عدد المشاهدات:
كيف يدعو الإسلام الناس إلى
الله
لفضيلة الشيخ
محمد على سلامة
مدير أوقاف
بورسعيدسابقا
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذى فرض الإيمان على كل ذي عقل من
الإنس والجن والملائكة، وطلب منهم جميعاً أن يصدقوا ويعترفوا بوجوده سبحانه، ووحدانيته
جل جلاله، إلهاً ربًّا خالقاً، قادراً عالماً، مريداً حيًّا سميعاً، وبصيراً
ومتكلماً، ومغايراً لجميع من عداه وما عداه من مخلوقاته. والصلاة والسلام على جميع
رسله وأنبيائه، وعلى خاتمهم سيدنا محمد أفضل الصلاة وأتم التسليم.
وبعد ...
فقد طلب إلىَّ إخوانى وأحبابى فى الله ورسوله، أن
أكتب لهم كتاباً يوضح لهم كيفية دعوة غير المسلمين إلى الله عزَّ وجلَّ. وفى الحقيقة أنني لست
أهلاً لهذا العمل العظيم ولكننى استعنت بالله تعالى وطلبت منه أن يوفقنى إلى تلبية
هذه الرغبة، وأن يمدنى بروح من عنده حتى أستطيع الوفاء لإخوانى بما طلبوا، وكلى
رجاء فى الله عزَّ وجلَّ أن يجعل كتابى هذا نافعاً لى ولإخوتى المؤمنين، وشفيعاً لى بين يدى الله
ورسوله، وأن يجعله كفارة لذنوبى ومساوئى.
كما أسأله جلَّ جلاله أن يجعله هاتفاً يحدث
قلوب غير المسلمين وهادياً لهم إلى خيرى الدنيا والأخرة، إنه مجيب الدعاء وهو نعم
المستعان، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. ونضع بين يديك أيها
القارئ الكريم هذا الكتاب لتطلع عليه.
وجود الله ضرورة عقلية
إن الله خلق العقل وميز به كلاً من الإنس والجن
والملائكة، وجعل فى هذا العقل قوة يفكر بها، ويتدبر بها، ويستشف بها المعانى
المنتشرة فى الكائنات من حوله.
ولذلك فإن العقل كفيل بأن يعرف ربه وخالقه من
تفكيره ونظره فى نفسه وفى العالم من حوله، فمعرفة الله أصل مقرر فى الفطر والنفوس
العاقلة، وهذه القضية لا تحتاج إلى نزاع فيها إذ أن كل صنعة لابد لها من صانع، وكل
مخلوق لابد له من خالق، وكل كائن لابد له من مكون، فليست هذه العوالم موجودة
بنفسها، ولا قائمة بذاتها لأنها لو كانت كذلك لما تغيرت ولا تبدلت ولا تحولت، ولكننا
نراها غير مستقرة على حال من الأحوال بل هى دائمة التطور والتحرك والتغير، فدل ذلك
على أن هناك قوة هائلة جداً من وراء هذا العالم أوجدته وتدبره وتصرفه وتقوم على
جميع شئونه، بحيث يسير هذا العالم على هذا النظام البديع والنسق العجيب والحساب
الدقيق الذى نشاهده بأعيننا وندركه بحواسنا كل آن.
وهذه القوة العظيمة جاء الانبياء والمرسلون
ليقولوا لنا عنها أنها الله فسبحان الله خالق السموات، وخالق الأرض وما بينهما وما
فيها وهو على كل شئ قدير، وفى هذا الإيمان الفطرى والتصديق العقلى يقول القرآن
الكريم﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ﴾..[1] تقرير لما في طبيعة الإنسان وفطرته من معرفة الخالق جل جلاله، والمسير للشمس
والقمر وجميع الكواكب عز سلطانه.
بعثة الرسل ضرورة اجتماعية وعقلية
والرسل
هم المبعوثون من قبل الله جلَّ جلاله، والمكلفون بإبلاغ الناس دين الله الحق
وهدايتهم إلى السلوك القويم والصراط المستقيم والعمل الصالح.
وكانت
بعثة الرسل ضرورة اجتماعية لأن البشر لا يستطيعون أن يدركوا الآداب والأحكام
والمبادئ والأسس التى تنظم حياة الناس على الوجه الصحيح فى هذه الدنيا، فكان لابد
من معلم يعلم الناس ما يسعدهم ويصلح شأنهم، ويقوم اعوجاجهم فى هذه الحياة، وهذا
المعلم لابد أن يكون من قبل الله، ومؤيد بخوارق العادات حتى يقبله الناس ويعملوا
بما جاء به، لينتظم شأن العمران، ويكتمل رقى الإنسان واحترامه لبنى جنسه.
هذا وأن ما عند الناس من علوم ومعارف وقيم
ومبادئ وصناعات واختراعات إنما هى من
تعليم الله لهم على أيدى رسله وأنبيائه، فإن الله هو الذى علم الانسان ما
لم يعلم لأن الإنسان خلق جاهلا قال تعالى: ﴿وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ
أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾[2]. وقد قام الناس بعد ذلك بتعليم بعضهم بعضا سنة الله فى خلقه، ولن تجد لسنة
الله تبديلا، مع عدم إغفال دور العقل فى هذا المجال من التجديد والإبداع
والاجتهاد، وفى تطوير هذه العلوم والصناعات، فإن العقل خلقه الله من أجل ذلك، حتى
ينهض العقل برقى الأمم والشعوب والأفراد، وتسير عجلة الحياة من حسن إلى أحسن، وهكذا
إلى أن يصل العالم إلى غايته وينتهى إلى نهايته.
وقد تعلم الناس القراءة والكتابة والتخاطب مع
بعضهم من قديم الزمن، ومن أول أن وطأت أقدام الإنسان الأول على وجه هذه الأرض
فسبحان الذى علم الناس بالقلم، ومن غير قلم وعلمهم بالرسم والصورة وغير ذلك من الإشارة
والرمز، والحركة وملامح الوجه، ونحو ذلك من الآلات والأدوات التى يتعلم منها
الانسان.
وكذلك كانت بعثة الرسل ضرورة عقلية، لأن العقل
لا يمكنه أن يدرك أنواع العبادات والصالحات والقربات التى تسعد الناس بعد حياتهم
الدنيوية فى الدار الآخرة فكان لابد من ارسال الرسل ليبينوا للناس هذا الجانب فى
حياتهم، وإذ أن الحياة ليست قاصرة على رحلة الدنيا فحسب، ولكنها ستطول إلى الأبد، فان
الله لم يخلق الانسان ليميته وإنما أوجده ليعيش فى أدوار متعددة وأطوار مختلفة إلى
أبد الآباد لأن هذا الانسان هو خليفة الله، وأكرم مخلوق على الله، ولذلك قدر الله
بقاءه إلى ما شاء الله من غير نهاية: ﴿ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾[3].
سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء
والمرسلين
والأنبياء
والمرسلون صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ابتدأهم الله بأبينا آدم عليه السلام، حيث قد علمه الله الأسماء كلها، يعنى
أسماء الأجناس والأنواع والجزئيات والكليات والأصول والفروع واللغات وما إلى ذلك
من الأشياء التى تعيش معه، ويحتاج للتعامل معها فى هذه الحياة.
وكذلك تلقى آدم عليه السلام من ربه كلمات وهى
الكلمات التى تتعلق بحياة الإنسان الروحانية والدينية، وإصلاحها إذا فسدت بمعصية
الله عزَّ وجلَّ ومخالفة أحكامه وأوامره. ولقد قام آدم عليه السلام بتعليم ذلك كله لأبناءه من بعده، ثم توالى من
بعده الأنبياء والمرسلون حتى بلغوا مائة وعشرين ألف نبى ورسوله، ولقد أبلغ كل رسول
قومه ما أرسله الله به من هداية ورشاد ووصايا وآداب قال الله تعالى مبينا هذه
الحقيقة: ﴿ وَإِن
مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ ﴾[4] والمعنى أن كل قرية على وجه هذه المعمورة قد بعث الله اليها رسولا يبلغها
ما أوحاه الله اليه، وكان كل رسول يبعث بلسان قومه ولغتهم التى يتكلمون بها، لتقوم
الحجة عليهم من غير ظلم لهم ولا حيف عليهم، حتى أن الجن أرسل الله إليهم رسلاً
منهم يعلمونهم ما يحبه الله ويرضاه من عقيدة وعبادة وأخلاق ومعاملة حتى تستقيم
حياتهم على دين الله القويم، واستمر الحال كذلك يتعهد الله عباده بإرسال الرسل
ليرحمهم ويهديهم إلى سواء السبيل، حتى تهيأ العالم وتجهز لاستقبال الرسالة الخاتمة
التى تمم الله بها أمر الرسالات التى جاءت من قبل، حتى كمل بهذه الرسالة دين الله
وتمت تشريعات الله ببعثة سيدنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك جعله الله
رسولَّا عاما إلى جميع الخلق من يوم بعثته إلى أن تقوم الساعة قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ
بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾[5]. يعنى أرسله الله إلى جميع الناس فى كل زمان ومكان من غير استثناء، ليبشر من
آمن بالسعادة السرمدية ولينذر من كفر بالشقاوة الأبدية، وفى قول الله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ تشنيع على أكثر
الناس وهم الذين أعرضوا عن الإيمان برسول الله، ولم يصدقوا بأن محمدا صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء
والمرسلين، وأنه رسول الله إلى جميع العالمين.
ومن أجل ذلك جعله الله رسولا عاما إلى جميع
البشرية من يوم أن بعث إلى قيام الساعة حتى أن الله سبحانه وتعالى أرسله إلى عالم الجن
أيضا، لأنه الرسول الأخير والخاتم فكان نبياً ورسولاً إلى الثقلين الإنس والجن قال
تعالى: ﴿وَإِذْ
صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا
حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم
مُّنذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ
مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ
مُّسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ
لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَن لَّا يُجِبْ
دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ
أَولِيَاء أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴾[6] وقد أنزل الله سورة بأكملها تسمى سورة الجن تبين أيمانهم وإسلامهم لله
ورسوله صلى الله عليه وسلم، فالإيمان بأن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين أمر حتمي على كل عاقل يطلب لنفسه النجاة والسعادة
فى الدنيا والأخرة، ولذلك ترى المسلم يؤمن ويصدق بكل نبى ورسول جاء من عند الله
كما يؤمن بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لا يفرق فى الإيمان بين سيدنا محمد وبين أى واحد منهم، ولا يصح إيمانه ولا
يقبل إسلامه ولا ينفع دينه إلا بهذه العقيدة الصحيحة التى تسوى بين جميع الأنبياء
والمرسلين فى الإيمان بهم، ومن هنا يتقرر أن غير المسلمين من الناس ثلاثة- أصناف:
الأول: أهل الكتب السماوية السابقة من اليهود
والنصارى.
الثانى: المشركون الذين أشركوا مع الله الهاً
غيره.
الثالث: الكافرون الذين جحدوا وجود الله وأنكروه ولم يعترفوا به.
وهذه الأصناف الثلاثة قد أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى الله عزَّ وجلَّ بكل الأساليب من وقت أن
بعث إلى أن لقى ربه وأنتقل إلى الرفيق الأعلى صلى الله عليه وسلم، ومن بعده قام
المسلمون بهذا الدور إلى يومنا هذا وإلى ما شاء الله بعد ذلك.
وأساس دعوة هؤلاء الناس إلى الله هو القرآن
الكريم، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأساليب الأئمة الراشدين والهداة المصلحين رضى الله تعالى عنهم، وسنسوق إليك
نماذجاً من كل هذه الأسس الثلاثة.
أولا:أسلوب القرآن فى دعوة أهل الكتاب إلى الله
نجده مرة يدعو اليهود والنصارى بقوله سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى
كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ
نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ
اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾[7]. ولقد تلطف القرآن الكريم فى دعوة أهل الكتاب إلى الايمان الصحيح، ونبذ ما هم
عليه من العقائد الباطلة، والعبادات الفاسدة بهذه الآية الكريمة، وناداهم القرآن
بقوله: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ لأنهم أصحاب التوراة وأصحاب الإنجيل وهذين
الكتابين لا يختلفان مع القرآن الكريم فى شيء من أصول الدين من توحيد الله وإفراده
بالعبادة، والمساوة بين الناس، لأن القرآن الكريم من عند الله وهما من عند الله
أيضاً وهذين الكتابين قد بشرا بالقرآن، وبسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهما أقرب الكتب
السماوية عهدا بالقرآن الكريم وبسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد دعاهم رسول
الله إلى أمور أساسية وأصلية اتفقت عليها جميع الكتب السماوية، وهى إفراد الله
بالعبادة دون غيره، والعبادة هى الإيمان الصحيح والعمل الصالح، إذ الإيمان عبادة
القلب، والعمل الصالح عبادة الجوارح، ثم دعاهم إلى تنزيه الإله الحق عن الابن
والولد وعن الصاحبة والزوجة وغير ذلك مما نسبوه إلى الله زورا وبهتانا، لأن ذلك هو
عين الشرك بالله عزَّ وجلَّ فانه سبحانه واحد ليس له ثان من أصل أو فرع أو مساو أو صاحبة، وأنه أحد ليس
له أجزاء يتكون منها، وليس سبحانه جوهر ولا عرض إذ أن الجوهر يحتاج إلى حيز ومكان
يكون فيه، والعرض يحتاج إلى جوهر يقوم به ويظهر فيه والمحتاج لشئ لا يكون إلها ولا
ربا يستحق التنزيه والعبادة، وقد بينت الآية هذه المعانى بقوله سبحانه: ﴿تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا
وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا ﴾. وفى قوله سبحانه ﴿تَعَالَوْاْ﴾. يعنى هلموا وأقبلوا وارتفعوا عن هذه
العقائد الفاسدة والعبادات الباطلة وضعوا أيديكم فى أيدينا، وتعاهدوا معنا على
توحيد الله وتمجيده وعبادة الله والاخلاص فيها، ورفض جميع أنواع الشرك الظاهرة والباطنة.
قوله تعالى:﴿وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ
اللّه﴾. كان المقتضى أن
يقول لهم ولا يتخذ بعضكم بعضاً أرباباً من دون الله لأن اليهود والنصارى هم الذين
يرتكبون هذا المنكر الشنيع ويعبد بعضهم بعضاً ويقدس بعضهم بعضاً، بحجة أن أحبارهم
ورهبانهم قديسين يعنى مطهرين ومنزهين عن الخطأ والزلل فكانوا يأتمرون بأوامرهم
وينتهون بنواهيهم ولو كان فى ذلك مخالفة التوراة والإنجيل لاعتقادهم أن هؤلاء
الأحبار والرهبان لا يضلون ولا يزلون ولكن القرآن تلطَّف إليهم وخاطبهم برقة وأدب
كريم فقال: ﴿وَلاَ
يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّه﴾. بإدماج المسلمين مع أهل الكتاب فى هذه الناحية
على حد قوله: ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى
هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾[8].ولما نزل قوله تعالى:﴿وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ
اللّه﴾. قال عدى بن حاتم
لرسول الله صلى الله عليه وسلم:{وما كنا نعبدهم يا رسول الله فقال عليه السلام:
أليس كانوا يحلون لكم ويحرمون فتأخذون بقولهم، قال نعم قال عليه السلام هو ذاك}.
قوله
تعالى: ﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ﴾ يعنى إن أعرض أهل الكتاب من اليهود والنصارى
ولم يستجيبوا لما دعوتهم إليه بعد تكرير الدعوة لهم وإقامة الحجة عليهم، فقل لهم
أنت ومن معك من المؤمنين: ﴿اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ وفى هذا التعبير حمل لأهل الكتاب بطريق غير
مباشر، ودفع لهم بأسلوب فيه تورية إلى الإسلام، لأن فى ذلك إقرار منهم بصحة
الإسلام الذي نحن عليه، وبطلان ما هم عليه من الضلال والانحراف عن دين الله الحق، وكثيرا
ما ورد فى القرآن توجيه الخطاب والحديث إلى اليهود والنصارى من أجل دعوتهم إلى
الله بالأساليب المتنوعة، والأحاديث المتغايرة فعساهم أن يقلعوا عن غيهم ويدخلوا
فى دين الله القويم، وهذه الآية التى بيناها هي مثلاً قد سقناه بين يدى القارئ
ليعلم مدى اهتمام الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وعناية القرآن المجيد بأهل الكتاب من اليهود والنصارى حرصاً على نجاتهم، وأملاً
فى فوزهم وإسعادهم، ومن أراد الله به خيراً هداه إلى الإسلام، وشرح صدره إليه، ومن
لم يرد الله هدايته فلن يهديه أحد من دون الله، ولله فى خلقه حكم وشئون، وإذا أراد
شيئا قال له كن فيكون.
أسلوب القرآن في دعوة الكافرين والمشركين إلى الله
قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي
خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء
بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً
لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا
عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن
دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ
فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ
لِلْكَافِرِينَ﴾[9]
وفى هذه الآيات المحكمات دعوة قوية، ونداء بصوت
مرتفع لكل الناس بعبادة الله الواحد الأحد الفرد الصمد الحى القيوم الذى لم يلد
ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، وفى قوله تعالى﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ إشعار بأنهم ناس
معهودون وهم أهل الكفر والنفاق، وأهل الشرك بالله، لأنهم هم الذين أعرضوا عن عبادة
الله عزَّ وجلَّ، وجحدوا حق الله عليهم، وتعاموا عن حكمة خلقهم
وإيجادهم، وعن حكمة إمدادهم وتسخير هذا الكون لهم فإن الله ناداهم إلى عبادته
ليقيم عليهم الحجة، وليوضح لهم السبيل والحجة حتى لا يكن هناك عذر لأى واحد منهم
بعد ذلك.
والقرآن له أسلوب خاص فى مخاطبة العقلاء حتى لا يجرح مشاعرهم ولا يؤذى
أحاسيسهم فلم يقل القرآن لهم يا أيها الكافرون ولا يا أيها المنافقون ولا يا أيها
المشركون أعبدوا ربكم ولكن قال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ﴾ تلطفا لهم في
الخطاب، وترفقا إليهم فى الحديث وقول الله تعالى: ﴿اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ﴾ وهذا هو المقصود من
نداءهم والمراد من دعوتهم فإن الله لم يخلقهم إلا لذلك قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ
وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾[10] والعبادة هي الإيمان والعمل الصالح لأن الإيمان هو عبادة القلب، والعمل
الصالح وهو عبادة الجوارح وقد بين الله ورسوله الأمورالتى يجب على الناس أن يؤمنوا
بها، والأمور التى يجب عليهم أن يقوموا بعملها، وإذا آمن المرء ودخل فى الإسلام
عرف ما يجب عليه فعله وما يجب عليه تركه، وفى قوله تعالى: ﴿اعْبُدُواْ
رَبَّكُمُ ﴾ بتخصيص الرب
بالعبادة جل شأنه لأن كل إنسان له أدنى عقل يعلم بفطرته وبعقله البسيط أن له ربا
خلقه وصوره ورباه على نعمة وإحسانه، وهذه القضية لا يختلف فيها اثنان، إذا أن وجود
الإنسان ليس من نفسه وليس من أى كائن غيره بالضرورة والطبع، لأن وجوده من نفسه
مستحيل لتغيره وتطوره فى كل وقت من الأوقات لأن الموجود من نفسه وذاته لا يتغير
ولا يتبدل، وإيجاد غيره له من الكائنات مستحيل كذلك لأن الكائنات متغيرة ومتحولة، وكل
متغير لابد له من موجد يحدث فيه هذا التغير،فلم يبقى بعد ذلك إلا الرب الكبير
الأعظم الذى لا يتغير ولا يتبدل، هو الذى أوجد الانسان وسخر له السموات والأرض وما
فيهما ومن فيهما ليريه بما فيهما من نعم وآلاء،وليبلغه إلى غايته ونهايته التى
قدرها الله له، وفى هذا التعبير الكريم وهو قوله تعالى:
﴿اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ﴾ إشعار بضرورة
الانتماء إلى هذا الرب جلَّ جلاله وضرورة التعرف عليه سبحانه وتعالى، وضرورة التعلق به عز شأنه، اذ أنه سبحانه تعهد هذا الانسان برعايته
وعنايته من قبل أن يخلقه ومن بعد أن خلقه إلى نهاية العالم وإلى ما شاء الله بعد
ذلك، ومن كان كذلك فهو الرب حقا، والمستحق للإلوهية يقينا والجدير بالعبادة
والتعظيم والطاعة دون غيره من الآلهة الكاذبة والأرباب الباطلة الذين لا يملكون
الذين لا يملكون لأنفسهم ولا لمن يعبدهم نفعاً ولا ضراً ولا خيراً ولا شراً ولا إيجاداً
ولا خلقاً ولا إعطاء ولا منعاً ولا حياة ولا موتا ولا بعثاً ولا نشوراً ولا أى شئ
بالمرة، ولكن العقل المنكس على رأسه والمنقلب على وجهه قد أعماه الهوى، وقد أرداه
الحظ والضلال فى مهاوى التهلكة وظلام الجحود والكفر ولا حول ولا قوة الا بالله
العلى العظيم، ثم أخذ الحق بعد ذلك يقيم البرهان والحجة والدليل لهؤلاء الناس على
أحقيته بالعبادة وعلى ضرورة الايمان به سبحانه بقوله عز شأنه ﴿الَّذِي
خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ﴾ وهذه قضية مسلمة فإن الذى له القدرة الفائقة على إنشاء الإنسان وإيجاده من
محض العدم تارة ومن المادة تارة أخرى هو الذى يستأهل أن يعبد وأن يشكر وأن يذكر
وأن يطاع وأن يمجد وأن يعظم اعترافا من الإنسان بحق هذا الرب عليه، وكذلك فهذا
الرب هو الذى خلق أصولنا التى من قبلنا كما خلقنا حتى لا يدعى أحد أن قضية الوجود
هى حركة التوالد والتناسل المستمرة، والتى يشهدها الإنسان كل وقت على هذا النحو
المعروف لنا جميعا من الأرحام التى تدفع والأصلاب التى تضع النطفة فيها فلو أنعم
الإنسان النظر في أصوله التي جاءت قبله لانتهى به الأمر إلى أن عمليه التوالد ليست
إلا سببا من الأسباب التى جعلها الله لخلق الانسان، ولو شاء الله لخلق الناس كلهم
كما خلق آدم عليه السلام من غير أب ومن غير أم ولكن الله لطيف كريم وذو فضل عظيم، جعل
التزاوج فى خلق الانسان لتقوم بين الناس أواصر المحبة والألفة والتعارف
والتآلف،ويعمر هذا الكون على هذا النسق البديع الذى تتشابك عراه ببعضها منتظمة فى
سلك من الإبداع والإعجاب مما أبهر العقول وأدهش الألباب، وسنشير فى هذا المقام إلى
أنواع خلق هذا الانسان وكيفية إيجاده فمرة يخلقه الله من غير أب ومن غير أم كآدم
عليه السلام، ومرة يخلقه الله من أب وبدون أم كحواء عليها السلام، ومرة يخلقه من
أب وأم كسائر بنى الإنسان في الإيجاد من طريق التوالد التزاوج ومرة يخلقه الله من
أم دون أب كسيدنا عيسى عليه السلام، ومرة يخلقه الله من أبوين بلغا من الكبر
عتيا-ووصلا إلى سن اليأس من جفاف المادة الغريزية فى كل من الوالدين وإلى درجة
العقم العقيم الذى يستحيل عادة وعقلا إيجاد إنسان منه، وذلك كما حصل فى أبناء
سيدنا إبراهيم عليه السلام اسماعيل واسحاق وفى يحيى بن سيدنا زكريا عليه السلام، فإن
الرب جل جلاله الذى نوع كيفية إيجاد هذا الانسان على هذا النحو الذى مر بك لهو
الرب حقا والإله صدقا ويقينا الذى يستحق العبادة والحمد والثناء عليه بما هو أهله
فإنه على كل شئ قدير قوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ وهذه العبارة الشريفة علة فى عبادة الناس لربهم
إذ أن العبادة تقى الناس من فتنة الدنيا وعذاب الآخرة وتحفظهم من الشرور والمفاسد
والأهوال، وفى الوقت نفسه فإنها تنفيذ لأمر الله عزَّ وجلَّ، وقيام له بحق العبودية
من الطاعة والولاء والذل والانكسار، وكلمة لَعَلَّ تفيد معنى الإشفاق، والعطف وكأن الله جلَّ جلاله يتنزل من سماء الرفعة
الإلهية الإلهية عبادة فيخاطبهم بهذا الخطاب، ويحدثهم بهذا الحديث وينادى عليهم
بهذا النداء ليشعرهم بعطفه وشفقته سبحانه وتعالى عليهم وليحثهم بهذا الأسلوب الكريم على التقوى وهى العبادة الخالصة لله عزَّ وجلَّ، والتقوى كلمة تفيد
التحفظ والتحصن والمكاره والشدائد والمحن والعذاب الأليم فى الدنيا والآخرة، وإن
الذى يعبد ربه قد دخل حقا فى هذه الحصون المنيعة فإن كلمة لَعَلَّ تفيد الترجي كما تفيد الإشفاق، والترجي في جانب الله إنما هو لتحقيق وقوع
المرجو لا محالة بخلاف الترجي الذي يكون بين الناس فإنه يتحقق مرة ويتخلف مرات، فإذا
قال الله ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ يعنى حقا ويقينا ستتحصنون وتمتنعون من سخط الله
وغضبه وعقابه وفى هذه الآية الشريفة بشارة لمن آمن وعمل صالحا، بأنه سيدخل فى كنف
الله، وسيأوى إلى رحمة الله، وسيحتمى فى حمى الله، ذلك الفضل من الله وكفى بالله
عليما:﴿إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ
وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ﴾[11]
ثم أخذ القرآن بعد ذلك يستكمل ذكر الحجج
الدامغة، والبراهين القوية على أحقيته بالربوبية والعبادة دون غيره فقال عز من
قائل: ﴿ الَّذِي
جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشا﴾ وهذا هو البرهان
الدال على كمال قدرة الله وحكمته، والدال على أحقيته سبحانه بالإلوهية والعبادة، ومعنى
جعله الأرض للناس فراشا أى مهدها لهم وبسطها لهم ليتمكنوا من الارتفاق بها،والسكنى
عليها، وإقامة الحياة فوقها من زراعات وصناعات وعمارات ومنشآت وغيرها، مع أن هذه
الأرض تحيط بها المياه العميقة من كل جانب، بل أنها قد بسطت على لجة من الماء، وكان
المقتضى أن ترسب فى أغوار هذا الماء كما لو ألقى الإنسان حجرا في البحر، ولكن الله
أمسكها بقدرته من الرسوب والغرق، ليعيش فوقها الإنسان وينتفع بها، وليس فى مقدور
أى قوة من القوى مهما كانت أن تفعل شيئا من ذلك وهذا باعتراف العقلاء كلهم على
السواء المؤمن منهم وغير المؤمن، والدليل الثالث على ربوبية الله واستحقاقه
العبادة قوله تعالى: ﴿وَالسَّمَاء
بِنَاء﴾ أي جعل السماء
بناء، والسماء هى المشهودة للحس والعيان بما فيها من كواكب وأبراج ونجوم وأفلاك
وغير ذلك مما لا يعلمه إلا الله،وقد رفعها الله وبناها متماسكة قوية بدون أعمدة
للدلالة على عظمة الله وقدرته، وإبداع الله وحكمته، وقد صيرها الله فوق الأرض
كالسقف لها يحفظها من وقوع أي شيء على أهلها فيهلكهم، وقد زينها الله بالشموس
والأقمار والكواكب والنجوم لنفع بنى الانسان وإمدادهم بما يحتاجونه من الحرارة
والدفء والضوء والنور وغير ذلك مما لا يحصى عدده من المنافع والخيرات.
والدليل الرابع على ألوهية الله وربوبيته، وعلى
استحقاقه للعبادة دون سواه قوله تعالى: ﴿وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ
الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ ﴾ وقد جعل الله هذا الكون مرتبط بعضه ببعض، كالأنشودة المتناسقة النغم، فأنزل
بقدرته وحكمته من جهة السماء ماء بقدر لإحياء الزروع والنباتات وسقى الإنسان
والحيوان والطيور، وجميع الكائنات الحية فأخرج بهذا الماء الثمار والغلال والحبوب
والحاصلات الزراعية الأخرى التى تؤخذ منها الملابس والأثاثات والمفروشات ونحوها،
وكل هذا هو رزق للإنسان يأكل منه، ويتفكه به ويتمتع به، وإن أحدا لا يستطيع ولا
يقدر على شيء من ذلك ولو اجتمع الإنس والجن كلهم على أن يبنوا هذه السماء، أو
يمسكوها من الوقوع عليهم، أو ينزلوا الماء من السحاب ما استطاعوا إلى ذلك
سبيلا، ولعجزت قوتهم عن أن يفعلوا شيئا من
ذلك.
وقد يقول بعض الناس إن هذه الأفعال العجيبة هى
فعل الطبيعة، فنقول لهم ما هى الطبيعة عندكم؟ هل هى نفس السماء ونفس الأرض ونفس
السحاب وغير ذلك، من الكائنات التى ترونها، فلو قالوا نعم، قلنا لهم إن هذه
الطبيعة ليست عاقلة ولا حكيمة حتى تؤدى هذا الفعل العجيب، والصنع البديع والنظام
الحكيم الذى لا يصدر إلا عن قوة عظيمة جدا لها كل المميزات والخصائص والكمالات
والعظمة والقدرة والحكمة والعلم والإرادة وهذه القوة الغيبية كما أبدعت هذا النظام
الكونى وسخرته لبنى الإنسان، قد عرفت نفسها للناس جميعا بأنها هي الله الواحد
الأحد لا إله غيره ولا رب سواه ولا معبود بحق إلا هو جلَّ شأنه.
ويجب على الانسان أن يفكر مليا، وأن يتدبر
طويلا فى نفسه، وفى هذا الوجود من حوله من غير تعصب للتقاليد الموروثة أو لمذهب من
المذاهب، ومن غير هوى فى نفسه يسير وراءه فإنه قطعا وبلا شك، سيهتدي إلى الإيمان
بالله جلت قدرته، وتعالت حكمته قوله تعالى: ﴿فَلاَ
تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾. وبعد أن ساق القرآن الأدلة الباهرة،
والبراهين الساطعة والحجج الدامغة التى لم تترك ثغرة لمعترض أو معتذر ينفذ منها
مما جعل استحقاق الله للربوبية والألوهية والعبادة والتنزيه والتقديس أمرا محققا
وثابتا، ومقررا فى الفطر والعقول السليمة، وحيث أنه تقرر ذلك فى الأذهان والعقول
وفى الحقيقة والواقع العيان ولا مجال للناس فى إنكاره. فلا ينبغي بعد ذلك ولا يجوز
أن تتخذوا مع الله شريكا فى هذا الكون، والأنداد جمع ند والند هو النظير المساوى
للشيء في كل أموره.
وقد كان الكافرون لجهلهم يقولون ويعتقدون أن
أصنامهم وأوثانهم تنفع وتضر وتقدم وتؤخر، وتسعد وتشقى، مثل الرب جل شأنه، فلما ساق
الله هذه الأدلة القوية التى تقدمت وتبين أن آلهتهم التى جعلوها متساوية مع الله
لا تستطيع أن تفعل شيئا مما تقدم ذكره من جعل الأرض فراشا وجعل السماء بناء، وإنزال
الماء من السماء، وتقرر ذلك في النفوس، وترتب عليه أن يأمرهم الله سبحانه بالإذعان
لجلاله والانصياع لعظمته وألا يجعلوا له ندا ولا ضدا، ولا شريكا ولا معينا، ولا
مشيرا ولا زوجة ولا ولدا ولا أبا ولا أما مما توهمه المشركون وتخيله الضالون
وافتراه الجاهلون فسبحان ربك رب العزة عما يصفون ولذلك قال تعالى: : ﴿وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾. أي لا ينبغي أن تجعلوا لله أندادا بعد انكشاف الحقائق لكم، وظهور الأدلة
والحجج أمام أعينكم، وعلمكم بها لأن اتخاذكم آلهة غير الله أو مع الله بعد علمكم
بما تقدم دليل على جحودكم الحق بعد ما تبين، وإنكاركم الضرورات العقلية، وكفرانكم
بالمسلمات البديهية، وهذا هو الشقاء الأكبر بعينه، والضلال والخسران المبين، قوله
تعالى: ﴿وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا
عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ﴾. وبعد أن قررت الآيات السابقة وجود الله سبحانه وتعالى بالأدلة القطعية، ذكرت
هذه الآية ضرورة الايمان بأن القرآن من عند الله أنزله الله على عبده محمد صلى الله عليه وسلم ليبلغه للناس
وليخرجهم به من الظلمات إلى النور.
والريب هو الشك والتحير وعدم الاطمئنان، وهذا
الخطاب إنما هو لكل من يتشكك ويرتاب فى أمر القرآن المجيد من لدن بعثة رسول الله
إلى قيام الساعة، والله عز شأنه إنما يتحدى بذلك كل من يرتاب فى أمر القرآن، ويدعى أنه لم ينزل من عند
الله، وأن محمد صلى الله عليه وسلم اخترعه من عند نفسه، وقد ذكرت الآية أن المرتابين فى هذا القرآن الذى أنزله
الله على عبده محمد صلى الله عليه وسلم، عليهم أن يأتوا بسورة مثله، ولو كانت هذه السورة التى يأتون كأقصر سورة من
القرآن المجيد، وفى قوله تعالى ﴿عَلَى عَبْدِنَا﴾. إشارة إلى أن العبد لا دخل له فيما أنزل عليه، لأنه لا يملك من أمر إنزاله
شيئا، وإنما هو عبد يطيع سيده ومولاه فيما أنزله عليه من غير أن يقدم أو يؤخر فيه
ومن غير أن يزيد أو ينتقص منه، ومن غير أن يتأخر لحظة واحدة فى إبلاغه للناس، لأن
ذلك هو شأن العبد وفى هذه العبارة الشريفة أبلغ رد على الذين ينكرون هذا القرآن،
ويدعون أن سيدنا محمدا قد افتراه على الله من عند نفسه، وبعد أن طلب الله إليهم أن
يأتوا بسورة من مثله عجزوا وبهتوا وأسقط فى أيديهم، وذهبوا يتخبطون ذات اليمين
وذات الشمال لأن مثلية القرآن فى معناه وفى مبناه وفى فحواه وفى نسقه وفى كشفه
للغيوب وتحدثه عن دقائق العلوم، وغرائب الفهوم، وتكلمه عن خفيات الضمائر والنفوس
وغير ذلك مما لم يفى به المقام لن يستطيع البشر أجمعون أن يأتوا بأقصر سورة من سور
القرآن المجيد تماثله وتحاكيه أو حتى تقاربه وتشابهه لأنه أي القرآن كلام الله
المقدس الذى أعجز به الانس والجن، وما زال هذا التحدى قائما إلى أن تنتهى هذه
الدنيا، قال تعالى: ﴿قُل
لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا
الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾[12]. ولذلك فقد قال تعالى: ﴿وَادْعُواْ
شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾. والشهداء هم الذين يزكون الإنسان
فى عمله أو قوله أو خلقه أويسجلون على الانسان عيبه وذنبه وسوء خلقه، ولكم لما قال
الله: ﴿وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم﴾. تبين أن هؤلاء الشهداء هم الذين يزكون المشهود لهم، وطلب الله منهم أن يدعوا
شهداءهم يعنى ليستعينوا بهم فى الإتيان بسورة من مثل القرآن الكريم، وهذا الأسلوب
من الله غاية فى التحدى والتعجيز لأنهم أى الكافرون مهما استعانوا بغيرهم من
المناصرين لهم والشهداء لهم لن يستطيعوا أن يأتوا بشئ مماثل للقرآن المجيد، وقوله
تعالى: ﴿مِّن دُونِ اللّهِ﴾. معناها واستشهدوا على ما تأتون به
بشهداء غير الله، ولا تقولوا إننا قد جئنا بكلام مماثل لما جئت به يا محمد، والله
يشهد على ذلك، لأن هذا الأسلوب منهم هو أسلوب التهرب والزيغ من الحق، وأسلوب
الجدال واللجاجة بالباطل، مع أنه لا يصح ذلك عقلا ولا جدلا لأن الله هو الذى
يتحداهم بكلامه على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم فكيف يستشهدون به على صحة باطلهم الذى يماثل القرآن فى زعمهم، ولذلك قال
لهم الله لا تستشهدوا بالله على سوء صنيعكم، وفساد أحلامكم التى تتوهمون أنها
صحيحة فى زعمكم، ولكن ادعوا كل من تستطيعون دعوته من جميع الكائنات وخاصة الإنس
والجن، فلن يملكوا لكم أى مساعدة فيما تذهبون اليه من الإتيان بكلام من تأليفكم
يماثل أقصر سورة من القرآن الكريم ولو شهدوا لكم بصحة ما جئتم به من الهراء
والمهاترات فإنها شهادة باطلة فى نظر العلم الصحيح والعقل السليم، وقوله تعالى: ﴿إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾. يعنى فيما تدعونه من أنكم تقدرون على معارضة القرآن والإتيان بمثله، فهاتوا
ما عندكم واعرضوه على العقلاء من الناس والحكماء والعلماء منهم وانظروا كيف تكون
النتيجة، فأنهم يسفهون أحلامكم ويستخفون عقولكم ويسخرون من كلامكم ويضربون به عرض
الحائط، ولا يعتبرون له وزنا لأنه لم يزد عن كونه زعيقا ونعيقا وعواء وتهريجا،
ولذلك توعدهم الله وقرعهم بقوله: ﴿فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ
وَلَن تَفْعَلُواْ﴾.والمعنى فإن لم تقدروا على معارضة القرآن والإتيان بأقصر سورة من مثله وقد
وقع ذلك منكم بالفعل وظهر عجزكم مع تضافركم، وتعاونكم على ذلك وأنتم أرباب الفصاحة
والبلاغة والبيان، حيث أن القرآن نزل بلغتكم يتحداكم فيما برعتم فيه وبلغتم فيه
شأوا لم يبلغه أحدا من قبله ولا أحد من بعد، فقد قامت عليكم الحجة، وحقت عليكم
الكلمة وانهزمتم أمام بلاغة القرآن، وفصاحته المدهشة، ولذلك فلا يمكنكم أن تفعلوا
وتعارضوا القرآن بعد ذلك، ولن يستطيع غيركم أن يفعلوا شيئا من ذلك وهم أقل منكم شأنا
وأقصر باعا فى مجال الفصاحة والبيان، وفى قوله تعالى: ﴿وَلَن تَفْعَلُواْ﴾. إعجاز للناس أجمعين وتحدى لهم فى كل زمان ومكان إلى أن تقوم الساعة، ولذلك
لم يرد عن أمة من الأمم أو شعب من الشعوب أن عارض القرآن على مدى ألف وربعمائة سنة
أو يزيد، والقرآن يزيد روعة وجلالا، ورقة وجمالا، وسلاسة وانسيابا، على جبين هذا
الزمن، وصفحة هذا الوجود طيلة هذه المدة، وما زال يتألق فى سماء الرفعة والكمال
آنا بعد آن حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وإلى ما شاء الله بعد ذلك، وبعد أن عجز
الكافرون عن معارضة القرآن، واستمر هذا العجز قائما إلى الآن وما بعد الآن إلى
الأبد قال لهم الله: ﴿فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ﴾. يعنى أبقوا على أنفسكم وأشفقوا عليها وارحموها من كفركم وضلالكم واتقوا
عذاب النار بالمسارعة إلى الايمان بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن الذى
أنزله عليه وبكل ما جاء فيه، لتنجو من عذاب النار الأبدى، وهذه النار لا تقود
بالأخشاب ولا بالغاز ولا بالكهرباء المتولدة من الطاقة، ولكن توقد بالكافرين من
الناس والحجارة نكاية فى الآلام المبرحة وزيادة فى الشقاء المتسعر، فقد صار
الكافرون وقودا تتسعرهم هذه النار، وياليتهم يتفحمون ويصبحون ترابا كما هو شأن
الوقود ولكنهم كلما احترقت جلودهم وابشارهم نبتت جلود مكانها فى الحال ليذوقوا
نكال هذا العذاب الأليم، ومن عجب أن المادة الثانية من وقود هذه النار هى الحجارة،
والحجارة كلما تسعرت فيها النار كلما توهجت واحمر جمرها من شدة اللهب، وهذه
الأحجار لا تتفتت لشدتها وصلابتها وهى ا؛جار أعدت مخصوصة لوقود هذه النار، وإذا سمع
إنسان له أدنى عقل أن اقوى القادر الذى خلقه من العدم أو خلقه من المادة المعروفة
سيعذبه بكفره فى نار وقودها الكافرون والحجارة ذاب قلبه وتفتت كبده وتقطعت أوصاله
من شدة الخوف الذى يحدث له من استحضار هذا المشهد الرهيب والصورة المحزنة، وأشفق
على نفسه وآمن وعمل صالحا، لأن فى قوله تعالى: ﴿أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾. بيان لشدة العذاب وفداحة الآلام التى تتسلط على الكافرين وتصب عليهم لأن
كلمة﴿أُعِدَّتْ﴾. تفيد ضخامة الإعداد وقوة المعد لها وقدرته الجبارة على تعذيب من كفر به
سبحانه بانواع من العذاب لم تخطر على بال إنسان، نسأل الله تعالى جلت قدرته أن
يحفظنا من النار ومن عذاب النار ومن كل عمل يقربنا إلى النار بجاه النبى المختار،
وأن يدخلنا الجنة مع عبادة المؤمنين الصالحين أنه مجيب الدعاء وصلى الله على سيدنا
محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ملاحظة
والقرآن الكريم إذا نادى الناس بقوله: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾. فإنما يعنى جميع الناس إلا إذا كانت هناك قرينة تخصص هذا النداء بناس
مخصوصين بأعينهم، وإذا خاطب القرآن الناس بهذا النداء فإنما يوجههم إلى قضية عامة،
وإلى حكم عام يشترك الناس جميعا فيه، مثل قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا
يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن
وَالِدِهِ شَيْئًا﴾.[13] وقول الله: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ
لِتَعَارَفُوا﴾[14] أما إذا أراد الله أن يخاطب المؤمنين ناداهم بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وما أكثر هذا
النداء للمؤمنين فى القرآن الكريم، وإنما يناديهم الله لينبههم إلى قضية خاصة من
قضايا الايمان، وإلى جزئية من جزئيات الاسلام، وذلك مثل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا
وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.[15]
ولم يناد الله على الكافرين الا مرتين فقط فى القرآن
كله وهما قوله تعالى: ﴿ يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا
كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾[16] وقوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا
تَعْبُدُونَ ﴾[17] وذلك لأن القرآن عف
عن كثرة مناداتهم بهذا الوصف الشنيع إلا فى هذين الموضعين فإن الموضع الأول يكون
فى يوم القيامة حيث يتقدمون بالاعتذار إلى الله عن كفرهم فيرد الله عليهم طلبهم،
ويناديهم بصفتهم التى تأصلت فيهم واستولت عليهم، وكانت سببا فى رفض اعتذارهم كأن
الله يقول لهم كيف تكفرون بي وبما أرسلت إليكم ثم تعتذرون إلى اليوم، هذا شيء غير
مستساغ وغير مقبول شكلا وموضوعا، والنداء الثانى هو: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا
تَعْبُدُونَ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا
عَبَدتُّمْ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾[18] فقد أمر الله رسوله محمدا أن يقول لهم ذلك لأنهم كانوا يتهمونه بقولهم له
أنت الذى صبأت وكفرت بآلهتنا وآلهة أبائنا، ونحن على الدين الحق لأننا وجدنا
أبائنا عليه فارجع عن غيبك وعن كفرك إلى عبادة آلهتنا فأمره الله أن يقول لهم ﴿قُلْ يَا
أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾ إلى آخر السورة،
وذلك ليرد عليهم قولتهم واتهامهم له بالكفر عليه الصلاة والسلام، ويبين لهم أنهم
هم الكافرون لا هو، وقد استطردنا فى بيان هذه الملاحظة ليتيسر لمن يطلع على هذا
الكتاب رعاية ما أشرنا اليه فيها.
أسلوب النبي صلى الله عليه وسلم فى دعوة الناس إلى
الله
وهى أساليب متنوعة فقد بدأها صلى الله عليه وسلم بعرض الإسلام على
الناس الذين يتوسم فيهم الاستجابة سرا بينه وبين كل واحد منهم، فمن آمن واستقر الإيمان
فى قلبه قال له الرسول أكتم عليك أمرك وادع اليه من ترى فيه الخير من أهلك
وأصحابك، حتى أذن الله له فى إعلان الدعوة فأخذ يجهر بها بين قومه وعشيرته، ويقول
لهم أيها الناس قولوا لا اله إلا الله تفلحوا، ولما هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة
استقرت أقدام المسلمين فيها، أخذ يبعث بكتبه إلى الملوك والأمراء والحكام فى جميع
البلاد من حوله، وإلى كسرى وإلى قيصر وإلى مقوقس مصر تبليغا لرسالة ربه الذى أرسله
الله بها إلى جميع العالمين كذلك أخذ يرسل علماء الصحابة وفقهائهم إلى الجهات
النائية فى الجزيرة العربية وغيرها ليبشروا بدين الله بين من أرسلهم رسول الله
إليهم، ونذكر على سبيل المثال كتابا من كتب رسول الله إلى قيصر ملك الروم، وكيف
كان تأثير هذا الخطاب على قيصر ورجال مملكته ونص هذا الكتاب الكريم كما يلى:
{ بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله
إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإنى أدعوك بدعاية الإسلام
أسلم تسلم يؤتيك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك اثم الأكارين الفلاحين ويا
أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا
ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون}[19].
وقد أحدث هذا الكتاب دويا هائلا فى بلاط دولة
الروم، وقد رد هرقل على رسول الله ردا كريما الا أنه خاف على ضياع ملكه أذا أسلم،
وقد أسلم كبير القساوسة آن ذاك، وقتله أصحابه لما علموا بإسلامه خوفا على عامة
المسيحيين أن يدخلوا فى الإسلام تبعا له.
وهذا الأسلوب فى الدعوة إلى الله يرشدنا فى
وقتنا هذا إلى أن نعيد الكرة بتوجيه الكتب والرسائل إلى غير المسلمين نوضح لهم
فيها معانى الإسلام، وعذوبة الايمان، وحاجة الإنسانية اليه كعلاج وشفاء لها مما
تورطت فيه من شقاء ومحن فى عصرنا الحاضر، وأن الاسلام كفيل بإنقاذ الناس من
ويلاتهم كما أنقذهم من قبل، وكانوا أقسى قلوبا وأغلظ أفئدة، لأن الله قد بعث به
الرسول الأخير ليضع عن الناس أغلالهم وأوصارهم وشقائهم وعنائهم، ويزيل عنهم كل
البأساء والضراء التى يعيشون فيها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد فرض الله علينا الاقتداء به فى كل أعماله وأقواله وأحواله صلى الله عليه وسلم، ومع ما تقوم به
الدول الإسلامية من توجيه الإذاعات الدينية الى الناس الا أن الرسائل والمكاتبات
لها دور فوق الأهمية بمكان، لأن الإنسان حفى بما يوجه اليه من رسائل وكتب من الآخرين
وهى طبيعة وجبلة فى الناس، إذ تعنى أن من أرسل إليك كتابا قد تعلقت همته بك، وزاد
اهتمامه بك وعنايته بشأنك لدرجة أن كتب إليك وراسلك، وعلى حد تعبير القائل الخطاب
نصف المشاهدة وذلك لأن من يقرأ كتابك يرى صورتك النفسية والمعنوية تتراءى له بين
كلماتك وتعبيراتك التى بعثت بها اليه فى كتابك، وهذا أبلغ فى الإفادة وأعمق فى التذكير
والبيان لمن أكاتبه من حديث الاذاعة المواجهة اليه.
هذا ونوفى بما وعدنا به من ذكر نموذج من
المبشرين بالدين الحنيف الذين كان يبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبشروا
بالإسلام ومنهم أبوا أمامة رضى الله عنه، فقد بعثه رسول الله الى قومه يدعوهم الى
الله ويعرض عليهم شرائع الاسلام، فلما حضر إليهم قالوا له بلغنا أنك صبوت الى هذا
الرجل (يعنى رسول الله) قال لهم لا، ولكن آمنت بالله ورسوله وبعثنى رسول الله صلى
الله عليه وسلم إليكم أعرض عليكم الاسلام وشرائعه، فبينما هم كذلك إذ جاءوا
بقصعتهم واجتمعوا حولها وأكلوا بها، وقالوا هلم لتأكل معنا فقال لهم ويحكم إن الله
حرم هذا عليكم وكانوا قد وضعوا أمامهم لحم ميتة، فجعل يدعوهم الاسلام وهم يأبون
فطلب منهم شربة ماء فامتنعوا عليه، وقالوا ندعك تموت عطشا، فلف رأسه بعمامته ونام
على الرمضاء فى حر شديد فجاءه فى منامه رجل بقدح من الزجاج لم يرى الناس أحسن منه
وفيه شراب لم يرى الناس أحلى منه، فأعطاه القدح فشرب ما فيه ثم استيقظ بعد أن شرب
وقال والله ما عطشت ولا عرفت عطشا بعد هذه الشربة أبدا، فجاء رجل منهم وقال للقوم
آتاكم رجل من سراة قومكم فلم تتحفوه؟ فأتونى بلبن قلت لا حاجة لى به ثم ذكر لهم
منامه وأراهم بطنه، فأسلموا عن آخرهم.
وهذه القصة تكشف لنا عن مجاهدة أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم فى التبشير بالإسلام، وكيف أنهم كانوا يتعرضون للمحن والشدائد والهلاك،
وأيضا نشهد من خلال هذه الحادثة كيف أن الله كان مؤيدهم وينصرهم بالآيات والكرامات
وينقذهم مما أحاط بهم من المكاره والأهوال، ونأخذ أيضا من هذه القصة المرونة
واللباقة وكيفية توجيه الدعوة للناس، ونأخذ منها أيضا التضحية والفداء، وعدم
المبالاة بما يصيب الداعى إلى الله فى سبيل عرض الإسلام على الناس، ونأخذ أيضا
منها عفتهم فى طيبات الدنيا وشهواتهم والاكتفاء بالقدر الضرورى منها حتى يتفرغوا
لمهمتهم الصعبة وتبليغ دعوة الله للناس.
وأن أمر الاسلام لا ينهض فى وقتنا هذا إلا إذا
قام رجال من رجالاته يحملون أعباء الدعوة إلى الله على رؤسهم وفى قلوبهم وألستنهم
وأخلاقهم وانساحوا بها فى الآفاق يدعون الناس بأسلوب مثل هذا الأسلوب الذى مر بنا، فإن آخر هذه الأمة لن يصلح إلا
بما صلح به أولها.
أسلوب الأئمة والهداة المرشدين فى الدعوة إلى الله عزَّ
وجلَّ
قد حصلوا العلم النافع، واستوصوا خيرا بالعمل الرافع، وتخلقوا بكريم الأخلاق
وجميل الصفات، وحملوا نور الإسلام فى مشاعرهم ومداركهم ونزلوا به إلى البلاد
النائية البعيدة من بلاد غير المسلمين على هيئة تجار وصناع وسواح وعمال يجوبون
الأقطار والشعوب، ويندمجون فى وسط المجتمعات التى نزلوا اليها، ويبلغونهم دعوة
الله بأسلوب جذاب، وبحكمة عالية وبرقة ولطف نادرين، وبعزيمة تهد الجبال، وإرادة
تهتز لها الأرض والسموات وبذلك كانوا أمثلة عالية، ونماذج راقية للإسلام الذى
يدعون الناس إليه فآمن على أيديهم خلق كثير وأمم وشعوب بأسرها لاقتناع الناس بهم
وحب الناس لهم مما جعل قلوبهم تتفتح وصدورهم تنشرح للدخول فى دين الله أفواجا، وكان
هؤلاء الأئمة رضى الله عنهم يستعذبون العذاب ويتلذذون بالهوان فى سبيل هداية الخلق الى الله، وإخراجهم
من الظلمات الى النور، ولذلك كانت أصواتهم تسرى فى القلوب مسرى النسيم العليل
البليل الى النفوس فتحييها من العدم وتخرجها من ظلام الشرك والجحود الى نور التوحيد
والإسلام، عملا بتوجيهات رسول الله صلى الله عليه وسلم:{ ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب}[20].وقوله
صلى الله عليه وسلم: { لئن يهدى الله على يديك رجلا خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت}[21]. وقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا
إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾[22].
وهؤلاء الأئمة والرجال كثيرون جدا لا يحصى
عددهم، وما زال فى المسلمين بقية من هؤلاء القوم يجوبون الأقطار ويحملون الى الناس
أفضل ما يهدى إليهم ويقدم بين أيديهم من دين الله الحق وهدية القويم.
ومن هنا نعلم أن الدعوة الحقيقية الى الله هى دعوة غير المسلمين الى دين
الاسلام بالكيفيات والأساليب التى سبقت الاشارة اليها، أما علمائنا الأجلاء،
وأئمتنا الذين يقومون فى المجتمعات الإسلامية فإنهم مرشدون ومذكرون ومعلمون لجماعة
المسلمين ما خفى عليهم من أمور الدين، وما يحتاجون اليه من التشريعات والافتاء،
لأن المسلمين قد استجابوا لدعوة الله ورسوله فآمنوا وأسلموا ولكن يحتاجون الى واعظ
ومذكر ومرشد يبين لهم حقائق الاسلام ومعانيه حتى يكونوا دائما على ذكر من دينهم،
وعلى معرفة بقضايا إسلامهم قال تعالى: ﴿ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾[23].
وفى عصرنا الحديث نذكر جماعة من هؤلاء الأئمة
العظام رضى الله تعالى عنهم كأمثلة نرى من خلالها نور الاسلام المتألق فى قلوبهم الذى حملوه وأوصلوه
الى غير المسلمين ومن هؤلاء الأئمة الإمام محمد عبده، والإمام جمال الدين
الافغانى، والإمام محمد ماضى أبو العزائم والإمام عبد الرشيد إبراهيم، وغيرهم من
الأئمة الذين نهضوا بالدعوة الى الله فى عصرنا الحاضر، وقد أدت نهضتهم المباركة إلى
دخول الإسلام فى كثير من الأمم والشعوب، وكانت لهم أساليب مدهشة يدخلون بها على
قلوب الناس، وهى كرامات تشبه المعجزات فى هداية الخلق الى الله، أسوق منها هذه
القصة لنرى مبلغ ما كان عليه هؤلاء الأئمة من الفقه فى دين الله، والحكمة العالية
فى دعوة الناس الى الله، فلقد حضر الى مصر وفد من كبار رجال الدين المسيحى بأوروبا،
وطلبوا مقابلة الإمام أبى العزائم، فالتقى بهم ودار بينهم الحوار الآتى بدأ الشيخ
يحييهم ويرحب بهم لأن اللقاء كان فى بيته، ثم قال لهم فى ترحيبه بهم كيف حال
أبناءكم فسخروا منه وضحكوا بصوت مرتفع وتعجبوا من هذا السؤال الذى صدر من إمام من
أئمة المسلمين، وكيف انه يجهل البديهيات فى الدين المسيحى، وهو أن الرهبان
والمطارنة لا يتزوجون لأنهم قديسين، وإذا بالإمام يرد عليهم هذا التساؤل وهذا
التعجب ويقول لهم كيف تتنزهون عن الزوجة والولد وأنتم بشر وتنسبون لله الصاحبة
والولد؟ فكان هذا الجواب حجة دامغة، ودعوة لهم الى الإسلام فى غاية الرصانة
والقوة، وهو برهان عقلى ودليل بديهى لا يحتاج الى كثرة المحاورة والمجادلة
فاقتنعوا وأسلموا وعاهدوا الشيخ أنهم سينظرون فى هذا الأمر فى باهتمام بالغ،
ولأنهم لم يطلبوا مقابلته الا من أجل ذلك، وكان منهم من أسلم بعد ذلك، وبشر
بالإسلام بين قومه وعشيرته.
وأذكر حادثة للإمام محمد عبده وهو بفرنسا إذ قد
وجه إليه رجال الكنيسة هناك أسئلة حول تعدد الزوجات فى الإسلام، وكان قد نزل ضيفا
على رجال الكنيسة فرد عليهم ردا غريبا جدا وهو أنه ظل مدة إقامته فى ضيافتهم لم
يتناول غذاء غير اللبن مع تقديم الطيبات من الطعام له فى كل وجبة الا أنه يرفض
الأكل منها ويتناول اللبن فقط، فتوسلوا اليه وظنوا أنه يعاف طعامهم وقالوا له نأتى
إليك بالطيور أو الخراف فتذبح بين يديك من أجل أن تأكل منها فقال لهم انى أرد
بفعلى هذا على أسئلتكم فى تعدد الزوجات فى الإسلام، أن اللبن وإن كان غذاء متكاملا
لكن الإقامة عليه، واستمرار تناوله يجعل النفس تسأم منه وتعافه ويحتاج الى تناول
غيره من الأطعمة إشباعا لحاجة النفس وإرضاء لها فإن الزوجة الواحدة وإن كانت سليمة
من العيوب والآفات إلا أنه بطول العشرة تفتر همة الرجل نحوها وتتطلع إلى امرأة
أخرى وان هذا التطلع محرم فى دين الإسلام لأنه غير مشروع، وخشية أن يستبد هذا الحال
بالرجل فيرتكب فاحشة الزنا وهى محرمة فى كل الأديان، فقد أباح له الإسلام أن يتزوج
بأخرى ليسد هذه الحاجة الملحة فى نفسه، وكان لهذا الأسلوب أثره البالغ فى نفوس
رجال الكنيسة بفرنسا مما أدى فى النهاية الى إباحة الكنيسة الطلاق، والتزوج من
أخرى كعلاج للتدهور الخلقى الذى منى به المسيحيون فى الغرب ولا ينبغى لأحد أن يقول
فما بال المرأة لا يباح لها فى الإسلام التزوج من أكثر من واحد مثل الرجل لأن ذلك
يؤدى إلى اختلاط الأنساب، وعدم معرفتها كما أنه يؤدى الى تحلل الأسر وتدهور
الأخلاق، وقد ثبت بالأبحاث أن المرأة التى تباشر الجنس مع أكثر من رجل كثيرا ما
يحدث لها سرطان عنق الرحم فى السن المبكرة.
هذا فضلا عن تسبب المرأة فى نقل كثير من
الأمراض إلى الرجال الذين يتزوجون بها ومن ناحية أخرى فأن المرأة لا تستطيع أن
تقوم بشؤن كل زوج على حدة لأن كل زوج يريدها لنفسه " فتثور الخصومات والمشاحنات
بصفة مستمرة".
ولا يستقر لمثل هذه الأسر قرار ويقف ركب الحياة
معطلا أمام هذه الإحن والمنازعات، لكن الرجل ابيح له فى الاسلام تعدد الزوجات الى
أربع زوجات لحكم كثيرة منها ما سبق ذكرهن ومنها لكثرة النساء ووجود الكساد بينهن
وعزوف الكثير من الشباب والرجال عن الزواج لسوء الأحوال الاقتصادية وغيرها، ومنها
التهام الحروب للآلاف بل والملايين من الرجال، وتأيم النساء وانزلاقهن الى الرذيلة
تحت هذا العجز الرهيب فى جنس الرجال، ومنها ضعف المرأة وعدم قدرتها على القيام
بشؤنها وغير ذلك من الأسباب والحكم الداعية لتعدد الزوجات فى الإسلام، والإسلام
دين وسط جاء يعالج أمراض المجتمع البشرى، ويحل مشكلاته لأنه آخر الأديان التى نزلت
من السماء لإسعاد البشرية.
ومن هنا كان لهؤلاء الأئمة رضى الله عنهم كثير من المواقف الجليلة
التى تشيد بعظمة الاسلام ومسايرته ركب الحياة الإنسانية وملائمته للفطرة البشرية
التى فطر الله الناس عليها وقد كانوا رضى الله عنهم يدعون الى الله برسائلهم وكتبهم كما يدعون بألسنتهم وسلوكهم ولم يدخروا
وسعا فى تبليغ رسالة الله الى خلق الله، هذا مع خشيتهم من مقام الله، ورعايتهم
لعظمة الله جل جلاله، ورحمتهم بالخلق وحرصهم على نجاتهم قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ
رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ
وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾[24].
دور الأزهر الشريف والهيئات الدينية فى الدعوة الى
الله
يوجد جهاز فى الأزهر
الشريف وفى وزارة الأوقاف المصرية يقوم بتوجيه الدعاة الى خارج البلاد الإسلامية،
وتزويدهم بما يحتاجونه من العلوم والمعارف التى تعينهم على أداء مهمتهم فى البلاد
التى يتوجهون اليها وقد تأتى هذه الحركة ثمارها إذا ما أخلص الداعى فى مهمته، وعاش
من أجل الدعوة الى الله، وإبلاغ الناس دين الله القويم ولم تكن مهمته جمع حطام
الدنيا والحصول على زخارفها ومطارفها الفانية، وكانت وجهته الأولى والأخيرة توصيل
دين الله الى عباد الله بالفنون والأساليب المتنوعة لا يدخر وسعا، ولا يألو جهدا
فى ذلك إحياء لعمل الأئمة الراشدين والهداة المصلحين، وبقدر صفاء خاطره ونقاء
سريرته وصحة مقصده فى طلبه رضوان الله الأكبر والفوز بالسعادة الأبدية.
بقدر ما يفتح الله به قلوبا مغلقة وأعينا
وآذانا صماء، وبذلك يسوق الله له الدنيا التى لم يذهب ويتغرب من أجلها، ولكن من
أجل الله ورسوله قال الله فى الحديث القدسى : ﴿ يا دنيا من خدمنى فاخدميه
ومن خدمك فاستخدميه ﴾. ويجب على الأزهر ووزارة الأوقاف المصرية أن
يخصصوا لجنة من العلماء العاملين تقوم بإرسال الكتب والخطابات الى جميع أمم أهل
الأرض غير المسلمة متمثلة فى رؤسائها وملوكها ووزرائها وأمرائها وكبار المسئولين
عنها وكذلك الى رجال الأديان فى هذه الدول، وهذه الكتب والرسائل تكون منتظمة وبصفة
دورية بين الحين والآخر، حسب مقتضيات الظروف والأحوال والمناسبات، وتأخذ هذه الكتب
طابعا خاصا ومميزا بحيث نكون قد قمنا بإبلاغ الناس دعوة الله من غير ملل ولا قصور
وعلى أن تكون هذه الكتب بأسلوب يستميل النفوس، ويستقطب العقول والأفكار، ويستثير
المشاعر، لأن ديننا الحنيف يفرض علينا ذلك للبشرية أجمعين قال الله تعالى: ﴿ ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ
الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ
بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾[25].
وهذا الأمر وإن كان موجها
الى رسول الله صلى الله عليه وسلم الا أنه موجه أيضا الى خلفاءه وأمراء المسلمين
وحكامهم وعلماء المسلمين وأئمتهم، لأن كل أمر من الله لرسوله أمر للمسلمين فى شخصه
صلى الله عليه وسلم.
دور وسائل الإعلام فى الدعوة الى الله
والإعلام هو توصيل
المعلومات والمفاهيم الى الناس بطرق شتى، كالراديو والتليفزيون، والصحف اليومية
والمجلات الأسبوعية والشهرية وغيرها من وسائل الإعلام الكثيرة، وأن الدور الذى يجب
على التليفزيون والراديو أداءه فى الدعوة الى الله، يتلخص فيما يلى :-
أولا: عدم إذاعة وعرض أى شئ يخالف أحكام الاسلام
وآدابه الشريفة، فإن ذلك يكون من باب إشاعة المنكر
والفاحشة فى المسلمين، وذلك محرم بنص قوله تعالى: ﴿
إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ
فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾[26].
ثانيا: عدم إذاعة التراتيل والطقوس المسيحية
فان ذلك ترويج ونشر للأديان الباطلة بين المسلمين، وهذا من الكبائر التى تتحمل
الاذاعة وزرها. فى دولة دينها الرسمى الإسلام وليس هناك ضرورة ولا مبرر لهذا
العمل، فان إخواننا المسيحين يؤدون طقوسهم الدينية فى كنائسهم فى حرية تامة على
مدى الزمن الطويل من غير أى حساسية فى ذلك، هذا وإن إذاعة الدين المخالف للإسلام
فى دولة الإسلام يعتبر تبشير به بين الأمة الإسلامية، وفى ذلك من الإثم ما فيه مما
لا يقدر أحد من المسلمين على تحمله.
ثالثا: أن
تقوم الاذاعة والتليفزيون بتوجيه مبادئ الدين الحنيف بصورة واضحة ومبسطة جدا باللغات الحية التى يتكلم معظم شعوب العالم
بها، على أن يكون ذلك فى برنامج يومى نختار فيه الاذاعة الوقت المناسب للدعوة الى
الله عزَّ وجلَّ.
وأما الدور الذى تقوم به
الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية والشهرية، فيجب ان يكون فيها باب
ونافذة على العالم يكتب فيه باللغة الأجنبية السائدة بين الناس تحت عنوان(حاجة بنى
الانسان إلى الإسلام) كل ما يدخل تحت هذا العنوان من عقيدة وعلوم ومعارف وآداب
وقيم وحكم وأحكام يحتاج اليها الناس فى حياتهم الدنيا على أن يقوم المفكرون من
علماء الاسلام بتغطية هذا الموضوع وإشباع حاجة المجتمع الانسان فيه، وعلى أن يتسم
هذا البيان بالوضوح والبساطة والسهولة واليسر ليكون فى متناول الناس أجمعين.
دور وزارة السياحة فى الدعوة الى الله
بطبيعة الحال ينزل الى
بلادنا عدد كبير من السياح من جميع بلاد العالم،
ويعشقون كل شيء في مصر موقعها وجوها وشعبها وتراثها الاسلامى والفرعونى والرومانى
وغيره، وبطبيعة الحال تقوم وزراة السياحة بإعطاء السياح فكرة عن الآثار الهامة
التى تعتز بها مصر.
وان الواجب أن تقوم وزارة
السياحة بإمداد السياح بفكرة واضحة عن الإسلام الذى أثر فى الأمة المصرية تأثيرا
بالغ الأهمية مما جعلها تعتنقه وتدين به، لما فيه من قوة الجاذبية التى تتمثل فى
آدابه وأخلاقه وبساطته فى عقيدته، ويسره وسماحته، كما يجب أن تقدم إليهم كتابا بسيطا
يتضمن هذه المعانى بالإضافة الى الآثار الإسلامية الممتدة فى أعماق البلاد وبذلك
تكون وزراة السياحة تضيف إلى عملها شرف الدعوة الى الله عزَّ وجلَّ، وتتوج جهودها بهذا
العمل العظيم.
دور الحكومات الإسلامية فى الدعوة الى الله
أولا: أقامة حدود الله
وتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية الغراء فى جميع مجالات الحياة وجميع المرافق
والمصالح والأنظمة والهيئات التى تتألف منها الدولة، حتى تكون كلمة الله هى العليا
وكلمة الأهواء والأغراض والأطماع هى السفلى حتى يرفرف على الأمة أعلام الاسلام
الوارفة الظلال فيحيا المجتمع حياة العزة والكرامة والنهضة والرقى.
ثانيا: العمل الجاد
والمستمر من أجل توحيد كلمة المسلمين، وجمع شملهم على الألفة والمحبة والمودة ونبذ
الخلافات والخصومات والمنازعات التى تختلقها النفوس النزاعة للشر والداعية الى
التفرقة والشقاق.
ثالثا: تدعيم الشعوب
الإسلامية الفقيرة وسد حاجاتها حتى لا تقع فى حبائل الدول الكافرة المتسلطة.
رابعا: إقامة المشروعات
الصناعية والغذائية الضخمة بالفائض من أموال الدول الإسلامية الغنية لتسد العجز
الاقتصادى والصناعى فى الدول الإسلامية.
خامسا: إزاحة السدود
والحواجز المصطنعة بين الدول الإسلامية حتى يندمج المسلمون فى بعضهم، ويتواصوا
بالخير والبر والرحمة، إذ أنهم أعضاء فى جسد واحد هو الاسلام قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾[27]. وقال صلى الله عليه وسلم: {المسلمون
تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم ويسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم اتقاهم}[28].
وقال صلى الله عليه وسلم:
سادسا: عقد المؤتمرات
واللقاءات الدينية الكبرى بين كبار علماء المسلمين من كل القطار والتشاور فيما
بينهم فيما يستجد من أحداث وشؤن تحتاج الى الاستنباط من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ليضعوا الأحكام
والتشريعات المناسبة لهذه الأحداث المستجدة.
ومن ناحية أخرى يتدارسون
شؤن المسلمين الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية على ضوء من تعاليم
الاسلام الحنيف، ويتخذون القرارات اللازمة فى هذا الصدد لتنفيذها على الصعيد
الاسلامى الدولى.
وهذا الذى ذكرناه أهم ما
يجب على الحكومات الإسلامية أن تقوم به فى وقتنا الحاضر لإعادة مجد الإسلام
وعظمته، وبذلك تكون هذه الحكومات قد برأت ذمتها مما ينسب إليها من القصور والتقصير
فى الدعوة الى الله عزَّ
وجلَّ، وإبلاغ رسالة الله
الخاتمة ودين الله الحق الى جميع العالمين، والله نسأل أن يلهمهم السداد والرشاد
والتوفيق إنه مجيب الدعاء، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
(خاتمة
) ﴿ ﴾.
إن العقل هو زينة الانسان
وكماله، وقد أكرم الله به الانسان وميزه على سائر الكائنات وان الله خاطب هذا
العقل بشرائعه وأديانه لينظر فيها ويتأمله ويؤمن بأن الله أنزلها لإصلاح بنى
الانسان، ولإسعاد هذه الحياة، ولن يتأخر هذا العقل فى استجابته لداعى الحق إلا إذا
أصيب بهوى يعميه، أو شهوة تطغيه، ويكون مثله فى ذلك مثل المريض الذى يذوق طعم
الحلو مرا، وطعم الماء العذب متغيرا، وعندئذ لا تنفع مع هذا العقل الحيلة، ولا
تجدى فيه الوسيلة، اللهم الا إذا ابرىء من علله وشفى من أمراضه، إذ أن العقل فطرة
الله الكريمة فى الانسان التى فطر جميع الناس عليها من لدن آدم الى انتهاء الحياة
من على وجه هذه الأرض، سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا.
هذا وان الله جعل الخير فى المسلمين، وجعلهم
أمة وسطا يعنى أهل عدل وحكمة، ولذلك حملهم رسالة الاسلام يبشرون بها الأمم
والشعوب، ويدعون الناس الى الله بالحكمة والرحمة والموعظة الحسنة من غير جدال ولا
خصام ولا معاندة ولا مكابرة لأن قصدهم نجاة إخوانهم من بنى الانسان من الكفر
والضلال، وتوصيل نور الله وهداية السماء إليهم، ولا تزال طائف من المسلمين يقومون
بهذا الأمر على الوجه الذى يرضى الله ورسوله ويرضى الفضيلة والعقل السليم، حتى يرث
الله الأرض ومن عليها، وهم على هذا الحال لا يضرهم من خالفهم، ولا يمنعهم من
ناوؤهم لا إعتقادهم أن هذا فرض فرضه الله عليهم عملا يقول الله تعالى: ﴿قُلْ
هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي
وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾[30].
نسأل الله أن يجعلنا من الهداة المهتدين، والدعاة المرشدين إنه مجيب الدعاء
وصلى الله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وسلام على جميع الأنبياء والمرسلين
والحمد لله رب العالمين.
العبد المنكسر القلب الى الله ورسوله
محمد على سلامه
منهج جمعية الدعوة إلى الله
أولا: بيان أقول سيدنا رسول الله r وأعماله وأخلاقه.
ثانيا: بيان هدى أصحابه رضى الله عنهم.
ثالثا: توضيح مذاهب أئمة المسلمين.
رابعا: عدم التعصب لمذهب دون الآخر لاعتقادنا أن كل الأئمة رضى الله عنهم مجتهدون
ولكل منهم سنده من كتاب الله وسنة رسوله وهدى أصحابه رسول الله r .
خامسا: التركيز على تزكية النفوس وتطهير القلوب من الأمراض المعنوية التى تؤثر على
المؤمن وتحجبه عن الترقى إلى الدرجات الرفيعة.
سادسا: التركيز على المعانى الروحانية التى ترفق المشاعر وترهف الأحاسيس.
سابعا: اللقاءات المستمرة بين الدعاة وبين الأخوان رضى الله عنهم من جهة، وبينهم
عامة المسلمين من جهة أخرى حتى تنتشر هذه المعانى بين المسلمين.
ثامنا: أخذ الدعاة أنفسهم بعزائم الأمور لأنهم قدوة للأخوان وللمسلمين.
تاسعا: تجمل الدعاة بمكارم الأخلاق العالية من الرحمة والحلم والشجاعة والصبر
والجود والسخاء، ولو مع غير المسلمين لأنهم إبدال رسل الله وأنبياءه فى دعوة الخلق
إلى الله، فالدعوة أعمال وأقوال وأخلاق وأحوال واعتقاد.
عاشرا: الاقتداء بأئمة الهدى والرشاد، وخاصة بالإمام أبى العزائم رضى الله عنه حيث
أنه الوارث الكامل لسيدنا رسول الله r فى هذا العصر .
حادى عشر: أخذ الحكمة والمعرفة والعلم من جميع الكتب الإسلامية الجديد منها والقديم
وبخاصة كتب الإمام أبى العزائم رضى الله عنه لاشتمالها على شتى العلوم الإسلامية،
وخاصة الروحانية ولمسايرتها لروح العصر.
ثانى عشر: اعتقاد أن كل مسلم على جانب كبير من الخير وإن كان عاصيا لأنه يؤمن بالله
ورسوله واليوم الأخر ويحرم رميه بالكفر أو الضلال أو الفسق.
ثالث عشر: اليقين بأنك أقل واحد فى المسلمين وإن أصغر
مسلم خير منك عند الله ورسوله وأحق منك بكل فضيلة وبر ومعروف.
رابع عشر: اتهام النفس دائما بالقصور والتقصير وإن عظمها الناس وأثروها على أنفسهم
بخيرى الدنيا والآخرة.
خامس عشر: الإقرار بالضعف والعجز عن القيام الكامل بما يحبه الله ويرضاه من أمور
الدين والدنيا ولو رفع الله قدرك إلى ما فوق الثريا، فإن ذلك فضل الله عليك،
ونظرات سيدنا رسول الله r إليك.
سادس عشر: تحسس نقاط النقص فى النفس والمجاهدة الدائمة لمعالجتها ولو كان ذلك على يد
اصغر مسلم من المسلمين.
سابع عشر: النظر إلى أهل المجاهدة والمنافسة من شمل المؤمنين حتى نحذو حذوهم وننهج
على طريقهم.
ثامن عشر: الأخذ بأيدى أهل الكسل والغفلة والسهو من المسلمين حتى تحثهم على طاعة الله
ورسوله.
تاسع عشر: محاولة انتشال الغرقى فى المعاصى والذنوب إلى شاطئ التوبة والنجاة.
عشرون: دعوة غير المسلمين إلى الإسلام على اختلاف أجناسهم ولغاتهم ودياناتهم.
واحد وعشرون: الابتعاد عن مس مشاعر الذين تدعوهم إلى الإسلام أو تنقذهم من المعاصى أو
تنشلهم إلى طاعة الله حتى يلينوا جميعا إليك، ولا يجدون فى أنفسهم غضاضة عليك.
ثانى وعشرون: حب الخير لجميع عباد الله كل على قدر حالته ودينه.
ثالث عشرون: مسالمة الناس وسد أبواب النزاع والجدال بالمرة.
رابع وعشرون: احترام الأراء التى تخالف رأيك فى الدين.
خامس وعشرون: عدم أثارة الأمور التى اختلف فيها علماء المسلمين.
سادس وعشرون: الابتعاد عن ذكر مسالب ومساوئ أى مسلم كائن من كان فإن ذلك يحبط ثواب
الأعمال الصالحة ويحملك من أوزاره.
سابع وعشرون: الحرص على تحصيل العلم النافع ومنافسة العلماء والمتعلمين فى ذلك.
ثامن وعشرون: موالاة العارفين بالله والترب إليهم بالنفس والنفيس حتى تنتظم فى عقدهم.
تاسع وعشرون: حب آل بيت رسول الله r وصحابته والترضى عنهم جميعا عند ذكرهم.
ثلاثون: السكوت عن ذكر الخلافات التى وقعت بينهم تأليفا لقلوب المسلمين وخشية من
الوقوع فى تجريح أصحاب رسول الله r .
واحد وثلاثون: الاحسان إلى المسئ والعفو عنه ومساعدة المحسن والدعاء له.
ثانى وثلاثون: الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر باللين والرحمة والحلم والتأليف بين قلوب
المسلمين.
ثالث وثلاثون: الإصلاح بين المتخاصمين والتواصى بالعدل والصبر والمرحمة.
رابع وثلاثون: مساعدة المحتاجين والعطف على البائسين.
خامس وثلاثون: عيادة المرضى ومواساتهم.
سادس وثلاثون: إغاثة المنكوبين وتقديم ما يلزمهم على قدر الاستطاعة.
سابع وثلاثون: إسداء النصيحة وتقديم الشورة للطالبين.
ثامن وثلاثون: ترشيد الإنفاق والحد من الاستهلاك والمحافظة على نعم الله والتوسط فى كل
أمر من الأمور.
تاسع وثلاثون: الحب فى الله والبغض فى الله والقيام بجميع الأعمال من أجل الله ورسوله حتى
تكون عبادة الله عز وجل وقربة إلى الله ورسوله.
أربعون: المسارعة إلى البر والقربات والأعمال الصالحة مهما كانت التضحيات وذلك بعد
أداء الفرائض على الوجه الصحيح.
واحد وأربعون: مجاهدة النفس فى ترك المعاصى والذنوب بالمرة.
أثنين وأربعون: التوبة والندم بمجرد الوقوع فى الذنب حتى لا يأثم بتأخير التوبة منه.
الثالث وأربعون: التفكر فى آلاء الله ومصنوعاته وآياته فى الموت وفى الدار الآخرة.
أربع وأربعون: المجاهدة المستمرة من أجل إعلان كلمة الله والاستمساك بدين الله ولو مع
الزوجة و الأولاد والأقارب.
خامس وأربعون: الاعتبار والاتعاظ بأى مشهد قرآنى أو كونى.
سادس وأربعون: الذكر المتواصل الذى يخرج المؤمن من سجن الغفلة.
سابع وأربعون: الصلاة على النبى r .
ثامن وأربعون: الغيرة لله ولرسوله عند انتهاك حرمات الله أو التفريط فى أوامر الله ولو
بعدم الرضى واستنكار القلب لذلك.
تاسع وأربعون: قراءة القرآن وتدبر معانيه.
خمسون: حفظ حديث رسول الله r والتعلق به.
إحدى وخمسون: تأليف الكتب الدينية وأعدادها وطبعها ونشرها بين المسلمين.
الثانى والخمسون: إنشاء المساجد وعمارتها ورعاية القائمين عليها.