عدد المشاهدات:
مقدمة
تبدأ رواية
"محكمة الصلح الكبرى" بلقاء بين (الخيال) وهو مرآة المحسوسات، وبين (الوهم)
وهو مرآة المعنويات ، وأخذ (الوهم) يبين (للخيال) عناءه مما شغله به الإنسان ، من هجر
للشريعة وارتكاب ما يخالفها، فإذا بالخيال يبادره نفس الشكوى، ثم يتوجهان سويا إلى
(العقل) ويعرضان عليه الحال ليهتديا إلى حسن المآل، فنصحهما (العقل) برفع هذه المظلمة
إلى (محكمة الصلح الكبرى).. وهنا يتدخل الإنسان المتجرد بإملاء صحيفة افتتاح الدعوى.
ونظرت الدعوى فعلا
أمام (محكمة الصلح الكبرى) التي شكلت هيئتها من رئيس المحكمة (العدل) وعضوية كل من
(القسط والعلم والهدى والتوفيق) وكاتب الجلسة (أمين).
ومثل أمام المحكمة
المدعون وهم العقل والفكر والروية والعفة والشجاعة والكرم والعدالة والنور والعزة والرحمة
والنطق والخشية والحكمة.
كما مثل أمام المحكمة
المتهمون وهم : النفس السبعية والنفس البهيمية والشهوة والجبن والبخل والتهور والغدر
والحس والضيم والقسوة والجسم والتيه والحماقة.
وتقف كل نفس من
هذه النفوس تبدي أوجه دفاعها بالحجج والبراهين، وبعد ثلاث جلسات من الاستماع إلى المرافعة
ومواجهة بين الخصوم كل منهم للآخر، تصافحت النفوس المتصارعة في الإنسان، واصطلحت أمام
هيئة المحكمة.
وجاء عقد الصلح
يتضمن البنود الآتية:
أولا: أن تسارع
النفوس إلى القيام بما أمرها الله به سبحانه بقدر الاستطاعة، وأن تترك ما نهاها الله
عنه جملة واحدة.
ثانيا: أن تجاهد
النفوس ذواتها في الله حتى تطيع المنعم الجواد لتفوز برضاه.
ثالثا: أن تحب
النفوس الآخرة ؛ لأن الله مدحها ورغبنا فيها، وتكره الدنيا لأن الهة ذمها وكرهنا فيها.
رابعا: أن تحب
رسول الله ﴿-;- -;- وآله﴾-;- حبا يجعلنا نتشبه به ؛ فنحيي سنته
ونصونها من التغيير والتبديل.
وقد تأشر على عقد
الصلح هذا من رئيس المحكمة وحكمت المحكمة بإلحاق عقد الصلح بمحضر الجلسة وإثبات محتواه
فيه بما ينهي المنازعة.
وبذلك يبين من
فصول هذه الرواية، أن الشر والرذيلة ليستا من فطر الإنسان، وإنما ينشأ كل ذلك من اختلال
التوازن بين غرائزه، ومن العوامل الخارجية التي تنحرف بهذه الغرائز عن أهدافها الفاضلة،
وذلك ما يدلنا عليه قوله تعالى : ﴿-;-فِطْرَة اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا
لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾-;- (الروم: من الآية30)
فالفطرة هي الدين
القيم وذلك ما يدلنا عليه أيضا قول الرسول ﴿-;- ص وآله﴾-;- عن الله عز وجل في الحديث
القدسي: (كل عبادي خلقت حنفاء فاجتالتهم الشياطين، وأمروهم أن يشركوا بي غيري) وقوله
أيضا: (ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه).
وعليه فإنه من الممكن القضاء على انحراف النفوس وعودة الإنسان بعد عناء وطول مجاهدة
إلى الصراط المستقيم والخلق الفاضل.
شخصيات المسرحية
أعضاء المسرحية
رئيس المحكمة:العدل يجلس في الوسط عضو اليمين الأول:القسط يجلس إلى يمين العدل عضو اليسار الأول:العلم
يجلس إلى يسار العدل عضو اليمين الثاني:الهدى يجلس إلى يمين القسط عضو اليسار الثاني:التوفيق يجلس إلى يسار العلم كاتب الجلسة أمين حاجب المحكمة
رئيس الشرطة عدد من الحراس
الخصوم الأصليون المدعيان
المدعى عليهما العقل- النفس السبعية- الفكر- النفس البهيمية
الخصوم المتدخلون منضمون للمدعيين منضمون للمدعى عليهما
الروية- التهور -العفة الشهوة- النطق- الجسم -الشجاعة -الجبن- الكرم -البخل -العدالة -الغدر -النور-الحس- العزة -الضيم -الرحمة-القسوة -الخشية- التيه- الحكمة -الحماقة
الإنسان (وهو شبح يرتدي الزي العربي) يقوم بدور الراوي
الوهم (بلا محيطات) الخيال (المتجرد) إبليس (وهو شبح عليه الشقاوة ظاهرة).
فصول المسرحية :
الفصل الأول: (الجلسة الأولى). المنظر الأول - (السياحة النفسانية). المنظر الثاني- (افتتاح المحكمة).
الفصل الثاني: (الجلسة الثانية) المنظر الأول – (الجلسة العلنية لسماع مرافعة الخصوم). المنظر الثاني – (الجلسة السرية للمداولة).
الفصل الثالث: (الجلسة الثالثة) المنظر الأول – (جلسة مواجهة الخصوم). المنظر الثاني – (جلسة النطق بالحكم).
مكان المسرحية قاعة محكمة... مناظر خلفية من لوحات تمثل العدالة والميزان...
زمان المسرحية الحاضر الذي تعيشه البشرية في هذه الأيام
الفصل الأول الجلسة الأولى
المنظر الأول السياحة النفسانية
(تطرق ثلاث طرقات لافتتاح المحكمة منفصلا عن طرقات المسرح العادية، تطلق أصوات مسجلة من صيحات سباع ونمور تمتزج بها صوت أذان وابتهالات وتغريد طيور... الخ.
يهتف صوتهم وراء المسرح: فناء العالم... النهاية... الإنقاذ.. اليوجا... الرهبنة... الدير... المادية... العلم... الإيمان... التصوف... الصفاء... الوفاء... النور...النور...
ينفرج الستار ببطء والمسرح مظلم تماما.. ثم بعد انفراج الستار.. تبدأ إضاءة خفيفة.. كالضباب ودوائر ضوئية تتحرك ببطء... لتبدأ مناظر المسرح تظهر ببطء... وتظهر أرضية المسرح، وقد أعدت صور خلفية المسرح، لوحة كبيرة للكعبة والمسجد النبوي ومناظر صخور للنباتات الصحراوية وتستمر هذه الإضاءة الضعيفة حتى نهاية هذا المنظر... ثم يظهر شبحان يتناقشان وهما يتجهات إلى صخرة كبيرة تأخذ شكل المخ... وهما : الخيال والوهم).
(الخيال وقد تجرد من كثافة الظلال وهو مرآة المحسوسات فلقيه الوهم بلا محيطات وهو متألما عليلا فسأله).
الخيال: صبرا جميلا
الوهم:
كيف الصبر وقد حملت حملا تنوء به العصبة أولو القوة، ولا حول لي به ولا قوة ؛ إذ لا حول ولا قوة إلا بالله، أسأله أن يخلصني ممن هجر الشرع وأباه، ثم قال: اجلس أبين لك عنائي، وأشرح لك دائي، عسى دواء يشفيني الله به، أو نور هدى يسكن للإنسان في قلبه.
إن الإنسان جعلني مرآة صماء، بما لا يجدي من الأهواء، فيورد عليَّمن السخافة معانيا، ويجعلها قصدا وأمانيا، ولا طاقة لي على ما يورد. وهذا الحس يريد أن أعبده، وقد أضاع مني الأنفاس النفائس، في المفاسد والوساوس، إما فيتوهم عداوة من هو أولى به من نفسه ؛ من والد وولد بهما يحظى بأنسه، وتارة يورد عليَّحب من حبه إهلاك، وقربه ارتباك، من خبيث ماكر أو غادر فاجر، وأشد من ذلك أن يورد عليَّما لا يليق بعظمة الله سبحانه ؛ من تشبيه أو تمثيل، ويطمع أن يدخل جناته، وقد سئمت الحياة لاشتغالي بما لم أخلق لـه من المفاسد والضلال، وتوهم المنكر والمحال، وقد أصبح الناس أشبه بالنسناس إلا قليلا ممن عصمهم الله بهداه، فأقبلوا عليه سبحانه لنيل رضاه.
(وعند ذلك أنَّ الخيال وناح، وتنفس الصعداء ، وصاح ، وبما أكنه ضميره أباح).
الخيال:
أنت ياوهم سئمت الحياة وأعمالك في المعنويات، وهي ليست بشيء في جانب ما أنا فيه من المحسوسات، وأنا حري بأن أقول:
(أضاعوني وأي فتى أضاعوا)في تمثيل ما ينالون من البغية والكرامات، أو ما يحظون به من الوظائف والعطيات، فهلم بنا إلى العقل فإنه ذو روية وفضل، لنعرض عليه الحال، فنهتدي إلى أحسن المآل.
(الخيال والوهم يتجهان إلى العقل وهو جالس).
الخيال والوهم:
السلام عليك أيها العقل الذي يعقل الإنسان عن الدنايا، ويمنعه عن الخطايا.
العقل:(يحييهما)
وعليكما السلام أيها الوهم والخيال، بالحفاوة والإجلال قصا عليَّأمركما، نجح الله قصدكما.
(فتقدم الخيال خاضعا وشرح حاله ملمعا)
الخيال:
أيها العقل أنت البرزخ بيننا وبين النفس، وأنت الحاكم المسيطر على الحس، وقد أصبح الناس شجرا لا ثمر فيه، بل صار كله شوكا عاليه ودانيه، وأنت ملجأ المظلومين بعد الله تعالى، وبك يعذب من كفر ويثيب من والى.
العقل: (أجابهما على البديهة) :
إن أعمال الناس صارت كريهة، وإني قد فارقتهم منذ أخبرتهم لأنهم قد استعبدهم الحس، فألفوا الفسوق والرجس ؛ فتراهم بين دنان في حان، أو فسوق وطغيان، أو في غيبة ونميمة وميسر، أو في قطعية لرحم، وعقوق بالشر منذر، أو في خيانة وغدر لمن ائتمنهم، وإهانة وكذب على من اصطنعهم، كل ذلك لأني فارقتهم، ومن أعمالهم جانبتهم، إلا قليلا ممن اجتباه الله بسابق حسناه.
الوهم:
يا عقل أنت تفارقهم لأنك جوهر منفصل عنهم ومتصل بهم، وأما أنا والخيال فنحن متصلان بهم بلا انفصال، ورسول الله ﴿ rوآله﴾يقول: (الراحمون يرحمهم الرحمن).
(لديها رق العقل لهما، وعطف عليهما، وتلطف في المقال ومال إليهما).
العقل:
هلم بنا نرفع الأمر لله تعالى ثم إلى أولي الأمر منا، عسى أن يدفع بقوته وقدرته الشر عنا.
الإنسان : (الراوي).
فلما أن سمعت حديثهم المؤثر؛ وبيانهم الذي هو لضميرهم مفسر، آنست واستأذنت عليهم، فسمحوا لي بالدخول عليهم، فأوجس الوهم والخيال خيفة مني، وأعرضا عني، واقبل العقل عليَّباشا واحتفل بي هاشا قائلا:
العقل:
ألك حاجة إليَّ، أو تطالبني بحق عليَّ؟
الإنسان (الراوي)
فتبسمت تبسم الغريب متصفا بصفة الحبيب وقلت :إني سمعت نجواكم، وفهمت معناكم، وإني محب للصلح والصلاح ونيل بني جنسي الخير والفلاح، ومعكم ولكم، كائنا ما كان مسلككم، فأقبل الوهم والخيال آنسين، وبما رأياه مني مطمئنين، فأسرعت في القول: الرأي ما رآه العقل، فأسرعوا إلى رفع القضية للعدل، اكتبوا ما عليكم أملي ؛ فإن صلاح بني الإنسان سؤلي.
المظلمة
(الإنسان يملي والعقل يكتب)
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، أما بعد:
من الإنسان المتجرد من بشريته، المتخلي عن حيوانيته ، المستعيذ بالله من نار إبليسيته، ثم من العقل والوهم والخيال، إلى العدل عمم الله به النفع:
إنا نتظلم إلى الله تعالى ثم إليك مما نحن فيه من ظلم الظالمين، وهم: إبليس والحس وجميع قوى النفس، والسلام عليك وعلى من معك.
(يرفعهما الإنسان إلى العدل في نزل الأمان، فيطلب العدل العقل ويستفسر منه. ثم يأمر الكاتب أن يتلقى عنه ويأمر الأعوان أن يحضروا الخصوم بلا توان، فيتملق الوهم والخيال للعقل أن يستر عن خصومهما هذا الحال، لأنهما مقهوران، ويخشيان الوبال، فيأذن لهما العقل بالانصراف خوفا عليهما من الإتلاف، ثم يتلطف للإنسان برفق وحنان: أن انصرف بأمان. وتحضر الخصوم في الوقت المعلوم، وتشكل المحكمة الكبرى معلنة البشرى).
تسدل الستار
المنظر الثاني
افتتاح المحكمة
(تستمر خلفية المسرح كما هي في المنظر الأول وتضاف منصة المحكمة في الوسط، حيث يجلس رئيس المحكمة وهو (العدل)، وعلى يمينه عضو اليمين الأول (القسط)، وعلى يساره عضو اليسار الأول (العلم) ثم عضو اليمين الثاني (الهدى) فعضو اليسار الثاني (التوفيق) ، ويجاورهم سكرتير الجلسة (أمين)، ويقف الحاجب أمامهم ثم في الخلف رئيس الشرطة وعدد من الحراس- ينفرج الستار ببطء وتدق طرقات افتتاح المحكمة.....)
الحاجب:(يعلن)
محكمة.
رئيس المحكمة: باسم الحكم العدل نفتتح المحكمة
سكرتير المحكمة : (ينادي للعقل)
العقل (العقل يظهر ويلبي)
رئيس المحكمة : (للعقل) ما اسمك؟ اسمي يا سيدي : العقل
رئيس المحكمة: قد قبلت القضية شكلا فتكلم في موضوعها
العقل:
أَنْتَ يَاعَدْلُ رَحْمَةُ ٱلرَّحْمَٰنِ جِئْتُ مُسْتَنْصِرًا فَكُنْ لِي مُجِيرًا
مِنْ هَوًى قَدْ مَحَا ٱلْفَضَائِلَ عَنِّي جِئْتُ مُسْتَصْرِخًا أَغِثْنِي فَإِنِّي
صَاغَكَ ٱللَّهُ مِنْ هُدًى وَحَنَانِ مِنْ حُظُوظِ ٱلنُّفُوسِ مِنْ شَيْطَانِ
قَادَنِي لِلْعَنَاءِ بَلْ لِلْهَوَانِ مِنْكَ أَرْجُو سَلاَمَتِي وَأَمَانِي
مولاي... أنفاسك نفائس، وكل مظلوم في أوقاتك ينافس، ولا يستبين لمولاي المحجة، إلا إذا وسع لي صدره لأقيم الحجة، والمضطر يركب الصعب من الأمور وهو عالم بركوبه ، حتى يموت أو يفوز بمطلوبه..
رئيس المحكمة:
مَرْحَبًا بِالْعَقْلِ أَهْلاً أَنْتَ يَاعَقْلُ ضِيَاء
قَدْ نُصِرْتَ أَبِنْ وَوَضِّحْ قَدْ وَصَلْتَ حِمًى وَأَصْلاَ
قَدْ مُنِحْتَ ٱلْيَوْمَ فَضْلاَ نَوْعَهَا وَضْعًا وَشَكْلاَ
العقل :
دُمْتَ لِلأَخْيَارِ مَوْلَىٰ أُمَّةٌ مِثْلُكَ فِيهَا
أَنْتَ يَاعَدْلُ حَيَاةٌ مَا فَتًى زَكَّىٰ وَصَلَّىٰ
تُمْنَحُ ٱلْعَلْيَا وَتُولَىٰ بِالْمَعَالِي أَنْتَ أَوْلَىٰ
مولاي.. شرح الله صدرك، فقد شرحت صدر المظلوم بنظمك، وأحييته بروح عطفك، ظلامتي يا مولاي فوق ظلم الظالمين، وكيف لا؟ وخصومي يجذبوني إلى حضيض الأسفلين، بعد أن كنت في عليين، كنت يا مولاي في مسرات حياتي الروحانية، وملاذ أفراحي العقلية، أسبح في فسيح العز والفخار، وأتنزه في رياض البهجة والأنوار. جذبتني خصومي بمقتضيات كثافتها، وبواعث طبعها، ودواعي ميولها، إلى سجن الذل للشهوة الحيوانية، والخنوع تحت سلطان الحظوظ البهيمية، حتى حملت ما تنوء به العصبة أولو القوة.
رئيس المحكمة:
صه يا عقل ، فقد قال سيد المرسلين عليه الصلاة والسلام : (لا يقضىعلى غائب ولا لـه) فمن خصومك؟
العقل :
خصومي يا مولاي : النفس السبعية والنفس الشهوانية وأنصارهما، والجسم والحس.
(الرئيس يأمر بندائها، فينادي الحاجب عليها، وتحضر النفس وتبتديءفي الجلوس فيأمرهم الرئيس بالقيام قائلا).
رئيس المحكمة:
أنا العدل ويلزم لمقتضاي المساواة (ثم يتوجه إليهم قائلا:)لم قعدتم وخصمكم واقف؟
النفس السبعية:
لا نقف وجلوسنا هو العدل والمساواة، وجلوسك وكل الحاضرين بعين رأسي أراه.
رئيس المحكمة:
أنتم مطلوبون للقضاء ولا يجلس هنا إلا البرآء، فإن ظهرت براءتكم صحت كرامتكم ، قفوا.
النفس السبعية:
لا نقف حتى تثبت لك إدانتنا، والخبر يحتمل الصدق والكذب، فاحفظ كرامتنا، وإذا أهنت أهل الشرف بالدعوى عمت البلوى.
"الرئيس يأمر بوقوفهم رغم أنوفهم، يحضر الأعوان"
النفس السبعية:
اسمح لي أن أسألك أيها الرئيس كما تسألني ؛ فإنك جلست لتنصف الفرد من الفرد غيورا على رفع المظالم، فمن ينصفنا إن قيل إنك ظالم؟
رئيس المحكمة:
بيني ما تحبين أيتها النفس السبعية ؛ فأنا العدل رحمة بالبرية.
النفس السبعية:
الرحمة يا مولاي فوق العدل، والعدل وسط بين الرحمة والجور، أنا يا مولاي لا خصم يخاصمني، ولا ظلامة لي على أحد بها يطالبني، وهذا الواقف الذي يدعي أنه خصمي ليس من جنسي، بل ولا من رسمي،وإني لا أعرف لـه حقيقة ، حتى أكون لـه صديقة، وقد اختلف العلماء الراسخون في تعريفه ووظيفته، وهل هو عرض أم جوهر في فطرته، وإنا لنسمع به ولا نراه، يمدح به أهل الفضائل، ويذم بفقده أهل الرذائل، وقد أثبته التواتر ونفاه الحس، وهو كالشيطان الذي ينسب إليه كل قبيح، ولا يظهر لنا بالصريح، فاحفظ لنا أوراق تلك القضية، وأرحنا ممن يريد أن يحرمنا من ملاذنا الحيوانية، حتى نعيش في بحبوحة الإباحة، وصفاء اللذة والسماحة.
يَاعَدْلُ إِنَّ مَسَرَّاتِي وَأَفْرَاحِي
يَاعَدْلُ يَعْقِلُنِي عَقْلِي وَيَقْهَرُنِي
تِلْكَ ٱلْمَلَذَّاتُ تَدْعُونِي وَأَتْرُكُهَا
لاَ يَتْرُكُ ٱلْمَرْءُ لَذَّاتٍ تُحِيطُ بِهِ
يَاعَدْلُ هَٰذَا عَدُوِّي فَٱنْتَقِمْ كَرَمًا
أَوْلاَ... فَمُرْنِي أُلاَكِمُهُ وَأَطْعَنُهُ
نَاشَدْتُكَ ٱللَّهَهَلْ تُرْضِيكَ مَظْلَمَتِي
أَلاَّيُرَىٰ فِي صَفَائِي لاَئِمٌ لاَحِ
حَتَّى أَكُونَ فَلاَ مَيْتٌ وَلاَ صَاحِ
لِلْعَقْلِ يَرْجُو بِذَا إِفْسَادَإِصْلاَحِ
هَلْ تَرْتَضِي أَنْ أَرَى ٱلْخُسْرَانَ أَرْبَاحِي؟!
مِنْهُ تُرِحْ كُلَّ سُلْطَانٍ وَفَلاَّحِ
حَتَّىٰأُمَتَّعَ فِي ٱلإِطْلاَقِ بِٱلرَّاحِ
بُعْدِي عَنِ ٱلْغِيدِ عَنْ خَدْنٍ وَأَقْدَاحِ؟
(الرئيس يأمر بهدنة دقائق ولديها يعلو ضحك أهل الخلاعة ، وبكاء أهل العقل)
(يسدل الستار)
الفصل الثاني الجلسة الثانية المنظر الأول
الجلسة العلنية لسماع مرافعة الخصوم
رئيس المحكمة: باسم الحكم العدل فتحت المحكمة
(الرئيس يأمر بمناداة الخصوم)
الحاجب:
يا خصوم قضية الصلح الكبرى.
فيدخل العقل ومعه الفكر والروية والعفة والنطق، ووراءهم الشجاعة والكرم والعدل ووراءهم أنصار الفضائل وحراس الشرائع، وهم النور والعزة والرحمة والخشية والحكمة. وتدخل النفس السبعية ومعها النفس البهيمية، ووراءهما التهور والشهوة والجبن والبخل والغدر والحس والضيم والقسوة والجسم والتيه.
رئيس المحكمة:(ينادي بصوت عال)
فليقف الخصوم ويجلس الزوار، فلا يجلس أحد.
(الرئيس يناديعلى النفس السبعية فتلبي)
رئيس المحكمة:
من أنت؟
النفس السبعية:
أنا النفس السبعية، وبي الإقدام والجرأة والمنعة ودفع الظلم ونيل الخيرات لمن تحت رعايتي.
لَوْلاَيَ لَمْ يَبْلُغْ مُرِيدٌ قَصْدَهُ
بِي يَبْلُغُ ٱلإِنْسَانُ مَا يَرْجُوهُ مِنْ
لِي جَرْأَةٌ وَحِمْيَةٌ لِي غَيْرَةٌ
هَلْ أُمَّةٌ سَادَتْ بِغَيْرِ تَصَرُّفِي
سَفْكُ ٱلدِّمَاءِ وَهَتْكَ كُلِّ مَصُونَةٍ
مَجْدَ ٱلْمُلُوكِ عُلُوُّهُمْ وَفَخَارُهُمْ
يَا عَدْلُ فَكِّرْ لاَ تَمِلْ لِمُدَلِّسٍ
كَلاَّ وَلَمْ يَكْبِحْ شُجَاعٌ ضِدَّهُ
شَهَوَاتِهِ.. لَوْلاَيَ يَفْقِدُ جَدَّهُ
تُولِي ٱلْفَتَى ِلذَاتِهِ وَمُرَادُهُ
وَٱلْفَرْدُ أُولِيهِ بِعَزْمِي رُشْدَهُ
مِنْ جَرْأَتِي كَالسَّيْفِ يُبْدِي حَدَّهُ
مِنِّي وَبِي مُنِحَ ٱلْمُمَلَّكُ رِفْدَهُ
يُخْفِي ٱلْمَعَالِمُ ثُمَّ يُبْدِي كَيْدَهُ
رئيس المحكمة:
خرجت أيتها النفس السبعية عن موضوع القضية، وركبت متن حمية الجاهلية، وصدق الله العظيم إذ يقول : ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ﴾(البقرة: من الآية171)
(تقدمت النفس البهيمية متكلمة فأسكتها الرئيس بالإشارة).
رئيس المحكمة:
من أنت وما صفتك في موضوعنا هذا؟
النفس البهيمية:
أنا يا سيدي النفس البهيمية، وظلامتي بينة جلية، لأني ياسيدي لولا الإطلاق لضاق بي الخناق، ولولا الإباحة لدامت لي النياحة، وإني يا سيدي قوية شهوتي، ضعيفة نحيزتي، مجاهدتي في شهي الطعام والشراب، وبهي الثياب والحجاب، للسكون والدعة والزينة ولين الفراش والدثار للنوم والإيثار، وما حركتي وطعامي وجولاتي في ميداني إلا مع خدن أداعبه، أو ظبي ألاعبه، وناصري على آمالي والقائم لي بأعمالي هي النفس السبعية ؛ فإذا تسلط عليها العقل كانت البلية، فرحماك يا عدل بضعيفة شهواتها قاهرة، ومضطرة ولذاتها فاخرة.
(يهم الفكر بالكلام فيسكته الرئيس)
رئيس المحكمة:
من أنت وما صفتك؟
الفكر:
أنا الفكر وزير سلطان تلك المملكة الفردية، والتي منها يتكون مجتمع المملكة الإنسانية، وبقدر الفرد يكون المجتمع، وصفتي يا مولاي أني وزير داخلية الملك، فتعرض على شئون داخلية الملك، فأميز بين نافعها وضارها بالحجة الجلية، وأعرضها على مولاي لينفذ ما به حفظ مملكته من المضرات، وما يجلب لها به الخيرات، فإذا تقوى السلطان بأعوانه، وقهر أعداءه بخلانه، وقام كل فرد من المجتمع عاملا أو مقلدا عليهم نور المجد لمع، ولا غرو فإن مولاي العدل- شفي الله به الأفراد من الأمراض، والمجتمع من الأعراض- يعلم مقدار الخير الذي يناله بالفعل المجتمع والفرد، وما يفوزون به من جمال المواهب وعلو الجد، كما أن مولاي- أيد الله به الحق وأهله- يعلم أن النفس السبعية، إذا تسلطت على الفرد تحقق للعالم جهله وأنكروا فعله، فإذا عمل بعمله المجتمع أو قلده أضله وأفسده.. والسعادة يا مولاي نيل وإدراك ما هو خير، في الحقيقة ونفس الأمر؛ لأن للإنسان سعادة ينشدها العقلاء، ويأباها الأغبياء، فسعادة الإنسان بنيل الفضائل التي يكون بها شبيها بالملائكة الروحانيين، متجملا بجمال الأنبياء والمرسلين، مما تبتهج به الأرواح الملكية، والنفوس المطهرة الزكية، وليست السعادة يا مولاي مأكل شهي، وملبس بهي، وملامسة للنساء على فراش وطئ، هذه يا مولاي سعادة البهائم السائمة، بل وليست السعادة يا مولاي افتراس السباع للأجسام، ولا إدخار المال الحرام، ولا غدر لأهل الذمام، ولا ختل للعقول كختل الثعالب أو اللئام ؛ فإن السبع يفترس ظلما والنملة تدخر غنما، والفأر يسرق غرما، والديك يأتي الدجاجة رغما.
هذه يا مولاي سعادة الوحوش النافرة، والسباع الكاسرة ، وكيف يتشبه الإنسان بالبهائم ويقول إني إنسان؟ نعم إنه طويل القامة ، عريض الأظفار، ضاحك بالطبع، ولكنه لا يكون بذلك إنسانا، وكيف لا، والله يقول: ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً﴾(الفرقان: من الآية44). مولاي.. إني لأجول جولة في هذا الكون ، فأرى ما فيه مخلوقا للإنسان وتعمى عين الإنسان مع وضوح البيان.
مَوْلاََي أَنْجِدْ مِنْ يَدِ ٱلظُّلاَمِ
أَحْيِي ٱلْفَضِيلَةِ بِالْعَدَالَةِ وَٱنْتَصِرْ
ٱلنَّفْسُ يَامَوْلاَيَ شَيْطَاٌن لَهَا
تَعْدُو لِتُلْقِي بِالْفَضَائِلِ كُلِّهَا
كَيْفَ ٱلتَّخَلُّصُ مِنْ ظَلاَمَتِهَا ٱلَّتِي
أَنْتَ ٱلشِّفَاءُ فَدَاوِنَا بِعَذَابِهَا
أَوْ سَجْنِهَا حَتَّى تُقَادَ ذَلِيلَةً
لاَ تَرْتَقِي أُمَمٌ تَكُونُ نُفُوسُهُمْ
حَتَّى يَكُونَ ٱلْعَقْلِ سُلْطَانًا عَلَى
كَمْ أَهْلَكَتْ تِلْكَ ٱلنُّفُوسِ مَمَالِكًا
سَاسُوا وَسَادُوا، دَمَّرَتْهُمْ أَنْفُسٌ
مَوْلاَيَ أَدْرِكْ بِالْعَدَالَةِ وَٱشْفِيَنْ
حَتَّىٰ نَسُودَ سِيَادَةً عَقْلِيَّةً
نُورًا يُضِيءُ بِغَيْرِ فَيْءِ ظَلاَمْ
مِنْ غَادِرٍ يَبْدُو بِوَصْفِ إِمَامِ
مَيْلٌ إِلَى ٱلإِضْلاَلِ وَٱلإِعْدَامِ
فِي هُوَّةٍ بَلْ فِي سَحِيقِ رَغَامِ
أَوْدَتْ بِمُجْتَمِعٍ إِلَى ٱلأَسْقَامِ
فَأَمُرْ بِصَلْبٍ أَوْ بِضَرْبِ حُسَامِ
لِلْعَقْلِ فِي طَوْعٍ بِعِقْدِ نَظَامِ
أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ وَٱلآلاَمِ
تِلْكَ ٱلنُّفُوسِ بِصَوْلَةِ ٱلإِقْدَامِ
نَالُوا ٱلْعُلاَ وَمَرَاتِبَ ٱلإِعْظَامِ
لَمْ تَحْتَفِلْ بِالْعَقْلِ وَٱلأَفْهَامِ
مِنْ دَاءِ أَنْفُسِنَا وَذُلِّ مَلاَمِ
نَرْقَى بِنُورِ ٱلشَّرْعِ كُلَّ مَقَامِ
أيها العدل، أنت لطالب الخير الإمام، وبالاقتداء بك تبلغ الأمم أرقى مقام، وأنت المصباح والشريعة زيتك، والأساس والدين بيتك، بك تظهر أنوار الشرائع فيعمل بها، وتلوح حكمتها فيرغب فيها. ولولاك ما اتضحت شريعة لعامل ولا نيلت بغية لآمل، فاعلم يا مولاي أن الإنسان مثنوي التركيب، فهو مجموعة من جسد جسماني ونفس روحانية وعقل بينهما رقيب، وهما يا مولاي جوهران متضادان في الصفات ، متباينان في الغايات، مشتركان في الأفعال العارضة، وفي الصفات بلا مفاوضة ؛ فهو بمقتضى جسده الجسماني ميال بطبعه الحيواني إلى البقاء في الحياة الدنيا، وكانت معصية آدم في الجنة لتلك البغية ؛ فخلوده في الدنيا متمناه، فيرتكب لأجل ذلك من الرذائل ما لا يرضاه الله، هذا يا مولاي مطلب الجسم الدني، وقصد الإنسان الغوي. أما الروح يا مولاي فهو من أجلها طالب للدار الآخرة، وبغيته الوصول إليها بالقلب اليقظ والعين الساهرة، ولذلك ترى أكثر شئون الإنسان مثنوية متتابعة، بين حيوانية وروحانية ؛ فهو بين حياة وممات، ونوم ويقظة، وعلم وجهالات، وتذكر وغفلة، وعقل وحماقة، وفجور وعفة، وبخل وسخاء، وجبن وشجاعة ، وألم ولذة، وتراه يا مولاي مترددا بين صداقة وعداوة وذكاء وغباوة، وفقر وغناء، وبسط وغنى، وخوف ورجاء، وصدق وافتراء، وهرم وشباب، فمعصية ومتاب، وخطأ وصواب، وحق وباطل، وقبح وحسن، جمع الله فيه الأضداد وتفضل عليه بخير الإمداد، أسجد الله لـه ملائكته لما خلقه فيه من العجائب . وحير فيه الحجا لما أودع فيه من الغرائب، فتراه بين راق يتكلم في رقيه مع الله شفاها، وبين هاو إلى حضيض الأسفلين سفاها، مولاي، كل تلك الصفات التي عددتها لا تنسب إلى الجسد مجردا، ولا إلى النور الروحاني مفردا.
رئيس المحكمة:
هل استوفيت موضوع القضية؟
الفكر:
مولاي هذا ما يختص بي بصفتي وزير الملك، الساعي في خير مملكته، المسارع إلى سعادة كل أفراد رعيته، ومعي وزراء آخرون لكل منهم قسط في القضية.
رئيس المحكمة:
ما هي طلباتك؟
الفكر:
طلباتي يامولاي رفعها الوزير الأول في شكل القضية ، وهو أولى بأن يبينها للعدل أيده الله.
رئيس المحكمة:
من هو الوزير الأول؟
الفكر:
الملك يا مولاي النفس الناطقة الروحانية، والوزير الأول هو العقل الذي رفع شكل القضية.
التهور : (يصيح قائلا)
عقل إيه وعدل إيه، ما لنا وما لهم.. لا احنا عاوزين عقل ولا عدل ، هو احنا جِمَالْ رايحين يعقولنا ولا سُكَّر يوزنونا.. اللي نعمله نعمله واللي يعارضنا نعارضه، واللي يغلب يبقى عمله حق وعدل، أنا والله ياخويا أقول زي الجماعة المتنحونين منا بيقولوا:
إِذَا هَمَّ أَلْقَى بَيْنَ عَيْنَيْهِ عَزْمَهُ
وَلَمْ يَسْتَشِرْ فِي أَمْرِهِ غَيْرَ نَفْسِهِ
وَنَكَّبَ عَنْ ذِكْرِ ٱلْعَوَاقِبِ جَانِبَا
وَلَمْ يَرْضَ إِلاَّ قَائِمَ ٱلسَّيْفِ صَاحِبَا
وإلا إن ما عجبهمش الكلام أقول أجعص منه، على رأي من قال...
أَرَى ٱلنَّاسَ مَنْ دَانَاهُمُو هَانَ عِنْدَهُمْ
وَمَنْ أَكْرَمَتْهُ عِزَّةُ ٱلنَّفْسِ أُكْرِمَا
دا أنا جدع على ذوقك وأعرف كلام كثير، هم نسيوا الشاعر اللي بيقول:
فَازَبِاللَّذَّاتِ كُلَّ مُجَازِفٍ
وَمَاتَ بِالْحَسَرَاتِ مَنْ يَدْرِ ٱلْعَوَاقِبُ
الجبن: (يقوم صائحا في وجه التهور).
إنت ياتهور هتودينا في داهية... إنت نسيت الشعر اللي بيقولوا فيه:
وَدَارِهْم مَا دُمْتَ فِي دَارِهِمْ
وَأَرْضِهِمْ مَا دُمْتَ فِي أَرْضِهِمْ
إحنا نعمل عمل الثعالب ونعيش عيشة الملوك، إحنا قصدنا إيه؟ نملأ بطننا من الطعام الطيب والشراب العتيق، ونقوم نلاعب النسوان ونفسد الجيران، وإن كان حلال كلناه، وإن كان حرام كلناه، مشي بينا ياعم مشي، العقل ده مش حِتِّةْحَبْل يربطوا بها رجلين البهائم؟ والعقل دا إيه؟ مش حجر يوزنوا بها التبن، وقسط يكيلوا به الجاز زي ما بنعمل في بلدنا، موش بيقولوا أوزن التبن بالعقل وكيل الجاز بالقسط واعقل الجمل أحسن ينفر، هوه احنا بهايم ولا احنا تبن؟
رئيس المحكمة : (متوجها إلى الأعوان).
الأعوان يحفظون النظام.
(النفس السبعية وأعوانها تهيص هيصة بقر الوحش، يأمر الرئيس برفع الجلسة وسجن النفس السبعية ومن معها 24 ساعة تنتهي هذه الجلسة ويخرج أعضاء المحكمة).
رئيس الشرطة:
هلموا أيها السوقة، إلى الدار العتيقة، فإنا الآخذون بالنواصي، أهل الغوغاء والمعاصي.
التهور :
حسبك لقد جهلت من تخاطب، أنا التهور المشهور بالمعاطب، ولي الوقائع المشهورة في أمكنة اللهو والملاعب، كم لي من وقائع مشهورة وأوراق بالمشاكل مسطورة، ولي جنود من كل عبقري مارد، وفدائي شارد، أنا أستاذ الغشماء، نخبط خبط العشواء، فإليك عني، وإلا نلت ما تكره مني.
الجبن: (يقبل يد رئيس الشرطة).
لا تؤاخذ هذا الطائش، فإنه في الجنون عائش، وارحمنا ولا تنتقم منا.
الغدر: (يقول لرئيس الشرطة).
امش أمامنا دلنا على المكان، ونمشي وراءك في أمان، وأما أنتم فاسمعوا أمره، واتبعوا سيره.
(يتساهل رئيس الشرطة ويمشي أمامهم بانتظام وهم يجرون وراءه بغير احتشام)
الغدر: (يقول مخادعا)
هذا مأمور لا يخالف الأمر، وقد أبان لنا العذر.
(الغدر يخفي عصا يضرب بها رئيس الشرطة خارج باب المحكمة)
فروا في فجاج تلك الصحاري طولا وعرضا. "ويرتجز قائلا".
يَاعَقْلُ كَمْ لِي غَدْرَةٌ أُبْدِيهَا
كَمْ مَرَّةٍ أَرْدَيْتُ حَبْرًا نَاسِكًا
إِنِّي فِدَائيُّ ٱلْحُظُوظِ وَلَذَّتِي
ٱلْعَدْلُ عِنْدِي أَنْ أَنَالَ مَسَرَّتِي
مَاذَا يُرِيدُ ٱلْعَقْلُ مِنِّي هَلْ يَرَى
لاَ أَتْرُكُ ٱلشَّهَوَاتِ إِلاَّ مُكْرَهًا
تَهْوِي بِأَهْلِ ٱلْعَقْلِ فِي بَادِيهَا
فِي هُوَّةِ ٱلْفَحْشَاءِ لاَ يُدْرِيهَا
فِي أَنْ أُنِيلَ ٱلنَّفْسَ مَا يُرْضِيهَا
قهْرًا وَغَدْرًا حَيْثُ لاَ أُخْفِيهَا
تَرْكِي حُظُوظِي غَايَةً يَرْجُوهَا
فَلَتَبْتَهِجْ نَفْسِي بِمَا هُوَ فِيهَا
رئيس الشرطة : (يصيح على الجند).
أدركوا الأعداء، وأوقعوا بهم البلاء ؛ فإن نجاتهم مضرة، والقبض عليهم مسرة.
الضيم : (يقول لرئيس الشرطة)
أيها الرئيس ، اقبض على هذا الغدر التعيس ؛ فإنه عدو ماكر، وغشيم شاطر، وأنا أطوع لك من ظلك، وأتبع لك من نعتك.
رئيس الشرطة:
الجميع إلى دار التحفظ عليهم.
(يسدل الستار)
المنظر الثاني
الجلسة السرية- المداولة
(نفس المنظر السابق، وتفتح الستار وقد اصطف الخصوم بنظام وأدب والحراس عليهم، ثم يدخل أعضاء المحكمة ويجلسون على مقاعدهم وتطرق الطرقات لافتتاح المحكمة)
رئيس المحكمة:
باسم الحكم العدل تفتتح الجلسة العلنية، على كل فرد أن يبين ما يهمه في هذه القضية.
(يفتتح الرئيس الجلسة الثانية تتقدم الروية وتستأذن قائلة)
الروية:
مولاي ، إن الأمر ما رفع إليك إلا بعد طول المفاوضة، وبذل ما في الوسع من المعاوضة، وتحمل فادح المعارضة، لعلمنا يا مولاي أن النفوس السبعية وأتباعها بها ننال منانا، ونحن لا نحب عدم تلك النفوس، ولكن نحب تزكيتها حتى ترضى مبدعها الملك القدوس، ولو أن تلك النفوس تزكت من رجسها ونجاستها لفازت بمسراتها الباقية في دار كرامتها...
مولاي، إن مبدع السموات والأرض، وواضع قوانين أحكامه للسنة والفرض، حكيم قادر، لم يخلق شيئا عبثا ؛ لأنه جلت قدرته، وتقدست عن النقصان حكمته، خلق الإنسان مركبا من نفس وجسم وحس ، وأهَّله لأن يكون في مقعد صدق عند مليك مقتدر، إن زكت النفوس وعلى تزكيتها قدر، وإن أهمل تزكيتها ففي الدرك الأسفل من النار، إن مال إلى عاجل حظه وسار. مولاي.. تعلم أن الإنسان يقربه الله إليه إذا منحه سبحانه كمالا، فيصير أنفع لبني جنسه من الشمس حالا ومآلا ، وينحط بإهمال نفسه حتى يصير أضر عليها من الشيطان قولا، ومن إبليس فعلا..
فاحكم يا مولاي في هذه القضية، حكم من يريد لأهله السعادة الأبدية، فإن المقصد يا مولاي نيل الخير في الدنيا والآخرة، والتنعيم بالمسرات الفاخرة.
(يأمر الرئيس بجلسة سرية ، ثم يتشاور مع أعضائه قائلا للمحكمة، وذلك بعد أن يخرج الخصوم والحرس والحاجب)
رئيس المحكمة:
يا أعضاء هذا الجسد المبارك العاملين لخير المجتمع الإسلامي، الذي بخيره يسعد جميع المجتمع الإنساني، وكيف لا؟ والعمل بكتاب الله وسنة رسول الله ﴿ rوآله﴾به سعادة العالم أجمع، حتى يصبح الظلم ليس لـه في العالم مطلع، وهذه القضية التي نحن ننظر فيها، ونفحصها ليظهر خافيها، ميزاب هذا الخير العظيم إن وفقنا للصواب في العمل، ومعراج الوصول إلى دار السلام إن بلغنا بمعرفة الله فيها الأمل، وكيف لا؟ وأس السعادة إصلاح الفرد جسما وعقلا وقولا وفعلا، وبإصلاحه يصلح المجتمع المنزلي، فالقروي فالمدني، وأنتم أعوان القضية وأنصار العدالة ، فأعينوني بثاقب أفكاركم، وسديد آرائكم، لنصلح بين الخصوم، ونزيل الخلاف المذموم.
باسم الحكم العدل نفتتح الجلسة العلنية، وعلى كل فرد أن يبين ما يهمه في القضية.
القسط: (عضو اليمين الأول)
ليسمح لي مولاي أن أبدي ما ورد عليَّفي هذا الشأن.
رئيس المحكمة:
تكلم
القسط:
مولاي، تعلم أن الإنسان جسم ونفس وحس، والجسم يا مولاي- أيدك الله بالسداد- جوهر جسماني ذو طعم ولون ورائحة وأبعاد، وحركة وسكون، وخشونة ولين، ورخاوة وصلابة، مكون من أخلاط متضادة، وطبائع عن الترقي صادة، وتلك الأخلاط هي البلغم والمرة السوداء، والدم والمرة الصفراء، وتلك الأمزجة مكونة من أركان الوجود وهي :الماء والهواء والتراب والنار، أشار إلى ذلك القرآن المجيد بقوله تعالى: ﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ﴾(الرحمن:14) يدل على أن فيه النار لأن الفخار ما أحرق من الطين، فالجسم يا مولاي متباين الأجزاء فهو متغير متحول منفسد، وإنما جماله الحيوي وبهاؤه الإنساني إذا اتحد بالنفس التي بها الحياة، وبالحس الذي به ما يتمناه ، فإذا فارقته النفس، فقد الحياة والحس.
أما النفس يا مولاي فأعنى بها النفس الروحانية الناطقة، التي إذا صارت كلمتها نافذة صار الإنسان فوق الملك قدرا، لأن الملائكة تتولى خدمته في فردوس الله علنا وسرا- وليس المراد بها النطق ولكنهم تجوزوا فسموا الشيء باسم لازمه، تلك النفس يا مولاي جوهرة ملكوتية وحقيقة روحانية، جسم روحاني حي بحياة من الله تعالى دائمة، وهي بما أودعه الله فيها من الصفاء للتعاليم قابلة، وبما أودعه الله فيها من القوة تستعمل الأجسام الحيوانية وتتممها إلى وقت قدره الله تعالى ثم تفارقها إلى عالمها إما بربح ونعيم باق، أو بندامة وعذاب لا يطاق، دليل ذلك قوله تعالى: ﴿كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ .فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ﴾(لأعراف: من الآية29-30).
مولاي تعلم أن الله تعالى قد ذم قوما بقوله: ﴿ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ﴾(لأعراف: من الآية179)
وتعلم يا مولاي أن الله تعالى ما شنع عليهم ونسبهم للقبيح بهذا البيان الجلي الصريح إلا لأنهم أهملوا شأن دنياهم وأجسامهم،لا، بل لأنهم أهملوا تزكية نفوسهم ولم يتفكروا في أمر آخرتهم ومعادهم ؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾(الروم:7) ويقول سبحانه: ﴿ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ﴾(النحل: من الآية22) ويعلم مولاي- نفع الله به المجتمع الإسلامي، نفعا يعم المجتمع الإنساني- أن أعمال الإنسان وقتية محصورة في النفس والجسم ؛ فإن أعماله يا مولاي اثنان: مجلس الأكل والشرب واللهو واللعب للذات الجسمانية ؛ من لحوم الحيوانات ونباتات الأرض ومعادنها لقوام هذا الجسد المتغير إلى الفساد، ومجلس آخر للعلم والحكمة والعمل بالعلم والقيام بما فرض الله تعالى وسن رسول الله ﴿ rوآله﴾وسماع المعاني العلية، في العبارات المنظومة أو المنثورة اللفظية، لتتغذى النفوس بقوتها، كما تتلذذ الأجسام بغذائها.
والروح يا مولاي باقية دائم سرورها، باق في الدار الآخرة حبورها، إذا اتحد معها الجسم وأعانها ودبرته كما أمر الله تعالى: ﴿وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾(الزخرف: من الآية71).
أما قنية الإنسان فهي كأعماله متضادة متباينة، وهي إما جسمانية كالمال ومتاع الدنيا، أو نفسانية كالعلم والحكمة والعبادة ؛ فالمال ومتاع الدنيا قنية الجسم، والعلم والحكمة والعبادة قنية الروح، وكما أن الإنسان بالمال يحصل لذاته وشهواته الجسمانية فهو كذلك بالعلم والحكمة والعبادة يحصل معية الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين في معية رب العالمين، ولا يفوز الجسم بهذا الروح والريحان إلا باتحاده مع الروح اتحادا يجعله وسطا بين الملائكة والحيوان، فيحفظ حيوانيته بتحصيل ما أباحه الله لـه، ويحفظ نفسه الطاهرة الزكية بالمسارعة إلى القيام بما فرضه الله عليه، ورغبه فيه رسول الله ﴿ rوآله﴾وبذلك يسعد السعادتين، ويفوز بالحسنيين، وتشرف روحه على قدس العزة والجبروت، ويتنعم جسمه في فردوس الله الأعلى محفوفا بعوالم الملكوت، بذلك يا مولاي يجب علينا أن نبذل قصارى ما في الوسع، ليحصل للجسم والحس والنفس الخير والنفع، فإنه لا كمال للنفس إلا بالجسم، ولا كمال للجسم إلا بالنفس، والعقل هو البرزخ بينهما، فلا تقوى عوامل النفس بشوقها إلى مجانسها فتفسد الجسم، ولا تقوى مقتضيات الجسم بشوقه إلى مجانسة فيطفئ نور النفس، كما قال تعالى: ﴿ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ﴾(الرحمن:20). وقوله تعالى:﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ﴾(البقرة: من الآية143) وكما قال ﴿ rوآله﴾: "إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى" . مشيرا إلى النفس لتسلك بالجسم على قدره، وكما قال ﴿ rوآله﴾: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى قالوا : ومن أبى يا رسول الله؟ قال : من أطاعني دخل الجنة،ومن عصاني فقد أبى" مشيرا إلى الجسم إلى أن يسلك بمقدار النفس:
فِطَرُ ٱلنُّفُوسِ تَقُودُهَا لِعَنَاهَا
لَوْلاَ ٱلشَّرِيعَةُ بَيَّنَتْ سُبُلَ ٱلْهُدَىٰ
نَفْسٌ تَمِيلُ إِلَى ٱلْحُظُوظِ بِطَبْعِهَا
وَٱلْجِسْمُ آلاَتٌ لَهَا تَسْعَى بِهِ
تَسْعَى لِتَقْوِيَةِ ٱلْجُسُومِ وَكَمْ رَأَتْ
تَرْجُو ٱلْخُلُودِ وَلاَ خُلُودَ وَتَشْتَهِي
تِلْكَ ٱلْقُبُورِ لِذِي ٱلْبَصِيرَةِ عِبْرَةٌ
وَتَرَى ٱلْقُصُورَ مَعَ ٱلْقُبُورِ وَكَمْ تَرَى
تِلْكَ ٱلْقُصُورِ مِنَ ٱلتُّرَابِ مُشَادَةً
لَوْ شَامَ عَاقِبَةَ ٱلأُمُورِ لِفَرَّ مِنْ
وَٱللَّهُ بِالشَّرْعِ ٱلشَّرِيفِ هَدَاهَا
ضَلَّتْ نُفُوسٌ فِي سَحِيقِ هَوَاهَا
وَٱلْقَهْرُ وَٱلإِفْسَادُ كُلُّ مُنَاهَا
وَبَرِيدُهَا ٱلْحِسُّ ٱلَّذِي أَرْدَاهَا
مَوْتَىٰ تُشَيَّعُ صُبْحَهَا وَضُحَاهَا
نَيْلُ ٱلْحُظُوظِ وَفِي ٱلْحُظُوظِ بَلاَهَا
يَغْنَي بِهَا عَنْ غَادَةٍ وَحُلاَهَا
مِنْ نَفْسُهُ بِحُظُوظِهِ دَسَّاهَا
بِئْسَ ٱلصَّنِيعُ صَنِيعُ مَنْ أَعْلاَهَا
تِلْكَ ٱلْقُصُورِ وَنَفْسَهُ زَكَّاهَا
رئيس المحكمة:
يا قسط عبرت فبينت، وصورت لنا الحقيقة فأظهرت، وذكرت أن الإنسان نفس وجسم وحس، وكشفت لنا القناع عن النفس والجسم، فاشرح لنا حقيقة الحس.
القسط:
الحس يا مولاي بريد المملكة الإنسانية، وهو السمع والبصر والذوق والشم واللمس ، وله رئيس ؛ فالبصر يا مولاي للألوان والأشكال والأبعاد والشم للروائح والسمع للأصوات والنغمات والذوق للطعام واللمس للحرارة والبرودة والصلابة والرطوبة والخشونة والنعومة وتقريب المقادير، وله مدير للمعقولات ورئيس للمحسوسات ؛ فمدير المعقولات الوهم، ورئيس المحسوسات الخيال، ومركزها الرأس والوجه ، إلا اللمس ؛ فإنه منتشر في سائر البدن وانتشاره لحكمه هي الرحمة بالجسم الإنساني ؛ فإنه إذا فقد اللمس وجلس على نار أو على ثلج أو على مفرق للأعضاء هلك.
يا مولاي.. إن مبدع الكائنات جعل الحس لحفظ الجسد من الآفات، ولدفع المضرات وجلب الخيرات، وإني أضرب لمولاي مثلا تستبين به الحقيقة: إذا جلس الإنسان ليأكل، سبقت العين اليد إلى الطعام، فإذا قبلته شكلا ولونا أذنت اليد بنقله، فإن تناولته اليد سبق الشم إليه، فإن قبله رائحة أمر اليد بدنوه من الشفتين، فإذا قبلتاه توسطا في الحرارة والبرودة سمحت بدخوله إلى اللسان، فإن قبله طعما رده إلى الأسنان، فإن أمكنها طحنه سمحت للسان بتوصيله للمريءفيوصله إلى المعدة، فإن كان صالحا للبقاء فيها قبلته وقامت بوظيفتها وإلا ردته وأخرجته، وأهل الجهالة يا مولاي يقهرون المعدة على بقاء الطعام فيها بتعاطي ما يبطل عملها الطبيعي حتى تقبل ما تكره، بشرب الدخان أو بأكل التوابل أو الأملاح، فتقبل الطعام مكرهة ، وتضعف عن القيام بوظيفتها، فقد يتغير فيها فيصير حامضا أو عفصا أو مرا أو حلوا بحسب الغالب عليه، فتحصل الأمراض والأوجاع، هذا كله يا مولاي لمخالفة العقل، وترك العمل بالوصايا الشرعية، وإهمال البحث عن حكمة إيجاد تلك الأشياء والنظر في خواصها ، هذه بعض وظائف الحس.
والحس هذا يا مولاي داعية الشرور إذا لم يتطهر ، وهو كما أنه بريد النفس فهو كذلك بريد الشيطان، فإذا وفق الله مولاي فأصلح بين تلك القوى المتضادة، والأنواع المختلفة، مال كل فرد من المسلمين إلى سعادة الدنيا والآخرة، وفاز المجتمع الإنساني بما فاز به سلفه الصالح، وعم الخير والرشاد بطاح الأرض والوهاد، وسهولها والأنجاد.
رئيس المحكمة:
بين السبيل إلى الوصول، وتحقق أن قولك مقبول، فأنت القسط وأنا العدل، ولولانا لم يتجمل أحد بالفضل.
القسط:
السبيل يا مولاي – أعزك الله- رجوع كل قوة إلى الوسط حتى يقوم كل بالواجب عليه بين الإفراط والتفريط، كما قال الله تعالى: ﴿ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً﴾(الفرقان: من الآية67) والطريق القريب أن نكشف لكل قوة سبيلها القويم، وصراطها المستقيم، ونحيطها بسياج، حتى لا تخرج إلى الطريق الأسفل ولا إلى الأعلى، ونعالج مرضها، ونكبح جماح طاغيها، حتى يتوسط كل في رتبته، وتتعاون القوى جميعها، على نيل إصلاحها وصلاحها ، والموصل إلى تلك الغاية القصوى، والكمال الأعلى، هو كتاب الله تعالى وسنة رسول الله ﴿ rوآله﴾؛ فإن الإنسان إنما هو إنسان بعقله، والعقل لا يكون عقلا إلا بالشرع ،فإن، العقل بدون الشرع يخدم الجسم لبلوغ كماله الجسماني، ولا يتمكن أن يخرق سياج الكائنات حتى يدرك سر الكمال الروحاني، وكيف لا؟ والإنسان حيوان، فإذا ساعده العقل على حيوانيته تمكن بعقله وحيوانيته من أعمال لا تعملها السباع الكاسرة، ولا الحيوانات النافرة، ولا الشياطين الفاجرة، فيكون أضر من الحيوانات ، وأشر من الشيطان، حتى تشرق أنوار الشريعة عليه فيسارع إلى الكمالين، متوسطا في الأمرين، قال الله تعالى: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ﴾(الأنعام: من الآية122). ميتا أي: لا حياة لـه روحانية، وليس المراد بالميت من لا حياة لـه حيوانية، وكل إنسان فقد الحياة الروحانية فهو ميت في الحقيقة ، قال الله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (الشورى:52) ؛ فالشريعة روح تفيد الحياة الحقيقية التي بها الحياة السعيدة الباقية، قال الله تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾(الاسراء: من الآية82). فالعقل من غير الشريعة كسلاح قوي في يد جريءعبقري، فاعتن يا مولاي بأن تجعل تلك القوى كلها سابحة في جو السعادة، راتعة في بحبوحة الأمن والخير في حصون الشريعة، وبذلك يا مولاي تكون قمت للعالم أجمع بالخير المنشود لكل حي، وهذا هو الحق ولمولاي أن يقبل أو يرد.
رئيس المحكمة:
فصل لنا يا قسط ما أجملت، ووضح لنا ما أبهمت.
القسط:
مولاي ، إن تفصيل المجمل، وتوضيح المبهم، من وظيفة العلم وسيادته عن يمينك، وهذا مقامه الذي انفرد به، وميدانه الذي يشاهد النور فيه بكواكبه، فاسأله يا مولاي يجبك، ويتبين منه الحقيقة يقربك.
رئيس المحكمة:
أيها العلم يا ماحي ظلمات الجهالة، وماحق جيوش الضلالة، ومصور الغيب للنفوس بالرياضة أو الدروس، بك الحق يتضح لأهل العقول، وبك ينال كل من حصلك المأمول، وأنت كما قال حكيم المسلمين وسيدهم بعد رسول الله ﴿ rوآله﴾أمير المؤمنين عليبن أبي طالب كرم الله وجهه: (العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، المال ينقص بالنفقة، والعلم يزكو بالإنفاق، مات خزان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر) ما التجأ إليك حائر إلى زالت حيرته، ولا مضطر إلا نال بغيته، وبك يسود الفرد قومه، وتسود الأمة غيرها من الأمم ، سعد من حصلك واهتدى بنورك، وفاز من عمل بك وتحصن بسورك.
يَا عِلْمُ يَا كَاشِفَ الظُّلُمَاتِ وَالْكَرْبِ
أَنْتَ ٱلضِّيَاءُ بِكَ ٱلْعَلْيَاءُ مَنْزِلَةً
كَمْ أُمَّةٌ سَعِدَتْ بِالْعِلْمِ وَٱرْتَفَعَتْ
لَوْلاَكَ مَا ٱتَّضَحَتْ سُبُلُ ٱلْهُدَاةِ وَلاَ
أَقْبِلْ عَلَيْنَا بِعَطْفِ مِنْكَ يَشْمَلُنَا
ٱللَّهُ أَثْنَى عَلَى ٱلْعُلَمَا وَفَضَّلَهُمْ
أَسْعَدْتَ آلَكَ مِنْ عَجَمٍ وَمِنْ عَرَبِ
لِلْمُقْبِلِينَ بِحُسْنِ ٱلْجِدِّ وَٱلأَدَبِ
فَازَتْ بِنَيْلِ ٱلْمُنَى وَٱلْمَجْدِ وَٱلْحَسَبِ
نَالَ امْرُؤٌ مَا يُرَجِّيهِ مِنَ ٱلإِرَبِ
حَتَّى نَفُوزَ بِنُجْحِ ٱلْقَصْدِ فِي ٱلطَّلَبِ
فَاقْرَأْ مَدَائِحَهُمْ فِي مُحْكَمِ ٱلْكُتُبِ
وكيف لا؟ والله تعالى يقول: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ﴾(الرحمن:33) والسلطان هو العلم ، بدليل قوله تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾(المجادلة: من الآية11) فتقرب وتكلم تعز لدينا وتكرم.
العلم
لبيك أيها الراغب في البيان، المسارع لشهود الحقيقة في عيان:
أَنَا ٱلْعِلْمُ إِلاَّ أَنَّ مَنْزِلَتِي ٱلْعَلْيَا
أَنَا ٱلْعِلْمُ نُورٌ فِي ٱلْوُجُودِ بِأَسْرِهِ
تَلُوحُ جَمَالاَتُ ٱلْحَقِيقَةِ جَهْرَةً
أُصَوِّرُ غَيْبَ ٱلْغَيْبِ لِلرُّوحِ تَنْجَلِي
وَمِنْ خَيْرِ رُسْلِ ٱللَّهِ أَوْلَيْتَ مِنَّةً
تَعَالَتْ عَنِ ٱلْغَرِّ ٱلَّذِي يَطْلُبُ ٱلدُّنْيَا
أُبَيِّنُ سُبُلَ ٱللَّهِ مَبْدَئِي ٱلرُّؤْيَا
وافتح إن حققتني أعينا عميا
حقائقه حتى ينال الفتى البغيا
من الله من يقبل ينل رتبة عليا
إني أيها العدل أبين ولك الفضل..
اعلم- أيدك الله وإيانا بما أيد به أهل محبته- أن قضيتنا التي لأجلها اجتمعنا، ومهمتنا التي فيها اختلفنا، هي الضالة المنشودة لأهل البصائر، والغاية التي يسارع إليها كل ذي عزيمة ناظر، وإن التوفيق بين تلك القوى المتباينة متعذر إلا بمعونة من الله جل وعلا ؛ فإنه سبحانه وتعالى خلق النفوس وقهرها على فطرها، وهداها النجدين من خيرها وشرها، وبين سبحانه طريق الرشد وطريق الغي، وأعد جزاء حسنا لمن زكى نفسه وصفاها، وعلى صراط الله المستقيم نهج بها فأنجاها، ثم جعل حدودازواجر، وعقوبات جوابر، لمن دس نفسه وأهملها، وسلك مسالك أهل الغواية وتخيرها، وأمرنا بتنفيذ تلك الحدود ولو على أنفسنا، رحمة بنا أن تعمنا الخطيئة فتهلكنا، لأن من شهد الخطيئة فأقرها كان كمن عمل بها.
وإني وإن كنت مقصدا عليا فإني في الحقيقة وسيلة لمن سلك مسلكا مرضيا، فإن أنواعي ثلاثة: علم شرعي وضعي، وعلم رياضي عقلي، وعلم البحث والنظر في حقائق الأشياء للوصول إلى المقام العلي. أما العلم الشرعي: فموضوعه النفوس والدار الآخرة وواضعه الله تعالى، والقرآن الكريم جمع ما لابد للإنسان منه في الدنيا والبرزخ والآخرة . عقيدة وعبادة وأخلاقا ومعاملة، وكل تشريع، لم يؤخذ من القرآن تصريحا أو بالاستنباط منه ولو تلويحا سبب فساد النفوس ؛ لأن العقل لا يمكنه أن يركب دواء للنفوس اللقسة من أمراضها شافيا، ولا علاجا للنفوس المعتلة من فساد أمزجتها كافيا، وكيف لا؟ والعقل يجهل حقيقة النفوس، وصانع الصنعة أعلم بعلاجها، وأرحم بها منها بنفسها، والإنسان من حيث هو إنسان لا يمكنه أن يمنح الإنسان العطف والحنان والخوف والرجاء والتوبة والاستقامة والمعاونة والاتحاد والمساواة إلا بما ينزله الله عليه، وما يمنحه إياه من النور، حتى يقوى الحس، ليصغى إلى علوم الغيب فيوصلها إلى النفس، وهي تنشرها على قواها، مبينة مزاياها، وهي تبثها في الآلات والأدوات، التي هي أعضاء الجسم العاملات ؛ لأن الحس إذا لم يهتد بنور الشريعة وأبصر بنور البصر، واهتدى بالشمس والقمر، ضل السبيل القويم، وخالف الصراط المستقيم، لأنه يرى الباطل فيسارع إلى عمله، ويحجب عن الآيات فيه فيخيب في أمله، وكيف لا، والحس في الإنسان الأول نعم في رياض الجنات، حتى ارتكب الخطيئة فأهبط إلى حضيض البليات، فتسلى عن مشاهد الملكوتية، وعن مجانسه من الأنواع الروحانية، ولا سبيل لـه إلى الرقي من تلك الوهدة، واليقظة من تلك الرقدة، إلا بما يجعله الله لـه من النور، الذي به يشرح الصدور، وذلك النور هو الشرع المنزل من الله على لسان رسله وأنبيائه، وبه عز الإنسان ومجده، والعامل به يتيسر لـه قصده، ومن طلب العز بغيره أذله الله.
وقد شاهد الإنسان عاقبة مخالفة الشريعة ؛ فإنه انحط إلى أفق الحيوانات ورأى صنيعه، بعد أن كان مجانسا للملائكة الروحانيين، متشبها بالأنبياء والمرسلين؛ أصبح إباحيا لا تلويه الشريعة عن عمله، ولا تكبحه البلايا عن سوء أمله، حتى صار عبدا لبطنه وفرجه، ثم تعدى الآداب البهيمية إلى أن تجاوز في الشرور المرتبة الإبليسية، وتلك القضية قضية العالم أجمع، والعدل بالإصابة فيها يقوم بالخير الأنفع، والمعونة من الله، يمد الله بها سبحانه من والاه.
رئيس المحكمة:
شرحت لنا ما نحن في حاجة إليه، فوضح لنا النموذج الذي في قضيتنا هذه نعول عليه، حتى نسلك النمط الوسط، ونخرج من هذه الدعوة بسلامة فقط.
العلم:
سبق للقسط أن بين تباين النفوس، وأظهر تنوع الدروس، وإني أزيد مولاي علما، حتى يكون السير في هذه القضية سلما: الحس يا مولاي وإن كان محكوما بالنفس إلا أنه شيطان الجسم، أكثر الناس يتخذونه إلها من دون الله، يأمرهم فيتبعون، وينهاهم فيطيعون، يخالفون حكم الله في شرعه، وفي مخالفة الشريعة هوى الجسم في حضيض صرعه، وبين الحس والنفس عداوة لا تزول، ومخالفة إلى الشر تؤول، مذ وقعت في الخطيئة بسببه، وأكلت من الشجرة بطلبه، والحس قد حرم غذاءه الشهي في رياض الفردوس البهي، فهو يبحث عن ملاذه ومسراته، ويبذل كل ما في وسعه بسكب عبراته، حتى تسلى بالملاذ الجسمانية، ونسي المسرات الروحانية. فأصلح يا مولاي الحس، تكن قد أصلحت النفس ؛ فإن الحس بريدها الموصل لها أخبار مملكتها، ووسيطها القائم بينها وبين رعيتها، فما تغير ما بالنفس من الحق الجلي، إلا بعد أن أورد عليها الحس الباطل الوبي، كان الحس في الفردوس مستنيرا بنور العقل حتى أهبط إلى الأرض فاستضاء بنور البصر المحاط بالفساد طولا وعرضا والحس يا مولاي لا غذاء لـه في كون الفساد، ولا مسرة ولا مراد، ولكن نسي فنسي، وكيف لا؟ وحوله ضروريات الأجسام، في المعادن والنباتات والأنعام.
رئيس المحكمة :
كيف نسوس الحس حتى يتذكر ملاذه ومسراته الروحانية، ولا أرى ذلك إلا بسياسة مرضية؟
العلم :
مولاي، أعاذك الله من ذكر السياسة فإنها فاتحة الشرور لبني الإنسان، ومصدر كل خراب وهوان، يستعملها أهل المطامع الضالون الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم فظنوا أنهم في كون الفساد خالدون، أهل السياسة أضل من الأنعام السائمة وأضر من الشياطين الغاشمة، وإن بين السياسة والعدل كما بين النور والظلمة، أو بين الحماقة والحكمة، وإنما وضعت السياسة لتذليل البهائم والوحوش، أو للأثرة بالأموال والعروش ، ظلما وطغيانا لا عدلا وحنانا، كل أمة جعلت السياسة رائدها والخديعة قائدها حاربت الفضائل والآداب، ونشرت الرذيلة والخراب، وهذا شأن الأمم الجاهلية، والمجتمعات الضالة الجهنمية، السياسة وما أدراك ما السياسة؟ تحير العقول بالأباطيل، وتستولي على الأمم بالأضاليل، ظاهر حالهم أنهم يحسنون بهم صنعا، وهم يريدون لخيرهم منعا، وأهل السياسة- وإن سادوا- فذلهم قريب- وإن ابتهجوا بحالهم فمستقبلهم رهيب- وقد شنع الله عليهم في كل كتبه السماوية، ووعدهم بالدرك الأسفل من النار الحمية.
رئيس المحكمة :
حملت حملة شعواء، ولفظ السياسة استعملها العلماء، وقد استعملها يوسف الصديق رضى الله عنه، وقصته مشهورة في شريف الكلام، وقد أمرنا بمداراة الناس، فما هذا الإلباس؟ أقم الحجة على صحة مذهبك، وإلا حكمت بسوء أدبك.
العلم:
أنصفت يامولاي وأنت العدل، وإنما تقوم الحجة بالعقل، أضرب لمولاي مثلا فيه الجواب، وأفصله ليستبين فصل الخطاب. والد رحيم شفيق عطوف رفيق، لـه ولد وحيد ينتظر خيره، ويرجو من الله بره، يجهد نفسه في حسن تربيته، ويبذل ماله وعافيته، ويتحمل طيش طفولته، ورعونات شيبته، محافظة عليه، وجلبا للخير إليه، يدأب الليل والنهار، في تحصيل الخير لـه والادخار، متلذذا بما يتحمله من فادح الآلام، وما يصيبه من شديد السقام، وهذا العمل يامولاي – مع نيته- يسمى الحكمة بحقيقته.
ووصيأيتام طماع غشوم، ذو نفس سبعية ظلوم، يفتك بأموالهم فتك السباع الكاسرة، ويختلسها اختلاس اللصوص الفاجرة، ويظهر لهم العطف الثعلبي، مع النهم الكلبي، ويبين لهم ما عاناه من الصعوبات في دفعه عنهم الآفات فتارة يبكي كبكاء الثكلى، وتارة يبتسم كما يبتسم السبع إذا هم بإنزال البلوى، حتى يجردهم من أل والإضافة، ويخرجهم من مالهم أو يكون عنده في دار الضيافة، هذا العمل يا مولاي- مع نيته – هو السياسة.
فإذا قام الرجل بالتدبير وحسن الروية، لنفع فرد أو مجتمع بحيلة خفية، سمي عمله حكمة ومداراة، فأحبه أهل العقول ورضي عنه الله، وهذا هو العمل الذي رغب فيه الشرع الشريف، ووردت فيه الأوامر بالتكليف، قال رسول الله ﴿ rوآله﴾: (إنما الأعمال بالنيات) وقال الله تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ.وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ (فصلت33-34).
أما من قام بالمكر والخديعة لسلب أموال الناس، والإفساد بين الكياس، وسعى ليفسد الأعراض، وقلبه مريض بالأغراض، ونفسه منجسة بالأمراض، فأظهر الرحمة وأبطن العذاب، وبين العطف وأخفى الخراب، فذلك هو الخبيث الماكر، والأحمق الساحر، ولذلك ترى أهل العقل والفضيلة، يرون التكلم في السياسة ضياع ورذيلة، فكيف باستعمالها بين العائلة والقبيلة، وكم وهت بالسياسة عروش ملوك سادوا، وكم ذل بها من للمجد بالفضيلة شادوا، لأنهم صدقوا الختالين من أهل السياسة، فعاملوهم بما يليق بأهل الفضيلة من غير تبصرة، فوثقوا بهم مستسلمين لهم وارتابوا من أهل النصيحة والحكمة فما لبثوا إلا ريثما انكشف الستار، وظهر أن تحت الثلج النار، ووراء التبسم مخالب قسورة، ولا حياء ولا معذرة، وصارت الصورة الإنسانية حقيقة شيطانية فيحل الندم حيث لا مناص، وتدهش العقول للسلامة والإخلاص، وهذه هي السياسة تنهار بها عروش الملوك، ويباح بها عرض الصعلوك، أما ما يعنيه مولاي العدل حفظه الله، ونشره بين الأمم وأعلاه، فهي الحكمة التي هي ضالة المؤمن، وجمال المحسن ، ولي العذر فيما أبديته أولا، ولا عذر لمولاي ، فيما واجهني به مؤولا.
رئيس المحكمة:
ياعلم إن مدلول لفظك أدهشني، ومقامك العلي عندي أحرجني، وإن كان لا يليق للعدل أن يأخذ باللفظ، فإن الكلام إما لمعاملة أو وعظ، ولا يستبان معناه، إلا بإضافة نية المتكلم إلى فحواه، وإني أعتذر إليك مما سبق مني ؛ فقد اتحد شأنك وشأني، فارسم لنا خطط السير في القضية، بالحكمة والروية.
العلم:
إن التوفيق بين تلك القوى المتباينة، والفطر المختلفة بالمعاينة، لا يمكن أن يكون بالقسوة، فإنها تبطن في القلوب الجفوة، وتولد سخائم الصدور، وتوقع المجتمع في الشرور، ولي طلب أبديه للهيئة الموقرة ولا أخفيه، وهو أن يسمح الرئيس لحضرة القاضي المحبوب (الهدى) لأناظره في القضية من الابتداء.
رئيس المحكمة :
ياهدى أجب أخاك لما إليه دعاك.
الهدى:
لَبَّيْكَ لَوْ أَشْرَقَتْ شَمْسٌ بِآفَاقٍ
وَعَمَّ نُورُ ٱلْهُدَى ٱلآفَاقَ وَٱبْتَهَجَتْس
وَقَامَ كُلُّ امْرِئٍ لِلْحَقِّ يَطْلُبُهُ
أَنَا ٱلضِّيَاءُ لِكُلِّ ٱلْخَلْقِ أَجْمَعِهِمْ
لَلاَحَ نُورِي مُبِينًا حَالَ إِشْرَاقِي
نُفُوسُنَا فِي صَفَا أُنْسِ وأَخْلاَقِ
وَخَافَ كُلُّ فَتًى مِنْ قَهْرِ خَلاَّقِ
وَبِي يَعِيشُونَ فِي صَفْوِ ٱلْهَنَا ٱلرَّاقِي
سمحت لي أيها الرئيس أن أناظر العلم، وضالتنا المنشودة محو الحرب بالسلم، ليعيش الإنسان في أمن من شرور الإنسان، وكفاه مكافحة الجو من ميكروبات وحيوان، ومعالجة الأسقام والأحزان ؛ فإن الإنسان إنما خلق ليعمل لمستقبله الآجل، الذي هو إليه راحل، وكيف لا؟ والله خلق الكون من عاليه ودانيه وباطنه وخافيه للإنسان ليبتليه ، وخلق الإنسان لعبادته سبحانه وتعالى، وأعد لـه الملك الكبير وخير السعادة ، وقد سخر لـه سبحانه وتعالى ما في السموات وما في الأرض جميعا منه، وبين لـه مخاوفه ومأمنه، فكل ما في الكائنات عناية الله المعين، لهذا الإنسان الذي هو من ماء وطين، وكيف يجهل الإنسان نشأته الأولى، وينسى عهد المولى، ويميل إلى أسفل سافلين، وهو معد لأعلى عليين؟! وقد بين الله لـه سبل الهدى، وحذره طرق الردى، وأغدق عليه نعماه، وبفضله العظيم والاه، فكل ما هو من الخير لديه، واصل من الله إليه، فلو نظر في نفسه نظرة بصير متدبر، واهتدى هداية فتى متفكر، لأحب المنعم الوهاب حبا يغنيه عن نفسه، وينسيه مقتضيات حسه، ولكن قال الله تعالى: ﴿قُتِلَ الْإنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ. مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ. مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ. ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ﴾(عبس17-20)
وإني أمام الهيئة الموقرة أخط لكم خطط السير في تلك القضية، بأساليب جلية، لا ريب فيها، ولا إلباس، برفق وشفقة لا بشدة مراس، وهذه الخطة أن يفتح الرئيس مجلس القضاء ثم يحضر الخصوم، اللائم منهم والملوم، ويتفاهم معهم في كل الشئون، حتى تقر بالصلح بينهم العيون ؛ فإن كل قوة منها تسارع لنيل الخيرات، وترى الأخرى تنازعها في الغايات، ولكل قوة منها خير لا تميل إليه الأخرى، ولذلك حلت بهم البلوى، فلنبين لكل قوة أن خيرها الحقيقي، هو الفوز بالنعيم الأبدي، ولا يتيسر هذا النعيم إلا بقيام كل قوة بالعمل لخير الجميع، ولديها تصل إلى المقام الرفيع ؛ فإن للروح مطالب لا تنالها إلا بالجسم والحس، وللجسم والحس ضروريات لا ينالانها إلا بمساعدة النفس، وتركيب الجسم الظاهر في أعماله، كتركيب المجتمع الباطن في آماله ؛ فاليد تخدم جميع الجسد، ولو انفصلت منه هلكت إلى الأبد، وكذلك كل عضو في الإنسان.
ظهر للهيئة الموقرة البيان، وقد بين القسط والعلم الحقيقة كل البيان، فنفذ ما أبديته بعد الرواية والعلم، وامزج أيها الرئيس الشدة بالحلم، وادع الجميع إلى كتاب الله تعالى وسنة رسول الله ﴿ rوآله﴾؛ لأن الله بخير خلقه منهم أعلم، وهو سبحانه وتعالى بهم أرحم، فتوبوا من خطاياكم إليه، وأقبلوا بحسن الثقة به عليه.
(ثم يجلس الهدى)
رئيس المحكمة (يتكلم مع القاضي الرابع وهو التوفيق).
أيها التوفيق، أنت للمستقيمين خير رفيق، ولا شك أنك لا تنال إلا بالله كما قال خطيب الأنبياء: ﴿وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ﴾([2])ألك ملاحظة على ما بينه إخوانك؟ فتلك القضية قضتيك.
التوفيق:
إني متحد مع الهدى في نصيحته، لاعتقادي بحسن طويته.
(تسدل الستار)
الفصل الثالث
الجلسة الثالثة
المنظر الأول
مواجهة الخصوم
رئيس المحكمة:
باسم الحكم العدل افتتحت جلسة القضاء
الكاتب: (يقرأ من محضر الجلسة قائلا )
نفذ حكم رئيس المحكمة على النفس السبعية فوضعت ومن معها في دار الاحتفاظ أربعا وعشرين ساعة.
رئيس المحكمة
من هم الخصوم؟
الكاتب :
الخصوم يامولاي: النفس الناطقة الملكية، ووكيلها العقل ومعه الفكر والروية، والحكمة والعفة والنطق والشجاعة والكرم والعدالة والنور والعزة والرحمة والخشية والخصم الآخر: النفس السبعية والنفس البهيمية والتهور والشهوةوالجسموالجبن والبخل والغدر والحس والضيموالقسوة والتيه والحماقة .
(رئيس المحكمة يأمر بحضور الخصوم وعلنية الجلسة، لديها.. تزدحم المقاعد بالوفود، والرحبات بالشهود، وينادي النفس الناطقة الملكية، والعقل يلبي على الفورية).
رئيس المحكمة:
ما اسمك؟
العقل:
اسمى العقل بن القسط
رئيس المحكمة:
أنت لا صفة لك لدينا، ولا حق لك علينا، فبين لنا حيثيتك حتى نعلم منزلتك
العقل:
دعوت النفس الملكية وأنا القائم مقامها ، سفرها وحلها
رئيس المحكمة :
أثبت ذلك بالحجة، وإلا انصرف من تلك الفجة
العقل:
النفس الملكية محجوبة عن الأبصار، لأنها مفارقة للمحيز من الآثار، وتعرف بأعمالها الحسان، ولا تظهر جلية إلا في الجنان أو لنبي مرسل، وكيف تظهر وهي من نور صاغها الله، لا يشهدها إلا من صافاه، قال الله تعالى: ﴿وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً﴾(الإسراء:85) وقد أثبت توكيلي عنها، بما لدىمنها، فأنا وزيرها الأول، وعلى في شئونها المعول، فهي كالشمس في رابعة السماء، ونورها مشرق على الأباطح والمنخفض من الماء، فهي وإن أشرق نورها لا تداني، ولا يدرك أحد حقيقتها ولو فيها عانى، فاسمع مني بعد التحقق بقولها ذلك عني، فإني ألقي عليك بياني، عنها بلساني وجناني
ٱلرُّوحُ يَاعَدْلُ فَوْقَ ٱلْعَقْلِ إِدْرَاكَا
قَدْ أَعْجَزَتْ وَهْيَ مِنْ آيَاتِ خَالِقِهَا
ٱلرُّوحُ صِيغَتْ مِنَ ٱلنُّورِ ٱلْعَلِيِّ فَلَمْ
ٱلْكُلُّ فِيهَا حَيَارَى جَلَّ مُبْدِعُهَا
يَا عَدْلُ تَسْأَلُ عَنْ رُوحٍ لَقَدْ حُجِبَتْ
نَصَّ ٱلْقُرَآنِ بِأَنَّ ٱلرُّوحَ غَامِضَةٌ
ٱلْعَقْلُ نَائِبُهَا وَٱلْعَقْلُ رَائِدُهَا
لَمْ تُدْرِكنْ وبِذَاكَ ٱلْعَقْلُ أَنْبَاكًا
فَكَيْفَ تُدْرِكُ يَا مَخْلُوقُ مَوْلاَكَ
تُدْرَكْ بِعَقْلٍ وَهَذَا ٱلْعَقْلُ أَفْتَاكَا
سَلِّمْ لِمَنْ بِجَلِيِّ ٱلْعِلْمِ نَاجَاكَ
صَوْنًا عَنِ ٱلْحِسِّ وَٱلتَّحْقِيقِ وَافَاكَا
مِنْ أَمْرِ رَبِّكَ مَنَ بِالْفَضْلِ وَالاَكَ
وَٱلْعقْلُ غَيْبٌ وَبِالإِحْسَانِ دَانَاكَا
أيها العدل المفخم، والرئيس المعظم، النفس ليست عرضا ولا جوهرا ؛ لأنها لو كانت كذلك لحيزها المكان، ولأدركتها الصبيان، ولم يختلف فيها اثنان، وكيف لا؟ وقد عجز العقل عن دركها، ورجع البصر خاسئا عن أن تلوح له بارقة من أنوارها، والعدل- أيده الله تعالى- يعلم أنها ظاهرة الأثر خافية العين، بلا ريب ولا مين، لأنها من عالم الأمر وليست مجانسة للأشباح، ولا محيزة بالأفلاك والبطاح، وغاية ما وصل إلينا عنها، عجز أهل التحقيق عن درك شيء منها، إلا من اصطفاهم الله تعالى فزكى نفوسهم، وحفظ من الخطيئة حسهم، وأزال عنهم بنور اليقين لبسهم، وأشهدهم ملكوته في كل شيء، فمحت أنوار الملكوت الظل والفيء، فحصل اتحاد الجسم بالنفس واتحاد الجسم بالحس، مسارعة إلى طاعة النفس، ولديها تلوح أنوار الروح، تجذب الكل إلى حضرة السبوح، فيفر الإنسان الكامل إلى فسيح الأرواح، مفارقا لمقتضيات الأشباح، إلا ما لابد منه من لقيمات يقمن الصلب، بعمل مشروع يطيب فيه الكسب، وقيام بواجب فرضه الله، لمن كلفه به سبحانه وتعالى لنيل رضاه، فراغا لقلبه من الشئون، وطهارة لسره ليفوز بالثواب حتى تكون النفس مرآة لصور الغيب المصون، والجسم مشكاة مضيئة بالفضائل للعيون، ولديها يكون الإنسان كاملا في نوعه، عاملا لله في طوعه، لا يعصي الله ما أمره، ويفعل ما يؤمر شرح الله صدره، هل تلك الحقيقة النورانية تلوح للأبصار؟ لا، بل للبصائر بمقدار، قال الله تعالى: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً﴾(الإسراء: من الآية85). أتكلم مع العدل بقدر ما كوشفت به ، من أثر أو علم خصصت بغيبه، فلا تطلب ما لا ينال، والعمل خير من الآمال، واسألني ما شئت أبين لك المحجة، وأقيم لك عليه الحجة، ولي العذر، وما ثم من وزر.
رئيس المحكمة:
أوكيل أنت عنها؟ فأين الحجة لك منها؟
العقل:
أنا أحقر من أن أكون وكيلا عن الروح، وإنما يحتاج للوكيل من ليس لـه وضوح، والعاجز من احتاج إلى الوكيل، أو عجز عن إقامة الدليل، والروح أقرب للإنسان منه إذا أبصر، وبها حياته وحسه وعمله إذا فكر، أنا خادم أعتابها، وبواب جنابها، والسفير بينها وبين رعيتها، والوسيط لإبلاغها شئون مملكتها، وأنا ما وقفت بين يديك، وحضرت لديك،إلا بالحجة القاصمة، والأدلة الناصعة، وإن لكل حق حقيقة تظهر، والظهور لا يلوح إلا في مظهر، فعلى أن أبين لك الحقائق، وعليك – بعد وضوحها- أن تكون الموافق، واحتسبني محتسبا لدفع شر مستطير، ونيل خير في الحال والمصير، فأنت العدل إليك المرجع بعد الله تعالى، وعليك المعول إن ظالم تغالى، فاسمح واسمع، فإن ظهرت لك الحقيقة فاقبلني واقبل مني، وإلا فردني وانصرف عني.
رئيس المحكمة: (يخاطب الأعضاء)
ما ترون في شأن هذا الخصم الشديد، والمطالب العنيد؟ وقد قال رسول الله ﴿ rوآله﴾: (إن لصاحب الحق مقالا) وقال ﴿ rوآله﴾أيضا : (الراحمون يرحمهم الله).
الأعضاء: ( في نفس واحد)
الرأي أيها الرئيس أن يقف كل خصم أمام خصمه مواجها بلا حجاب، حتى تتضح الحقيقة بفصل الخطاب.
(يأمر الرئيس بتنفيذ هذا القرار، فتسرع الشرطة بتنفيذه بغير انتظار، ويقف الخصوم كل أمام خصمه، يقف العقل أمام النفس السبعية، والفكرأمام النفس البهيمية، والروية أمام التهور، والعفة أمام الشهوة، والنطق أمام الجسم والشجاعة أمام الجبن، والكرم أمام البخل، والعدالة أمام الغدر، والنور أمام الحس، والعزة أمام الضيم، والرحمة أمام القسوة،والخشية أمام التيه, والحكمة أمام الحماقة)
رئيس المحكمة:
افتتح الجلسة بعد المداولة
(ثم ينادي الخصوم كل باسمه ولقبه، (الخصوم) يلبي كل واحد عن نفسه)
رئيس المحكمة:
ما هذا الخلاف المؤدي إلى الإتلاف؟
النفس السبعية :
يا مولاي ، ظلم فطرت عليه النفس الملكية، فهي تحسدنا على ما خصنا الله به من المزية، شهوتها يا مولاي تفارق شهوتنا، ولذتها تغاير لذتنا، وسعادتها غير سعادتنا، أنا يا مولاي وإن كان لي السلطان الظاهر، والفعل الباهر، إلا أني خادمة للجسم والحس، لولاي لتعذرت عليه شهواته، وتمنعت عليه ملذاته، وحظرت عليه سعاداته، وسل يا مولاي الجسم والحس فإن الحس يدرك كمالاته، والجسم يشتهي مسراته، ويخشى مضراته، فأبذل ما في وسعي لجلب الخير بلا ضر، ودفع الضر ومنع الشر، رحمة بهما، وإشفاقا عليهما، وأنا لم أنل من ذلك ربحا، غير أن الروح توسعني قذفا وقبحا، فهل هذا جزاء أهل الرحمة بالضعفاء؟ أو مكافأة من يحسن في العطاء؟ وشهوتي يا مولاي فيما به قوامي من مأكل وشراب ولباس، ولذة في المتعة بالمجانس مع الفتيات في الخلوة بالإيناس، وسعادتي في قهر الخصوم والتصريف المطلق في ملك وأعراض الناس، وهذه الروح تأبى – حسدا- إلا تجريدي، ولا ترضى إلا بذلي وتقييدي، وهذا فوق ظلم الظالمين.
لاَ يَحْمِلُ ٱلضِّيمُ فِي أَرْضٍ يَعِيشُ بِهَا
هَذَا عَلَى ٱلْخَسْفِ مَرْبُوطٌ بِرُمَّتِهِ
إِلاَّ ٱلأَذِلاَّنِ عِيرُ ٱلْحَيِّ وَٱلْوَتَدُ
وَذَا يُشَجُّ فَلاَ يُرْثِي لَـُه أَحَدُس
والناس تعيش في صفاء بلا ورح، وكل يعانق الغيد مساء ويحتسي الخمرة في الصبوح، لا يكدر صفوهم ذكر جنة ولا نار، ولا يمنعهم عن الرذائل لوم ولا عار، والعدل عندنا هو قهر الغير حتى يكون خادما لنا، والكرم لدينا هو سلب أموال الناس، وبذلها في الفجور والكأس، والحكمة فينا غش أهل الأموال بالباطل وزخرف الأقوال حتى نختلس ذخائرهم ، ونفسد حرائرهم.
مولاي، لم لا تحسد الروح الأنعام السائمة؟ ونحن لم نعمل عملها!! فهي لنا ظالمة. ومن الحكمة عندنا أن نتملق لأهل القوة القاهرة،حتى نخدعهم بالحيلة الظاهرة ،ونداني الضعفاء ليكونوا لنا عبيدا،ونساءهم لنا إماء، بالتهديد تارة وآونة بالآمال. والعفة فينا هي أن نختص بمن نشتهيه، فلا نترك لـه محرما يدانيه، ونحرص على من فسقنا فيها، من أن زوجها يدانيها، وإنما العفة أن نعف شهواتنا عن أن ننال ضيما، أو نكبح جماحها قهرا أو لوما، والشجاعة عندنا أن نخدع الأقوياء، ونقهر الضعفاء، فنذل الوالدين والزوجة والأولاد، ونضر الحيوان، والأنداد، كالوحش الكاسر، ونتملق للأقوياء كالثعلب الساحر، وهذه هي أخلاق البهائم الراتعة، والشياطين التي هي عن الخير مانعة، ومن يمنعنا عن هذا فهو عدونا، نحاربه ولو كان صديقنا. هذه هي الفضائل التي بها مسرات الحس ، وراحة الجسم وجمال النفس ولا لذة بسواها لأحد وسل ياعدل الوالد والولد. ولنا ملاذ أخرى، من بهجتها النفوس سكرى، وذلك بأن نغزي من خدعناهم من الأقوياء، فنوقع بينهم العداوة والبغضاء، حتى تضعف قواهم، وتزول مزاياهم، ونفترسهم بأنياب الكيد، كما يفترس قسورة الصيد، فيصبحون همج الرعاع، وخدما لنا لحمل المتاع، ونصبح ولنا السلطان بعد الهوان، وعليهم الذل والهوان بعد السلطان، ونسارع أن نمحو من بينهم الفضائل، ونثبت بينهم الرذائل، حتى تزول معالم المجد، الموروثة لهم عن الأب والجد، وننسيهم تلك المقامات، حتى يتحققوا أنهم بلغوا بنا أعلى الكمالات، فيفتخر من كان في المجد التليد، كما يفرح باللعب في الصورة الوليد، وكم ذلت أمم بتلك الأعمال، حتى خسرت الآمال، بعد أن كانت قد بلغت الكمال.
ولنا أساليب خفية ومهاوي للأفراد والمجتمعات جهنمية، فتارة نظهر الرحمة بالنباتات والحيوان، لنسارع إلى هلاك بني الإنسان، وآونة نفتح باب الفتن للطعن في الأديان، لنثير الغارة تفريقا للإخوان، ومرة نظهر الإشفاق، ونكمن النفاق، فننادي بتعليم الأفراد، ونشر الفنون للرشاد، لنميت من القوم صناعاتهم والفنون، ونذيقهم بأنواع الفقر كأس المنون، حتى يصبح المجتمع يتخبط من الفقر، وينتشر فيه التلصص والزور والغدر، فيصبح بعضهم لبعض خصوما، والولد لأبيه عاقا ظلوما، فيلتجئون إلينا التجاء الدجاج من داعية المشفق عليه، إلى الذئب الهاجم عليه، فنعدل بينهم في القضية، عدل النار الحمية، في حزمة الحطب اليابسة لا الطرية، ولنا رحمة بهم توردهم موارد الخذلان، ونعلمهم من العمل ما به يكونون لنا غلمان، حتى بالخزي يرضى، من كان بالملك لا يرضى، ويفرح بالدناءة، من كان عليه لا يقضى، ننسيهم بذلك الدين والدنيا، حتى يروا نقائصنا هي المقامات العليا.
أي مسرة تشبه تلك المسرات يا عدل؟ وأي لذة تشبه تلك الملاذ وأنت من ذوي الفضل؟ وهذه النفس الملكية ووزيرها العقل، تحسدنا ظلما على ما نحن فيه من الفضل، وهل من بسطت لـه تلك الموائد ، وصفت حوله تلك الولائد، يصغى لقول حسود معاند؟
ما هي تلك اللذة العقلية؟ ومن الذي ذاقها بالحالة الفعلية؟
ونحن بين طعام شهي، ولباس بهي، ونديم وضي، وشراب روي، وفرح زائد وسرور، وتمكين من الحظوظ وحبور، وإن شئت يا عدل أن أشرح لك ملاذنا، وأبين لك حظوظنا، لتركت منصة السيادة، والتمست منا الجوار والوفادة، وعشت عيشة السباع الكاسرة، والشياطين النافرة، متمتعا بما تشتهي ، وعما نحن فيه لا تنتهي، ولو صرت كلك عقلا لما رضيت صرفا ولا عدلا.
لقد بينت ما يمكن بيانه أمام العامة، ولو كشفت الغطاء عن الحقيقة لكانت بلية الروح طامة، من ينكر على تلك الشهوات، من الشبان والفتيات؟ اللهم إلا كهل إحدى رجليه في القبر، أو مبتلى ضاع منه الصبر، أو عابد جهل اللذة واتبع الوسواس، وهؤلاء ليسوا من الناس.
رئيس المحكمة:
سجلت على نفسك الخزي والفساد، وإنك لمفسدة لأخلاق العباد.
رئيس المحكمة: (يلتفت إلى العلم)
بين لها يا علم عيوبها، وردها إلى صوابها، لأنك حري بما هنالك، وهذا من دائرة أعمالك
العقل:(يتدخل مستأذنا)
اسمح لي بأن أتكلم بلسان أهل الصلح والرحمة، ليكون المجلس للرأفة لا للحكم والشدة، لأنا إنما جلسنا لنبين لتلك القوى المختلفة نوعا وجنسا، أنها متحدة لنيل كمالها حسا، ولا كمال لها إلا بالاتحاد والتعاون، وإن كانت في غاية من التباين، وكيف لا؟ ولكل قوة غاية، تسارع لنيلها إلى النهاية، وتلك الغاية هي الخير والسعادة، وبالتعاون ينال كل نوع منها مراده، والعدل وإن كان نظام العالم، إن رأي الخير في الرحمة للخصوم سالم، قال الله تعالى: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ (لأنفال: من الآية61) وإني مبين للنفس السبعية وأتباعها، موارد خيرها ونفعها، لتتحد بالعقل والنفس الملكية، اتحاد يبلغها غايتها العملية.
رئيس المحكمة: (متوجها إلى العلم)
يا علم قد وكلت الأمر إليك، وعولت فيه بعد الله عليك، قال الله تعالى: ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ﴾(هود: من الآية88) وقال ﴿ rوآله﴾: (امش ميلين، أصلح بين اثنين).
العلم:
أيتها النفس السبعية لم يخلقك الله عبثا، وإلا كنت هباء منبثا، ولكنه خلقك لحكمة جلية لمن تدبر، خفية على من غفل واستكبر، ومال عن الحق وأدبر، أنت القوة التي بك دفع الرذائل والمضار، ونصرة الحق بكبح الأشرار، وجلب الفضائل والخيرات، واستبدال المتاعب بالمسرات، لك لذة وخير وسعادة أفسدها عليك الحس والشيطان، واستبدلها بشر وخزي وبهتان، أفسد إبليس الحس، ليقودك إلى النار أيتها النفس، فأقبلت بكلك على الحس مسارعة، وهو يحسن لك القبائح منه مخادعة، حتى جعلت النقص كمالا، والقبح جمالا، والآلام ملاذا، والعدو اللدود حبيبا، ولو فكرت في عاقبة أمرك ، لرفعت للعدل غاية عذرك، هل الله تعالى خلقك لاعبا؟ أو تحققيه غائبا؟ وهو الحكيم القادر، المطلع على خفيات السرائر، أقرب إلى الإنسان من حبل وريده، فكيف يغفل عن مبدئه ومعيده؟
أنت أيتها النفس لك كمال لن تبلغيه، إلا بأن تعادي الشيطان ولا تدانيه، فاكبحي جماح حسك، فقد أوقعك في لبسك. بينت لذتك المخجلة لأهل العقول، وخيرك الذي هو خيبة المأمول، وسعادتك التي هي دون سعادة البهائم السائمة، أو الوحوش الهائمة، فتيقظي من رقدة الجهالة المهلة، ونومة الهلاك والغفلة، واصغ لخيرك المبين، فقد جئتك من سبأ بنبأ يقين، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ.وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ.وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ. وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾(المؤمنون :57-60).
فحسبك أيتها النفس السبعية فقد فخرت بما يترفع عنه البهيم، فإن كلب الصيد مع جوعه وتعبه الأليم، يحبس الصيد على صاحبه أو يحمله إليه محفوظا من عمل ذميم، ويلقيه بين يديه ناسيا عطشه وجوعه، بعد أن مزق بالعناء ضلوعه، فهذا الكلب استعلت لذة الشرف على لذته الكلبية، وترى الدجاجة تحفظ فراخها فتهجم على السبع بحمية، وترى القط يخفي رجيعه محافظة على شرفه، لا خوفا من تلفه، وترى الديك إذا رأى غذاء وهو جائع، اهتز ونادى الدجاج فجاءه وهو مسارع، فوقف يتمايل تمايل الشارب الثمل، فخرا بحسن ما عمل.
أيتها النفس السبعية أن اللذة الباطنة استعلت في البهائم، على اللذة الحسية من المنكح والمطاعم، فكيف وأنت نفس إنسانية، تفتخرين بالملاذ البهيمية؟ فكيف تستعلي لذة البهائم على لذة الإنسان؟ وهو مؤهل لمعية النبيين والصديقين في الجنان، بل في مقعد صدق عند مليك مقتدر، فكيف يلقى بنفسه في شرار مستعر؟ لعلك أيتها النفس السبعية يخدعك الحس والشيطان، فيلبسك الذل والهوان، ويقول لك ا لجسم إذا عشت بدون أكل ولا شرب ولا نكاح، فأي لذة وسعادة تكون لي مع هذا الضرر الصراح؟ أنبهك أيتها النفس السبعية أن هذا خداع ليلبس عليك الحق بالباطل، ويقودك قيادة الخبيث للجاهل، فتفكري في حال الملائكة الروحانيين، ولذتهم وبهجتهم بعبادة رب العالمين، وهم لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون، والله سبحانه وتعالى يقول فيهم : ﴿لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾(التحريم: من الآية6) فهم في حال ألذ وأبهج وأسعد من الخلق أجمعين، وإنما الغاية الأخيرة للإنسان هي نيل اللذة في القرار المكين، وهنا أبين لك الحقيقة لتشهديها بالبصيرة، اللذة تحصيل ما هو خير وكمال في الحقيقة ونفس الأمر بعد إدراكه فعلا، ولا لذة لمن أدرك ولم ينل أو نال ولم يدرك أصلا، والنيل لا يكون إلا بحصول ذات الشيء، والإدراك قد يكون بحصول صورة تساويه كالفيء، وإن كان النيل يدل على الإدراك فبالمجاز، والإدراك يدل على النيل بالإيجاز، وإنما قيدت قولي في الحقيقة ونفس الأمر، لأنبه على المحافظة من العذر، فإن الشيء قد يكون كمالا وخيرا، وتعمى عنه البصائر وتراه شرا، وقد يكون شرا مستطيرا ، فتنجذب إليه الشهوة فرحا وسرورا، وتراه لذة ومسرة، وهو بلاء ومضرة، كما خدعك أيتها النفس السبعية الحس والشيطان، ومال بك إلى جانب النيران، والألم حصول ما هو آفة وشر، في الحقيقة ونفس الأمر بعد إدراكه.
والملاذ تتفاوت بحسب القوى البشرية، فالخير عند الشهوة ملبس ملائم ومطاعم شهية، والخير عند الغضب هو الغلبة ولو بالبلية، والخير عند العقل السليم فأولا وبالذات القرب من الله تقدست ذاته، والإقبال عليه بالكلية لتحصل لـه مرضاته، وكذلك من لذة العقول السليمة، نيل الشكر والحمد والكرامة بالأفعال الجميلة.
والكمالات بالنيل والإدراك متفاوتة، فكمال اللذة هو تكييف العضو بكيفية الحلاوة إذا حفظ مكانته، وكمال القوة الغضبية هو وجدان([3])، النفس بكيفية غلبة أو شعور بأذى يصيب عدوها، وبذلك ينمو سرورها، وكمالالنفس الملكية، أن ترى وجه ربها من غير الشوائب البشرية، متمثلة نوره وبهاءه وجماله وضياءه، ولذة الروح هي اللذة المستعلية على كل خير، وهي السعادة التي لا تشاب بضير، وما قبلها دونها لأنها ملاذ شهوانية، وخيرات جسمانية، ليست عند أهل الصفا بلذة ولا سعادة ، وإنما هي دفع لآلام وفرار من البلادة؛ فإن لذة الطعام إنما هي دفع لآلام الجوع، فإن زال ألم الجوع صار منظر الطعام يروع، وكذلك الملبس والمنكح، إذا زالت الشهوة صار من الألم أقبح، وليست اللذة الحقيقة زوال الآلام فقط وإنما هو تحصيل الخير والكمال.
وبهذا يظهر لك أيتها النفس السبعية، إن الملاذ في الحقيقة عقلية، فمن فقد لذة العقل فهو بهيم أو جهول، وإنك أيتها النفس السبعية، تنالين بصفاء جوهر نفسك الملكية، قسطا وافرا من اللذة الروحانية فتضمحل بها كل الملاذ الحسية، وتستعلي بها الشهوة العقلية، على تلك الحظوظ الدنية.
أيتها النفس السبعية، إذ أنت نقدت للعقل، ابتهج الحس بالمسرة والجسم بالفضل، وساحت الروح في فسيح الملكوت الأعلى، ووافتك بطرائف العرفان الكبرى، وجذبتك باتحادك معها إلى فسيح الملكوت، وآوت بك إلى جانب الحق بجميل النعوت، فعشت خالدة بلا موت، في نيل وإدراك الخيرات بلا فوت، في جوار رب العزة في مجد ومعزة
رئيس المحكمة:
كشفت لنا أيها العلم الموضوع حال الشروع، فما ترين أيتها النفس السبعية؟
النفس السبعية (تلتفت إلى العلم) :
اسمح لي أن أبين لخصمي ، على قدر كشفي وفهمي، فقد سحرني بالكلام، وآلمني بالملام
أنت تقول إن اللذة إدراك ونيل، وأنا معك فيما تقول ولم يحصل مني ميل، أنا ما أدركت إلا المأكل والمطعم والملبس، الذي يحس ويلمس ، وليس ثم ما تدركه سواها قواي، فكيف تقهرني وتروم رضاي، وكل العلماء يعلمون ما تقول، وقد وقعوا فيما تراه شرا بالوصول، لو نالوا ما تدل عليه، لبذلوا الحياة في الوصول إليه، فأرح نفسك من العناء، فأنا لا أترك لذتي بجدل ومراء.
(العقل يستأذن رئيس المحكمة أن يتكلم، ورئيس المحكمة من غباوة النفس السبعية يبتسم)
رئيس المحكمة:
أيها العقل، إن تلك النفس السبعية، لا تقاد إلا بالقوة القهرية، وإنما كلامها بالسنان لا باللسان، والله يتولى هداها ؛ فإنه سبحانه وليها ومولاها، ولكن تكلم يا عقل، وتحر في بيانك النقل، حتى تقام الحجة على الخصم الباغي، الذي هو فاجر وطاغي.
العقل:
صُلْحُ ٱلنُّفُوسِ حَقِيقَةٌ لاَ تُدْرَكُ
حَدَّ ٱلإلَهُ لَهَا ٱلْحُدُودُ مُبَيِّنًَا
قَهْرًا تُذَلَّلُ لاَ تُقَادُ مُطِيعَةً
لَكِنَّنَا نُبْدِي لَهَا سُبُلَ ٱلْهُدَى
فَاسْمَحْ فَدَيْتُكَ رَحْمَةً بِجَمِيعِهَا
كَيْمَا تَمِيلُ إِلَى ٱلْهُدَاةِ وَتَقْتَدِي
لَكِنَّهُ قَصْدٌ وَلَيْسَتْ تُتْرَكُ
نُورَ ٱلْهُدَى وبَيَانُ طَهَ ٱلْمَسْلَكُ
إِنْ لمْ تُطِعْ قَهْرًا فَحَتْمًا تَهْلَكُ
حَتَّى يَلُوحَ لَهَا ٱلسَّبِيلُ وَتَمْلِكُ
أَنِّي أُدَارِيهَا بِنُظْمٍ يُسْبَكُ
بِالْمُصْطَفَى وَعَلَى ٱلْمَنَاهِجِ تَسْلُكُ
رئيس المحكمة:
يَا عَقْلُ يَا نُورَ ٱلْقُلُوبْ
أَنْتَ ٱلضِّيَاءُ لِسَالِكٍ
نُورٌ مُبِينٌ سَاطِعٌ
ٱشْرَحْ فَدَيْتُكَ لِلنُّفُوسِ
حَتَّىٰ يَلُوحَ ضِيَا ٱلْهُدَىٰ
يَا كَاشِفًا سَتْرَ ٱلْغُيُوبْ
يَرْجُو ٱلنَّعِيمَ بِلاَ لُغُوبْ
يَمْحُو عَنِ ٱلنَّاسِ ٱلْخُطُوبْ
ٱلرُّشْدَ فِي مَحْوِ ٱلْكُرُوبْ
وَٱلشَّمْسُ تُشْرِقُ لاَ غُرُوبْ
العقل:
طَوْعًا لأَمْرِكَ سَيِّدِي
إِنِّي وَحَقِّكَ بُغْيَتِي
صَبْرًا عَلَى فَإِنَّنِي
حَتَّى أُذَلِّلَ أَنْفُسًا
تُفْدَي بِمَا مَلَكَتْ يَدِي
كَبْحِي جِمَاحَ ٱلْمُعْتَدِي
بِاللِّينِ حَتْمًا أَبْتَدِي
قَدْ زَاوَلَتْ فِعْلَ ٱلرَّدِي
أيتها النفس السبعية، إن بغيتك الجمال في الحال والمآل، وبغية الحس المسرات، من غير آفات، وبغية الجسم الراحة في كل الأطوار، في الدنيا وفي دار القرار، ولكن يا نفس جمال الكون الفاني وبال، ويا حس مسرة كون الفساد، عن النعيم المقيم إبعاد، ويا وجسم راحة الكون الفاني، بلاء وأماني، فسارعي أيتها النفس إلى جمالك الباقي، حتى ترتفعي إليه على خير المراقي، وفر يا حس إلى المسرة الباقية، التي فاز بها آدم قبل الهبوط من الجنة العالية، وجاهد يا جسم لتنال الراحة التي لا تزول ، فبالمجاهدة يصح لك الوصول، ولا سبيل إلى نيل هذا الخير المقيم، إلا بالسير على الصراط المستقيم، أنا أيتها النفس جعلني الله نورا لبيان سبل الرشد، وقوة لنيل خير القصد، أبين لك مناهج الخيرات، وموارد المسرات، لا بغية لي إلا أن نكون جميعا في طاعة الله، حتى نفوز برضاه، ولديها نقر بالنعيم الأبدي أعينا، وندوم في جوار رسول الله، في دار كرامة الله، التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، إن سعادتكم بي وسعادتي بكم، وما وقفت هذا الموقف إلا لخيركم، والله ولي ووليكم.
أيتها النفس السبعية، إن اتبعت معي الهدى، حفظك الله من الردى، وتجملت بأكمل الجمال، في الحال والمآل، جمالك هو الغلبة والقهر، في السر والجهر، قهر الأعداء نصرة للأوداء، وأنا أدعوك لأن تتجملي بهذا الجمال، لكن على الصراط المستقيم لا على مهاوي الوبال، فتفوزين بالحسنيين، وتسعدين في الدارين، وهذا أمر يسير لو تفكرت، وسهل عليك لو تدبرت، ومن يبيع الخيرين بشر؟ أو يلقيبنفسه في ضر؟ فأسعديني بما إعده الله لك وأسعدي بالقبول من معك وأعلمي أن الحس عدو لدود، وهو السبب في إهباط آدم من دار الخلود، حينما اتحد مع الشيطان فأخرج آدم من النعيم، فذكريه يا نفس بمسراته الماضية، حتى يتسلى عن الأضاليل الفاتنة، وتضمحل مسرات الدنيا في نظره، بعد طول عبره، وعلم خبره.
النفس السبعية:
أقم يا عقل على ما ادعيت البرهان، فليس بعد العيان بيان، فإني مستريحة في هذا الكون، وأنت لك لون ولي لون. فما هذا الجمال الذي تومي إليه؟ وهل كلامك أعول عليه، وأترك بقولك محسوسا، وقد أراه ملموسا؟ فإن ما تدعوني إليه غيب محجوب، عن العيون والقلوب.
النفس البهيمية:
أيتها النفس السبعية، أنت في تصريف وإباحة، وبهجة وسماحة، أيريد العقل أن يشد خناقنا، ويوقعنا في آلامنا؟ أنترك الحاضر من الشهوات لما هو آت؟ أحيني اليوم وأمتني الغداة، ما لنا وللعقل؟ وليس لـه علينا من فضل، سلطي عليه الحس فإنه يقيم عليه الحجة، ويجذبه إلى ما نحن فيه من البهجة، نحن قد أمنا لذاتنا، فلا نترك مسراتنا، أيه يا عقل ما ذا تريد منا؟ اسلم بنفسك وانصرف عنا، وإلا اجتمعنا عليك، وأوصلنا الأذية إليك.
النفس السبعية:
أيتها النفس البهيمية، إن العقل قد تلطف في المقال، وذكرني بحقيقة الحال، والناس يقولون: اتبع الكذاب لحد الباب، فإن كان كاذبا عنا رددناه، وإن كان صادقا لزمناه، إن العلم شرح لنا، والعقل على الخير دلنا، وليس بعد قيام الحجة، إلا السير على المحجة، وليس من الحكمة أن نحارب من سالمنا، أو نخيف من أمنا.
النفس السبعية: (تتوجه إلى الرئيس)
وإني أطالب من الرئيس أن يأمر الفكر بإقامة الحجة على النفس البهيمية، فإني من العقل قد قبلت، وعليه أقبلت، فعسى أن تزول من بينهما المعارضة، بعد المفاوضة.
رئيس المحكمة:
يَا فِكْرُ سَارِعْ لِلإِجَابَةِ مُعْلِنًا
حَتَّىٰ تَزُولَ مِنَ ٱلصُّدُورِ سَخَائِمٌ
يَا فِكْرُ أَثْنَى ٱللَّهُ فِي تَنْزِيلِهِ
حَسْبُ ٱلْفَتَى مَدْحُ ٱلإِلَهِ لِفِعْلِهِ
مَنْ يَقْتَدِي بِكَ يَهْتَدِي لِسَبِيلِهِ
نِعْمَ ٱلْمُجِيبُ لِذِي ٱلْكُرُوبِ تُزِيلُهَا
أَنْتَ ٱلرَّفِيقُ عَلَى ٱلطَّرِيقِ لِسَالِكٍ
يَا فِكْرُ بَيِّنْ لِلنُّفُوسِ فَإِنَّهَا
يَا فِكْرُ ذَكِّرْهَا عَسَاهَا تَدَّكِرْ
وَٱكْشِفْ لَنَا تِلْكَ ٱلْحَقِيقَةَ آمِنًا
أَوْدَتْ بِأَنْفُسِنَا بَلَغْتَ ٱلْمُأمنَا
نَصًّا عَلَيْكَ لَنَا بَيَانًا أُعْلِنَا
طَمْئِنْ قُلُوبًا تَرْتَجِيكَ وأَعْيُنَا
يَرْقَى إِلَى نُزُلِ ٱلْكَرَامَةِ سَاكِنَا
تُبْدِي لَـُه نُجْحَ ٱلْمَقَاصِدِ هَيِّنَا
رَامَ ٱلْوُصُولَ لِرَبِّهِ مُتَمَكِّنَا
جعِلَتْ لَهَا سُبُلُ ٱلْغَوَايَةِ دَيْدَنَا
عَهْدَ ٱلنَّبِيِّ تَسِيرُ سيْرًا أَحْسَنَا
الفكر:
يَا عَدْلُ تَدْعُو لِلسَّعَادَةِ وَٱلْهُدَى
طَوْعًا لأَمْرِكَ مَاضِيًا فِيهِ عَلَى
تِلْكَ ٱلنُّفُوسُ غَوِيَّةٌ جَمَحَتْ إِلَىٰ
لَكِنْ بِأَمْرِكَ قدْ أُبَيِّنُ لَهَا إِلَى
أَدْعُ ٱلإلَهَ بِعَوْنِهِ سُبْحَانَهُ
تَفْدِيكَ أَنْفُسُنَا وَتَكْفِيكَ ٱلرَّدَى
قَدْرِي فَإِنَّ ٱلأَمْرَ إِصْلاَحُ ٱلْعِدَا
مَهْوَى ٱلضَّلاَلِ وَلَمْ تَمِلْ لِلاهْتِدَا
أَنْ أُظْهِرَ ٱلْمعْنَى يَصِحُّ ٱلاقْتِدَا
حَتَّىٰ يَكُونَ لَنَا ٱلإلَهُ مُؤَيِّدَا
(يلتفت الفكر إلى النفوس):
أيتها النفس البهيمية إن الله أمدك بما تعلمين، أمدك بمال وبنين، ونسيم بليل عليل وماء معين، وسخر لك كل شيء في السموات والأرض، تتمتعين فيها طولها والعرض، عناية منه سبحانه وحنانا، وفضلا منه جل جلاله وإحسانا، وهو الغني عن المعاوضة فيما وهب، والقريب المجيب بلا طلب، تفضل ولم يطالب بمكافأة، وأغدق نعماه وهو الغني عن المساعدة، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ وأتعس الناس من حرم شكر الحنان المنان. تفضل سبحانه وتعالى علينا بما لا نحصيه من النعمى وما لا نستقصيه من الآلاء، وهو الغني عنا ونحن الفقراء إليه، فكيف نلتفت عنه في الرخاء وفي الشدة نعول عليه؟ وهو الله نعم الرب لنا في جميع أمورنا، وسعادتنا أن نكون نعم العبيد لـه في كل أدوارنا، مع ما تفضل به علينا من هذا الفضل العظيم، وعدنا على عبادته في جواره العلي بالنعيم المقيم، فواعجبا لنا!! كيف ننساه وهو أقرب إلينا منا؟ أو نلتفت عنه وهو غني عنا؟ وكيف نشتغل بفان يزول، عن الخير الحقيقي والقبول؟
أيتها النفس البهيمية، لم يحرم عليك ربك طيبا ينفع، بل حرم ما منه النفوس تجزع، رحمة بك أيتها النفس ، حتى تفوزي بالأنس، مع أوليائه الأطهار، وصفوته الأخيار، أباح لك من النساء أربعا، وفي هذا للشهوة مقنع، ورغبك في الكسب الحلال، وفيه لك الشرف والجمال، وحثك على كل خير وفضيلة، وبين لك على لسان رسوله ﴿ rوآله﴾سبيله، وحرم عليك الفحشاء، وهي السبب في البلاء، والخمرة التي هي أم الكبائر، والمفسدة للعقول والبصائر، وفي الحقيقة ما حرم عليك إلا كل شر ووبال، وهلاك وضلال، وفيما أباحه وسعة لك وزيادة.
أيتها النفس البهيمية، إن الشريعة المطهرة حصن أمانك، فاكبحي بالمحافظة على حدودها عنانك ، فإن القادر الحكيم الذي أنشأك، هو أعلم بخيرك وهو الذي برحمته ابتدأك، ولم يرسل لك الرسل بالأحكام، مبينا لك الحلال والحرام، إلا لتبلغي غاية المرام، ولترتقي عن رتبة الأنعام، متنعمة في رياض الإنعام، عجبا لك كيف رضيت بالأدنى وهو فان لا يدوم، ولا ينال إلا بالكد والهموم؟
وتسليت عن النعيمالذيتسارع إليه الأرواح، لتفوز بجوار الأخيار في معية الفتاح؟ لو تعلمين ما أعده الله تعالى لمن حافظ على حدوده، يوم القيامة من بره وجوده، لتحققت أن ملاذ الكون بليات، وأنه سجن الحسرات، ما هي ملاذك التي إليها تسارعين؟ أليست مأكلا ومنكحا وملبسا فيه ترغبين؟ هذه ليست ملاذ الإنسان، لأنها دفع للآلام والأحزان، فأنت تأكلين لتدفعي ألم الجوع الشديد، ودفع الجوع ليس لذة عند الرشيد ،وكذلك الوقاع دفع لألم احتقان الماء ،ودفع الألم ليس لذة ولا صفاء، واللباس دفع لألم البرد والحر، ودفع الألم عند العاقل ضر، وإنما اللذة لذة النفوس الزكية، لما تناله من الكمالات والفضائل العلية، دليل ذلك أنك إذا تناولت الطعام زهدتيه، وإذا قمت بالوقاع كرهيته، وإذا ملكت المال عانيت بملكه العذاب، أو أنفقتيه في معصية المنعم الوهاب، فلذتك ألم وبلاء، وإذا تزكيت صارت لذتك صفاء وهناء، فاسلكي معي هذا السبيل، فقد وضح الدليل، وإلا تتمنين يوم القيامة أن تكوني ترابا، إذا شهدت بحسك العذاب ، فهلمي بنا نقدم لله المتاب، قبل يوم الحساب، فإن باب التوبة لا يرتج، إلا إذا المرء حشرج، ومن تاب قبل موته بيوم تاب الله عليه، وأوصل غفرانه وعفوه إليه، ويكفيك تذكر نعم الله الواصلة إليك، وسوابغ جدواه المتوالية عليك، وما واجهت به ربك من كبائر السيئات، وفواحش الهفوات، فإذا قابلت فضله العظيم المتوالي، بقبيح ما واجهت به مولاك ولم تبالي، إذا تذكرت ذلك لكان من التوبة المقبولة، والإنابة الموصولة، وحيث تذكرت فذكرت، وتبصرت فاعترفت، فأبدلي الشبع بجوع الصيام، والنوم بالقيام في طاعة الملك العلام، والحرص في الدنيا بالحرص على الفضائل، والزهد في الآخرة بالزهد في الرذائل، والطمع فيما يزول، بالطمع في خير المأمول، وأبدلي شحك بالمال في الخيرات، بالشح بالأوقات أن تصرف في غير طاعات ؛ فإن أنفاس المؤمنين نفائس ، ولكن إبليس يرخصها عليهم بالدسائس.
التهور : (يقطع كلام الفكر مع النفس قائلا)
احنا منقبلشي من الفكر كلام، ولا نردش عليه سلام، احنا طول عمرنا ما نعرفش الفكر، واللي يعرف الفكر يتعلم المكر، هو ربنا خلق الحاجات دي كلها، وهو غني عنها، وأعطاها لنا ولا يسألناش عنها، أنا أعرفك يا فكر بالدليل، هو ربنا يأكل والا يعشق الجميل، سبحانه وتعالى، خلق الدنيا وخيراتها لنا احنا بس، ما تكترش كلام روح بلاش هوس، لما ربنا يقول ما تكلوش ولا تشربوش ولا تعشقوش، نقول لـه ليه خلقت لنا الحنك والبطن وجعلتنا زي الوحوش، لو كان عايز يجعلنا لا نأكل ولا نشرب كان يجعلنا ملائكة، كلامك ده أعجب وأغرب احنا رايحين نسيب لك اللي خلقه ربنا علشانا ،ونهجر لك نسوانا وعيالنا ونخرب لك اللي أمرنا ربنا نعمرها لـه، وهو الغني عنها وعن غيرها جل جلاله، احنا محناش عاوزين كلام، بعد أن بلغنا المرام، الواحد يبقى ابنه في إيده ويدور عليه؟ كانوا بالجنون يحكموا عليه.
النفس البهيمية:
رُوَيْدَكَ يَا تَهَوُّرُ هَلْ تَلُومُ؟
لَنَا أَبْدَي ٱلنَّصِيحَةَ بِاتِّضَاحٍ
أَقَامَ عَلَى ٱلَّذِي يُبْدِيهِ حُجَجًا
رَسُولُ ٱللَّهِ أَنْبَأَنَا بِهَذَا
أَطِعْهُ يَا تَهَوُّرُ وَانْحُ نَحْوِي
وَمَنْ يَرْضَ بِسَخَطِ ٱللَّهِ يَقُلْ
نَعَمْ يَا فِكْرُ أَنْتَ نَصَحْتَ مِثْلِي
قَبِلْنَا مَا أَتَيْتَ بِهِ لأَنَّا
فَطَاوِعْ يَا تَهَوُّرُ وَاتِّبِعْنَا
فَإِنَّ ٱلْفِكْرَ أُسْتَاذٌ حَكِيمٌ
فَنَحْنُ نُطِيعُهُ فِيمَا يَرُومُ
مُؤَيَّدَةً بِمَا قَالَ ٱلْكَرِيمُ
وَهَذَا ٱلْفِكْرُ صِدِّيقٌ سَلِيمُ
فَعَاقِبَةُ ٱلْخَنَا ثَمَّ ٱلْجَحِيمُ
وَيُهْلِكُهُ بِهَا ٱلْخَطْبُ ٱلأَلِيمُ
وَفِيمَا جِئْتَنَا ٱلْخَيْرُ ٱلْعَظِيمُ
عَلِمْنَا أَنَّهُ ٱلنَّهْجُ ٱلْقَوِيمُ
تَفُزْ بِالْخَيْرِ يَأْتِيكَ ٱلنَّعِيمُ
(ثم تستأذن النفس البهيمية رئيس المحكمة أن يأمر الروية أن تقيم الحجة على التهور ليتوسط في طلبه ويشرق نور الحق في قلبه)
رئيس المحكمة : (سائلا)
إِلَى ٱلرَّوِيَّةِ آمَالِي أُبَيِّنُهَا
فَقَدِّمِي ٱلنُّصْحَ بِالإِخْلاَصِ مُعْلنَةً
وَمُقْتَضَى ٱلْوَقْتُ بِالتَّفْصِيلِ يُعْلِنُهَا
فَأَنْتَ لِلْحُجَّةِ ٱلْعَلْيَاءِ مَعْدَنَهَا
الروية:(مجيبة)
سَمِعْتُ أَمْرَكَ وَهْوَ ٱلْخَيْرُ آمَالِي
وَأَنْتَ يَا عَدْلُ بَعْدَ ٱللَّهِ مُلْتَجَأٌ
أَرَى ٱلنُّفُوسَ عَلَى ٱللأوَاءِ قَدْ فُطِرَتْ
وَطَاعَةً لَكَ أُبْدِي ٱلنُّصْحَ خَالِصَةً
أَيَانُفُوسًا إِلَى ٱلإِفْسَادِ قَدْ جَمَحَتْ
وَسَارِعِي لِمُرَادِ ٱلْعَقْلِ إِنَّ لَـهُ
وَسَارِعِي لاتِّبَاعِ ٱلْمُصْطَفَى فَعَسَىٰ
وَفِيهِ مِنْ نَشْأَتِي مَيْلِي وأَعْمَالِي
فَدَاوِهِمْ سَيِّدِي بِالْحَالِ لاَ ٱلْقَالِ
وَلَمْ تَخْفَ نِقْمَةً مِنْ قَهْرِ مُتَعَالِ
عَسَى تَفُوزَ بِإِحْسَانٍ وَإِقْبَالِ
هَيَّا اسْتَقِيمِي لِتَرْقَىْ مَنْزِلاً عَالِي
عِنَايَةً بِكِ وَاعْصِى كُلَّ خَتَّالِ
تَجَاوِرِينَ رَسُولَ ٱلْمُنْعِمِ ٱلْوَالِي
الروية: (تلتفت إلى التهور)
أيها التهور، لم يخلقك الحق جل جلاله بغير حكمة، وحكمتك أن تكون لك عند إعلاء الكلمة صولة، تمحو بها كل ظلمة، ومن جهل حكمة إيجاده، لم يفز بإمداده، وأنت أيها التهور في حاجة إلى ملازمة الدرس، لتزكو منك النفس، ولديها تنتفع وتنفع، وإلى مقام الفضائل ترفع ألم تعلم أن الله شنع على الإنسان، فقال سبحانه: ﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولاً﴾(الاسراء: من الآية11) في صريح القرآن؟ ثم أثنى على من جاهد نفسه ليتجرد من العجلة، فقال سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾(البقرة: من الآية153) وهي آية مجملة تفسيرها مكارم الأخلاق، رحمة بالرفاق. يا تهور : أنت مصدر الشجاعة الأدبية، ومنبع الإغاثة عند البلية، ولو توسطت في عملك، لنلت من الله جميع أملك، ولكنك بعجلتك قد تفوتك القصود، وكم علمتك الحوادث ونبهتك القيود، لا تنال الفضائل إلا بك إن وضعت أعمالك في مواضعها، وبك المجتمع والأفراد تحفظ من مصارعها، إن أنت اتخذتني لك ظهيرا، وجعلتني قبل إقدامك وزيرا.
اصغ إليَّأبين سبل سعادتك، واتحد معي أدلك على مناهج هدايتك، فإني أيها التهور لو اتحدت معك في العمل، أبلغك جميع الأمل، أنت التهور وأنا الروية، وأنا بنجح آمالك حرية، وأضرب لك مثلا جلي البرهان، إذا فارق التهور إنسانا انحط عن الحيوان، وإذا فارقت الروية إنسانا صار شرا من الشيطان، والإنسان الكامل من حكم الروية قبل التنفيذ والعمل، ثم نفذ حكمها بالتهور بلا ملل، لديها يسود بين معاصريه ، ويحكم في أعاديه، محفوظا من الزلل، بعيدا عن الخطل.
وبعيشك أيها التهور، هل فاز شجاع مقدام بغير الروية؟ أو رفع بغيرها عالم إلى رتبة علية؟ أو وصل ناسك إلى الله جعل التهور قائده؟ لا إن لم يجعل الروية مقصده، فاتحد بي اتحاد الشمس بنور البصر، والنبات بالمطر، فأنا وأنت كالزيت والشريط للشعلة، وقد نصحتك فاقبل النصح تسعد، ومن الله بالخيرات ترفد، هل رأيت متهورا سيدا في قومه؟ .. بل تراه معذبا في سجنه ولومه، وهل رأيت ذا روية ذليلا؟ .. بل تراه رفيع القدر جليلا، وكل من في البيمارستانات والسجون، هم من المتهورين الموصومين بالجنون، إذا أنت اتحدت بي صرت مشكورا من الحق والخلق، مثنيا عليك بالمروءة والصدق، والثناء والعطاء، وشتان بين نيل الثناء والعطاء، وبين العناء وذم الأعداء، وهل يشتري الإنسان النقمة بالنعمة؟ ويبيع الخير والثناء الحسن، بالشر والإحن؟!.
(بعد فترة صمت)
لعل النصيحة بلغت منك مبلغها فقبلت، وتداركت أمرك قبل فواته وللخير عملت، والله لا يضيع أجر المحسنين.
الشهوة : (تقطع على الروية الكلام قائلة)
هذا كلام أحر من السهام، وأقبح من الملام، أتريدين يا روية أن تكوني بلية، أنا أنافس في ضرورياتي منافسة السباع، وأحتال عليها احتيال الثعالب خوفا من الضياع، وإن كان لا يرضيك إلا آلامي، ولا يريحك إلا سقامي، فهذا سعي العدو اللدود، والشرير الحسود، كيف نقبل نصيحة من يكره الخير ويجلب الشر والضير؟
وَيْ يَا رَوِيَّةُ تَمْنَعِينَ عِصَابَتِي
مَهْلاً فَإِنِّي لاَ أَحُولُ عَنِ ٱلْخَنَا
أَسْعَى لِكُلِّ مَقَاصِدِي بِشَرَاهَةٍ
لاَ ٱلصَّفْعُ يَمْنَعُنِي عَنِ ٱلإِقْدَامِ لاَ
إِدْرَاكُ لَذَاتِّي لَدَى هِيَ ٱلْمُنَىٰ
خَلِّي مَلاَمِي يَا رَوِيَّةُ إِنَّنِي
فِعْلُ ٱلدَّنَاءَةِ يَا رَوِّيَةُ دَيدَنِي
كَيْفَ ٱلتَّسَلِّي عَنْ حُظُوظِي وَهْيَ لِي
ٱلْمَجْدُ عِنْدَي أَنْ أُمَتَّعُ دَائِمًا
وَٱلْعِزُّ عِنْدِي ملْءُبَطْنِي مِنْ شِوَى
وَٱلْبَسْطُ عِنْدِي خَلْوَتِي مُتَمَتِّعًا
لَوْ أَنَّ شَوْهَاءَ خَلَوْتُ بِهَا لَمَا
كَمْ قَدْ خَلَوْتُ بِمَحْرَمٍ فَأبَحْتُهَا
إِبْلِيسُ يَجْذِبُنِي إِلَيْهِ وَهِمَّتِي
عَنْ نَيْلِ آمَالِي وَنَيْلِ مَسَرَّتِي
عَنْ هَتْكِ عِرْضٍ أَوْ فَسَادِ عَشِيرَةِ
كَلِبيَّةٍ وَبِجَرْأَةٍ ذِئْبِيَّةِ
كَلاَّ وَلاَ سَبِي بِأَلسُنِ نِقْمَةِ
لاَ أَبْتَغِي مَجْدًا وَمَجْدِي شَهْوَتِي
عَبْدٌ لِبَطْنِي بَلْ لِكُلِّ دَنِيئَةِ
أَسْعَىٰ إِلَيْهَا رَاغِبًا بِحَمِيَّةِ
جَنَّاتُ أَفْرَاحِي وَكَنْزُ ذَخِيرَتِي
بِحُظُوظِ نَفْسٍ أَوْ أَمُوتُ بِحَسْرَتِي
عِجْلٍ حَنِيذٍ أَوْ قَدِيدِ ٱلْكُفْتَةِ
بِالْفُحْشِ كَالْخِنْزِيرِ دَاخِلَ حُفْرَتِي
أَبْقَيْتُهَا حَتَّى أَنَالَ مَلَذَّتِي
لَمْ أَخْشَ مِنْ قَهْرٍ وَعَاجِلِ نِقْمَةِ
تَلَقَّى بِنَفْسِي فِي سَحِيقِ ٱلْهُوَّةِ
(تصيح صارخة)
قُومِي مَعِي خَلِّ ٱلْفَضَائِلِ وَٱلْعُلاَ
خَلِّ ٱلْمُرُوءَةَ فَهْيَ أَكْبَرُ بَلْوَةِ
التهور:
ويحك أيتها الشهوة، أنت لا شك للكل بلوة، إن الروية نصحت، وسبل الرشد بينت، ومراقي الخير لنا وضحت، وأنوار الحقيقة منها سطعت.
إن الله خلق الإنسان وسطا بين عالم الملك والملكوت، ورفعه عن الحيوان بما ميزه به من النعوت، وجعل لـه مسرة روحانية، استعلت على المسرات الحيوانية، وكيف ينحط إلى الحضيض، من رفع؟ والتعيس من الخير إلى الشر رجع، ما لذة الشهوة التي تعنيها؟ وما تلك المسرات التي تتفانين يا شهوة فيها؟ وقد يعافها الكلب إذا لعب مع نظيره ، والديك مع سميره.
كفاك يا شهوة دناءة، فقد حتمت على نفسك الإساءة، أفرحت الأعداء، وأحزنت الأوداء. إن الروية تدعوني إلى شرف دونه الملاذ الحسية، ومجد يفدىبالوالدين والذرية، إلى نيل مسراتنا الحقيقية في دار البقاء، في جوار رسول الله ﴿ rوآله﴾وأصحابه أهل الصفاء. تدعوني إلى التشبه بمن أثنى الله عليهم من الأطهار، ومجانسة من اصطفاهم من الأخيار.
أنا يا شهوة قبلت وأقبلت، وعلى الله توكلت، وبحسن عنايته أنبت.
(التهور يتوجه إلى رئيس المحكمة)
التهور:
ألتمس من الرئيس أن يسمح للعفة بالكلام مع الشهوة
(ثم يلتفت التهور إلى العفة)
التهور :
يا عفة ، بك وقاية من الأمراض، وبك تحصين الأعراض
رئيس المحكمة: (يخاطب العفة)
تقدمي يا عفة وتكلمي ؛ فإنه من تجمل بك ساد بالفضائل، وحفظ من الرذائل، بك يكون لله الوفاء، ويصح معه الصفاء، ويدوم بين الإخوان الإخاء، ويزول عنهم العناء ؛ لأنك حفظ اللسان والعينين والأنف والأذنين، والبطن واليدين، والفرج والرجلين، من الاستطالة في المباح، ومن الوقوع فيما حرم الله وعليه الجناح، قال الله تعالى: ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ.وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّوَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ ﴾(النور: من الآية30-31) وقال
﴿ rوآله﴾: « من عشق فعف فمات مات شهيدا».
العفة: "للرئيس"
طوعا لأمرك أيها الداعي، يسر الله لي ولك خير المساعي، إن الشهوة قوية الرأس شديدة المراس، ليس لها ميزان ولا قياس، إنما يكبح جماحها حبس الحواس، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالرياضة القوية، والمجاهدة القسرية، ومتى استطعنا أن نحبس الحس، أمكننا أن نقهر الشهوة ونقود النفس ؛ فإن الحس مثير الشهوة، وأصل كل تلك البلوة، ولولا العينان، ما دخل حسود النيران، ولولا البطن والفرج، ما حارب الإنسان أخاه وفي النيران زج، ولولا كبرياء الإنسان ما فتن الشيطان إنسانا، فاسمح لي يا عدل وأرودني وبحكمتك أيدني، حتى أعالج هذا المريض بحسن تدبير، والشافي هو الحكيم الخبير.
العفة: (تواجه الشهوة وتخاطبها)
أي أختي لا حرمني الله وإياك ؛ فإنك دليل الحياة والعافية، ومتى فقدت فقدت الحياة الراقية، ومن جهل نعمة الله عليه بك في حياته، عذب بعد مماته، وكيف لا؟ والإنسان لا يسعى إلا لما يشتهي ، ولو منع عنه بالزواجر لا ينتهي، ولو فكرت فيما أدعوك إلى شهوة ما هو خير في نفس الأمر، ليدوم لك النعيم والثناء والأجر، أتظنين أن الأنبياء لا شهوة لهم تطالبهم بما يميلون إليه؟ جهلت.. فإن الله جعل شهوتهم سواطع الأنوار من لديه، وشهوتهم الاتصال بالحق جل جلاله، وفي هذه الشهوة تحمل سيد الرسل
﴿ rوآله﴾ما لا يتحمله أمثاله، وأنت يا أختاه، لو اتحدت معي نلنا ما نتمناه ، أنت الشهوة وأنا العفة، وباتحادنا فاز بالخير أهل الصفة، اشتهي
ياأختاه ما أدلك عليه ، فسارعي بكليتك إليه، ولا تفارقيني فتشتهي شهوة الحيوان، أو تقعي في حبائل الشيطان، وجاهدي نفسك أن تطيعيني، فإن طاعتك لي مجاهدة كبري فأطيعيني ، قال الله تعالى: ﴿فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً ﴾(النساء: من الآية95) فإن الله سبحانه وتعالى جمعنا لنرتفع إلى أعلى عليين، بالجهاد الأكبر في محبة رب العالمين، فإذا أنت أهملت فأطعت الحس خالفت الوصية، ومن خالف الوصية حرم العطية، أترضين أن تجعلي الحس إلها يعبد؟ فتخالفين حكم ربك في طاعته والمخالف يبعد؟ اشتهي ياشهوة ما اشتهىأولياء الله الأخيار، وما يسارع إليه الصديقون الأطهار، تفوزي برضاء الله وجوار المختار ﴿ rوآله﴾، وكفاك ميلا إلى الدنيء الفاني ،لأنك فيه كل بلية تعاني وشتان بين جوار رسل الله صلوات الله عليهم، ومواجهة ذي الجلال والإكرام لديهم، ولسان الثناء في العالمين، والسعادة الأبدية في الآخرين، وبين العذاب الأليم في أسفل درجات الجحيم، بسبب سيرك على غير الصراط المستقيم.
الشريعة يا أختاه رياض المسرة وبساتين البهجة، وكيف لا؟ وقد وسع الله لنا فيها وسعة زادت عن كمالياتنا، فضلا عن ضرورياتنا ، ويسر لنا فيها كل ملاذنا وحظوظنا، مع الجزاء الحسن في الدار الآخرة لنا، حتى زهد في كثير من المباحات النساك والعباد، وتركوا الوسعة وساحوا على وجوههم في البلاد، وقد عتب الله على من ضيق على نفسه في السر والجهر ، فقال تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾(البقرة: من الآية185) أباح الله لنا من النساء أربعا وما ملكت أيدينا، وحرم علينا الفحشاء والمنكر وما يؤذينا، أحل لنا التجارة والزراعة والعمل، وحرم علينا الربا والسرقة والكسل، أباح لنا ما نشتهي من المأكل والمشرب والملبس، وحرم علينا الخمر والميسر ولحم الخنزير الأتعس، أباح لنا الأنس والرياضة مع الأهل والأولاد والإخوان، وحرم علينا الغيبة والنميمة والحسد الموجب للحرمان ؛ لأنه سبحانه وتعالى خلق كل شيء لأجلنا، وهو الغني عنا وعن عملنا، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان، وأمرنا سبحانه وتعالى بالصلاة رياضة لأبداننا، ونورا لأرواحنا، وتزكية لنفوسنا، وشكرا لـه سبحانه على نعم لا تحصى بها حياتنا.
وها هي الصلاة ياأختاه طهارة لظاهرنا، ونشاط لباطننا، واعتراف منا على أنفسنا بأننا عبيد لربنا، وإقرار لـه سبحانه وتعالى أنه ربنا، وشكر لنعمته علينا، إنا ياأختاه في كل نفس لا نخلو من المضار التي تعجز عنها قوى البشر، فنرفعها للقادر بدموع كالمطر، فإن لم يكن لنا جانب لديه، بطاعة أمره والتوكل عليه، لا تطمئن قلوبنا لسوء عملنا، وكيف نعصى أمر من بيده ملكوت كل شيء.
ومن مد لنا موائد الكرامة في ظل الرأفة والفيء؟.
لقد أيقظتك ياشهوة من نومة الغفلة، ونبهتك من رقدة المهلة، رحمة بك لا خوفا علىَّ، فأفيئيإلى الله وارجعي إلىَّ.
الجبن: (يقاطع على العفة الكلام قائلا)
ياشهوة مالك وما للعفة! ربنا لا لـه شهوة ولا لـه ولد، ولا لـه زوجة ولا لـه جسد، وهو خلق الحاجات ديكلها علشان مين؟! ليه نحرم نفسنا؟ احنا مجانين؟! احنا إن لقينا القوة هربنا، وإن لقينا شهوتنا قدامنا أفسدنا، ومين يبقى قدامه ملذاته، ويتركها لكلام عدوه بحسراته؟ احنا نعمل قدام الناس منكسرين، ونبقى من وراهم شياطين.
نتحمل السب والصفع على القفا، علشان ما يحصلش من الناس لنا جفا، فنفسد الأحرار وننهب الأخيار، اللي احنا نقدر عليهم ولا نخاف العار ولا النار.
سِبَاعٌ نَعَمْ وَضَفَادِعٌ وَثَعَالِبُ
سِبَاعٌ لَدَى ٱلْفَحْشَاءِ وَٱلزُّورِ وَٱلْخَنَا
ثَعَالِبٌ عِنْدَ ٱلسَّلْبِ وَٱلنَّهْبِ وَٱلْجَفَا
نُمَرِّغُ أَوْجُهَنَا عَلَى ٱلتُّرْبِ عِنْدَمَا
وَتِلْكَ سَجِيَّتُنَا وَرِثْنَا جَمِيعَهَا
فَخَلِّي مَلاَمَكِ وَٱذْهَبِي بِسَلاَمَةٍ
تلَوَّنَنَا فِي كَسْبِنَا لاَ نُغَالِبُ
ضَفَادِعُ عِنْدَ ٱلْخَوْفِ حِينَ نُطَالِبُ
تُجَادِلُ أَهْلَ ٱلْحَقِّ وَٱلْقَوْلُ كَاذِبُ
نَرَى قُوَّةً وَنَفِرُّ وَٱلْقَلْبُ رَاهِبُ
عَنِ ٱلأَبِّ وَٱلأَجْدَادِ وَٱلطَّبْعِ غَالِبُ
فَمَالَكِ عِنْدَ ٱلأَغْنِيَاءِ مَطَالِبُ
(تستأذن الشهوة الرئيس في الكلام فيأذن لها فتجيب الجبن قائلة):
الشهوة:
أيها الجبن، إلى متى تمشي في الظلام، بلا وصي ولا إمام؟ أما آن لنا أن نرعوى عن الباطل، ونترك عمل الخبيث الجاهل؟ أمسك عليك كلامك فإن الحق أبلج، واترك الباطل فإنه وبي لجلج. أما أنا فقد شعرت بنقائصي، وأرجو أن أسرع إلى تخلصي.
(ثم تتوجه إلى الرئيس)
يا مولاي ، مر الشجاعة أن تقيم للجبن الحجة، وتبين لهالمحجة
رئيس المحكمة : (للشجاعة)
يَاشجَاعَةًً أَقْدِمِي فَالأَمْرُ دَاعِي
بَيِّنِي لِلْجُبْنِ مَنْهَجُ رُشْدِهِ
وَٱلْفَتَى لِلرُّشْدِ بَعْدَ ٱلْغَيِّ سَاعِي
كَيْ يَفِئُ لِرُشْدِهِ قَبْلَ ٱلنَّوَاعِي
الشجاعة : (للجميع) :
لِلْجُبْنِ مَنْزِلَةُ ٱلإِحْجَامِ وَٱلْهَرَبِ
أُلْقِي بِنَفْسِي عَلَى ٱلنِّيرَاِن مُنْشَرِحًا
إِنْ صَاحَ دَاعِي ٱلْهَدْىُ لَبَّيْتُ مُقْتَحِمًا
كَأَنَّ نَارُ ٱلْوَغَى نُورًا يُبَيِّنُ لِي
والجبن مقصده اللذات يطلبها
شتان بيني وبين الجبن ذاك لـه
وَلِي مَقَامُ ٱقْتِحَامِ ٱلْخَطْبِ وَٱلنَّوْبِ
كَيْ أَنْصُرَ ٱللَّهُ أَمْحُو ظُلْمَةَ ٱلرَّيْبِ
نَارَ ٱلْوَغَى بَاسِمًا فِي بَهْجَةِ ٱلرَّغَبِ
رِضْوَانُ رَبِّي فَأَسْعَى وَٱلرِّضَا طَلَبِي
مِنْ غَيْرِ كَدٍّ وَلاَ جَدٍّ وَلاَ سَبَبِ
نَارُ وَلِي جَنَّةَ ٱلْفِرْدَوْسِ بِالْقُرْبِ
(ثم تتوجه إلى الجبن):
أيها الجبن، المقاصد أربعة: لذة ومال وشرف ودين، والجبن أن تترك المال للذة، وتبيع الشرف بالمالِ، وتضيع الدين بالشرف، والشجاعة أن تترك اللذة لنيل المال الذي ينفع، وتبذل المال للشرف الذي يرفع، وتفارق اللذة والمال والشرف للدين الذي نوره يسطع، فإنك بحفظ الدين تفوز بالحسنيين، بنعيم الآخرة وفي الدنيا بالفضة واللجين، وتسود في الدنيا بالثناء الحسن، وفي الآخرة بالرضا والمنن، يا جبن ، أنت تحسن عند هيجان الشهوة، أو داعي المعصية والبلوة، لا عند المسارعة إلى الطاعة، التي هي نعمت البضاعة، وبامتزاجك بي يتكون منا ما هو خير وسعادة، من القيام بعظائم الأمور نفعا وعبادة.
يا جبن أنت لي وأنا لك وانفرادك بلاء، وامتزاجك بي إلى الله قرب ومنه عطاء ؛ لأنه سبحانه جعلك للخير، فتوسط يا جبن في السير، ولا تخف إلا ذنبك، ولا ترج إلا ربك، فاحذر أن تقع في الذنوب ؛ فالذنوب كروب.
واتبعني أهدك سبيل الرشاد ؛ فإنك أن اتبعتني كنت لي درعا داووديا، وكنت لك سيفا هنديا، وكنت أنا وأنت بين إقدام على عظائم الأمور لنيل رضا المولى، وبين إحجام عن سفاسفها خوفا من عقوبة العلي الأعلى، وبذلك تنال خيري الدنيا والآخرة، وتفوز بالثناء الحسن والنعم الفاخرة.
ياجبن ، أجهلت أن ما قدره الله يكون؟ وأن ما هو مكتوب على الجبين تراه العيون؟ فلم الجبن الذي يوجب الخزي والعار؟ ولم الإحجام عن الإقبال على الله بالنفس والمال كالأخيار؟ والتقاعد عنه المؤدي إلى عذاب النار؟
ياجبن، كن جبانا عند المعاصي أو أذية الإخوان، أو عند القدرة على الضعيف ومضرة الحيوان، وأقدم على طاعة الله ولو كانت الطعن بالسنان، فإنما الأمور بعواقبها، والأعمال بنتائجها، والجبن خوفا من الموت مع الخزي والذلة شر ولا شك، والخير في الموت لإحياء الملة، ومن لم يميز بين خير الخيرين وشر الشرين، فهو جماد لا حس ولا عين.
ياجبن نصحتك فاتحد معي، وخير نصوح لك الألمعي، وقد قال الشاعر
الألمعي الذي يظن بك الظن كأن قد رأى وقد سمعا
البخل: (يقاطع على الشجاعة الكلام)
ما هذه السفسطة والأباطيل، والزندقة والأضاليل؟ هو احنا لنا كم نفس؟ وفي السماء كم شمس؟ احنا نحفظ أنفسنا وأموالنا، ونستر في الدنيا دي حالنا، بعد راسي إن شاء الله ما كانت راس، ولا حد للملك ساس، هو احنا نذل أنفسنا لحد صفع النعال، لنسلب من الناس الأموال، وننهبها حرام والا حلال، ونروح نضيعها لك علشان الفقراء والأيتام، وتأسيس المساجد والبيوت للأسقام، ونبذلها لأهل العاهة والأمراض، هو احنا مجانين ولا أرفاض؟ إن شا الله كل الأيتام ما اتربو، ولا أكلوا ولا شربوا، هو احنا كنا ربنا اللي خلقهم، وليه ربنا ما يرزقهم؟ إذا كان الرجل الطيب يوم القيامة يقول: يا رب نفسي، كتر خيري أنا اللي في الدنيا أقول نفسي وعرسي، أديني بوكل مراتي، وباقضي حاجاتي.
الجبن: (يلتفت إلى البخل معاتبا)
يَا بُخْلُ مَهْلاً وَاصِغَ لِلْقَوْلِ ٱلْمُفِيدْ
إِنَّ ٱلشَّجَاعَةَ بَيَّنَتْ سُبُلَ ٱلْهُدَى
إِنِّي اتَّحَدَتْ بِهَا وَأُبتَ لِخَالِقِي
ٱلْحَقُّ بَيَّنَهُ ٱلنَّبِيُّ مُحَمَّدٌ
مَنْ يَتَّبِعْهُ يَفُزْ بِفَضْلٍ دَائِمٍ
قَدْ جَاءَ بِالْقُرْآنِ يَهْدِي دَاعِيًا
أَقْبِلْ بِكُلِّكَ نَاهِجًا نَهْجَ ٱلْهُدَىٰ
وَٱلْحَقُّ أَبْلَجٌ فَاتَّبِعْ نَهْجَ ٱلرَّشِيدْ
فَاقْبِلْ وُقِيتَ ٱلشَّرَّ مِنْ فِعْلِ ٱلْعَنِيدْ
أَبْغِي رِضَاهُ وَأَرْتَجِي نَيْلَ ٱلْمَزِيدْ
أَقْبِلْ وَدَعْ أَعْمَالَ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ
فِي جَنَّةِ ٱلْفِردَوْسِ فِي عَيْشٍ رَغِيدْ
لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَرْشِ مَوْلاَنَا ٱلْمَجِيدْ
تُعْطَى ٱلْمَسَرَّةِ فِي مَقَامَاتِ ٱلْعَبِيدْ
(ثم يلتفت الجبن إلى الرئيس):
ألتمس من الرئيس أن يأمر الكرم بالتكلم مع البخل حتى يوضح السبيل، ويقيم الدليل.
رئيس المحكمة:
أَيُّهَا ٱلْكَرَمُ ٱلْمُفَدَّىبِالنُّفُوسْ
أَنْتَ مَحْبُوبٌ لِمَوْلاَكَ ٱلْعَلِي
مَنْ يَكُنْ مُتَمَسِّكًا بِكَ يُعْطَ مَا
أَنْتَ وَصْفُ ٱلْمُرْسَلِينَ وَحِيلَةً
بَيِّنَنْ لِلْبُخْلِ مَنْهَجَ خَيْرِهِ
أَنْتَ نُورٌ مُشْرِقٌ فَوْقَ ٱلشُّمُوسْ
بُغْيَةُ ٱلأُمَنَا وَتَاجٌ لِلرُّءُوسْ
يَرْتَجِي مِنْ سُؤْدِدٍ أَوْ مِنْ دُرُوسْ
إِنْ تَنَلْ تُمْحَ ٱلشَّدَائِدَ وَٱلْبُؤُوسْ
كَيْ يَنَالَ سَعَادَةً بَعْدَ ٱلنُّحُوسْ
الكرم:(مجيبا)
لَبَّيْكَ تَدْعُونِي إِلَى ٱلرُّشْدِ وَٱلْخَيْرِ
سَأَكْشِفُ لِلْبُخْلِ ٱلْحِجَابَ مُبَيِّنًا
عَسَى يَرْعَوِي عَنْ غَيِّهِ مُتَجَمِّلاً
مُجِيبًا لِمَا تَدْعُوا إِلَيْهِ مِنَ ٱلسَّيْرِ
لَـهُ مَنْهَجُ ٱلْخَيْرَاتِ مِنْ غَيْرِ مَا ضَيْرِ
يَعْمَلِ ٱلسَّخَا وَيَؤُوبُ عَنْ عَمَلِ ٱلْعِيرِ
(ثم يلتفت إلى البخل):
أنت يابخل تَحْسُنُفي مقامات حفظ العرض والشرف والدين، فتكون وسيلة لنيل رضاء رب العالمين، ولديها تكون فضيلة من الفضائل، وقد أثنى عليك الأوائل، ما أريد أن تفقد من الإنسان ؛ فإن البخل فضيلة في النسوان، وَيَجْمُلُمن الرجال عند المحافظة على الثمين الغالي، من عرض وشرف ودين عالي، ويقبح البخل عند ضياع العرض لكسب المال، وبذل الشرف لتحصيل النوال، وبيع الدين لحفظ النفس والعيال ؛ فإن العرض يفدىبالمال، والشرف يفدي بالسيادة ونيل الآمال، والدين يفدىبالنفس والمال والعيال، وأحمق الحمقى من وضع الشيء في غير موضعه، وأدفأ الثعبان في مضجعه.
فلم عدلت يابخل عن معارج العلياء، إلى دركات البلاء؟ وما ساد بخيل عشيرته، ولا شرف قبيلته، ولا يجتمع بخل وسيادة، وكيف يبلغ البخيل مراده؟ ومن بخل بماله، وقع في وباله، ومن بخل بصحته أن يعمل الطاعات، ألقى به بخله في هوة البليات، ومن بخل بنفسه أن ينصر الله عز وجل، حل وباله، وساءت أعماله، فلا تفرح بمال تدخره، فيدوم به العذاب ويزول فخره.
أنت يابخل سبب عقوق الوالدين وقطيعة الأرحام، وسبب هلاك النفوس بالأسقام، وسبب الحسد والشحناء، والحرب والعناء، وما شيدت السجون وطرقت الأغلال، إلا للبخلاء الأنذال؛ فالبخيل يبخل بصحته على العمل ويسرق، وبماله على الزوجة ويفسق، ويبخل على الوالدين، ويسرف على الأخدان، فأنت يابخل لا شك شيطان، ولكن وجودك مع التوسط نعمة ؛ لأنك تحفظ على المؤمن دينه فيحفظ من النقمة، فاتبعني
يابخل حتى تتحد في العمل، فتكون لي حصنا من الزلل، وتكون وسطا ونعمل بلا ملل، فإني أنا الوسط بينك وبين الإسراف، ومن ينفرد عني يقع في الإتلاف يابخل نور الحق أشرق فاهتد، ومن بالحق لا يهتدي ففي الجحيم يرتدي، وليس بعد العيان بيان، ولا بعد وضوح السبيل دليل وبرهان.
الغدر: (يقاطع على الكرم الكلام)
أنت ياكرم مفسدة الأموال، ومضيعة العيال، تذل أهل الفضل للئام بالسؤال، والسرور بك أوهام ؛ لأنه ضياع للموجود وفرح بالكلام، اجلس فالنصيحة أولى ما يباع ويوهب، فإن المغرور بالكلام يسلب وينهب، كل شيء تراه في النهار، فالفلوس أحسن منه بالاعتبار، وكل شيء تراه في الليل ؛ فالنوم أحسن منه ولو كان ذهب وخيل، واللي يفرح بكلام الناس، يبقى خربان الراس، كرم.. إيه الكرم ده؟ دا الفلوس ياشيخ أحسن من ده وده، احنا بنروح نسلب عقول الناس، بالحشيش والكاس، ونبقى لهم زي الخناس الوسواس، علشان نسلب منهم الأكياس، وكتير الساعات الغدر يزين لهم النساء العاهرات، اللي مصابين بالأفرنجي والعاهات، ويقول للمجانين دول نسوان الذوات .والواحدة من دول ضربة وشها تفتة حمراء مدارية جروح التشويش، ويترك المغفل العفيفة المصونة ويروح للخبيثة المشوشة اللي لا فيش ولا عليش، الغدر يخليه يضيع دينه وعرضه وماله ويرجع بالسيلان أو اليرقان، أو بضعف القلب أو مغص الكبد وفي البول حرقان، فاللي يقدر يضيع من الناس دينهم وعرضهم ومالهم، ويفرحهم بفقرهم وضلالهم، يبجي الكرم يقدر عليه؟
ياكرم سيبك انت من دا كله ما دام الواحد جيبه مليان، ودماغه عمران، وبيغدر بالمجانين والنسوان، ويسلب منهم الأموال بالبهتان، يروح لك يضيع ماله على الخيرات؟ والا يصرفه علشان بعد ما يموت يدخل الجنات؟
هو أنت ياكرم لو كنت تعرف الحقيقة، ما كنتش تتركني ولا دقيقة، وأنا كل ليلة بيترجاني خمسين من الوارثين، ويتملق لي في كل الساعات شر الباغيات، دانت يا كرم تبقى زي الملك الوارث دا داخل ودا طالع، والخير من المأكولات والمكيفات متواصل، وإن شئت أن يكون لك ميت مرة، ولا حدش يقولك إيه إلى جرا، تجد كل شهواتك ميسرة.
والناس المجانين دول اللي بيعذبوا أنفسهم مالك ومالهم؟ هم الوحوش اللي في الغابات، بيحرموا أنفسهم من الملذات؟ أنا شفقان عليك، الواحد يضيع الأوقات، ويحرم نفسه من الشهوات، دا يبقى زي الأموات، دا كان زمان ما حدش ينظر لغير مراته، ولا المرأة تشوف غير جوزها طول حياته، ودي الوقت من نهار ما ظهر الفساد، وكتر أهل العناد، شوف أكثر النسوان، عيانين بالسيلان، وانت بتشوفهم يطلعوا في الأسواق وجسمهم عريان.
وما هوش كفاية عليك أنهم خالفوا القرآن؟ وربنا يقول في القرآن العزيز: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ﴾(النور: من الآية30) وهم الناس اللي بيقولوا احنا مؤمنين لا حفظوا فروجهم، ولا غضوا أعينهم ، والشيطان لعب عليهم، والنسوان ماهوش أخفوا الزينات، دول كشفوا في الأسواق العورات، وأفسدوا الرجال بالملاعبات، اتبعنا يا كرم أحسن لك، واحنا نحب لك الخير لعلك.
البخل :"يصيح على الغدر مقاطعا"
الغدر تطرف في الكلام، فحقه الطعن بالسهام، وكاد يخدع الكرم، ويهتك الحرم، ويكشف الستار عن الأحرار، يدعوك الكرم إلى شمائل الأتقياء، وصفات الأولياء، ودفع الغمة ، عن أفراد الأمة والغدر يأبى إلا سلب الأموال، وضياع العيال، وهتك الحرائر، وإفساد السرائر، ويل للغدر ما أضره، ولا حبذا الغدر ما أشره يقيم الحجة على الباطل، ويحسن ما عذابه واقع ونعيمه زائل.
(ثم يلتفت إلى الرئيس)
أيها الرئيس ، إن الغدر تعيس، فارجمه بشواظ من نار، وامح بإعدامه العار، فقد أفسد الرجال والنسوان، وأوقع الكل في الخسران، وإلا فأمر العدالة أن ترده عن غيه، وتدفع عن الناس ضرر بغيه، فأنت العدل المرجو بعد الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
رئيس المحكمة: (يخاطب العدالة بما بينهما من المناسبة)
أيتها الفضيلة التي هي أم الفضائل، وبك سعادة المجتمع والأفراد في العاجل والآجل، أنت الوسط الذي أثنى الله به على أهل محبته، وجعله أس شريعته، كل فضيلة من غيرك رذيلة، وبك تظهر أنوار الحق وتستبين سبيله، إليك أوجه كلامي، وأقدم لك احترامي بعد سلامي، أبيني لنا فصل الخطاب، وقرري الرأي الصواب، فقد آن للإنسان الذي كرمه الله في القرآن، أن يعلم مقداره المعنوي بالعيان أو بالبيان، حتى يخشع قلبه لذكر الله، ويسارع لمحابه ورضاه، ويعيش مع أخيه الإنسان، في بهجة وأمان، بلا طمع فيما يزول ، ولا منازعة تحرمه الوصول، فقد جهل الإنسان قدره، واختلف عليه سيره، وجهل نشأته الأولى وأمره، فأصبح يعادي الإنسان، ويصافي الوحوش المفترسة والشيطان، فعسى أن يفيءإلى أمر الله ، لينال السعادة في عقباه
العدالة: (مجيبة الرئيس)
لَبَّيْكَ يَاعَدْلُ ٱتِّحَادًا عَلَى ٱلْعَمَلِ
مِنَ ٱللَّهِ جَلَّ جَلاَلُهُ نَرْتَجِي ٱلصَّفَا
وَمِنْهُ تَعَالَى نَسْتَمِدُّ لأَنَّهُ
وَكُلُّ فَتًى آوَى إِلَى ٱللَّهِ مُخْلِصًا
نَعَمْ أَنْتَ يَا عَدْلُ ٱلإِمَامِ ٱلَّذِي بِهِ
وَنَحْنُ نَعَمْ سِيَّانُ سِرًّا وَظَاهِرًا
لِنَبْلُغَ مَا نَرْجُوهُ بِالصِّدْقِ مِنْ أَمَلِ
فَرَبُّكَ يُعْطَي ٱلْخَيْرَ مَنْ مِنْهُ قَدْ سَأَلْ
يُجِيبُ ٱلْفَتَى ٱلْمُضْطَرَّ فِي ٱلْحَادِثِ ٱلْجَلَلْ
يَنَالُ ٱلأَمَانِي وَهْوَ عِنْدَي هُوَ ٱلْبَطَلْ
خَلاَصُ ٱلْفَتَى مِنْ ظُلْمَةٍ إِنْ هُوَىٱنْخَزَلْ
ولم يعرنا في نصرة الحق من ملل
ياعدل ، أنا العدالة فضيلة الفضائل، لا يتجمل بي الفتى إلا بعد أن يتجمل بالعفة والحكمة والشجاعة بعزم متواصل، ومن تعرى من فضيلة من تلك الثلاث المذكورة، فأنا عليه من غير شك محظورة وكيف لا؟ وبي ميزان الخيرات ؛ لأني أنال إذا توسطت القوى وصحت البدايات، وانقادت كل نفس للنفس الملكية، مسارعة إلى رضاء رب البرية، حتى يكون كل فرد يختار الإنصاف من نفسه على نفسه أولا، فالانتصاف والإنصاف من غيره ولغيره عاملا لا قائلا، لأن مراعاتي لا تتحملها إلا النفوس الزكية، والأبدان الطاهرة من دنس البهيمية، وكيف لا؟ والعدالة أن نطيع الله فيما أمر، ونرضى عنه فيما قدر، ونديم شكره على ما أنعم، ونجعل ذكره سعادة لنا ومغنم، ونزهد في الدنيا الفانية، مسارعة إلى الخيرات الباقية. اسمح لي أيها الرئيس أن أبين للغدر سوء عقباه، إن لم يتحد مع العدالة في دنياه.
(ثم تلتفت إلى الغدر):
أيها الغدر ، تعلم أن الوفاء بالعهود والأمانات ، من أكمل الصفات، به يعز المرء في الدنيا ويكرم في الأخرى ؛ أما العز في الدنيا فبما يناله الإنسان من ثقة الناس به، حتى يكون سيد قومه، فيأتمنونه على أموالهم وأعراضهم ودينهم، ويساعدونه بأنفسهم فينال حسن الثناء منهم، والغنى بهم وعنهم، أما الكرامة في الآخرة، فمن الله تعالى بشمائله الفاخرة.
ياغدر.. اعلم أن ما قدره الله أزلا ، كائن فعلا، وكم من غادر حرم قوته، لما قبحت نعوته، مع الحيلة والدهاء، والشيطنة والعناء، وكم من وفيِّعاجز نال مناه، بوفائه ورضاه، ومن نال ما قدره لـه الله بعمل شر أو خبث أراده، ولا ينال إلا ما سبق لـه في الأزل، مهما احتال في العمل.
انظر يا غدر إلى الوفي كيف تقبل يداه، ويعظم عند من يلقاه، وانظر إلى الغادر تراه مبغوضا عند الناس، حليف الإفلاس، وإن جلس الناس خافوا من غدره، لعلمهم بحقيقة أمره. الغادر يخون الأمانات، ويسيء المعاملات، ويفسد الأعراض، ويضيع عمره عن الله في إعراض، فيعيش في الدنيا في خزي وهوان، والله عليه غضبان، وهو من الناس في حرمان، فإذا مات ألقيفي النيران.
ما الذي يناله الغادر بغدره بعد بيع الدين والشرف؟ وضياع الجاه والمنزلة بسوء الحلف؟ يبيع الغادر الجوهر بالتراب، فيغضب الله ويحرم الثواب، ماذا ينال بغدره؟ ينال مالا ينفعه ، أو عمل شر لا يرفعه، أو هتك عرض أؤتمن عليه فيضيعه، الغادر عدو نفسه. لأنه يؤذيها، ومبغض لصحته لأنه بسوء عمله يبليها، ولو تصور الغادر قبح أعماله، التي بها خيبة آماله، لتمنى- في الدنيا- أن يكون ترابا، قبل أن يذوق عذابا. وهل لو أساء الغادر إلى غيره، هل هذا العمل يسره؟! فكيف يكره الشر من غيره، ويصر عليه في جميع سيره؟! ياغدر بالوفاء تنال السعادتين، وتفوز بالحسنيين، فاتحد معي أدلك على ما به نيل أملك، إن طلبت منك نفسك ما حرم الله يجب غدرها حتى تفيءإلى أمر الله، وإن عاهدتك على فعل شر، فاغدر بها وفر، وإن واثقت على فحشاء وجناية، فاغدر بها واكبح عنها عنانه، وهنا يَحْسُنُالغدر والله ولي المؤمنين، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فقل يا غدر: يارب أخطأت... فارحمني .. وبفضلك فاعف عني، فإن المعترف بالخطيئة مغفور لـه، ويعطيه الله منه ما أمله.
الحس: (يقطع على العدالة الكلام)
إليك عنا .. أتخدعين الغدر بزخرف قولك، وتضرينه بفعلك؟ وهو الفارس في ميدان الخداع، وأحرق من النار في سلب المتاع، أتريدين يا عدالة المساواة في المنفعة، وهي للشهوات والملاذ مضيعة؟ وهل علمت مقدار من يكلمك؟
أَنَا ٱلْحِسُّ مَعْبُودٌ لِكُلِّ جَهُولِ
وَمِنْ جَنَّةِ ٱلْفِرْدَوْسِ أَخْرَجْتُ آدَمًا
وَفِرْعَوْنُ قَدْ أَغْوَيْتَهُ متَكَبِّرًا
وَنَمْرُوذُ قَدْ أَضْلَلْتَهُ وَلَمْ أَرْعَوِي
وَهَامَانَ قَدْ شَادَ ٱلْمَبَانِي مُحَارِبًا
أَنَا ٱلْحِسُّ مَعْبُودٌ بِزَوْرٍ وَبَاطِلٍ
أُضَلِّلُ بِالْبُهْتَانِ وَٱلزُّورِ وَٱلْهَوَى
أَنَا ٱلْحِسُّ أَخْفَى ٱلْحَقَّ بِالْبَاطِلِ ٱلَّذِي
وَأَنْتَ ٱلْعَدَالَةُ لاَ تَمِيلِينَ لِي وَلاَ
وَمَنْ يَتَّبِعْ جَهْلِي يَعِيشُ مُمَتَّعًا
وَإِبْلِيسُ مِنْ جُنْدِي إِمَامُ سَبِيلِي
عَصَى رَبَّهُ طَوْعًا بِغَيْرِ دَلِيلِ عَلَى ٱللَّهِ حَتَّى ذَمَّ فِي ٱلتَّنْزِيلِ
فَكَيْفَ أَخَافُ ٱلْغَدْرُ فِي تَضْلِيلِي
لِمَوْلاَهُ بِالْبُهْتَانِ وَٱلتَّعْلِيلِ
وَأَكْسِفُ شَمْسَ ٱلْعِلْمِ نُورَ عُقُولِ
وَأَفْسِدُ أَهْلَ ٱلْعِلْمِ بِالتَّأْوِيلِ
تَمِيلُ إِلَيْهِ ٱلنَّفْسُ بِالتَّحْوِيلِ
تَرَيْنَ سَبِيلِي مَنْهَجُ ٱلتَّحْصِيلِ
بِسَلْبٍ وَفُحْشٍ فِي لَظَى ٱلتَّضْلِيلِ
أنا الحس لولاي ما سفكت دماء الأبرياء، ولا كشف الستر عن المصونة العصماء، ولا تلذذ أهل الجهالة في تلك الدار الفانية، تلذذ البهائم السائمة، بل ولا عبدت شمس ولا قمر، ولا تمثال صنع من حجر.
أنا الحس حجبت عن الآيات الجلية، أهل النفوس الدنية، يقول الله تعالى : ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ.وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾(الذريات20-21) وأنا أريالرجال جمال النساء، فأفتنهم بهن عن شكر الآلاء، وأريالنساء قوة الرجال، فيفتضحن في نيل الوصال، ويغفل الجميع عن المنعم المتعال، فإذا كنت أخفيآيات الله وبيناته، وأبعد المفتونين عن نيل مرضاته، كيف تخدعني العدالة، بعد أن أبعدت الناس عن ذي العزة والجلالة؟ يأمر الله فيخالفون أمره، وآمرهم فيطيعونني جاهلين قدره، أفسدت العقول، وأضللت الفحول، الحسد والعداوة والشحناء، بعض ما أوقع فيه من البلاء. ولولا ما بيني وبينك من الصلة، لجعلت لك الحضيض منزلة، فاذهبي بسلام، واتركي الملام.
الغدر (يصيح على الحس صارخا)
رويدك ، فقد خرجت عن النمط الأوسط في جدالك، واتق الله ولا تتطرف في أقوالك.
يَاحِسُّ كُنْتَ بِدَارِ ٱلْخُلْدِ مَسْرُورَا
أَغْوَاكَ إِبْلِيسُ حَتَّى ِصْرَت مُنْتَبَذًا
أَهْبَطْتَ لِلأَرْضِ فِي كَدٍّ وَفِي تَعَبٍ
يَا حِسُّ كُنْتَ بِدَارِ ٱلْخُلْدِ فِي نَعَمٍ
يَا حِسُّ قُمْ فَارْعَوِي عَنْ كُلِّ لاَئِمَةً
إِنْ لَمْ تُبَادِرْ إِلَى مَوْلاَكِ مُلْتَجِئًا
هَلاَّ أَرْعَوَيْتَ وَفِي ٱلأَيَّامِ مَرْودَةْ
يَا حِسُّ دُنْيَاكَ ذِي دَارٍ مُنَغَّصَةٍ
خَيْرُ ٱلنَّبِيِّينَ بَشَّرَنَا وَأَنْذَرَنَا
يَا حِسُّ أَقْبِلْ عَلَى مَوْلاَكَ مُلْتَمِسًا
يُولِيكَ مَوْلاَك عَطْفًا مِنْ حَنَانَتِهِ
هَذِي نَصِيحَةُ ذِي صِدْقٍ وَذِي ثِقَةٍ
تُشَاهِدُ ٱلْجَنَّةَ ٱلْعَلْيَاءِ وَٱلْحُورَا
أَخْرَجْتَ آدَمَ مَذْمُومًا وَمَدْحُورَا
رَاضٍ بِبُعْدِكَ مَرْذُولاً وَمَغْرُورًا
يَبْدُو لَكَ ٱلْحُسْنُ تَنْزِيهًا وَتَصْوِيرَا
أَسْرِعْ إِلَى ٱلتَّوْبِ يُقْبِلُ مِنْكَ تَعْذِيرَا
يَا حِسُّ تَدْخُلُ نَارَ ٱلْبُعْدِ مَسْعُورَا
مِنْ قَبْلِ يَوْمٍ حَيْثَ تَكُونُ مَقْهُورًا
فَانْهَضْ إِلَى ٱللَّهِ تَضْحَى ثُمَّ مَأْجُورَا
فِي مُحْكَمِ ٱلذِّكْرِ فَاقْرَأْ دُمْتَ مَنْصُورَا
تَشْهَدْ غَفُورًا فَكُنْ بِالشَّرْعِ مَأْمُورَا
تَحْيَا سَعِيدًا بِدَارِ ٱلْخَلْدِ مَحْبُورَاِ
أولاكها ويرى الإحسان موفورا
(ْثم يلتفت إلى العدل)
مولاي نجح الله آمالك، وقرن بالقبول أعمالك، تلطف بتلك القوى المتباينة، ولا يستفزنك يا مولاي سوء المعاملة، فأنت حريص على الخير في المعاينة، وتفضل فكلف النور يبين للحس شروره، ويوضح لـه غروره، ويرده إلى النمط الأوسط، ليسلك على النهج القويم فقد أخلط، وأعلم يا مولاي أن صبرك على شرور أعمالهم، ينتج تحسين حالهم ، وقد قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾(البقرة: من الآية153)
رئيس المحكمة: (للنور منشدا)
يَانُورُ بَيِّنْ لَنَا ٱلْمِنْهَاجَ وَاضِحَةً
فَالْحِسُّ فِي غَمْرَةٍ لاَهٍ وَفِي شَرَهٍ
يَانُورُ أَنْتَ ضِيَاءُ ٱلسَّالِكِينَ لَهُمْ
أَظْهِرْ أَيَا نُورُ مِنْهَاجَ ٱلْحَبِيبِ لَنَا
لِلْحِسِّ وَامْنَحْهُ إِحْسَانًا وَعَاطِفَةً
لاَ يَرْعَوِي بَيْنَ ٱلْمِنْهَاجَ ظَاهِرَةً
أَبْدَيْتَ نَهْجَ ٱلْهُدَى بِالْحَقِّ سَاطِعَةً
كَيْ تَهْتَدِي أَنْفُسٌ تَضْحَي مُشَاهَدَةً
النور: (لرئيس المحكمة منشدا)
يَاعَدْلٌُ أَبْشِرْ فَظُلُمَاتُ ٱلْهَوَى مُحِيَتْ
لاَحَ ٱلضِّيَا نَبِّهِ ٱلأَفْكَارَ أَيْقَظَهَا
كُلُّ ٱلنُّفُوسِ ارْعَوَتْ عَنْ غَيِّهَا وَغَدَتْ
ٱلْحَقُّ أَبْلَجٌ لاَ يَخْفَى وَإِنْ حَجَبَتْ
وَٱلْحِسُّ يَعْلَمُ أَنَّ ٱلْغَيَّ آخِرُهُ
أَمْهِلْهُ يَا عَدْلُ حَتَّى تَسْتَبِينَ لَـُه
وَٱلنُّورُ أَشْرَقَ مِنْهُ ٱلآيَ قَدْ سَطَعَتْ
وَٱلآيُ آيُ ٱلصَّفَا لِلْقَوْمِ قَدْ وَضُحَتْ
تَسْعَى إِلَى ٱلْحَقِّ بِالإِقْبَالِ وَٱتَّحَدَتْ
أَنْوَارُهُ ظُلُمَاتِ ٱلْحَظِّ أَوْ سَتَرَتْ
نَارٌ لَقَدْ سُعِّرَتْ بِالْعَدْلِ وَٱتَّقَدَتْ
آيُ ٱلْقُرَآنِ فَآيُ ٱلذِّكْرِ قَدْ شَرَحَتْ
(ثم يلتفت إلى الحس قائلا):
أي أخي.. كنت تستضيء في الفردوس بنور الجمال الرباني، سابحا في الملكوت ومشاهدا ما به الأنس بالعطف الرحماني، فلا ترى عيناك إلا حقا جليا، أو جمالا باقيا عليا، ولا تسمع أذناك إلا سجل المسبحين من ملائكة السماء، أو ترتيل الروحانيين بالحمد والثناء، في بهجة وإيناس، لا وصب فيها ولا إلباس.
ياحس.. مالك نسيت تلك المسرات؟ وتسليت بالشرور عن الخيرات، وتستبدل الاستضاءة بنور الله، في ملكوته الأعلى متنعما برضاه، بالاستضاءه بنور شمس السماء، حيث الكد والعناء، تأنس بالفاني، وتبتهج بالأماني، وتلتفت عن ذي الجلال والإكرام، إلى عبادة شهوتك والذل للئام.
ياحس.. تذكر من بيديه صنعك، وإلى رياض الفردوس رفعك، وبخطيئة إلى الأرض وضعك، أخرجت ياحس من الجنة بخطيئة فكيف تطمع فيها مع كثرة الخطايا؟! هل نسيتها أم تناسيتها؟ هلا تذكرتها فذكرتها، كيف ترضى بالدنيء، وتسارع إلى الوبيء، وترى ملء البطن وستر الجسم ووطء النساء، هو السعادة والهناء.
جهلت يا حس وما كان لك أن تجهل، وكيف لا؟ ولابد لك عن تلك الدار أن ترحل، إلى دار الإقامة فنزل الكرامة، أو في محل الندامة. أعط يا حس لكل وطن حقه، فقد رأيت في الدنيا من الفناء برقة، وليست السعادة ملء البطن وتجميل الجسم والأنس بالنساء، هذه سعادة الوحوش الراتعة في الخلاء، أما سعادتك يا حس فهي روحانية، ومسراتك وبهجتك ملكوتية، فحصل الزاد بالمجاهدة، حتى تفوز بعد الآية بالمشاهدة.
يا حس.. تذكر نشأتك الأولى، يوم تجلىلك مولاك، وبقوله سبحانه وتعالى: (ألست بربكم)([4]) أكرمك وناجاك واستضيء بنور الشمس في سيرك وحركاتك الجسمانية، واستضيء بنور عقلك الذي يعقل عن ربك في سيرك إلى إقامتك السرمدية، وتذكر قول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً﴾ (لأنفال: من الآية2) وقوله سبحانه:﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ.الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ﴾(الزمر: من الآية17-18).
يا حس .. اعلم أن الله غني عنك، ولكنه رءوف رحيم بك، بين لنا سبحانه وتعالى سبل الهدى لأنه كريم حليم، فاتق الله وسارع إلى مغفرة من ربك وجنة عرضها السموات والأرض، وارحم بقية القوى المتحدة معك من شرور أعمالك، ومن فساد آمالك.
ولي نصيحة لك منفردا أبديها ؛ لأني عن المجتمع الآن أخفيها، أذكرك بنشأتك الأولى والآخرة، حتى تعلم منزلتك في مراتب الوجود بصريح الآية الظاهرة، لأنك متى علمت من أنت مقدارا، أعلنت التوبة جهارا، وندمت على ما واجهت به مولاك، الذي أمدك بالإيجاد وبإحسانه والاك، وأعد لك- إن أنت أقبلت بإخلاص عليه_ ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر لديه.
يا حس.. غذاؤك المسرات، وكمالها أن تكون باقية بلا آفات، نيلها بالإقبال في تلك الدار على عمل الباقيات الصالحات، فإن هذه الدار فان نعيمها، في عناء سليمها، وفي شقاء سقيمها، وفي كد غنيها، وفي كرب فقيرها، ولا يصفو عيشها لذي مال، ولا يصفو صفوها من شوب الوبال، وردت إليها عريانا خارج من ضيق، وتخر ج منها عريانا بلا زاد ولا رفيق، يعكر صفاءها الموت، ويكدر هناءها الزوال والفوت، فأين المسرة التي تنشدها فيها؟ إذا تذكر الحس أنه منقول إلى دار يحاسب فيها؟
يا حس.. أذكرك فاذكر، وأنبهك إلى نعم مولاك فاشكر لا تكفر، وأيقظ قلبك إلى ما أعده الله لك من الملك الكبير فسارع ولا تنفر. يا حس.. إن النصوح يطاع ويجب لـه الاتباع، خصوصا إذا دلك على الحق، وبين لك الطريق بالصدق، والمحجة أنوارها ساطعة، والحجة أضواؤها لامعة، فأسلم وجهك لله وحده، وكن بالإخلاص عبده، يمنحك فضله ورفده.
(يظهر استحسان عام ثم ينطلق الجميع مترنمين بتلك الأناشيد)
بُشْرَى لَنَا زَالَ ٱلْجَفَا
زَالَ ٱلْخِلاَفُ وَأَشْرَقَتْ
قَدْ ذُلَّ إِبْلِيسٌ وَلاَحَ لَنَا ٱلْهُدَى
نُورُ ٱلْوُجُودِ مُحَمَّدُ ٱلْهَادِي ٱلَّذِي
عُدْنَا إِلَى نَهْجِ ٱلْحَبِيبِ مُحَمَّدٍ
أَنْ يُبْدِلَ ٱلتَّفْرِيقَ بِالْجَمْعِ ٱلَّذِي
بُشْرَى لَقَدْ فَرِحَ ٱلْحَبِيبَ مُحَمَّدٌ
دَارَ ٱلشَّرَابِ شَرابُ حُبِّ مُحَمَّدٍ
ٱلْحَمْدُ لِلَّـهِ عَلَى نَيْلِ ٱلْهُدَىٰ
حُلَّ ٱلْهَنَا وَافَى ٱلصَّفَا
شَمْسُ ٱتِّحَادِ ٱلاصْطِفَا
حَيْثُ ٱلنُّفُوسُ تَشَفَّعَتْ بِالْمُصْطَفَى
مَنْ يَتَّبِعْهُ يَكُنْ مُرَادًا مُنْصِفَا
بِالصِّدْقِ وَٱلإِخْلاَصِ نَرْجُو مَنْ عَفَا
يَحْلُو بِهِ ٱلإِقْبَالُ فِي نُزُلِ ٱلصَّفَا
بِالاتِّحَادِ وَقَدْ شَرِبْنَا قَرْقَفَا
أَحْيَا ٱلنُّفُوسَ تَنَالُ مِنْهُ ٱلشَّرَفَا
وَٱلشُّكْرُ لِلَّهِ لِنَيْلِ ٱلاصْطِفَا
رئيس المحكمة:
إن ما يجب علينا من الشكر لله تعالى على عظيم نعمته، وجميل منته، مالا نستطيع أن نقوم به إلا بمعونة منه سبحانه وتعالى إذ لا حول ولا قوة إلا بالله، وإني أشعر من نفسي، أن الأفراح ستعم كل الوجود في النظام الشمسي، من ملك الله وملكوته، وعوالم قدسه، وجبروته، فلله الحمد والمنة، حيث ألف بين النفوس وأحيا السنة، وجمعنا على القيام لـه سبحانه وتعالى بالوفاء ، ومنحنا سبحانه وتعالى بفضله الصفاء، وإني ألتمس من أعضاء محكمة الصلح العالية، وأخص منهم قاضي الحنانة الوافية، وهو سيادة الرحمة، أن يبين للنفوس فضل المنعم الوهاب، العطوف الرحيم التواب، ووسعة رحمته سبحانه وتعالى، وقدر حبه لحبيبه ومصطفاه محمد
﴿ rوآله﴾.
(يظهر إبليس وهو شبح عليه اللعنة ظاهرة، والشقاوة متبادرة ويخاطب العدل)
إبليس: (يقاطع الرئيس)
يا عدل ، إن سبب تلك النعمة إبليس، ولكن الإنسان كفور تعيس، لولاه لما فاز الإنسان بالتوبة والغفران، ولا حظي بمحبة الله والإحسان، فاشكروا إبليس الذي بسببه نيل الرضوان، أتعب- في إخراج آدم من الجنة- إبليس نفسه، فأكرم الله آدم بالتوبة ورد إبليس بالتعسة، وأفسد النفوس فأغواها، فلعنه الله وهداها، فلإبليس التعسة والهوان، واللعنة والخذلان، ولمن اتبع سبل الهدى الجنة والرضوان، بعد التوبة والغفران.
"النفوس كلها في نفس واحد تقطع على إبليس الكلام قائلة"
النفوس (للرئيس):
لا تصغ لقول إبليس ؛ فإنه لعين تعيس، أخبرنا الله تعالى أنه أعدى عدونا، فكيف نتخذه كولينا، كفرنا بإبليس الطاغوت، وآمنا برب العالمين رب العزة والجبروت.
(ثم يرفعون النعال ويصفعونه بها على القفا حتى خرج واختفى تنشد النفوس):
قَدْ وَضَّحَالْقُرْآنَ مِنْهَاجَ الْهُدَى
حَاشَا نَمِيلُ إِلَى اْلَغَواَيِة بَعْدَ أَنْ
إِبْلِيسُ يَدْعُونَا إِلَى اْلكُفْرِ الَّذِي
تُبْنَا إِلَى الرَّبِّ الْغَفُورِ لِعَلَّنَا
نَفْسِي لِمَنْ يَدْعُو لِمَوْلاَيَ الْفِدَا
لاَحَ الضِّيَا فَمَحَا الضَّلاَلَةَ وَالرَّدَى
يُلءقِى بَنِيهِ فِي جَهَنَّمَ سَرْمَدَا
نَحْظَى بِفَضْلِ اللَّهِ نَحْيَا سَعْدَا
الرحمة (تخاطب النفوس بعد هدوئها وإنصاتها)
إن رحمة الله وسعت كل شيء، فأقبلي أيتها النفوس بكليتك على الله؛ فإن الله سبحانه وتعالى يحب التوابين، ويحب جل جلاله المتطهرين، فأبشركم بمحبة الله، إذا أخلصتم في التوبة ونيل رضاه، وهلم أيتها النفوس فقولي معي:
﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾(الأعراف: من الآية23) ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾(الحشر: من الآية10). أحسنت إلينا وأسأنا إلى أنفسنا.
وتدبري أيتها النفوس قول ذي الجلال والإكرام جل علاه: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ﴾(الزمر53-54).
أيتها النفوس .. إن الله تعالى افتتح إيجادكم برحمته، وأمدكم بسوابغ منته، وهو الغني في ذاته، وأسمائه وصفاته، الظاهر للنفوس والعقول بآلائه وآياته، لا تضره سبحانه وتعالى المعاصي وإن عظمت، فهو يغفر كبائر السيئات لمن شاء فضلا منه وكرما، ويبدلها حسنات إحسانا منه وحلما، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون. فأقبلي أيتها النفوس متيقنة من الله بالقبول، وأنيبي إلى الله بالإخلاص تسعدي بالوصول، فإن أحدا لا يمكنه أن يضر الله ولو ملأ السموات والأرض ذنوبا، ولا يمكن أحد أن ينفع الله ولو ملأ السموات والأرض إحسانا وتقريبا ؛ لأنه سبحانه وتعالى هو الضار النافع، وهو جل جلاله الخافض الرافع.
لقد كنت أيتها النفوس عدما فأنشأك النشأة الأولى بحنانه، وسيعيدك إلى النشأة الأخرى بصريح قرآنه، وقد تبينت لكم المحجة، ووضحت لكم الحجة، فاسلكي أيتها النفوس سبيل الله القويم، وانهجي على صراطه المستقيم.
(النفوس في نشوة وإنصات ثم تسمع همسات الاستحسان والتسليم ، وينزل العدل من على كرسيه إلى مستوى العامة وسط القاعة وينادي بأعلى صوته)
رئيس المحكمة : (يرفع يديه صائحا ببهجة)
قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾(الحجرات: من الآية13). وقال ﴿ rوآله﴾: "المسلمون متكافئون يسعى بذمتهم أدناهم على أعلاهم وهم يد على من سواهم" وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب t: (الناس ولدتهم أمهاتهم أحرارا)وإنا والحمد لله قد ظهر الحق لذي عينين، ومحا الله البين من البين، وأصبحنا كما قال ﴿ rوآله﴾: "مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعىلـه سائر الجسد بالسهر والحمى).
ومعنى ذلك أن كل فرد من أفراد المسلمين ككل عضو من أعضاء الجسد، وأن المجتمع الإسلامي لكل فرد كالجسد لكل عضو.
ولقد أدركنا كلنا مقدار البلايا التي أصابت المجتمع والأفراد، بسبب التفرقة والانفراد، وكيف لا تدرك تلك الآلام، وقد أوهنت الشحم والعظام، أين هذا المجد السابق والعز الذي لا يضام؟ وأين هذا العفاف والصون والملك الذي لا يسام؟
أذهبته التفرقة حتى صارت النقائص كمالات، والرذائل مستحسنات، وصار العامل بتقوى الله مهانا، والدال على الخير مدانا، والمتشبه بالبهائم السائمة نابها مهابا، والفاحش الفاجر عند الناس محترما مثابا .عجبا!!.. عجبا!!.
كيف يرضى المؤهل لمقعد صدق عند مليك مقتدر ، أن يهويفي الدرك الأسفل من الشر المستعر، والدنيا قد آذنته بزوالها، وأعلنته بمن في القبور برحيلها، وكم من قصور خاوية، رحل أهلها إلى القبور مفارقين الدار الفانية، فلا لوم على الدنيا وقد أعلنت بمصيرها، ولا لوم على الشيطان بعد أن بين الله سبحانه عداوته للنفوس فما هي معاذيرها؟
فسارعي أيتها النفوس، لمحاب الملك القدوس، وراقبي أيتها القلوب، عظمة علام الغيوب، وتدبري قول رسول الله ﴿ rوآله﴾: " كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا : ومن أبى يا رسول الله؟ قال : من أطاعني فقد دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى".
النفوس: (تهتف بصوت واحد)
لقد سمعنا وأطعنا، فبين لنا الصراط المستقيم، فإنا بالله قد اعتصمنا ، وعليه سبحانه توكلنا.
رئيس المحكمة: (يعود إلى كرسيه)
الحمد لله الذي شرح للاستقامة صدورنا، وإني أطلب من الهدى والتوفيق أن يبينا للنفوس مناهج الخير، ويوضحا لها سبل السير.
الهدى: (للنفوس)
أيتها النفوس ، إني أهنئكم بفضل الله وبرحمته، وإحسانه ومحبته، اعلموا أن نجاة غير المسلم في الدنيا بالنطق بالشهادتين، والمسارعة للقيام بأركان الإسلام بلا مين، ونجاته في الآخرة إخلاص دينه لله رب العالمين، حتى يكون من المؤمنين ، ونجاة المؤمنين لا تكون محققة إلا بالتوبة، وأساس التوبة محبة الله تعالى حتى تصح إليه سبحانه وتعالى الإنابة، وتصح لـه برسول الله ﴿ rوآله﴾المعية، ومن تاب طامعا في الجنة أو خائفا من النار، فهو أجير سوء لا عبد للمنعم الغفار، وإنما تقبل التوبة من عبد عظم الله وحقر ما سواه، وأقبل بكليته عليه يبتغي فضله ورضاه ؛ لأن الله تعالى وهب لنا النعم التي لا تحصى، والآلاء التي لا تستقصى، فضلا منه وكرما، فهو العلي العظيم المتفضل ونحن العبيد الأذلاء، المضطرون إلى الله تعالى في كل نفس، فكيف نعبده لعلة وغرض، أو نخافه وقاية من العقوبة أو دفعا للمرض؟!!.
فهلم بنا نتوب إلى الله توبة نصوحا، حبا لله سبحانه وتعالى حتى يكون إخلاصنا صحيحا، فكل عبد تاب إلى الله سبحانه عند الشدة، أعطاه ما يريده وعن حضرته رده. وكل عبد تاب إلى الله تعالى ليفوز بالجنة، يقول الله لـه : يا عبدي عظمت الجنة، ونسيت ذا الإحسان والمنة.
وكمال التوبة- أيتها النفوس- أن تستبدلي الضحك في الغفلة بالبكاء، والشبع في المعصية بالجوع والعناء، واللذة في المخالفة بالألم لنيل الصفاء، وتستبدلي ترك ما أمر الله جل جلاله به بالمسارعة إلى طاعته سبحانه وتعالى. ومن تاب لبلية أصابته، أو مصيبة إلى الله تعالى اضطرته، فهو فرعون زمانه، وهامان أوانه، يقول الله تعالى:﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾(فاطر:15) فعجبا لفقير مضطر إلى الله، يواجه بما يكرهه ربه ولا يرضاه، والعلي الكبير المتعال، يفيض نعمته وإحسانه من غير سؤال، فسبحانه من صبور حليم، وبئس العبد عبدا يعصى قويا قادرا بظاهره وخفيه عليم، ينسىالموت والبلاء، ويختفي ويعصيالله ويظن أنه في خلاء والله تعالى يقول: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ﴾(الحديد: من الآية4).
فأسرعي أيتها النفس بالتوبة إلى الله، وخافي يوم لقاه، فإن الموت لا ندري متى يحل والسفر طويل، والزاد قليل، وكم إنسان خاط ثوبه فكفن فيه، وجمع ماله فقيل لـه: انتقل إلى القبر لتلقى جزاءك فيه، وكم نال المناصب العلية، فأدركته المنية، فتوكلي أيتها النفوس على من أنشأك من ماء مهين، وأقبلي بالكلية على رب العالمين، واعلميأن تحت كل قدم أجسام ملوك وعلماء، وعظام شجعان وكبراء، طحنهم الموت فلم يبق لهم آثارا، فنكحت بعدهم نساؤهم وعمر غيرهم الديار، وصاروا رهن الثرى إما إلى روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار، تعبوا في جمع الأموال فعذبوا عليها، وتمتع بها غيرهم، وسهروا في جلب الدنيا ففارقوها نادمين عليها. وانتفع بها غيرهم. لا سعادة للعبد إلا بالعمل الصالح المقبول، ولا خير يناله إلا بعد المجاهدة للوصول، قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً .وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً﴾(الطلاق2-3) .
(تجهش النفوس بالبكاء الخفيف وتصيح):
النفوس : (سائلة)
بين لنا ما هي محبة الله؟
الهدى (مجيبا):
إن الإنسان لا يحب الله إلا إذ عرف نفسه، وفهم منزلته من مراتب الوجود، حتى يعلم أنه من عدم أنشأه، وأوجد لـه ما في السموات وما في الأرض فضلا منه قبل أن يبتدئه، وعلى أحسن التقويم صوره، ولمواجهته العلية في مقعد صدق خلقه وقدره، وجعل لـه عقلا يعقل عنه سبحانه آياته وفكرا يسبح في ملكوته الأعلى فيقتبس النور من مشكاته، ولسانا ناطقا بالحكمة ، وقلبا مشرقا بالفطنة ، حمله الأمانة بعد أن أبتها السموات والأرض والجبال، وأقامه خليفة عنه في الأرض وبين لـه الحرام والحلال.
وإذا علم الإنسان تلك الأسرار، تناول رحيق لا حول ولا قوة إلا بالله، ففر إلى الله من نفسه وحظه وهواه، ولديها يحب من تفضل عليه سبحانه وببره وإحسانه والاه، فيلحظ بجوهر نفسه الطاهر، القريب الظاهر القادر، ويلحظ بسره العامر بالأنوار، عظمة الكبير القهار، ويحب من عليه بهذا الخير العظيم تفضل، ويبذل النفس والنفائس لكي بها إلى الله يتوصل، حبا في نيل فضله ورضاه، والفوز بشهود وجهه العلي يوم لقاه، وهذه محبة السالكين، الذين ذاقوا حلاوة علم اليقين، قال رسول الله ﴿ rوآله﴾(أحبوا الله لما يعذوكم به من النعم، وأحبوني لحب الله ، وأحبوا آل بيتي لحبي)وقال ﴿ rوآله﴾: "تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في ذات الله" فإذا حصلت تلك المحبة، سارع الإنسان إلى نيل القربة، فحافظ على أركان الإسلام، حبا في ذي الجلال والإكرام، ولديها يبحث عن العالم العامل، المرشد الكامل، ليتلقى عنه عمله موقنا، ويعمل بعمله محسنا، حتى يفوز بقسط من محبة الله تعالى لـه، فإذا أحبه الله قبل علمه وعمله، فصار عاملا من عمال الله، دالا على الله بالله، كما قال الله تعالى: ﴿فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً﴾(النساء: من الآية69).
وبعد هذا المقام محبة المقربين حقيقتها غامضة لا ترسم، وهي من علوم الروح لغير أهلها لا تعلم، وإنما تتلقى من أهلها بالإشارة ؛ لأنها لا تحد بالعبارة، قال الله تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾(المجادلة: من الآية11) وقال ﴿ rوآله﴾: "إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا العلماء بالله فإذا ذكروه أنكره أهل الغرة بالله".
ومن أحب الله سارع إلى مابه التقريب، وبذل النفس والنفائس فيما يحبه الحبيب، وقد بين ما يحبه سبحانه في كتابه، وشرح إليه صدور أحبابه، وأقوى برهان على المحبة، صرف الأنفاس في القيام بما فرض الله وسَنَّهُرسول الله ﴿ rوآله﴾لنيل القربة، ومن أهمل في السنة والفرض، وادعى المحبة هلك يوم العرض، وكيف يعصي المسلم أمر الله، ويطمع يوم القيامة في النجاة؟!
والعاصي عدو ربه، حتى يتوب من ذنبه، وليست محبته إلا دعوى يدعيها أهل الضلالة ؛ لأن المحبة نار تستعر في القلوب تجذبها إلى ذي الجلال ، وهي سر بين الله وبين عبده، لا يبيح بها إلا من تعرض لرده، ومن أباح بمحبة الله لعباده، لا يفوز بمراده.
المحبة نار لكن ما ألذها للنفوس الزكية، وآلام ولكن ما ألطفها على من منحوا العطية، عناء الحبيب راحة، وعذابه في الحبيب بهجة ينال بها أفراحه، يجوع فيطعمه على بساط مؤانسته، ويسهر فيؤنسه على موائد كرامته.
نام البطالون، وقام المحبون، وشبعت بطون أهل الهوى، وجاعت قلوبهم من التقوى وجاعت بطون أهل المحبة، واطمأنت قلوبهم بعواطف المتفضل عليهم بالمنة. ارتاحت أبدان أهل الجهالة على الفراش الوطيءمن الحرير، وسبحت أرواح أهل المحبة مشتاقة إلى من ليس لـه نظير، تراهم بين الناس جلوسا، وأرواحهم شربت بيد الحبيب من طهور الشراب كؤوسا، أطاعوا الله فملكهم نفوسهم، فسألوه فوهب لهم أنسه، ففروا من كل شيء إليه، وأقبلوا به عليه، فهم المحبون المحبوبون، الحاضرون مع الناس بأجسامهم وهم بقلوبهم عنهم غائبون، رضي الله عنهم ورضوا عنه.
(تطرق الرؤوس في ذلة وخشوع ، ويسود صمت تام... فيطرق رئيس المحكمة عدة طرقات)
رئيس المحكمة:
ترفع الجلسة للمداولة والحكم.
(ينسحب الرئيس وأعضاء المحكمة من باب جانبي تاركين قاعة الجلسة بينما تسدل الستار ببطء)
(تسدل الستار)
الفصل الثالث
الجلسة الثالثة
المنظر الثاني
النطق بالحكم
(نفس المنظر السابق، ينفرج الستار وقد جلس العدل على منصة الحكم في الوسط ، وخلفه لوحة كبيرة للآية ﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ﴾وعلى يمينه القسط والهدى وعلى يساره العلم والتوفيق، ويجلس أمام العدل في القاعة التي ترتب فيها الكراسي على هيئة صفين بشكل سهم ، ويجلس العقل نائبا عن النفس الملكية، وعلى يمينه الفكر والعدالة والنور والكرم، وعلى يساره الشجاعة والروية والعفة والرحمة ، وفي الصف الثاني يجلس وراء العقل النفس السبعية ، وعلى يمينها النفس البهيمية والتهور والحس، وعلى يسارها الشهوة والجبن والبخل والقسوة)
رئيس المحكمة:
باسم الحكم العدل افتتحت المحكمة، أفتتح أهل الصفا بعد الوفا بتحية الإسلام قائلا: السلام عليكم ، ثم يبتديءفيقرأ قوله تعالى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ.الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾(الزمر: من الآية17-18) صدق الله العظيم. وإنني أبشركم عن رسول الله ﴿ rوآله﴾الذي يبشرنا من الله عز وجل بصريح الآية، ولله الحمد والمنة والثناء الحسن الجميل، وله سبحانه وتعالى الشكر على ما تفضل وهو حسبنا ونعم الوكيل.
المنظر الثاني
الحكم في قضية الصلح الكبرى
بما أن أصول الاختلاف ، الذي أدى إلى الإتلاف، هو تباين قوى النفوس والمفارقة في القصود ؛ لأن لكل نفس حقيقة تغاير كل نفس أخرى، ولكل نفس قصد هو بها أحرى، وللنفوس عناصر متضادة، لا يمكن اتحادها لأن كل نفس عن خير الأخرى صادة، وقد جمعها الله سبحانه وتعالى جميعها وقهرها على الاتحاد، وكلفها بالتوسط والسداد، وبالمجاهدة الكبرى تنال المراد، وحيث أن كل نفس تسارع إلى ما يلائمها في العاجل، متيقنة أنها بذلك تنال الخير المتواصل، وحيث أن الملائم محبوب مرغوب فيه، وهذا الملائم محسوس للنفوس والحظ لها يبديه.
وحيث أن الخيرات المعنوية، فضائل عن الحس خفية، لأنها لذة للعقول والأرواح الزكية، وعناء للحس والنفوس البهيمية.
وحيث أن الشرور التي أدت إلى فساد المجتمع، هي الحسد والحرص والطمع، ومقتضياتها في فطر النفوس بالقوة ينتجها الفعل، أو يلطفها الشرع بالفضل.
وحيث أن تلك الشرور نتجت عن جهل لا عن علم وقصد، فبذلت كل نفس في ملائمها الوسع والجهد.
وحيث أن التفاهم أظهر لكل نفس ما تناله من الخير والسعادة بالطاعة لله ولرسوله ﴿ rوآله﴾، أخذا بالعزائم، لتفوز بعد المجاهدة بالغنائم، وقد قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً﴾(النساء:110) وقد قال الله تعالى أيضا: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً﴾(النساء: من الآية64).
وحيث أن النفوس علمت كل واحدة منهن حقيقتها، وتبين لها حكمة إيجادها، وسر إمداداها، وتحققت أن القادر الحكيم الذي أبدعها، ومن العدم أنشأها، ومن الصلصال صاغها، ومن الماء في القرار المكين صورها، فهو سبحانه وتعالى أعلم بخيرها، وبإصلاحها وصلاحها وفطرها، وألهمها سبحانه وتعالى فجورها وتقواها، وهداها سبحانه وتعالى النجدين.
وحيث أن النفوس وإن زكت، والعقول وإن كملت، لا تخلو من هوى خفي، يدعو إلى حظ وبي، بل ولا تتنزه عن الغفلة والنسيان، ولا عن الخطأ عند البيان.
وحيث أن الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، هو ما أتانا به رسول الله ﴿ rوآله﴾من عند الله سبحانه وتعالى بعظيم فضله ولطفه، هذا الكتاب الذي لم يترك صغيرة ولا كبيرة- من العقيدة الحقة، والعبادات الواجبة والمعاملات الحسنة والأخلاق الجميلة – إلا أحصاها ، وقال الله تعالى: ﴿تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ ﴾(النحل: من الآية89)وقال سبحانه: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ﴾(الأنعام: من الآية38).
وحيث أن سلفنا الصالح تمسك به، فعم الفضل والعدل كل مكان، وأخذ كل موجود من الحيوان والإنسان قسطا من الإحسان، لا فرق بين المسلم والكافر، حتى صار المجتمع الإنساني كعائلة واحدة لوالدين رحيمين، هما الكتاب والسنة والمنفذ لأحكامهما، وأبناء بررة وهم المجتمع الإسلامي وأهل ذمته.
وحيث أن تلك الشرور التي عم شرارها، وانتشرت نارها، سببها الالتفات عن الكتاب والسنة، وطاعة الحس والهوى، حتى أصبح الولد يعادي أباه، والأخ يحارب أخاه، فنرى الأبدان متلذذة بالطعام، والقلوب ملتهبة بشواظ البغضاء في اصطلام.
وحيث أن تلك الحياة الحسية أدنى من حياة البهائم في كون الفساد، وبعدها يكون العذاب الأليم في يوم التناد، فيتمنى كل إنسان أنه لم يوجد قائلا: (يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً) (النبأ: من الآية40).
وحيث أن هذه الحقائق ثابتة لا شك فيها، ومهما حاول عدونا إبليس لا يخفيها.
حكمت المحكمة حضوريا بعد المداولة وبعد المشورة وبعد فهم قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا﴾(النساء: من الآية135) بالآتي:
أن نسارع أولا إلى القيام بما أمرنا الله سبحانه وتعالى بقدر الاستطاعة، وأن نترك ما نهانا الله عنه جملة واحدة، ولا سبيل إلى القيام بهذا إلا بعد تحصل العلم النافع حتى تستبين سبل الله لسالكها، وتتضح الطريقة القويمة لقاصدها، وانتقاء الهداة المرشدين، الدالين على الحق بالحق وتنفيذ أحكام القرآن والسنة بالزجر والتعذير والقطع والنفي والصلب، فإن لكل مرض دواء، ولكل علة شفاء، والدواء الذي ركبه أحكم الحاكمين، هو الشفاء الحقيقي لمجتمع المسلمين، ويمكن لنا في الأرض ، حتى نكون خلفاء عنه في طولها والعرض، معتقدين أن هذا الدواء، به نيل السعادة والرخاء، والتنعيم في كون الفساد بالملك والهناء، وبالنعيم الأبدي في دار الأنس والبقاء، فتكون آلام هذا الدواء ملاذ تبتهج بها الأرواح، وعافية ترتاح بها الأشباح.
هذا كله إذا تحققت محبة العبد لربه، وعلم العبد أن الله إنما أمره ونهاه ليحبه.
ويلزم أن يكون ما يحبه الله ومن يحبه الله أحب إلينا من أنفسنا سهلهوصعبه، وما يبغضه الله إلينا أبغض من الحطمة الحمية، ولو كان أشهىإلى أنفسنا من الحياة الهنية، لأن الله افتتح إيجادنا وإمدادنا برحمته وفضله، وسخر لنا ملكه وملكوته من عاليه وسفله، ومنحنا عنايته فيما أظهره لنا بواسع الإحسان، وما أمرنا ونهانا إلا ليعمنا بكرمه والحنان، فلا نطيع هوانا، فنرتد عن السعادة الحقيقة هوانا، ولا نحب ما يكرهه ولا من يكرهه فنضل بعد أن هدانا، ونجاهد في ذاته نفوسنا حق الجهاد، حتى تطيع المنعم الجواد، ومن لا يجاهد نفسه في ذات الله لا يفوز برضاه ولا يجاهد من عاداه، نحب الآخرة لأن الله مدحها ورغبنا فيها، ونكره الدنيا لأن الله ذمها وكرهنا فيها، فنحب ما حببنا فيه الله، شوقا إلى قربه ورضاه، ونكره ما كرهنا فيه، ولو كانوا آباءنا وأبناءنا وإخواننا وعشيرتنا لنتحد بمراده سبحانه وتعالى ونتنعم بأنوار تجليه، ونحب رسول الله ﴿ rوآله﴾حبا يجعلنا نتشبه به في كل معانيه، فنحيي سنته السمحاء، ببذل النفس والنفائس والأبناء، ونصونها عن التغيير والتبديل بدفع المبتدعين والأعداء، معتصمين بالله تعالى مستمدين منه بروحانية رسول الله ﴿ rوآله﴾.
(يعطي العدل نص قرار الحكم للكاتب فتهب النفوس تنشد بصوت واحد وترفع يديها للسماء)
النفوس:(تنشد بابتهال)
سَمِعْنَا لِدَاعِي ٱلْحَقِّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ
إِلَى ٱللهِ تُبْنَا مُخْلِصِينَ لَـُه بِهِ
نَدِمْنَا عَلَى مَا كَانَ مِنّضا إِلَهَنَا
أَغِثْنَا إِلَهِي بِالْقَبُولِ فَإِنَّنَا
أَعِنَّا عَلَى نَيْلِ ٱلرِّضَا مِنْكَ سَيِّدِي
أَطَعْنَا رَسُولَ ٱللَّهِ سَعْدَيْكَ سَعْدَيْكَ
فَجَمِّلْ بِعَفْوِ ٱلرَّبِّ صُنْعَ يَدَيْكَ
أَنَبْنَا بِفَضْلٍ مِنْكَ رَبِّ إِلَيْكَ
بِصِدْقٍ تَوَكَّلْنَا ٱلْجَمِيعُ عَلَيْكَ
لِنَحْيَا بِفَضْلٍ مِنْكَ رَبِّ لَدَيْكَ
(ثم تعانق النفوس بعضها البعض، وتصافح بالسلام، الحراس، وتعزف موسيقى بينما ينزل العدل من كرسيه، ويظهر الإنسان وفي يده ورقة ويتقدم إلى خشبة المسرح بينما الستار ينسدل ببطء حتى يقف أمام الستار قبل أن يغلق تماما ثم يبدأ في قراءة البيان التالي:)
مصافحة وعناق.. بعد جفاء وفراق.. ومؤانسة واعتذار، بعد وحشة واغترار.. ثم اتحاد وائتلاف.. بعد تضاد واختلاف.. فإجماع على البحث عن العارف الرباني.. والعالم العامل الروحاني.. من وهب الله لـه لسان البيان.. وتفضل عليه بالحكمة والتبيان.. طبيب النفوس وقائدها إلى حضرة القدوس.. ذي الأحوال السنية. . ترجمان القرآن.. وميزاب الإحسان .. ورحمة الله الذي يتفضل الله به على بني الإنسان، في كل زمان ومكان... الشجرة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء... ومشكاة فيها الأنوار المحمدية المشرقة من حضرة رسول الله ﴿ rوآله﴾بالأضواء... محل نظر الله من عباده، ومظهر عنايته سبحانه بعباده وإمداده... من جمله الله برحمته من عنده... ووهب لـه سبحانه علما من لدنه... من حققه الله بكمال العبدية في مقام العبودية... وألبسه حلل التقوى بالعبادة.. العبد الوارث المتمكن... الذي تجاوز المقامات... وتعدى الأحوال... وانتشلته عناية الله من وحلة التوحيد.. وأنقذته من بادية الإلحاد بالقبول والإقبال... لنتلقى عنه آيات الله... ونتعلم منه الكتاب والحكمة .. ونتزكى على يديه... ونتعلم بالاتحاد ما لم نكن نعلم... فإن الله تعالى أكرم أمة حبيبه ومصطفاه بحفظ ميراث الحبيب المصطفى ﴿ rوآله﴾لهم.. فيظهره سبحانه وتعالى بعد كل فترة من الزمان فضلا منه وإحسانا... ولما أن زكت النفوس، وتطهرت من درن الحظ والبؤس... كان الإمام المرشد ضالتها المنشودة... وبغيتها المقصودة... ومن اشتهى شيئا أعطاه الله إياه... وما أن ظفرت بطلبتها، ونالت من فضل الله رغبتها، لزمت هذا الجناب... فتناولت طهور الشراب... وأقبلت علي الكريم الوهاب... مستجدية بعد الإقبال نيل عواطف التواب... فقبلها الله وأقبل عليها... وأفاض طرائف العرفان ولطائف الإحسان عليها.
(ستار)
(تمت الرواية بحمد الله وحسن توفيقه)
خاتم الوراث المحمديين الإمام المجدد
السيد محمد ماضي أبو العزائمرضى الله عنه
في سطور
نسبه: سليل أهل البيت الطاهرين، حسني من جهة والدته، حسيني من جهة والده.
مولده: ولد يوم الاثنين 27 رجب سنة 1286هـ الموافق 2/11/1869م بمسجد سيدي زغلول برشيد.
وظائفه: عمل بالتدريس، ثم تدرج في سلك الوظائف حتى صار أستاذا للشريعة الإسلامية بجامعة الخرطوم.
إقالته من وظيفته: كان يرى أن أهم وظائف الرجل الديني الإرشاد والنصيحة للحاكمين، بل لعامة الناس، والتحذير من الوقوع في حبائل الاستعمار فأقصاه الحاكم العام الإنكليزي من وظيفته في يوم الأحد 19 رمضان سنة 1333هـ الموافق 1/8/1915م
مطالبته بعودة الخلافة: بعد أن قررت الجمعية الوطنية بأنقرة في يوم الأحد 26 رجب 1342هـ الموافق 2/3/1924م إلغاء الخلافة الإسلامية، دعا الإمام لتأسيس جماعات للخلافة الإسلامية بجميع أنحاء العالم الإسلامي، وانتخب رئيسا لجمعية الخلافة الإسلامية بمصر في يوم الخميس 13 شعبان 1342هـ الموافق 20/3/1924م، وناب عن شعب مصر في حضور مؤتمر الخلافة الإسلامية الذي انعقد في مكة المكرمة سنة 1344هـ 1926م في أشهر الحج.
دعوته: أسس جماعة آل العزائمرضى الله عنهسنة 1311هـ الموافق 1893م والطريقة العزمية سنة 1353هـ الموافق 1934م ومقرهما 114 شارع مجلس الشعب بالقاهرة.
تراثه: تذخر المكتبة الإسلامية بمئات الكتب من تراثه في التفسير، والفقه، وعلم الكلام، والتصوف، والفتاوى، والسيرة، والمواجيد.
انتقاله: انتقل إلى الرفيق الأعلى ليلة الاثنين 27 رجب سنة 1356 هـ الموافق 3/10/1937م وروضته بمسجده بشارع مجلس الشعب بالقاهرة.
خليفته الأول: ابنه الأكبر الإمام الممتحن السيد أحمد ماضي أبو العزائمرضى الله عنه، شكل عمرا جديدا لدعوة الإمام ونشر تراثه العلمي، وانتقل إلى الرفيق الأعلى يوم الثلاثاء 20 ربيع الأول سنة 1390/هـ الموافق 26/5/1970م ـ ونزل يوم الخميس 22 ربيع أول 1390هـ، الموافق 28/5/1970م بروضته بمسجد والده الإمام بشارع مجلس الشعب.
الفهرس
فاتحة الكتاب
التماس الطبعة الأولى
مقدمة
شخصيات المسرحية
الفصل الأول : الجلسة الأولى
المنظر الأول : السياحة النفسانية
المظلمة
المنظر الثاني : افتتاح المحكمة
الفصل الثاني : الجلسة الثانية
المنظر الأول : الجلسة العلنية لسماع مرافعة الخصوم
المنظر الثاني : الجلسة السرية- المداولة
الفصل الثالث : الجلسة الثالثة
المنظر الأول : مواجهة الخصوم
المنظر الثاني : النطق بالحكم
الإمام في سطور
الإمام في سطور
الصفحة
[1])) طبع هذا الكتاب طبعه أخرى مخالفة للأصل عن طريق دار الشعب وذلك عام 1973
سورة هود أية 88[2]
([3]) حال
([4])سورة الأعراف آية 172