعطاه من النفقات ما يكفيه، وجعل لكل عالم منهم بيتاً من طابق واحد، وجعل لزعيمهم بيتاً من طابقين، وأسكنه فيه وأعطاه خطاباً مختوماً إلى حضرة النبىِّ وقال له: هذا بيته بنيته له، وعند هجرة النبى يكون ملكاً له، وكتب وثيقة وقال فيها أبياتاً تشهد بأنه أسلم لحضرة النبى.
ولما وصل النبى صلى الله عليه وسلَّم إلى موضع مسجده المبارك، وأناخت ناقته بأمر الله، لأنه كان يقول لهم: (دعوها فإنها مأمورة)[1]- وجاء الأنصار يتهافتون على حمل متاعه إلى دورهم، وجاء أبو أيّوب النصارى، وقال أنا أقربهم داراً، قال صلى الله عليه وسلَّم: لك ذلك يا أبا أيوب، ولما دخل البيت واستقر فيه، قال: يا أبا أيوب، أين خطاب تُبع؟. فأخرج الخطاب من خزانة يحفظه فيها عن أجداده منذ ثلاثمائة عام، وفي الوثيقة يقول:
شـــــهدت على أحمد أنه رسـولٌ من الله بارى النَّسم
فإن مُدّ عمرى إل عمــره لكنت نصــيراً له وابن عــم
وجالدت بالسـيف أعداءه وفرَّجت عن صدره كلَّ غـــمّ
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: (أول من آمن بى تُبـّع. يرحم الله تُبعاً، يبعث أمة وحده)[2]ـ فسكن فى بيته الذى بناه له تُبع بأمر ربِّه، ولم يسكن بيت أحدٍ بناه له من الخلق، لأنه كان فى كفالة الحق، ولا يزال تصيبه عناية الحق، قال صلى الله عليه وسلم: (المهاجر من هجر ما نهى الله عنه)[3]، وقال صلى الله عليه وسلَّم: ( لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونيَّة)[4]..
إخوانى جماعة المؤمنين : إن النصر فى كل زمان ومكان بيد النصير عزَّ وجلَّ:
(وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ الله الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) (126آل عمران).
فإن شئنا أن ينصرنا الله كما نصر حبيبه ومصطفاه على أعدائه، وعلى الخلافات التى بين بعضنا، والتى إنتشرت فى مجتمعنا، علينا أن ننتصر أولاً على أنفسنا ونجعلها على شرع الله، قائمةً بكتاب الله، متابعة هدى حبيب الله ومصطفاه، وهنا لا تقف أمامنا أية عائقة أو عقبة فى الأرض ولا فى السماء، لأن النصر قال لنا فيه الله:
(إِنْ تَنْصُرُوا الله يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (7محمد).
فكيف ننصر الله؟!!. ننصر شرعه بأن نجعله هو القائم بيننا، وهو المهيمن على شئون حياتنا، وهو المسيطر على أخلاقنا وسلوكنا، وهو الدستور الذى ننفذه فيما بيننا. فإذا نصرنا الله وشرع الله، وأقمنا حياتنا فى بيوتنا على شرع الله، وأحوالنا فى مجتمعنا على هدى كتاب الله وسنة حبيبه ومصطفاه، فلن تقف أمامنا أى قوة وإن عظمت.
( كَتَبَ الله لاغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (21المجادلة)
متى؟!!، إذا كنا على منهاج الله، وإذا كنا على شرع الله.
***************************
خطبة جمعة لفضيلة الشيخ المجدد فوزى محمد ابوزيد