عدد المشاهدات:
علَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم صحبه الكرام أن ينظروا بعد العمل إلى قبول الله وعلاماته في هذا القبول، فليس الشأن أن تعمل فقط، ولكن الشأن هو قبول الله عزوجل منك.
فهناك قومٌ يعملون ويستكثرون من الأعمال حتى تكون أعمالهم كالجبال، يقول عنهم الواحد الأحد عزوجل : (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا )(23الفرقان)،
جعل الله عملهم كله هباءً لأنهم يعملون عملهم رياءً وسمعة لخلق الله.
وهناك قومٌ يعملون أعمالاً قليلة، لكن نيّاتهم مليئة بالإخلاص لله وإفراد الله بالعبادة والوحدانية، ولايرجون بالعمل إلا رضاء الله والثواب لمن أعده الله يوم لقياه، ولا ينتظرون من الخلق أجراً ولا ثواباً ولاسمعة ولا ثناءاً،
لأنهم يعلمون أن الخلق لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرّاً ولا موتاً ولاحياةً ولانشوراً، فكيف لغيرهم،
وهؤلاء حتى ولو أخطأوا في بعض الأعمال وانتابت أعمالهم بعض الهفوات أو الزّلات، يقول عنهم الله عزوجل : أ(ُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ )(16الأحقاف) ...
يتقبل الله عنهم أحسن ما في هذه الأعمال وأطيبها ويَدَعُ الهفوات والزلات والنسيان لأنهم يعملون وهم راجون فضل الله عزوجل.
فعلَّمهم النبى صلى الله عليه وسلم أن ينظروا إلى علامات جليات واضحات إذا ظهرت في المرء تدلّ على أن الله تقبل منه عمله فيباركون له قبول العمل ويهنئونه بكريم المثوبة وعظيم الأجر من الله عزوجل لأن الله تقبَّل عمله .
وعلامات قبول الأعمال كثيرة، وسنأخذ الصيام مثلاً لأنه المعسكر التدريبي والورشة الأخلاقية التي تعقد شهراً كاملا كل عام للمسلمين، فهو من أفضل الأمثلة لبيان ثمرة وغاية العبادات، وسنكتفى هنا بثلاث علامات:
العلامة الأولى: حسُّن الخلق
أول علامة لقبول طاعات وصيام شهر رمضان هي أن يخرج العبد بعد رمضان وقد تحسنت أخلاقه، وقد تغيرت معاملاته سواءٌ مع أهله أو مع خلق الله عزوجل أجمعين .. فإذا كان قبل رمضان عنده شيءٌ من الجفاء في معاملة الخلق، والقسوة في معاملة الزوجة والأولاد، وسرعة الغضب مع الآخرين والإنفعال لأى قول يقال له من الحاضرين، نجده بعد رمضان وقد غلبت عليه الرحمة للخلق أجمعين، والشفقة في معاملة زوجته وأولاده، والحلم في معاملة كل خلق الله، علامة الصيام المقبول أن الله عزوجل يغيّره ويجعله وفق الأخلاق المرضية التى ورد فيها فى الأثر: { إن الله يحب من خَلْقه من كان على خُلُقه }. رواه الإمام أحمد والترمذي عن أبي الدرداء
وقد جعل الله الصيام هو وحده الذى يُثقّل موازيننا يوم القيامة، وهو الذى يبلغنا المقام العظيم بجوار النبي الكريم في الدار الآخرة وجنة النعيم، فمن يريد تثقيل ميزان حسناته ماذا يفعل؟ نسأل الخبير الذى عيّنه لنا الكبير عزوجل، قال صلى الله عليه وسلم: { مَا من شيْءٌ أَثْقَلُ في مِيزَانِ المُؤْمِنِ يَوْمَ القِيَامةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ }. صحيح ابن حبان عن عمرو بن أبي سلمة
والذي يريد أن يكون مع النبي في الدار الآخرة وفي جواره في جنة النعيم، ماذا يفعل لينال هذا المقام الكريم؟ وضّح السيد السند العظيم هذا الباب وكيفية الدخول إلى هذا الرحاب فقال لأولي الألباب : { إنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِساً يَوْمَ القِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلاَقاً } وقال: { أَحَبُّكُمْ إِلَى اللَّهِ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلاَقَاً، الْمُوَطَّئُونَ أَكْنَافَاً الَّذِينَ يَأْلَفُونَ وَيُؤْلَفُونَ، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَى اللَّهِ الْمَشَّاؤُونَ بِالنَّمِيمَةِ الْمُلْتَمِسُونَ لَهُمُ الْعَثَرَاتِ الْمُفَرقُونَ بَيْنَ الإخْوَانِ }. عن أَنَس رضى الله عنه جامع المسانيد والمراسيل
وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم قيمة حُسن الخلق وشأنه في العبادات عندما أجاب أصحابه يوما أن العابدة المؤذية لجيرانها فى النار، وأن قليلة النوافل المحبة لجيرانها فى الجنة!، فبيَّن أن الذي يحسِّن الأعمال ويجعلها تنال القبول عند الواحد المتعال هو الخلق الحسن الذى يتخلَّق الإنسان به في نفسه، إن كان مع أهله أو مع ذوى رحمه أو زملائه في العمل أو مع الخلق في ميادين هذه الحياة.
ولذلك جعل صلى الله عليه وسلم من جملة العبادات التى يتناساها الخلق الآن الهشاشة والبشاشة في وجوه الآخرين، فمن تبسَّم في وجه أخيه كان له بذلك صدقة، ومن قال لأخيه كلمة طيبة فهى صدقة، ومن سكب فى دلو أخيه له صدقه، ومن دلَّ على الطريق صدقه، ومن مدَّ يده مصافحاً أخيه غسل الله عزوجل هذا الرجل وأخاه من الذنوب وتساقطت ذنوبهما لأنهما تصافحا وأذهبا وحر الصدر من قلوبهما، وكان من جملة العبادات التعاملات العبادية التى لا غنى عنها جماعة المؤمنين والمؤمنات .
العلامة الثانية: علوُّ مراقبة العبد لمولاه
الأمر الثاني الذي يدرك العبد فيه أن الله قد تقبل عمله: أن قيمة العبد عند ربه بمراقبته لربه عزوجل، وقد بيَّن صلى الله عليه وسلم تفاوت الناس في القرب فقال :
{ واللَّهِ إنِّي أَتْقَاكُمْ للَّهِ وأخشاكُمْ لَهُ }. صحيح ابن حبان عن عمرو بن أبي سلمة
أى أنا أقربكم من الله وأنا أشدكم خوفاً من الله عزوجل.
فكلما زادت مراقبة العبد لمولاه دلّ هذا على قرب مكانته من الله وعلى رفعة مقامه عند الله ويزيد على ذلك إذا كانت هذه المراقبة في غيبة الخلق بأن يراقب الله في السّر والعلن .. بأن يراقب الله في الظاهر والباطن .. بأن يراقب الله عزوجل في الخلأ والملأ .. بأن يعلم علم اليقين بأن الله عزوجل لا يخلو عنه زمان ولا مكان، فلا يستطيع أن يحرّك جوارحه في أى زمان ولا مكان بمعصية الديان لأنه يعلم أن الله يطلع عليه ويراه .
والصيام من أهدافه العظمى هو ترقية هذه المراقبة الإلهية ووصولها إلى الحالة المثالية ولذلك قال فيه الله سبحانه وتعالى للحفظة الكرام: { كُلُّ حَسَنَةٍ يَعَمِلُها ابنُ آدمَ بِعَشْرِ حَسَنَاتٍ إلى سَبْعِ مِئةِ ضِعْفٍ، يَقُولُ اللَّهُ: إلا الصَّومَ، فَهُو لي وأنا أَجْزِي بِه، يَدَعُ الطَّعَامَ مِنْ أجلي، والشَّرَابَ مِنْ أجلي، وشَهْوَتَهُ مِنْ أجلي، وأنا أَجْزِي بهِ } صحيح ابن حبان عن أبي هريرة.
يراقب الله ولا يمشي إلا لله وبذلك تكون له مكانة عظيمة عند مولاه عزوجل، فإذا رأى الإنسان نفسه يخشى من الله عزوجل في أن يقع في عصيانه ولو كان بمفرده وحيداً ليس عليه شاهدٌ من الخلق، فإنه يستبشر ويعلم أن الله قد قبل عمله ورفع شأنه وجعله من عباده المقربين الذين يقول فيهم:
( إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ (النحل)، وقال صلى الله عليه وسلم :
{ اتَّقِ المَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ } ..
وعندها يُعِز سبحانه من أطاعه فيجعله في مقام أعلى من الملائكة الكرام، لأن الذين أطاعوا الله:
(تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ )(30فصلت).
العلامة الثالثة: تذوُّق حلاوة الإيمان
من علامة قبول العمل في شهر رمضان والتي يشعر بها كل مسلم أخلص لله قلباً وقالباً، أنه يشعر بحلاوة الطاعة ويتذوق حلاوة الإيمان فيدخل في حديث النبى صلى الله عليه وسلم: { ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ، مَنْ رَضِيَ بِالله رَبّاً، وَبِالإِسْلامَ دِيناً، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً } ، يتذوق طعم حلاوة الإيمان، وينعم بحلاوة تلاوة كتاب الله، ويأنس بمناجاة مولاه جلّ في علاه.
والذي يشعر بهذه الحلاوة لا يتركها بعد شهر رمضان إلى أن يأتي رمضان القادم، لأن الذى سيشعر بهذه الحلاوة لا بد أن يستزيد، يزيده الحميد المجيد من هذه الطاعة، ويحمله في قلبه من أنوار هذه البضاعة.
العلامة الرابعة: المداومة على الطاعات
ولذلك سنّ لنا الحبيب ألا نهجر الصيام بعد شهر الصيام، بل نواصل الصيام وقال لنا في ذلك مشجعاً ومرشداً: { مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أتْبَعَهُ بِسِتَ مِنْ شَوَّالَ فَكَأنَّمَا صَامَ الدَّهْرَ }.
والدهر أى السنة، فمن صام رمضان وأكمل ستَّاًً في شوال كتب عند الله صائماً طوال العام وإن كان مفطراً يأكلٍ ويشربٍ .. عناية من الله وتحبيب للمؤمن على المداومة على طاعة الله، لأن النبى صلى الله عليه وسلم علم بتعليم الله له ما يحبُّه من خلقه فقد سئل: { أَىُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ قَالَ: أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ }.
أى الذى تديم عليه ولو كان قليلاً، يعنى من يقرأ القرآن في رمضان في كل يوم مرة ويتركه في غير رمضان خيرٌ منه الذى يقرأ عشر آيات في رمضان وفى غير رمضان عند الرحمن عزوجل، لأن الله يحب المداومة على العمل الصالح ، وكان على هذا النهج سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قالت السيدة عائشة رضى الله عنها واصفةً عمله لله: { كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً }.
أى يداوم عليه، فإذا جعل لنفسه وقتاً لذكر الله دام على هذا الوقت كل يوم .. وإذا جعل لنفسه ركعات يتهجّد بها لله دام على هذا التهجد في كل ليلة، ولذا لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يتهجد في رمضان ويترك التهجد في غير رمضان، بل كان طوال العام إذا جاء الثلث الأخير من الليل يقوم مناجياً مولاه يصلى له في جنح الظلام لأن الله قال له :
(قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) (المزمل).
فالعمل الصالح الذي وفقك الله له في رمضان يجب عليك أن تحافظ عليه وعلى جزئه بعد رمضان، فإن كنت لاتستطيع أن تصلي ماكنت تصليه في رمضان فلا تحرم نفسك ولو من صلاة ركعتين، فقد قال صلى الله عليه وسلم :
{ رَكْعَتَانِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ يُكَفرَانِ الْخَطَايَا }.
ولو ركعتين فلا تحرم نفسك منهما!، وإياك أن تكون قد مللت من كتاب الله وأغلقته في آخر يوم من رمضان ولم تفتحه، وستتركه للعام القادم، هذا يكون هجران للقرآن، والقرآن يشكو هاجريه، والمدّعى العام هو الذى يقدم الشكوى إلى خالقه وباريه ويقول كما قال الله : ( وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا )(30الفرقان)، لايكون إلا في رمضان، ثم بعد رمضان ليس عندهم وقت إلا للمقت وغضب الرحمن عزوجل .
كان أصحاب حضرة النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم الذى لا يستفتحون صباحاً بقراءة ما تيّسر من ذكر الله، يظل الرجل منهم مهموماً وحزيناً طوال اليوم لأنه لم يستفتح يومه ويبتدأه بكتاب ربه عزوجل، فاجعل لنفسك ما تيسر من تلاوته، والله عزوجل لم يكلفنا شططاً بل قال: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ )(20المزمل)، وقال صلى الله عليه وسلم : { مَنْ قَامَ بِعَشْرِ آيَاتٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنْ الْغَافِلِينَ، وَمَنْ قامَ بِمَائَةِ آيةٍ كُتِبَ مِنَ الْقَانِتينَ، وَمَنْ قامَ بِأَلْفِ آيةٍ كُتِبَ مِن المُقَنْطِرِينَ } ، أى أن حسابهم بالقناطير من الثواب والأجر الكبير عند العلى الكبير عزوجل.
فالذى ذاق حلاوة الطاعة وذاق طعم هذه البضاعة الإيمانية لا يستطيع أن يتسلى عنها، أو أن يتخلى عنها مهما شغلته المسائل الكونية الدنيوية، لأنه يريد أن يستنكه دوماً طعم حلاوة الإيمان الذي جعله الله للمديم للطاعة لحضرة الرحمن عزوجل.
من كتاب اصلاح الافراد والمجتمعات فى الاسلام
🌱 لفضيلة الشيخ فوزى محمد أبوزيد
فهناك قومٌ يعملون ويستكثرون من الأعمال حتى تكون أعمالهم كالجبال، يقول عنهم الواحد الأحد عزوجل : (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا )(23الفرقان)،
جعل الله عملهم كله هباءً لأنهم يعملون عملهم رياءً وسمعة لخلق الله.
وهناك قومٌ يعملون أعمالاً قليلة، لكن نيّاتهم مليئة بالإخلاص لله وإفراد الله بالعبادة والوحدانية، ولايرجون بالعمل إلا رضاء الله والثواب لمن أعده الله يوم لقياه، ولا ينتظرون من الخلق أجراً ولا ثواباً ولاسمعة ولا ثناءاً،
لأنهم يعلمون أن الخلق لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرّاً ولا موتاً ولاحياةً ولانشوراً، فكيف لغيرهم،
وهؤلاء حتى ولو أخطأوا في بعض الأعمال وانتابت أعمالهم بعض الهفوات أو الزّلات، يقول عنهم الله عزوجل : أ(ُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ )(16الأحقاف) ...
يتقبل الله عنهم أحسن ما في هذه الأعمال وأطيبها ويَدَعُ الهفوات والزلات والنسيان لأنهم يعملون وهم راجون فضل الله عزوجل.
فعلَّمهم النبى صلى الله عليه وسلم أن ينظروا إلى علامات جليات واضحات إذا ظهرت في المرء تدلّ على أن الله تقبل منه عمله فيباركون له قبول العمل ويهنئونه بكريم المثوبة وعظيم الأجر من الله عزوجل لأن الله تقبَّل عمله .
وعلامات قبول الأعمال كثيرة، وسنأخذ الصيام مثلاً لأنه المعسكر التدريبي والورشة الأخلاقية التي تعقد شهراً كاملا كل عام للمسلمين، فهو من أفضل الأمثلة لبيان ثمرة وغاية العبادات، وسنكتفى هنا بثلاث علامات:
العلامة الأولى: حسُّن الخلق
أول علامة لقبول طاعات وصيام شهر رمضان هي أن يخرج العبد بعد رمضان وقد تحسنت أخلاقه، وقد تغيرت معاملاته سواءٌ مع أهله أو مع خلق الله عزوجل أجمعين .. فإذا كان قبل رمضان عنده شيءٌ من الجفاء في معاملة الخلق، والقسوة في معاملة الزوجة والأولاد، وسرعة الغضب مع الآخرين والإنفعال لأى قول يقال له من الحاضرين، نجده بعد رمضان وقد غلبت عليه الرحمة للخلق أجمعين، والشفقة في معاملة زوجته وأولاده، والحلم في معاملة كل خلق الله، علامة الصيام المقبول أن الله عزوجل يغيّره ويجعله وفق الأخلاق المرضية التى ورد فيها فى الأثر: { إن الله يحب من خَلْقه من كان على خُلُقه }. رواه الإمام أحمد والترمذي عن أبي الدرداء
وقد جعل الله الصيام هو وحده الذى يُثقّل موازيننا يوم القيامة، وهو الذى يبلغنا المقام العظيم بجوار النبي الكريم في الدار الآخرة وجنة النعيم، فمن يريد تثقيل ميزان حسناته ماذا يفعل؟ نسأل الخبير الذى عيّنه لنا الكبير عزوجل، قال صلى الله عليه وسلم: { مَا من شيْءٌ أَثْقَلُ في مِيزَانِ المُؤْمِنِ يَوْمَ القِيَامةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ }. صحيح ابن حبان عن عمرو بن أبي سلمة
والذي يريد أن يكون مع النبي في الدار الآخرة وفي جواره في جنة النعيم، ماذا يفعل لينال هذا المقام الكريم؟ وضّح السيد السند العظيم هذا الباب وكيفية الدخول إلى هذا الرحاب فقال لأولي الألباب : { إنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِساً يَوْمَ القِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلاَقاً } وقال: { أَحَبُّكُمْ إِلَى اللَّهِ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلاَقَاً، الْمُوَطَّئُونَ أَكْنَافَاً الَّذِينَ يَأْلَفُونَ وَيُؤْلَفُونَ، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَى اللَّهِ الْمَشَّاؤُونَ بِالنَّمِيمَةِ الْمُلْتَمِسُونَ لَهُمُ الْعَثَرَاتِ الْمُفَرقُونَ بَيْنَ الإخْوَانِ }. عن أَنَس رضى الله عنه جامع المسانيد والمراسيل
وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم قيمة حُسن الخلق وشأنه في العبادات عندما أجاب أصحابه يوما أن العابدة المؤذية لجيرانها فى النار، وأن قليلة النوافل المحبة لجيرانها فى الجنة!، فبيَّن أن الذي يحسِّن الأعمال ويجعلها تنال القبول عند الواحد المتعال هو الخلق الحسن الذى يتخلَّق الإنسان به في نفسه، إن كان مع أهله أو مع ذوى رحمه أو زملائه في العمل أو مع الخلق في ميادين هذه الحياة.
ولذلك جعل صلى الله عليه وسلم من جملة العبادات التى يتناساها الخلق الآن الهشاشة والبشاشة في وجوه الآخرين، فمن تبسَّم في وجه أخيه كان له بذلك صدقة، ومن قال لأخيه كلمة طيبة فهى صدقة، ومن سكب فى دلو أخيه له صدقه، ومن دلَّ على الطريق صدقه، ومن مدَّ يده مصافحاً أخيه غسل الله عزوجل هذا الرجل وأخاه من الذنوب وتساقطت ذنوبهما لأنهما تصافحا وأذهبا وحر الصدر من قلوبهما، وكان من جملة العبادات التعاملات العبادية التى لا غنى عنها جماعة المؤمنين والمؤمنات .
العلامة الثانية: علوُّ مراقبة العبد لمولاه
الأمر الثاني الذي يدرك العبد فيه أن الله قد تقبل عمله: أن قيمة العبد عند ربه بمراقبته لربه عزوجل، وقد بيَّن صلى الله عليه وسلم تفاوت الناس في القرب فقال :
{ واللَّهِ إنِّي أَتْقَاكُمْ للَّهِ وأخشاكُمْ لَهُ }. صحيح ابن حبان عن عمرو بن أبي سلمة
أى أنا أقربكم من الله وأنا أشدكم خوفاً من الله عزوجل.
فكلما زادت مراقبة العبد لمولاه دلّ هذا على قرب مكانته من الله وعلى رفعة مقامه عند الله ويزيد على ذلك إذا كانت هذه المراقبة في غيبة الخلق بأن يراقب الله في السّر والعلن .. بأن يراقب الله في الظاهر والباطن .. بأن يراقب الله عزوجل في الخلأ والملأ .. بأن يعلم علم اليقين بأن الله عزوجل لا يخلو عنه زمان ولا مكان، فلا يستطيع أن يحرّك جوارحه في أى زمان ولا مكان بمعصية الديان لأنه يعلم أن الله يطلع عليه ويراه .
والصيام من أهدافه العظمى هو ترقية هذه المراقبة الإلهية ووصولها إلى الحالة المثالية ولذلك قال فيه الله سبحانه وتعالى للحفظة الكرام: { كُلُّ حَسَنَةٍ يَعَمِلُها ابنُ آدمَ بِعَشْرِ حَسَنَاتٍ إلى سَبْعِ مِئةِ ضِعْفٍ، يَقُولُ اللَّهُ: إلا الصَّومَ، فَهُو لي وأنا أَجْزِي بِه، يَدَعُ الطَّعَامَ مِنْ أجلي، والشَّرَابَ مِنْ أجلي، وشَهْوَتَهُ مِنْ أجلي، وأنا أَجْزِي بهِ } صحيح ابن حبان عن أبي هريرة.
يراقب الله ولا يمشي إلا لله وبذلك تكون له مكانة عظيمة عند مولاه عزوجل، فإذا رأى الإنسان نفسه يخشى من الله عزوجل في أن يقع في عصيانه ولو كان بمفرده وحيداً ليس عليه شاهدٌ من الخلق، فإنه يستبشر ويعلم أن الله قد قبل عمله ورفع شأنه وجعله من عباده المقربين الذين يقول فيهم:
( إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ (النحل)، وقال صلى الله عليه وسلم :
{ اتَّقِ المَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ } ..
وعندها يُعِز سبحانه من أطاعه فيجعله في مقام أعلى من الملائكة الكرام، لأن الذين أطاعوا الله:
(تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ )(30فصلت).
العلامة الثالثة: تذوُّق حلاوة الإيمان
من علامة قبول العمل في شهر رمضان والتي يشعر بها كل مسلم أخلص لله قلباً وقالباً، أنه يشعر بحلاوة الطاعة ويتذوق حلاوة الإيمان فيدخل في حديث النبى صلى الله عليه وسلم: { ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ، مَنْ رَضِيَ بِالله رَبّاً، وَبِالإِسْلامَ دِيناً، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً } ، يتذوق طعم حلاوة الإيمان، وينعم بحلاوة تلاوة كتاب الله، ويأنس بمناجاة مولاه جلّ في علاه.
والذي يشعر بهذه الحلاوة لا يتركها بعد شهر رمضان إلى أن يأتي رمضان القادم، لأن الذى سيشعر بهذه الحلاوة لا بد أن يستزيد، يزيده الحميد المجيد من هذه الطاعة، ويحمله في قلبه من أنوار هذه البضاعة.
العلامة الرابعة: المداومة على الطاعات
ولذلك سنّ لنا الحبيب ألا نهجر الصيام بعد شهر الصيام، بل نواصل الصيام وقال لنا في ذلك مشجعاً ومرشداً: { مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أتْبَعَهُ بِسِتَ مِنْ شَوَّالَ فَكَأنَّمَا صَامَ الدَّهْرَ }.
والدهر أى السنة، فمن صام رمضان وأكمل ستَّاًً في شوال كتب عند الله صائماً طوال العام وإن كان مفطراً يأكلٍ ويشربٍ .. عناية من الله وتحبيب للمؤمن على المداومة على طاعة الله، لأن النبى صلى الله عليه وسلم علم بتعليم الله له ما يحبُّه من خلقه فقد سئل: { أَىُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ قَالَ: أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ }.
أى الذى تديم عليه ولو كان قليلاً، يعنى من يقرأ القرآن في رمضان في كل يوم مرة ويتركه في غير رمضان خيرٌ منه الذى يقرأ عشر آيات في رمضان وفى غير رمضان عند الرحمن عزوجل، لأن الله يحب المداومة على العمل الصالح ، وكان على هذا النهج سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قالت السيدة عائشة رضى الله عنها واصفةً عمله لله: { كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً }.
أى يداوم عليه، فإذا جعل لنفسه وقتاً لذكر الله دام على هذا الوقت كل يوم .. وإذا جعل لنفسه ركعات يتهجّد بها لله دام على هذا التهجد في كل ليلة، ولذا لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يتهجد في رمضان ويترك التهجد في غير رمضان، بل كان طوال العام إذا جاء الثلث الأخير من الليل يقوم مناجياً مولاه يصلى له في جنح الظلام لأن الله قال له :
(قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) (المزمل).
فالعمل الصالح الذي وفقك الله له في رمضان يجب عليك أن تحافظ عليه وعلى جزئه بعد رمضان، فإن كنت لاتستطيع أن تصلي ماكنت تصليه في رمضان فلا تحرم نفسك ولو من صلاة ركعتين، فقد قال صلى الله عليه وسلم :
{ رَكْعَتَانِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ يُكَفرَانِ الْخَطَايَا }.
ولو ركعتين فلا تحرم نفسك منهما!، وإياك أن تكون قد مللت من كتاب الله وأغلقته في آخر يوم من رمضان ولم تفتحه، وستتركه للعام القادم، هذا يكون هجران للقرآن، والقرآن يشكو هاجريه، والمدّعى العام هو الذى يقدم الشكوى إلى خالقه وباريه ويقول كما قال الله : ( وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا )(30الفرقان)، لايكون إلا في رمضان، ثم بعد رمضان ليس عندهم وقت إلا للمقت وغضب الرحمن عزوجل .
كان أصحاب حضرة النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم الذى لا يستفتحون صباحاً بقراءة ما تيّسر من ذكر الله، يظل الرجل منهم مهموماً وحزيناً طوال اليوم لأنه لم يستفتح يومه ويبتدأه بكتاب ربه عزوجل، فاجعل لنفسك ما تيسر من تلاوته، والله عزوجل لم يكلفنا شططاً بل قال: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ )(20المزمل)، وقال صلى الله عليه وسلم : { مَنْ قَامَ بِعَشْرِ آيَاتٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنْ الْغَافِلِينَ، وَمَنْ قامَ بِمَائَةِ آيةٍ كُتِبَ مِنَ الْقَانِتينَ، وَمَنْ قامَ بِأَلْفِ آيةٍ كُتِبَ مِن المُقَنْطِرِينَ } ، أى أن حسابهم بالقناطير من الثواب والأجر الكبير عند العلى الكبير عزوجل.
فالذى ذاق حلاوة الطاعة وذاق طعم هذه البضاعة الإيمانية لا يستطيع أن يتسلى عنها، أو أن يتخلى عنها مهما شغلته المسائل الكونية الدنيوية، لأنه يريد أن يستنكه دوماً طعم حلاوة الإيمان الذي جعله الله للمديم للطاعة لحضرة الرحمن عزوجل.
من كتاب اصلاح الافراد والمجتمعات فى الاسلام
🌱 لفضيلة الشيخ فوزى محمد أبوزيد