عدد المشاهدات:
الفناء: هو أن يفنى عنه الحظوظ، فلا يكون لـه في شيء من ذلك حظ، ويسقط عنـه التمييز؛ فناءً عن الأشياء كلها شغلا بما فنى بـه، كما قال عامر بن عبد الله:" ما أبالي امرأة رأيت أم حائطا "، والحق يتولى تصريفه، فيصرفه في وظائفـه وموافقاته، فيكون محفوظا فيمـا لله عليه، مأخوذا عمـا له وعن جميع المخالفات، فلا يكون لـه إليها سبيل ( وهو: العصمة )، وذلك معنى قوله : { كنت له سمعا وبصرا الخبر }
والبقاء الذي يعقبه: هو أن يفنى عما له ويبقى بما لله.
قال بعض الكبار:" البقاء مقام النبيين، ألبسوا السكينة، لا يمنعهم ما حل بهم عن فرضه، ولا عن فضله؛ { ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء } ".
والباقي: هو أن تصير الأشياء كلها له شيئا واحدا، فتكون كل حركاته في موافقات الحق دون مخالفاته، فيكون: فانيا عن المخالفات، باقيا في الموافقات.
وليس معنى " أن تصير الأشياء كلها له شيئا واحدا ": أن تصير المخالفات له موافقات، فيكون ما نهى عنه كما أمر به! ولكن على معنى: أن لا يجري عليه إلا ما أمر به، وما يرضاه الله تعالى دون ما يكرهه، ويفعل ما يفعل لله لا لحظ له فيه في عاجل أو آجل، وهذا معنى قولهم:" يكون فانيا عن أوصافه باقيا بأوصاف الحق "؛ لأن الله تعالى إنمـا يفعل الأشـياء لغيره لا له، لأنه لا يَجُرُّ به نفعا ولا يدفع به ضرا _ تعالى الله عن ذلك _، وإنما يفعل الأشياء لينفع الأغيار أو يضرهم.
فالباقي بالحق: الفاني عن نفسه: يفعل الأشياء لا لِجَـرِّ منفعة إلى نفسه، ولا لدفع مضرة عنها، بل على معنى: أنـه لا يقصد في فعله جَـرّ المنفعة ودفع المضرة؛ قـد سقطت عنه حظوظ نفسه ومطالبة منافعها ( بمعنى: القصد والنية )، ولا بمعنى أنـه لا يجد حظـاً فيما يعمل مما لله عليه، يفعله لله، لا لِطَمَـع ثواب، ولا لخوف عقاب، وهمـا _ أعني: الخوف والطمع _ باقيان معـه، قائمان فيه، غير أنـه يرغب في ثواب الله لموافقة الله تعـالى؛ لأنـه رغَّب فيـه، وأمر أن يسأل ذلك منـه، ولا يفعله للذة نفسـه، ويخاف عقابه إجلالا له، وموافقة له؛ لأنه خَوَّفَ عباده، ويفعل سـائر الحركات لحظ الغير لا لحظ نفسه، كما قيل:" المؤمن يأكل بشهوة عياله ".
أنشدونا لبعضهم:
أفنَـاهُ عن حظه فيما ألـمَّ به *** فظَـلَّ يُبْقِيْـهِ في رَسْـمٍ ليبديه
ليأخذ الرسم عن رسم يكاشفه *** والسِّـرُّ يطفح عن حق يراعيه
فجملة الفناء والبقاء: أن يفنى عن حظوظه، ويبقى بحظوظ غيره.
فمن الفناء: فناء عن شهود المخالفات والحركات بها قصدا وعزما، وبقاء في شهود الموافقات والحركات بها قصدا وفعلا، وفناء عن تعظيم ما سوى الله، وبقاء في تعظيم الله تعالى.
ومن فناء تعظيم ما سوى الله: حديث أبي حازم حيث قال:" ما الدنيا؟! أمَّا ما مضى: فأحلام، وأما ما بقي: فأمان وغرور. وما الشيطان حتى يهاب منه؟! لقد اطِيْع فما نفع، وعُصِي فمـا ضر "، فكان كأنه لا دنيا عنده ولا شيطان.
ومن فناء الحظوظ: حديث عبد الله بن مسعود حيث قال:" ما علمت أن في أصحاب رسول الله من يريد الدنيـا حتى قال الله: { منكم من يريد الدنيـا ومنكم من يريد الآخرة } الآية "! فكان فانيـاً عن إرادة الدنيـا.
ومن ذلك حديث حارثة: قال:" عزفت نفسي عن الدنيا، فكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا "؛ فنى عن العاجلة بالآجلة، وعن الأغيار بالجبار.
وحديث عبد الله بن عمر _ سـلّم عليه إنسـانٌ وهو في الطواف فلـم يرد عليه، وشكاه إلى بعض أصحابه _، فقال عبد الله:" إنا كنا نتراءى الله في ذلك المكان ".
ومنها: حديث عامر بن عبد القيس قال:" لأن تختلف فيَّ الأسنة، أحب إلي من أن أجد ما تذكرون "، يعني في الصلاة، حتى قال الحسن:" ما اصطنع الله ذلك عندنا ".
وفناء: هو الغيبة عن الأشياء رأسا، كما كان فناء موسى حين تجلى ربه للجبل { فخر موسى صعقا }، فلم يخبر في الثاني من حاله عن حاله، ولا أخبر عنه مغيبه به عنها.
وقال أبو سعيد الخزاز:" علامة الفاني: ذهاب حظه من الدنيا والآخرة إلا من الله تعالى، ثم يبدو باد من قدرة الله تعالى فيريه ذهاب حظه من الله تعالى إجلالا لله، ثم يبدو له باد من الله تعالى فيريه ذهاب حظه من رؤية ذهاب حظه ويبقى رؤية ما كان من الله لله، ويتفرد الواحد الصمد في أحديته فلا يكون لغير الله مع الله فناء ولا بقاء ".
معنى " ذهاب حظه من الدنيـا ": مطالبة الأعراض، و " من الآخرة ": مطالبة الأعواض، فيبقى حظه " من الله " وهو: رضاه عنه، وقربه منه، ثم يرد عليه حالة من إجلال الله تعالى ( أن يقرب مثله، أو يرضى عن مثله )؛ استحقارا لنفسه وإجلالا لربه، ثم ترد عليه حالة فيستوفيه حق الله تعالى، فيغيبه عن رؤية صفته ( التي هي رؤية ذهاب حظه )، فلا يبقى فيه إلا ما من الله إليه، ويفنى عنه ما منه إلى الله، فيكون كما كان _ إذ كان في علم الله تعالى قبل أن يوجده _، وسبق له منه ما سبق من غير فعل كان منه.
وعبارة أخرى عن الفناء: أن الفَنـاء: هو الغيبة عن صفات البشرية بالحمـل المولَّه من نعوت الإلهية ( وهو: أن يفنى عنه أوصاف البشرية التي هي الجهل والظلم؛ لقوله تعالى: { وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا }، ومن أوصافه: الكنود، والكفور، وكل صفة ذميمة تفنى عنه )، بمعنى: أن يغلب علمه جهله، وعدله ظلمه، وشكره كفرانه، وأمثالها.
قال أبو القاسم فارس:" الفناء: حال من لا يشهد صفته، بل يشهدها مغمورة بمغيبها ".
وقال:" فناء البشرية ليس على معنى عدمها، بل على معنى: أن تغمد بلذة تُوفِي على رؤية الألم، واللذة الجارية على العبد في الحال كصواحبات يوسف : { قطعن أيديهن }؛ لفناء أوصافهم، ولِمَا ورد على أسرارهن من لذة النظر إلى يوسف مما غيبهم عن ألم ما دخل عليهن من قطع أيديهن ".
ولبعض أهل العصر:
غابت صفات القاطعات أكفها *** في شـاهِدٍ هو في البرية أبدع
ففنين عن أوصافهن فلـم يكن *** مِـنْ نَعْتِهِـنَّ تلَـذَُذٌ وتَوَجُّـعُ
وقِيـام امرأة العزيز بيُوسف *** يـد نفسه ما كان يوسف يقطع
وأنشدونا في الفناء:
ذكرنا وما كنا لننسى فنذكر *** ولكن نسيم القرب يبدو فيبهر
فأفنى به عنى وأبقى به له *** إذا الحَـقُّ عنه مخبر ومعبر
ومنهم من جعل هذه الأحوال كلهـا حالا واحدة، وإن اختلفت عباراتها: فجعل الفنـاء بقاء، والجمع تفرقة، وكذلك الغيبة والشهود والسكر والصحو؛ وذلك: أن الفاني عما لـه باق بما للحق، والباقي بما للحق فانٍ عما لـه، والمفارق مجموع؛ لأنّـه لا يشهد إلا الحـقّ، والمجموع مفارق؛ لأنّـه لا يشهد إياه ولا الخلق، وهو باق لدوامه مـع الحق، وهو جامعه به، وهو فان عمـا سواه مفارق لهم، وهو غائب سكران؛ لزوال التمييز عنه.
ومعنى " زوال التمييز عنه ": هو ما قلناه بين الآلام والملاذ، وبمعنى: أن الأشياء تتوحد له فلا يشهد مخالفة؛ إذ لا يصرفه الحق إلا في موافقاته، وإنما تميز: بين الشيء وغيره، فإذا صارت الأشياء شيئا واحدا سقط التمييز.
وعبر جماعة عن الفناء بأن قالوا:" يؤخذ العبد من كل رسم كان له، وعن كل مرسوم، فيبقى في وقته بلا بقاء يعلمه، ولا فناء يشعر به، ولا وقت يقف عليه، بل يكون خالقه عالما ببقائه وفنائه ووقته، وهو حافظ له عن كل مذموم ".
واختلفوا في الفاني: هل يُرَدّ إلى بقاء الأوصاف أم لا؟
قال بعضهم:" يرد الفاني إلى بقاء الأوصاف، وحالة الفناء لا تكون على الدوام؛ لأن دوامها يوجب تعطيل الجوارح عن أداء المفروضات، وعن حركتها في أمور معاشها ومعادها ".
ولأبي العباس بن عطاء في ذلك كتاب سماه " كتاب عودة الصفات وبدئها ".
وأما الكبار منهم والمحققون: فلم يروا رد الفاني إلى بقاء الأوصاف، منهم: الجنيد، والخراز، والنوري، وغيرهم.
فالفناء: فضل من الله ، وموهبة للعبد، وإكرام منه له، واختصاص له به. وليس هو من الأفعال المكتسبة، وإنما هو شيء يفعله الله بمن اختصه لنفسه واصطنعه له، فلو رده إلى صفته: كان في ذلك سلب ما أعطى، واسترجاع ما وهب! وهذا غير لائق بالله . أو: يكون من جهة البداء، والبداء صفة من استفاد العلم، وهذا من الله منفي. أو: يكون ذلك غرورا وخداعا، والله تعالى لا يوصف بالغرور، ولا يخادع المؤمنين، وإنما يخادع المنافقين والكافرين.
وليس مقام الفنـاء يدرك بالاكتساب، فيجوز أن يكتسب ضـده؛ فإن عورض بالإيمان والرجوع عنه ( وهو أفضل المراتب، وبه يدرك جميع المقامات )؟
أجيب عنه: أن الإيمان الذي يجوز الرجوع عنه: هو الذي اكتسبه العبد من إقرار لسانه والعمل بأركانه ولم يخامر الإيمان حقيقة سره لا من قبل الشهود، ولا من صحة العقود، لكنه أقر بشيء وهو لا يدري حقيقة ما أقر به، كما جاء في الحديث: { إن الملك يأتي العبد إذا وضع في لحده فيقول: ما قولك في هذا الرجل؟ فيقول: سمعت الناس يقولون شيئا فقلته }؛ فهذا شاك غير متقين.
أو يكون أقر بلسانه وانطوى على تكذيبه، كالمناطق الذي أقرّ بلسانه وكذبه بقلبه واضمر خلافه، ولكنه أقر بلسانه ولم يكذبه بقلبه ولا اضمر خلافه، ولكن لم يقع له صحة ما أقر به اكتسابا ولا مشاهدة، لم يكتسب تحقيقه من جهة العلم فتقوم له الدلائل على صحته، ولا شاهد بقلبه حالا أزال عنه الشكوك، وقد سبق له من الله الشقاء، فاعترضت له شبهة من خاطر أو ناظر ففتنته، فانتقل عنه إلى ضده. فأما من سبق له من الله الحسنى: فإن الشبهات لا تقع له، والعوارض تزول عنه، إما اكتسابا من علم الكتاب والسنة ودلائل العقل، فيزيل خواطر السوء عنه وترد شبهات الناظر له؛ إذ لا يجوز أن يكون لما خالف الحق دلائل الحق، فهذا لا تعترضه الشكوك.
أو يكون ممن قد وقع له صحة الإيمان، ويرد الله تعالى عنه خواطر السوء باعتصامه بالجملة، ويرد عنه الله الناظر المشكك له لطفا به فلا يقابله، فيسلم له صحة إيمانه وإن لم يكن عنده من البيان ما يحتاج مناظرة ناظره، ولا ما يزيل خاطره.
أو يكون ممن وقع له صحة ما أقر به شهودا أو كشوفا، كما أخبر حارثة عن نفسه من شهوده ما أقر به، حتى حل ما غاب عنه من ذلك محل ما حضر وأكثر؛ لأنه أخبر أنه عزف عن الشاهد فصار الغيب له شهودا، والشاهد غائبا، كما قال الداراني:" انفتحت عيون قلوبهم فانطبعت عيون رؤوسهم.
فمن وقع له صحة ما أقر به من هذه الجهة لم يرجع عن الآخرة إلى الدنيا، ولا ترك الأولى للأدنى، وهذا كله أسباب العصمة من الله له، وتصديق ما وعد بقوله تعالى: { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة }؛ فقد صح أن المؤمن الحقيقي لا ينتقل عن الإيمان؛ لأنه موهبة له من الله وعطاء وفضل واختصاص، وحاشا الحق أن يرجع فيما وهب، أو يسترد ما أعطى.
وصورة الإيمان الحقيقي والرسمي في الظاهر صورة واحدة، وحقائقها مختلفة: فأما الفناء وغيره من مقامات الاختصاص: فإن صورها مختلفة وحقائقها واحدة؛ لأنها ليست من جهة الاكتساب، لكن من جهة الفضل.
وقول من قـال " إن الفاني يرد إلى أوصافه " مُحـال؛ لأن القائل إذ أقَـرّ بأن الله تعالى اختص عبـداً واصطنعه لنفسه، ثم قال إنَّـه يرده! فكأنه قال: يختص مـا لا يختص، ويصطنع مـا لا يصطنع، وهذا محـال.
وجوازه من جهة التربية والحفظ عن الفتنة لا يصح أيضا؛ لأن الله تعالى لا يحفظ على العبد ما آتاه من جهة السلب، ولا بأن يرده إلى الأوضع عن الأرفع؛ ولو جاز هذا جاز أن لا يحفظ مواضع الفتن من الأنبياء: بأن يردهم من رتبة النبوة إلى رتبة الولاية، أو ما دونها! وهذا غير جائز. ولطائف الله تعالى في عصمة أنبيائه وحفظ أوليائه من الفتنة أكثر من أن تقع تحت الإحصاء والعد، وقدرته أتم من أن تحصر على فعل دون غيره.
فإن عورض بالذي آتاه آياته { فانسلخ منها }؟ لم يعترض؛ لأن الذي انسلخ لم يكن قط شاهد حالا، ولا وجد مقاما، ولا كان مختصا قط، ولا مصطنعا، بل كان مستدرجا مخدوعا ممكورا به، وإنما أجرى على ظاهره من أعلام المختصين، وهو في الحقيقة من المردودين، وإنما حَلَّى ظاهره بالوظائف الحسنة والأوراد الزكية، وهو في القلب محجوب السر: لم يجد قط طعم الخصوص، ولا ذاق لذة الإيمان، ولا عرف الله قط من جهة الشهود؛ كما أخبر الله تعالى عنه بقوله: { فكان من الغاوين }، وكما أخبر عن إبليس بقوله: { وكان من الكافرين }.
قال الجنيد:" إن إبليس لم ينل مشاهدته في طاعته، وآدم لم يفقد مشاهدته في معصيته ".
وقال أبو سليمان:" والله ما رجع من رجع إلا من الطريق، ولو وصلوا إليه ما رجعوا عنه ".
والفـاني يكون محفوظا في وظائف الحق، كمـا قال الجنيد _ وقيل له: إن أبا الحسين النوري قائم في مسجد الشونيزي منـذ أيام لا يأكل ولا يشرب ولا ينـام، وهو يقول: الله، الله، ويصلي الصلوات لأوقاتها؟ فقال بعض من حضره: إنـه صاح، فقال الجنيد _:" لا، ولكن أرباب المواجيد محفوظون بين يدي الله في مواجيدهم "، فإن رد الفاني إلى الأوصاف لم يرد إلى أوصاف نفسه، ولكن يقام مقام البقاء بأوصاف الحق.
وليس الفاني بالصعق ولا المعتوه ولا الزائل عنه أوصاف البشرية فيصير ملكا أو روحانيا، ولكنه ممن فنى عن شهود حظوظه كما أخبرنا قبل.
والفاني أحد عينين:
إما عين لم ينصب إماما ولا قدوة، فيجوز أن يكون فناؤه غيبة عن أوصافه، فيرى بعين العتاهه وزوال العقل؛ لزوال تمييزه في مرافق نفسه وطلب حظوظه، وهو على ذلك محفوظ في وظائف الحق عليه. وقد كان في الأمة منهم كثير:
منهم: هلال الحبشي: عبد كان للمغيرة بن شعبة في حياة النبي ، نبه عنه النبي .
وأويس القرني: في أيام عمر بن الخطاب، نبه عليه عمر وعلي وخلق كثير.
إلى أن كان عليان المجنون، وسعدون، وغيرهما.
أو يكون إماما يقتدي به ويربط به غيره ممن يسوسه، فأقيم مقام السياسة والتأديب، فهذا ينقل إلى حالة البقاء، فيكون تصرفه بأوصاف الحق لا بأوصاف نفسه، والمتصرف بأوصاف الحق: هو ما ذكرناه قبل؛ وسئل الجنيد عن الفراسة؟ فقال:" هي مصادفة الإصابة "، فقيل له: هي للمتفرس في وقت المصادفة أو على الأوقات؟ قال:" لا بل على الأوقات؛ لأنها موهبة، فهي معه كائنة دائمة "، فأخبر أن المواهب تكون دائمة.
ومن يتتبع كتب القوم وفهم إشاراتهم، علم أن قولهم: ما حكيناه عنهم؛ فإن هذه المسألة وأمثالها ليست بمنصوصات لهم ولا مفردات، بل يعرف ذلك من قولهم بفهم رموزهم ودرك إشاراتهم، والله أعلم
والبقاء الذي يعقبه: هو أن يفنى عما له ويبقى بما لله.
قال بعض الكبار:" البقاء مقام النبيين، ألبسوا السكينة، لا يمنعهم ما حل بهم عن فرضه، ولا عن فضله؛ { ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء } ".
والباقي: هو أن تصير الأشياء كلها له شيئا واحدا، فتكون كل حركاته في موافقات الحق دون مخالفاته، فيكون: فانيا عن المخالفات، باقيا في الموافقات.
وليس معنى " أن تصير الأشياء كلها له شيئا واحدا ": أن تصير المخالفات له موافقات، فيكون ما نهى عنه كما أمر به! ولكن على معنى: أن لا يجري عليه إلا ما أمر به، وما يرضاه الله تعالى دون ما يكرهه، ويفعل ما يفعل لله لا لحظ له فيه في عاجل أو آجل، وهذا معنى قولهم:" يكون فانيا عن أوصافه باقيا بأوصاف الحق "؛ لأن الله تعالى إنمـا يفعل الأشـياء لغيره لا له، لأنه لا يَجُرُّ به نفعا ولا يدفع به ضرا _ تعالى الله عن ذلك _، وإنما يفعل الأشياء لينفع الأغيار أو يضرهم.
فالباقي بالحق: الفاني عن نفسه: يفعل الأشياء لا لِجَـرِّ منفعة إلى نفسه، ولا لدفع مضرة عنها، بل على معنى: أنـه لا يقصد في فعله جَـرّ المنفعة ودفع المضرة؛ قـد سقطت عنه حظوظ نفسه ومطالبة منافعها ( بمعنى: القصد والنية )، ولا بمعنى أنـه لا يجد حظـاً فيما يعمل مما لله عليه، يفعله لله، لا لِطَمَـع ثواب، ولا لخوف عقاب، وهمـا _ أعني: الخوف والطمع _ باقيان معـه، قائمان فيه، غير أنـه يرغب في ثواب الله لموافقة الله تعـالى؛ لأنـه رغَّب فيـه، وأمر أن يسأل ذلك منـه، ولا يفعله للذة نفسـه، ويخاف عقابه إجلالا له، وموافقة له؛ لأنه خَوَّفَ عباده، ويفعل سـائر الحركات لحظ الغير لا لحظ نفسه، كما قيل:" المؤمن يأكل بشهوة عياله ".
أنشدونا لبعضهم:
أفنَـاهُ عن حظه فيما ألـمَّ به *** فظَـلَّ يُبْقِيْـهِ في رَسْـمٍ ليبديه
ليأخذ الرسم عن رسم يكاشفه *** والسِّـرُّ يطفح عن حق يراعيه
فجملة الفناء والبقاء: أن يفنى عن حظوظه، ويبقى بحظوظ غيره.
فمن الفناء: فناء عن شهود المخالفات والحركات بها قصدا وعزما، وبقاء في شهود الموافقات والحركات بها قصدا وفعلا، وفناء عن تعظيم ما سوى الله، وبقاء في تعظيم الله تعالى.
ومن فناء تعظيم ما سوى الله: حديث أبي حازم حيث قال:" ما الدنيا؟! أمَّا ما مضى: فأحلام، وأما ما بقي: فأمان وغرور. وما الشيطان حتى يهاب منه؟! لقد اطِيْع فما نفع، وعُصِي فمـا ضر "، فكان كأنه لا دنيا عنده ولا شيطان.
ومن فناء الحظوظ: حديث عبد الله بن مسعود حيث قال:" ما علمت أن في أصحاب رسول الله من يريد الدنيـا حتى قال الله: { منكم من يريد الدنيـا ومنكم من يريد الآخرة } الآية "! فكان فانيـاً عن إرادة الدنيـا.
ومن ذلك حديث حارثة: قال:" عزفت نفسي عن الدنيا، فكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا "؛ فنى عن العاجلة بالآجلة، وعن الأغيار بالجبار.
وحديث عبد الله بن عمر _ سـلّم عليه إنسـانٌ وهو في الطواف فلـم يرد عليه، وشكاه إلى بعض أصحابه _، فقال عبد الله:" إنا كنا نتراءى الله في ذلك المكان ".
ومنها: حديث عامر بن عبد القيس قال:" لأن تختلف فيَّ الأسنة، أحب إلي من أن أجد ما تذكرون "، يعني في الصلاة، حتى قال الحسن:" ما اصطنع الله ذلك عندنا ".
وفناء: هو الغيبة عن الأشياء رأسا، كما كان فناء موسى حين تجلى ربه للجبل { فخر موسى صعقا }، فلم يخبر في الثاني من حاله عن حاله، ولا أخبر عنه مغيبه به عنها.
وقال أبو سعيد الخزاز:" علامة الفاني: ذهاب حظه من الدنيا والآخرة إلا من الله تعالى، ثم يبدو باد من قدرة الله تعالى فيريه ذهاب حظه من الله تعالى إجلالا لله، ثم يبدو له باد من الله تعالى فيريه ذهاب حظه من رؤية ذهاب حظه ويبقى رؤية ما كان من الله لله، ويتفرد الواحد الصمد في أحديته فلا يكون لغير الله مع الله فناء ولا بقاء ".
معنى " ذهاب حظه من الدنيـا ": مطالبة الأعراض، و " من الآخرة ": مطالبة الأعواض، فيبقى حظه " من الله " وهو: رضاه عنه، وقربه منه، ثم يرد عليه حالة من إجلال الله تعالى ( أن يقرب مثله، أو يرضى عن مثله )؛ استحقارا لنفسه وإجلالا لربه، ثم ترد عليه حالة فيستوفيه حق الله تعالى، فيغيبه عن رؤية صفته ( التي هي رؤية ذهاب حظه )، فلا يبقى فيه إلا ما من الله إليه، ويفنى عنه ما منه إلى الله، فيكون كما كان _ إذ كان في علم الله تعالى قبل أن يوجده _، وسبق له منه ما سبق من غير فعل كان منه.
وعبارة أخرى عن الفناء: أن الفَنـاء: هو الغيبة عن صفات البشرية بالحمـل المولَّه من نعوت الإلهية ( وهو: أن يفنى عنه أوصاف البشرية التي هي الجهل والظلم؛ لقوله تعالى: { وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا }، ومن أوصافه: الكنود، والكفور، وكل صفة ذميمة تفنى عنه )، بمعنى: أن يغلب علمه جهله، وعدله ظلمه، وشكره كفرانه، وأمثالها.
قال أبو القاسم فارس:" الفناء: حال من لا يشهد صفته، بل يشهدها مغمورة بمغيبها ".
وقال:" فناء البشرية ليس على معنى عدمها، بل على معنى: أن تغمد بلذة تُوفِي على رؤية الألم، واللذة الجارية على العبد في الحال كصواحبات يوسف : { قطعن أيديهن }؛ لفناء أوصافهم، ولِمَا ورد على أسرارهن من لذة النظر إلى يوسف مما غيبهم عن ألم ما دخل عليهن من قطع أيديهن ".
ولبعض أهل العصر:
غابت صفات القاطعات أكفها *** في شـاهِدٍ هو في البرية أبدع
ففنين عن أوصافهن فلـم يكن *** مِـنْ نَعْتِهِـنَّ تلَـذَُذٌ وتَوَجُّـعُ
وقِيـام امرأة العزيز بيُوسف *** يـد نفسه ما كان يوسف يقطع
وأنشدونا في الفناء:
ذكرنا وما كنا لننسى فنذكر *** ولكن نسيم القرب يبدو فيبهر
فأفنى به عنى وأبقى به له *** إذا الحَـقُّ عنه مخبر ومعبر
ومنهم من جعل هذه الأحوال كلهـا حالا واحدة، وإن اختلفت عباراتها: فجعل الفنـاء بقاء، والجمع تفرقة، وكذلك الغيبة والشهود والسكر والصحو؛ وذلك: أن الفاني عما لـه باق بما للحق، والباقي بما للحق فانٍ عما لـه، والمفارق مجموع؛ لأنّـه لا يشهد إلا الحـقّ، والمجموع مفارق؛ لأنّـه لا يشهد إياه ولا الخلق، وهو باق لدوامه مـع الحق، وهو جامعه به، وهو فان عمـا سواه مفارق لهم، وهو غائب سكران؛ لزوال التمييز عنه.
ومعنى " زوال التمييز عنه ": هو ما قلناه بين الآلام والملاذ، وبمعنى: أن الأشياء تتوحد له فلا يشهد مخالفة؛ إذ لا يصرفه الحق إلا في موافقاته، وإنما تميز: بين الشيء وغيره، فإذا صارت الأشياء شيئا واحدا سقط التمييز.
وعبر جماعة عن الفناء بأن قالوا:" يؤخذ العبد من كل رسم كان له، وعن كل مرسوم، فيبقى في وقته بلا بقاء يعلمه، ولا فناء يشعر به، ولا وقت يقف عليه، بل يكون خالقه عالما ببقائه وفنائه ووقته، وهو حافظ له عن كل مذموم ".
واختلفوا في الفاني: هل يُرَدّ إلى بقاء الأوصاف أم لا؟
قال بعضهم:" يرد الفاني إلى بقاء الأوصاف، وحالة الفناء لا تكون على الدوام؛ لأن دوامها يوجب تعطيل الجوارح عن أداء المفروضات، وعن حركتها في أمور معاشها ومعادها ".
ولأبي العباس بن عطاء في ذلك كتاب سماه " كتاب عودة الصفات وبدئها ".
وأما الكبار منهم والمحققون: فلم يروا رد الفاني إلى بقاء الأوصاف، منهم: الجنيد، والخراز، والنوري، وغيرهم.
فالفناء: فضل من الله ، وموهبة للعبد، وإكرام منه له، واختصاص له به. وليس هو من الأفعال المكتسبة، وإنما هو شيء يفعله الله بمن اختصه لنفسه واصطنعه له، فلو رده إلى صفته: كان في ذلك سلب ما أعطى، واسترجاع ما وهب! وهذا غير لائق بالله . أو: يكون من جهة البداء، والبداء صفة من استفاد العلم، وهذا من الله منفي. أو: يكون ذلك غرورا وخداعا، والله تعالى لا يوصف بالغرور، ولا يخادع المؤمنين، وإنما يخادع المنافقين والكافرين.
وليس مقام الفنـاء يدرك بالاكتساب، فيجوز أن يكتسب ضـده؛ فإن عورض بالإيمان والرجوع عنه ( وهو أفضل المراتب، وبه يدرك جميع المقامات )؟
أجيب عنه: أن الإيمان الذي يجوز الرجوع عنه: هو الذي اكتسبه العبد من إقرار لسانه والعمل بأركانه ولم يخامر الإيمان حقيقة سره لا من قبل الشهود، ولا من صحة العقود، لكنه أقر بشيء وهو لا يدري حقيقة ما أقر به، كما جاء في الحديث: { إن الملك يأتي العبد إذا وضع في لحده فيقول: ما قولك في هذا الرجل؟ فيقول: سمعت الناس يقولون شيئا فقلته }؛ فهذا شاك غير متقين.
أو يكون أقر بلسانه وانطوى على تكذيبه، كالمناطق الذي أقرّ بلسانه وكذبه بقلبه واضمر خلافه، ولكنه أقر بلسانه ولم يكذبه بقلبه ولا اضمر خلافه، ولكن لم يقع له صحة ما أقر به اكتسابا ولا مشاهدة، لم يكتسب تحقيقه من جهة العلم فتقوم له الدلائل على صحته، ولا شاهد بقلبه حالا أزال عنه الشكوك، وقد سبق له من الله الشقاء، فاعترضت له شبهة من خاطر أو ناظر ففتنته، فانتقل عنه إلى ضده. فأما من سبق له من الله الحسنى: فإن الشبهات لا تقع له، والعوارض تزول عنه، إما اكتسابا من علم الكتاب والسنة ودلائل العقل، فيزيل خواطر السوء عنه وترد شبهات الناظر له؛ إذ لا يجوز أن يكون لما خالف الحق دلائل الحق، فهذا لا تعترضه الشكوك.
أو يكون ممن قد وقع له صحة الإيمان، ويرد الله تعالى عنه خواطر السوء باعتصامه بالجملة، ويرد عنه الله الناظر المشكك له لطفا به فلا يقابله، فيسلم له صحة إيمانه وإن لم يكن عنده من البيان ما يحتاج مناظرة ناظره، ولا ما يزيل خاطره.
أو يكون ممن وقع له صحة ما أقر به شهودا أو كشوفا، كما أخبر حارثة عن نفسه من شهوده ما أقر به، حتى حل ما غاب عنه من ذلك محل ما حضر وأكثر؛ لأنه أخبر أنه عزف عن الشاهد فصار الغيب له شهودا، والشاهد غائبا، كما قال الداراني:" انفتحت عيون قلوبهم فانطبعت عيون رؤوسهم.
فمن وقع له صحة ما أقر به من هذه الجهة لم يرجع عن الآخرة إلى الدنيا، ولا ترك الأولى للأدنى، وهذا كله أسباب العصمة من الله له، وتصديق ما وعد بقوله تعالى: { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة }؛ فقد صح أن المؤمن الحقيقي لا ينتقل عن الإيمان؛ لأنه موهبة له من الله وعطاء وفضل واختصاص، وحاشا الحق أن يرجع فيما وهب، أو يسترد ما أعطى.
وصورة الإيمان الحقيقي والرسمي في الظاهر صورة واحدة، وحقائقها مختلفة: فأما الفناء وغيره من مقامات الاختصاص: فإن صورها مختلفة وحقائقها واحدة؛ لأنها ليست من جهة الاكتساب، لكن من جهة الفضل.
وقول من قـال " إن الفاني يرد إلى أوصافه " مُحـال؛ لأن القائل إذ أقَـرّ بأن الله تعالى اختص عبـداً واصطنعه لنفسه، ثم قال إنَّـه يرده! فكأنه قال: يختص مـا لا يختص، ويصطنع مـا لا يصطنع، وهذا محـال.
وجوازه من جهة التربية والحفظ عن الفتنة لا يصح أيضا؛ لأن الله تعالى لا يحفظ على العبد ما آتاه من جهة السلب، ولا بأن يرده إلى الأوضع عن الأرفع؛ ولو جاز هذا جاز أن لا يحفظ مواضع الفتن من الأنبياء: بأن يردهم من رتبة النبوة إلى رتبة الولاية، أو ما دونها! وهذا غير جائز. ولطائف الله تعالى في عصمة أنبيائه وحفظ أوليائه من الفتنة أكثر من أن تقع تحت الإحصاء والعد، وقدرته أتم من أن تحصر على فعل دون غيره.
فإن عورض بالذي آتاه آياته { فانسلخ منها }؟ لم يعترض؛ لأن الذي انسلخ لم يكن قط شاهد حالا، ولا وجد مقاما، ولا كان مختصا قط، ولا مصطنعا، بل كان مستدرجا مخدوعا ممكورا به، وإنما أجرى على ظاهره من أعلام المختصين، وهو في الحقيقة من المردودين، وإنما حَلَّى ظاهره بالوظائف الحسنة والأوراد الزكية، وهو في القلب محجوب السر: لم يجد قط طعم الخصوص، ولا ذاق لذة الإيمان، ولا عرف الله قط من جهة الشهود؛ كما أخبر الله تعالى عنه بقوله: { فكان من الغاوين }، وكما أخبر عن إبليس بقوله: { وكان من الكافرين }.
قال الجنيد:" إن إبليس لم ينل مشاهدته في طاعته، وآدم لم يفقد مشاهدته في معصيته ".
وقال أبو سليمان:" والله ما رجع من رجع إلا من الطريق، ولو وصلوا إليه ما رجعوا عنه ".
والفـاني يكون محفوظا في وظائف الحق، كمـا قال الجنيد _ وقيل له: إن أبا الحسين النوري قائم في مسجد الشونيزي منـذ أيام لا يأكل ولا يشرب ولا ينـام، وهو يقول: الله، الله، ويصلي الصلوات لأوقاتها؟ فقال بعض من حضره: إنـه صاح، فقال الجنيد _:" لا، ولكن أرباب المواجيد محفوظون بين يدي الله في مواجيدهم "، فإن رد الفاني إلى الأوصاف لم يرد إلى أوصاف نفسه، ولكن يقام مقام البقاء بأوصاف الحق.
وليس الفاني بالصعق ولا المعتوه ولا الزائل عنه أوصاف البشرية فيصير ملكا أو روحانيا، ولكنه ممن فنى عن شهود حظوظه كما أخبرنا قبل.
والفاني أحد عينين:
إما عين لم ينصب إماما ولا قدوة، فيجوز أن يكون فناؤه غيبة عن أوصافه، فيرى بعين العتاهه وزوال العقل؛ لزوال تمييزه في مرافق نفسه وطلب حظوظه، وهو على ذلك محفوظ في وظائف الحق عليه. وقد كان في الأمة منهم كثير:
منهم: هلال الحبشي: عبد كان للمغيرة بن شعبة في حياة النبي ، نبه عنه النبي .
وأويس القرني: في أيام عمر بن الخطاب، نبه عليه عمر وعلي وخلق كثير.
إلى أن كان عليان المجنون، وسعدون، وغيرهما.
أو يكون إماما يقتدي به ويربط به غيره ممن يسوسه، فأقيم مقام السياسة والتأديب، فهذا ينقل إلى حالة البقاء، فيكون تصرفه بأوصاف الحق لا بأوصاف نفسه، والمتصرف بأوصاف الحق: هو ما ذكرناه قبل؛ وسئل الجنيد عن الفراسة؟ فقال:" هي مصادفة الإصابة "، فقيل له: هي للمتفرس في وقت المصادفة أو على الأوقات؟ قال:" لا بل على الأوقات؛ لأنها موهبة، فهي معه كائنة دائمة "، فأخبر أن المواهب تكون دائمة.
ومن يتتبع كتب القوم وفهم إشاراتهم، علم أن قولهم: ما حكيناه عنهم؛ فإن هذه المسألة وأمثالها ليست بمنصوصات لهم ولا مفردات، بل يعرف ذلك من قولهم بفهم رموزهم ودرك إشاراتهم، والله أعلم