عدد المشاهدات:
مقدمة :
أحياناً يكون هناك موضوع ما، أو مشكلة معيَّنة، تشغل تفكيرنا، ونبحث لها عن حل، لكن يستعصي علينا ذلك، ثم نترك الموضوع جانباً بسبب يأسنا واستسلامنا ووصولنا لمرحلة الإرهاق لإيجاد حل لها، وفجأة وفي لحظة معينة وبدون سبب أو مقدمات، يأتينا الحل لهذه المشكلة، وكأنها ومضة فكرية مفاجئة، من غير ترقب أو انتظار، وفي حالة لم نكن نفكر فيها أصلاً في إيجاد حلاً لها، فنفرح كثيراً لهذا الفتح الرباني، ونصرخ بأعلى صوتنا "وجدتها وجدتها" فهذه الحالة في نظريات علم النفس تسمى "الإلهام".
■ ما هو الإلهام ؟
الإلهام هو نوع من الوحي لكنه ليس مقصوراً على الرسل والأنبياء، وهو سر من أسرار الروح وإشراقة من إشراقات النفس، ومعنى راقٍ تتداخل فيه المعاني القلبية والعقلية، كما يتداخل فيه الحاضر في المستقبل ويستكشف الإنسان فيه المظلم مما أمامه، وتلمع فيه لحظة واحدة فيستشعر فيها معنًى قد لا يدركه الكثير من الناس.
والإلهام هو ـ إن صح التعبير ـ العين الثالثة التي يرى بها الإنسان شيئًا ربما لا يراه الآخرون فهو نوع من الحدس والاستبصار والبصيرة العميقة فضلًا عن كونه نوعًا من القراءة الخفية والوعي الخارج للإنسان الذي ربما يكون ومضة عابرة عند بعض الناس والتي ربما تحصل لإنسان عادي.
وفي حياة كل إنسان لحظات إلهام يمكن تذكرها، والخبرة الإنسانية العامة تشير إلى وجود تلك اللحظات الإلهامية في حياتنا، وكثير من الابتكارات والإنجازات الخالدة على مر العصور كان مصدرها "الإلهام" .
والإلهام هبة وعطية تمنح للمرء بعد توافر شروط معينة في شخصيته، فليس بمستطاع الإنسان أن يكون ملهماً، لكن بمستطاعه أن يوفر في شخصيته الظروف أو الشروط التي قد تجعله ملهماً.
يقول باستير : (لا ينال قوة العارضة وإشراقة البديهة إلا من صبر واستعد زماناً طويلاً لتلقي أشعتها) إذن الإلهام في حقيقته لا يأتي من فراغ أو أنه محض صدفة كما يعتقد الكثير بل نتيجة لجهد دؤوب ومستغرق.
يقول أديسون حين سُئل عن العبقرية : (إنها 1% إلهام و 99% عرق جبين) وهناك رأي مناقض جذريًا له ولغيره من المفكرين، وهو : إن الإرادة والجد والمثابرة قد لا تحقق النجاح بل كثيرون أولئك الذي أرادوا النجاح، لكن لم يخالفهم الحظ، وكثير من الناس من وصل إلى أعلى المناصب وهو لم يبذل أي مجهود لذلك ! ولم يفكر أو يحلم بذلك، وإنما حصلت بسبب وراثة اجتماعية أو ضربة حظ !
في رأي الدكتور الاجتماعي على الوردي العراقي، يرى أن الناجح قد امتلكه الغرور، ونسب كل فضل في نجاحه إلى نفسه، وفي نفس الوقت انتقد الكسالى : الذين يتذرّعون بالحظ، وهم لم يعملوا شيئًا، وقال : إن واقع الحياة أقوى من أية خطة يصفها عقل محدود، والحقيقة أن الحظ هو نتيجة لمقدمة مسبوقة، بالإرادة والعمل، والإنجاز، والاتجاه بالشكل الصحيح، وقديمًا قيل : الحظ محصلة الترتيب والتخطيط.
■ الإلهام في حياة العباقرة :
لحظات الإلهام التي واتت (ألبرت أينشتاين) لاكتشاف نظرية النسبية لم تقيض له اعتباطاً، بل قيضت له بعد أن نضج واكتملت ثقافته العلمية في مجال (الفيزياء) فالإلهام إذن علاقة بين مستوى خبري توصل إليه، وبين جديد يكتشفه فجأة ويطرأ على ذهنه كالتماع مفاجئ يواتيه.
وحين ابتكر (إلياس هوو) ماكينة الحياكة الآلية عام (1846) اعتبر ذلك حدثاً، لكن العجيب أن هذا الابتكار ظهر لصاحبه بعد حلم غريب وكابوس مرعب، فذات ليلة حلم بأنه زار أفريقيا، حيث طارده رجال القبائل وأسروه ضمن دائرة محكمة، وبينما هو في وسطهم يرتقب لاحظ أنهم يحملون حراباً غريبة يوجد في مقدمتها ثقب صغير (مثل الثقب الذي نراه في مكائن الخياطة الحديثة قرب رأس الإبرة) وحين رفع زعيم القبيلة الرمح ليطعنه شاهد الثقب بوضوح، فأيقن أنه وجد حلا لمشكلة عقد الخيط من الطرف الآخر للقماش (وهي المشكلة التي ظل يفكر فيها لعشرة أعوام).
يروى أن (ابن سينا) الفيلسوف المعروف كان إذا صعبت عليه مشكلة توضأ وصلى ثم نام فيرى حل تلك المشكلة في أحلامه ويروى مثل هذه القصة عن الفيلسفوف الفرنسي (ديكارت) فهو قد كشف كشوفه العظيمة كما يقال وهو نائم في فراشه صباحاً.
وهذا ما يوضح أن الدماغ البشري يعمل بطريقة فريدة، وأنه لا يتوقف عن التفكير حتى أثناء النوم وهو لا ينسى أصل المشكلة، حتى إن اعتقدنا نسيانها، لذا كثيراً ما يبرز الحل في رؤوسنا فجأة، قد يكون أثناء النوم، أو الجلوس في الحمام، أو التوقف عند الإشارة.
■ ما هو اللاشعور أو العقل الباطني ؟
حسب الدكتور علي الوردي - عالم الاجتماع العراقي - فالعقل الباطن ليس جهازًا نفسيًا معينًا له خصائص ووظيفته الخاصة به، والواقع أن إطلاق معنى العقل عليه من باب التجويز والتبسيط، فهو ليس عقلًا ولا شيئًا مما يشبه العقل وإنما هو اصطلاح عام نقصد به جميع الفعاليات النفسية التي تؤثر في سلوك الإنسان وهو لا يشعر بها على حد تعبير عالم الاجتماع العراقي الدكتور / علي الوردي ويصفه بأنه مجموع الرغبات المكبوتة والحوادس الخارقة معًا، فكلا هذين النوعين من الحوافز ينبعث من أغوار النفس بدون أن يشعر به الإنسان، ثم يخلص إلى أن العقل الباطن حيز ذهني يجتمع فيه نوعان من الحوافز فهو مباءة العقد النفسية والرغبات المكبوتة من ناحية، وموئل الإحساس الخارق من الناحية الأخرى، وهو بهذا مصدر للشر والخير معًا، ثم يصنف في كتابه خوارق اللاشعور أو أسرار الشخصية الناجحة الذين يؤمنون بوجود العقل الباطن إلى فريقين :
● الفريق الأول : هم أتباع التحليل النفسي، يعتقدون بأن العقل الباطن مكمن الرغبات المكبوتة التي لم يستطع الإنسان إشباعها لسبب من الأسباب، وهذه الرغبات تبقى في نظرهم محبوسة في العقل الباطن وهي تحت ضغط شديد ناتج عن رقابة العقل الواعي، فإذا تخدر هذا العقل أو ضعف أو غفل أو نام وجدت الرغبات المكبوتة في ذلك فرصة سانحة للخروج من حبسها وهي تظهر آنذاك بصور شتى وأساليب متنوعة، وأهم مجال تظهر فيه هذه الرغبات المكبوتة في نظرهم هو مجال الأحلام.
● أما الفريق الثاني : فيعتقدون بأن العقل الباطن مصدر الإلهام في الإنسان وهو منبع العبقرية والاختراع وما أشبه.
■ الإلهام والكتابة الإبداعية :
يقول الخبراء في فن الكتابة الحديثة : اكتب أول خاطر يطرأ على ذهنك، ولا تطوِّل فيما تكتب، فإنك ستجد بعض لحظة أن قلمك قد انساب في الموضوع انسياباً عجيباً حيث تكتب بلباقة لا عهد لك بها من قبل.
■ وطريق الإبداع في الكتابة يحتاج إلى مراحل ثلاث :
● المرحلة الأولى : هي في البحث الواعي والتنقيب وجمع المعلومات وتصنيفها، إن هذه المرحلة لا تكفي وحدها للإبداع إنما هي ضرورية أحياناً، ومن الممكن تسميتها بمرحلة "الخزن"، فالعقل الباطن لا يعمل وهو فارغ، إنما يجب أن يملأ أولاً بالمحتويات المتنوعة، فتكون هذه المحتويات بمثابة المواد الخام التي يصنع منها البضاعة النهائية.
● المرحلة الثانية : هي مرحلة الانبثاق اللاشعوري، فالكاتب بعد أن يخزن المعلومات في عقله الباطن ويتركها هناك لكي تختمر وتتلاقح يجد نفسه مدفوعاً بدافع لا يدري كنهه للكتابة، فهو يريد أن يكتب، ويصبح عبداً لحوافزه اللاشعورية ولا يجد مناصاً من الانصياع إليه.
● المرحلة الثالثة : هي مرحلة التنسيق والتزويق والحذلقة المنطقية، ففي المرحلة النهائية يجب على الكاتب أن يراجع ما كتب في ساعة الإلهام فيشطب منه قسماً ويزوِّق القسم الآخر، وهو في هذه المرحلة يخرج من عالم اللاشعور إلى عالم الشعور، فيكون اجتماعياً بعدما كان عبقرياً.
■ ما الذي يمكن أن يحشده الإنسان في داخله حتى يظفر بلحظة "إلهام" ؟
يجيب على هذا التساؤل الدكتور سلمان العودة حيث يقول هناك عدة أشياء منها :
1 ـ صفاء القلب : وذلك أن الإنسان قد يكون عنده مشكلة معينة يفكر فيها أيامًا طويلة دون أن يظفر بنتيجة، ولكن بعد ذلك يجد أنه في لحظة معينة جاءه الجواب أو الحل لهذه المشكلة على غير ترقّب أو انتظار، وهذا يعدُّ نموذجًا للإلهام، ولذلك فإنه ينبغي على الإنسان أن يدرك أن صفاء القلب له علاقة كبيرة بالإلهام؛ ولذلك كان بعض السلف يقول : (من صحّ جنانه فصح لسانه) والإنسان إذا كان عنده صفاء داخلي، وليس عنده أحقاد ولا حزازات ولا مشاكل داخلية مع الناس ولا تعقيد نفسي، بل يتمتع بحالة من الصفائية، فإنه غالبًا ما يُلقّى الحكمة فتكون كلماته جميلة وحلوله مناسبة وعنده إشراقات.
2 ـ ترك الباب موصدًا : وذلك أن الإنسان إذا كان عنده مشكلة فإنه يجب ألا يفقد الأمل في عدم وجود حل لها، ولكن يجب عليه أن يترك الباب موصدًا أو مواربًا.
3 ـ السكينة : حيث يجب على الإنسان ألا يلح، وذلك لأن شدة الإلحاح قد تحول دون الإلهام، فالإلهام يحتاج إلى حالة معينة فيها سكينة واسترخاء، في حين أن شدة الإلحاح توتر الإنسان وربما تكون حائلًا دون الإلهام، فالإلهام يأتي في مرحلة لا يكون الإنسان فيها متوترًا ومصرًا على البحث ولا يكون أيضًا قد أقفل الموضوع وأغلقه تمامًا.
4 ـ التأمل : وذلك أنه مما يحمل الإنسان على الإلهام أن يكون عنده حالة من التأمل، والذي ربما يكون بالعزلة عن الناس، ولذلك شرع الله تعالى الاعتكاف، كما أن الوحي نزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في غار حراء معتزلًا عن الناس، فالضوضاء الخارجية تصنع عند الإنسان ضوضاء داخلية وتجعل حواس الإنسان لا تعمل كما يجب، ولذلك فإن كون الإنسان أحيانًا يصلي، ويذكر ربه، ويستغفر، ويسبح، فهذه أمور هامة فيما يتعلق بالإلهام.
5 ـ الدعاء : فقد كان عمر - رضي الله عنه - وهو الرجل الملهم له كلمة عجيبة في الإلهام فكان يقول : (إنني لا أحمل همّ الإجابة ولكن أحمل همّ الدعاء، - فإذا أُلهمت الدعاء فإن معه الإجابة)، هذه من إلهامات وحكم عمر، وذلك أنه في لحظة الدعاء ينفتح القلب للإلهام والدعاء ويُلقن الإنسان الدعوة، فتكون هذه الدعوة صادقة من قلب صادق ومن عبد يؤمن بربه - سبحانه وتعالى - ويدري أن الفرج بيده، ولذا يقول : إذا أُلهمت الدعاء يعرف الإنسان أن معه الإجابة، (ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة).
6 ـ التسبيح : حيث يوجد ما يسمى بـ (إلهام التسبيح).
7 ـ القرب من الناس : فالإلهام أحيانًا يكون بقرب الإنسان من الناس، فيشاهد الناس ويسمع كلماتهم ويقرأ وجوههم ويشاهد الطبيعة ويرى ما حوله، فيرى في هذا أحيانًا أشياء ربما تلهمه بعض المعاني، وعلى ذلك فإن الإلهام قد يكون في العزلة عن الناس، وقد يكون في الاختلاط؛ ولذلك جاءت الشريعة بهذا وذاك.
8 ـ الحرمان : فالإلهام قد يتعلق بالحرمان، وعلى سبيل المثال، فإنه من أسرار شاعرية المتنبي أنه حرم ولم يحصل على ما يريد فهو يقول :
يَقولونَ لي ما أَنتَ في كُلِّ بَلدَةٍ وَما ● ● ● تَبتَغي ما أَبتَغي جَلَّ أَن يُسمى
وَلَو لَم تَكوني بِنتَ أَكرَمِ والِدٍ لَكـــانَ ● ● ● أَباكِ الضَخمَ كَونُكِ لي أُمّا
فهو رجل عظيم متعاظم في نفسه، وكان يحلم بالإمارة وأن يصبح ملكًا للعراقين واليًا، كذلك الرصافي ربما مرّ بتجربة مشابهة في العراق، فهذا ألهمه كثيرًا من المعاني .
■ وأخيراً :
كل إنسان في ثناياه عبقري يحتاج للاكتشاف، وكثرة الطعام مهلكة، يتبعها نوم فاسد مفسد للروح، والكسل مهلكة يتبعه انطفاء الروح، ومن أجل قدح شرارة الهمة فلا بد من أهداف ومثل لامعة في الأفق، فكما يوقظ الصوت حاسة السمع، والمنظر الجميل حاسة البصر، كذلك كان المثل الأعلى محفزًا موقظًا للإرادة الخاملة، كما قال عالم النفس هادفيلد .. إن العقل الباطن هو عقل الإيمان، بينما العقل الظاهر هو عقل التفكير والشك والتفلسف، والطريقة الحديثة في استثمار العقل الباطن هي طريقة الإيحاء والتكرار.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ