عدد المشاهدات:
قوله تعالى : "شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ"(18).
سبب نزول هذه الآية أن حبرين من أحبار الشام دخلا المدينة فقا أحدهما للآخرين : أن هذا البلد هو الذى ذكره الله فى التوراة أن يكون فيه خاتم الأنبياء ، وسألا فأخبرا أنه ظهر هنا رجل يدعى النبوة ، فتوجها إليه ونظر إليه فتحققا منه أنه هو خاتم الأنبياء ، فقال له أحدهما : أنت محمد ؟ فقال نعم : أنت أحمد ؟ فقال : نعم . فقالا أنا سائلاك عن شهادة . فقال : سلانى . فقالا : ما خير شهادة فى كتاب الله ؟ فأنزل الله تعالى قوله : "شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ" الآية ، فآمنا وصدقا . والشهادة لغة : هى الأخبار المقرون بالعلم المؤيد بالحجة ، وهنا جمع الله تعالى بين شهادته وشهادة الملائكة وأولى العلم.
ومعلوم أن مفهوم الشهادة فيها واحد ، لأن المراد نفى الجحود والشريك ، والإقرار بوجود الإله وبوحدانيته ، والعلم بالنبوة لا يستلزم العلم بنفى الشريك ، فإن العلم بالنبوة محتاج إلى أدلة وبراهين تثبت أن هذا الرجل نبى ، أما نفى الجحود وإثبات الوحدانية فقد شهد الله بهما لنفسه فى آيات كثيرة ، كآية الكرسي وكسورة الإخلاص وكفاتحة سورة آل عمران ، وشهد بها الملائكة وأولوا العلم . وشهادة الله لنفسه بذلك ، لا تعد شهادة من الشاهد لنفسه ولكنها فى قوة أنه سبحانه أقام الحجج والأدلة والبراهين الناصعة للقلوب التى تعقل عن الله بما أجلاه فى الكون علوه وسفله من بدائع إبداع الصنعة وعجائب تصريف القدرة ، وغرائب أحكام الحكمة ، حتى لو نظر ذو بصيرة إلى ذرة من ذرات التراب والجماد ، أو إلى أصغر حيوان أو إلى قليل النسيم العليل البليل ، أو إلى ما فوق ذلك من أرجاء وأجواء وأفلاك ثابتات وسائرات ، وإلى ما فوق ذلك بأن إعانة الله بالسلطان فنقذ من أقطار السماوات والأرض لشهد أنه لا إله إلا الله ، منزها لذاته العلية عن أن تلد أو تولد ، أو تحتاج إلى كائن ما ، أو أن يكون لها شبيه أو نظير أو ضد أو ند ، بل هو –جل جلاله –كما أخبر عن نفسه بقوله تعالى : "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ".
ثم أتى بجوهرة كمال توحيد الموحدين وصفاء جواهر أنفسهم فقال الكلمة الفذة التى لم يتذوق حلاوتها إلا الأفراد المخصوصون ، وهى قوله تعالى : "وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ" ، وتلك الكلمة لو فصل أجمالها وأشرقت أنوار مضنونها لصار من يمشى على التراب فوق الملائكة العالين كشفا وإيمانا وطمأنينة قلب ويقين ، فإن فى كنزها الخفى عن العقول بل وعن الألباب سر اضمحلال العرش وما أحاط به مع بروزه مجملا بجمال الآيات شوقا إلى من أبدع الكائنات . وكيف يرضى مؤمن أن يرى أو يحكم بمكافئ لله يسلى به عنه –جل جلاله - ؟ .
اللهم تجل لنا بجلى تبيان يمحق من قلوبنا ومن أمام أعيننا وجوارحنا كل ظل يستر عنا جمالك العلى . . هنا عطف الله الملائكة على نفسه ، وعطف أولى العلم كذلك لأنه سبحانه وتعالى بين بالحجج الناصعة للملائكة دلائل تفريده سبحانه بالألوهة ، وبين لأولى العلم وبين أولى العلم للعامة ، وفى ذلك ما فيه من الشرف والرفعة لأولي العلم . قالe: [ أكرموا العلماء فإن من أكرم العلماء فقد أكرم الله ورسوله ] وقالe[العلماء سرج الدنيا ومصابيح الآخرة] وهذا هو الحق ، فإن العلماء ورثة الأنبياء ، وما ورث الأنبياء درهما ولا دينارا ولكن ورثوا علما وهدى ، فمن أخذ بقسط منها طويت النبوة بين جنبيه إلا أنه لا يوحي إليه.
وما تقول فى قوم عطفهم الله على نفسه فى مقام أخباره بالشهادة عن نفسه حتى أقامهم مقام نفسه فى الشهادة له بأنه لا إله إلا هو ؟ يضيق بنا المقام إذا نحن فصلنا مجمل مقام العلماء ومنزلتهم من أمة محمدe، وغاية الأمر أنه عليه الصلاة والسلام خاتم الأنبياء.
وكان أكثر الصحابة يعتقدون أنه صلوات الله وسلامه عليه لن يموت ، فلما مات هم إبليس أن يدخل عليهم شبهة أنه ليس بخاتم الأنبياء لولا أن قام الصديق الأكبر أبو بكر –رضى الله عنه –فقال للصحابة : من كان منكم يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حى لا يموت ، ثم قرا قوله تعالى : "وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا"([100]) ، فرفع الصوت بالولولة على رسول اللهe، بعد أن ثبت لهم بالحجة القرآنية موته ، وثبت لديهم أن الله يقيم له ورثة فى كل زمان يحيون ما اندرس من معالم شريعته.
فالعلماء هم أمناء الله على شرعة وأئمة الناس للسلوك إلى الله وهم شموس الهدى . قال على عليه السلام : "اللهم لا تخل الأرض من قائم لك بحجة أما ظاهرا مشهور أو باطنا مستورا لئلا تبطل حجج الله وبيناته" ومر أبو هريرة –رضى الله عنه –فى السوق فوجد أهل الأسواق فى غفلتهم فقال : يا قوم ما لكم أن ميراث رسول اللهeيقسم فى المسجد ، فابتدر الناس بيوتهم وأخذوا أموالهم إلى المسجد ليشتروا ميراث رسول اللهe، فلما دخلوا المسجد وجدوا أبا ذر الغفارى وسلمان يتكلمان بعضهما مع بعض ، ولم يجدوا بيعا ولا شرا : فرجعوا إلى أبى هريرة ورموه بالكذب والبهتان فقال : ما هذا؟! قالوا : أخبرتنا أن مراث رسول اللهeيقسم فى المسجد وذهبنا فلم نجد إلا أباذر وسلمان يتحدثان ، فقال : هذا ميراث رسول اللهe، وهل لرسوله الله ميراث إلا هذا الذى يتقاسمه أبو ذر وسلمان ؟ فرجعوا على أنفسهم.
ولك أن تشرح الآية فتقول ! شهد الله أنه لا إله قائما بالقسط إلا هو ، وشهد الله أنه لا إله إلا هو "قائما" بالقسط ، وعلى التفسير الأول تكون "قائما" صفة "لا إله" وعلى التفسير الثانى تكون حالا مؤكدة أو مؤسسة ، ولك أن تقول : "شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط" فتكون حالا من "أولو العلم" ولك تأويل آخر فتقول أن الله تعالى شهد لنفسه بتفريده بالألوهية ، وبأنه حكم عدل لا يظلم فى خلق ولا فى رزق ولا فى تقدير ولا فى أمر ونهى ، وشهد له الملائكة وأولوا العلم بما شهد به لنفسه ، منفردا بالأولوهة وبالعدل وبشئ آخر وهو قوله : "العزيز الحكيم" فشهادة الله لنفسه لأمرين عظيمين.
وشهادة الملائكة وأولوا العلم بما شهد به لنفسه –جل جلاله –وبأنه العزيز الحكيم ، لأن العزة هى القدرة العلياء ، والقوة القاهرة فى تنفيذ أحكامه وأقداره . والحكمة هى كمال العلم الذى به تبرز الأشياء على كمالها.
وهنا ظهرت حججه للملائكة ولأولى العلم ظهورا محسوسا لعيون الإيقان والإحسان والإيمان والإسلام ، فإنهم نظروا بأعين الإسلام أولا فشهدوا من بدائع إبداع الآيات ما طمأن به قلوبهم على الإقرار له بالتوحيد إقرارا مقرونا بالعلم ، فاعترفوا اعترافا دعا إليه ما تحققته جواهر نفوسهم ليتمكنوا من الإسلام ، لأن الإسلام نطق باللسان وعمل بالجوارح ، وهذا الإسلام فى فاتحته ، لأن أهل الجاهلية العمياء لم تكن لهم أوعية تسع النظر والبحث وبيان الأدلة والحجج أولا حتى يسلموا تسليما.
قال تعالى : "قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ"([101]) لأن محل الإيمان القلب وذلك لأن الإيمان هو التصديق ، أما بعد أن دق الدين أوتاده وضرب أطنابه فالإسلام والإيمان واحد ولا فرق بينهما ، فإن الإسلام هو عقد القلب على عقدية الحق والانة الجوارح على العمل بما أمر به ، والإيمان هو المسارعة إلى العمل بما أمر الله بالجوارح وعقد القلب على عقيدة الحق.
وقد اختلف المتكلمون والمحدثون أى علماء التوحيد والحديث فى هذا الموضوع ، فالإسلام والإيمان عند المحدثين واحد وعند المتكلمين اثنان ، وقد أشار بعد أئمة الصوفية إلى أن المراد من الدين هو التوحيد الكامل وعقد القلب على ما بينه الله من العقيدة والنوايا والمحاسبات والمراقبات التى بالتمكين فيها تعتبر أعمال الجوارح صالحة وبدونها لا تعتبر ولا تقبل ، فجعلوا العبادة بالجوارح فرعا من أعمال القلوب ، وجعلوا الإنسان إذا مات كامل الإيمان ولو كان مقصرا فى أعمال الجوارح دخل الجنة ، قال تعالى : "إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ"([102]) ، والخلاف بين المحدثين وعلماء الصوفية لفظى ، فإن أئمة الصوفية يعتقدون أن العبادة تقليد يقلد الولد أباه حتى يكون التقليد لرسول اللهe.
أما علم القلب فهو الفرض الواجب على كل مسلم ، ومتى حصل الإنسان علم القلب لانت جوارحه على القيام بما فرض الله تعالى ، بل وسارعت إلى عمل نوافل الخير ، ومتى خرب القلب من هذا العلم وملأ صفاح السموات وبطاح الأرض عملا لن يرفع ولن يقبل.
وأكمل الإيمان الإيمان بالغيب ، وقد أثنى الله تعالى على أهله وبشرنا عنهم بقوله : "أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ"([103]) ، ثم أمرنا بعد ذلك بالبحث والنظر ، فقال : "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ"([104]) ، وآيات لأولى النهى ، وعبرة لأولى الأبصار حثا منه سبحانه على طلب العلم ، وقد رفع العلماء درجات عالية بعد الثناء على أهل الإيمان ، فقال سبحانه : "يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ"([105]) ، وقال تعالى : "وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ"([106]) وقال سبحانه : "قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ"([107]) ، وشبه ذلك بالميت والحى والأعمى والبصير.
كل ذلك ليبين فضل العلماء حتى نشتاق إلى العلم فنسارع إليه حيث لا علم إلا بالتعليم ، إذن فيكون العالم قصد كل طالب لله تعالى وقليل ما هم.
سبب نزول هذه الآية أن حبرين من أحبار الشام دخلا المدينة فقا أحدهما للآخرين : أن هذا البلد هو الذى ذكره الله فى التوراة أن يكون فيه خاتم الأنبياء ، وسألا فأخبرا أنه ظهر هنا رجل يدعى النبوة ، فتوجها إليه ونظر إليه فتحققا منه أنه هو خاتم الأنبياء ، فقال له أحدهما : أنت محمد ؟ فقال نعم : أنت أحمد ؟ فقال : نعم . فقالا أنا سائلاك عن شهادة . فقال : سلانى . فقالا : ما خير شهادة فى كتاب الله ؟ فأنزل الله تعالى قوله : "شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ" الآية ، فآمنا وصدقا . والشهادة لغة : هى الأخبار المقرون بالعلم المؤيد بالحجة ، وهنا جمع الله تعالى بين شهادته وشهادة الملائكة وأولى العلم.
ومعلوم أن مفهوم الشهادة فيها واحد ، لأن المراد نفى الجحود والشريك ، والإقرار بوجود الإله وبوحدانيته ، والعلم بالنبوة لا يستلزم العلم بنفى الشريك ، فإن العلم بالنبوة محتاج إلى أدلة وبراهين تثبت أن هذا الرجل نبى ، أما نفى الجحود وإثبات الوحدانية فقد شهد الله بهما لنفسه فى آيات كثيرة ، كآية الكرسي وكسورة الإخلاص وكفاتحة سورة آل عمران ، وشهد بها الملائكة وأولوا العلم . وشهادة الله لنفسه بذلك ، لا تعد شهادة من الشاهد لنفسه ولكنها فى قوة أنه سبحانه أقام الحجج والأدلة والبراهين الناصعة للقلوب التى تعقل عن الله بما أجلاه فى الكون علوه وسفله من بدائع إبداع الصنعة وعجائب تصريف القدرة ، وغرائب أحكام الحكمة ، حتى لو نظر ذو بصيرة إلى ذرة من ذرات التراب والجماد ، أو إلى أصغر حيوان أو إلى قليل النسيم العليل البليل ، أو إلى ما فوق ذلك من أرجاء وأجواء وأفلاك ثابتات وسائرات ، وإلى ما فوق ذلك بأن إعانة الله بالسلطان فنقذ من أقطار السماوات والأرض لشهد أنه لا إله إلا الله ، منزها لذاته العلية عن أن تلد أو تولد ، أو تحتاج إلى كائن ما ، أو أن يكون لها شبيه أو نظير أو ضد أو ند ، بل هو –جل جلاله –كما أخبر عن نفسه بقوله تعالى : "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ".
ثم أتى بجوهرة كمال توحيد الموحدين وصفاء جواهر أنفسهم فقال الكلمة الفذة التى لم يتذوق حلاوتها إلا الأفراد المخصوصون ، وهى قوله تعالى : "وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ" ، وتلك الكلمة لو فصل أجمالها وأشرقت أنوار مضنونها لصار من يمشى على التراب فوق الملائكة العالين كشفا وإيمانا وطمأنينة قلب ويقين ، فإن فى كنزها الخفى عن العقول بل وعن الألباب سر اضمحلال العرش وما أحاط به مع بروزه مجملا بجمال الآيات شوقا إلى من أبدع الكائنات . وكيف يرضى مؤمن أن يرى أو يحكم بمكافئ لله يسلى به عنه –جل جلاله - ؟ .
اللهم تجل لنا بجلى تبيان يمحق من قلوبنا ومن أمام أعيننا وجوارحنا كل ظل يستر عنا جمالك العلى . . هنا عطف الله الملائكة على نفسه ، وعطف أولى العلم كذلك لأنه سبحانه وتعالى بين بالحجج الناصعة للملائكة دلائل تفريده سبحانه بالألوهة ، وبين لأولى العلم وبين أولى العلم للعامة ، وفى ذلك ما فيه من الشرف والرفعة لأولي العلم . قالe: [ أكرموا العلماء فإن من أكرم العلماء فقد أكرم الله ورسوله ] وقالe[العلماء سرج الدنيا ومصابيح الآخرة] وهذا هو الحق ، فإن العلماء ورثة الأنبياء ، وما ورث الأنبياء درهما ولا دينارا ولكن ورثوا علما وهدى ، فمن أخذ بقسط منها طويت النبوة بين جنبيه إلا أنه لا يوحي إليه.
وما تقول فى قوم عطفهم الله على نفسه فى مقام أخباره بالشهادة عن نفسه حتى أقامهم مقام نفسه فى الشهادة له بأنه لا إله إلا هو ؟ يضيق بنا المقام إذا نحن فصلنا مجمل مقام العلماء ومنزلتهم من أمة محمدe، وغاية الأمر أنه عليه الصلاة والسلام خاتم الأنبياء.
وكان أكثر الصحابة يعتقدون أنه صلوات الله وسلامه عليه لن يموت ، فلما مات هم إبليس أن يدخل عليهم شبهة أنه ليس بخاتم الأنبياء لولا أن قام الصديق الأكبر أبو بكر –رضى الله عنه –فقال للصحابة : من كان منكم يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حى لا يموت ، ثم قرا قوله تعالى : "وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا"([100]) ، فرفع الصوت بالولولة على رسول اللهe، بعد أن ثبت لهم بالحجة القرآنية موته ، وثبت لديهم أن الله يقيم له ورثة فى كل زمان يحيون ما اندرس من معالم شريعته.
فالعلماء هم أمناء الله على شرعة وأئمة الناس للسلوك إلى الله وهم شموس الهدى . قال على عليه السلام : "اللهم لا تخل الأرض من قائم لك بحجة أما ظاهرا مشهور أو باطنا مستورا لئلا تبطل حجج الله وبيناته" ومر أبو هريرة –رضى الله عنه –فى السوق فوجد أهل الأسواق فى غفلتهم فقال : يا قوم ما لكم أن ميراث رسول اللهeيقسم فى المسجد ، فابتدر الناس بيوتهم وأخذوا أموالهم إلى المسجد ليشتروا ميراث رسول اللهe، فلما دخلوا المسجد وجدوا أبا ذر الغفارى وسلمان يتكلمان بعضهما مع بعض ، ولم يجدوا بيعا ولا شرا : فرجعوا إلى أبى هريرة ورموه بالكذب والبهتان فقال : ما هذا؟! قالوا : أخبرتنا أن مراث رسول اللهeيقسم فى المسجد وذهبنا فلم نجد إلا أباذر وسلمان يتحدثان ، فقال : هذا ميراث رسول اللهe، وهل لرسوله الله ميراث إلا هذا الذى يتقاسمه أبو ذر وسلمان ؟ فرجعوا على أنفسهم.
ولك أن تشرح الآية فتقول ! شهد الله أنه لا إله قائما بالقسط إلا هو ، وشهد الله أنه لا إله إلا هو "قائما" بالقسط ، وعلى التفسير الأول تكون "قائما" صفة "لا إله" وعلى التفسير الثانى تكون حالا مؤكدة أو مؤسسة ، ولك أن تقول : "شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط" فتكون حالا من "أولو العلم" ولك تأويل آخر فتقول أن الله تعالى شهد لنفسه بتفريده بالألوهية ، وبأنه حكم عدل لا يظلم فى خلق ولا فى رزق ولا فى تقدير ولا فى أمر ونهى ، وشهد له الملائكة وأولوا العلم بما شهد به لنفسه ، منفردا بالأولوهة وبالعدل وبشئ آخر وهو قوله : "العزيز الحكيم" فشهادة الله لنفسه لأمرين عظيمين.
وشهادة الملائكة وأولوا العلم بما شهد به لنفسه –جل جلاله –وبأنه العزيز الحكيم ، لأن العزة هى القدرة العلياء ، والقوة القاهرة فى تنفيذ أحكامه وأقداره . والحكمة هى كمال العلم الذى به تبرز الأشياء على كمالها.
وهنا ظهرت حججه للملائكة ولأولى العلم ظهورا محسوسا لعيون الإيقان والإحسان والإيمان والإسلام ، فإنهم نظروا بأعين الإسلام أولا فشهدوا من بدائع إبداع الآيات ما طمأن به قلوبهم على الإقرار له بالتوحيد إقرارا مقرونا بالعلم ، فاعترفوا اعترافا دعا إليه ما تحققته جواهر نفوسهم ليتمكنوا من الإسلام ، لأن الإسلام نطق باللسان وعمل بالجوارح ، وهذا الإسلام فى فاتحته ، لأن أهل الجاهلية العمياء لم تكن لهم أوعية تسع النظر والبحث وبيان الأدلة والحجج أولا حتى يسلموا تسليما.
قال تعالى : "قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ"([101]) لأن محل الإيمان القلب وذلك لأن الإيمان هو التصديق ، أما بعد أن دق الدين أوتاده وضرب أطنابه فالإسلام والإيمان واحد ولا فرق بينهما ، فإن الإسلام هو عقد القلب على عقدية الحق والانة الجوارح على العمل بما أمر به ، والإيمان هو المسارعة إلى العمل بما أمر الله بالجوارح وعقد القلب على عقيدة الحق.
وقد اختلف المتكلمون والمحدثون أى علماء التوحيد والحديث فى هذا الموضوع ، فالإسلام والإيمان عند المحدثين واحد وعند المتكلمين اثنان ، وقد أشار بعد أئمة الصوفية إلى أن المراد من الدين هو التوحيد الكامل وعقد القلب على ما بينه الله من العقيدة والنوايا والمحاسبات والمراقبات التى بالتمكين فيها تعتبر أعمال الجوارح صالحة وبدونها لا تعتبر ولا تقبل ، فجعلوا العبادة بالجوارح فرعا من أعمال القلوب ، وجعلوا الإنسان إذا مات كامل الإيمان ولو كان مقصرا فى أعمال الجوارح دخل الجنة ، قال تعالى : "إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ"([102]) ، والخلاف بين المحدثين وعلماء الصوفية لفظى ، فإن أئمة الصوفية يعتقدون أن العبادة تقليد يقلد الولد أباه حتى يكون التقليد لرسول اللهe.
أما علم القلب فهو الفرض الواجب على كل مسلم ، ومتى حصل الإنسان علم القلب لانت جوارحه على القيام بما فرض الله تعالى ، بل وسارعت إلى عمل نوافل الخير ، ومتى خرب القلب من هذا العلم وملأ صفاح السموات وبطاح الأرض عملا لن يرفع ولن يقبل.
وأكمل الإيمان الإيمان بالغيب ، وقد أثنى الله تعالى على أهله وبشرنا عنهم بقوله : "أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ"([103]) ، ثم أمرنا بعد ذلك بالبحث والنظر ، فقال : "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ"([104]) ، وآيات لأولى النهى ، وعبرة لأولى الأبصار حثا منه سبحانه على طلب العلم ، وقد رفع العلماء درجات عالية بعد الثناء على أهل الإيمان ، فقال سبحانه : "يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ"([105]) ، وقال تعالى : "وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ"([106]) وقال سبحانه : "قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ"([107]) ، وشبه ذلك بالميت والحى والأعمى والبصير.
كل ذلك ليبين فضل العلماء حتى نشتاق إلى العلم فنسارع إليه حيث لا علم إلا بالتعليم ، إذن فيكون العالم قصد كل طالب لله تعالى وقليل ما هم.