عدد المشاهدات:
قال الله تعالى: (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ) سورة ال عمران سورة 20، وقال سبحانه وتعالى: (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى) سورة لقمان آية 22، (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ) سورة الزمر آية 54، وقال سبحانه مخبراً عن خليلة عليه السلام: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الأنعام آية 79.
ومن دعاء النبى صلى الله صلى عليه: (اللهم أنت ربى لا إله إلا انت..خلقتنى وأنا عبدك، وعلى عهدك وعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، وأبوء لك بنعمتك على، وأبوء بذنبى، فاغفر لى فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت).
والتسليم والإسلام بمعنى واحد، ولذلك ورد فى بعض الروايات: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) البقرة آية 128، بالتشديد، لأن مدلول اللفظين الاستسلام لحكم الله وقضائه سبحانه، فالإستسلام للحكم شأن المؤمنين العارفين، بدليل قوله تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فى أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) النساء آية 65، فوصفهم الله بصفات ثلاثة: بأن يرجعوا فى أمورهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وبأن يشرح الله صدورهم لما يحكم به، وبأن يسلموا تسليماً ينبىء عن الرضا الحقيقى، لا تسليماً مشوباً بكراهة ولا قبض صدر، فإن كثيراً من الناس يسلم مكرها، وليس هذا بالتسليم عندنا.
والتسليم لقضاء الله فيما يجريه الله تعالى من الشئون، هو الميدان الذى تتسابق فيه همم المؤمنين، لأن العبد بين حالتين: شدة ورخاء، فالمؤمن الكامل يرضى عن الله سبحانه وتعالى فى الشدائد رضا عن انشراح صدر، لعلمه بحكمة ذلك، لأن الله سبحانه وتعالى له فى كل شأن حكماً تطمئن بها قلوب المؤمنين.
والمؤمن الكامل يشكر الله سبحانه وتعالى عند الرخاء، شكراً ينبىء عن حقيقة التوحيد التى كشفت له أنه عدم، لولا فضل الله عليه، وأنه لا يستحق شيئاً إلا بفضل الله ورحمته، فيكون شكره خالصاً ورضاه حقيقياً، ومنهم من يعتقد سرعة إغاثة الله تعالى، وينتظر فضله فيصبر، ومنهم ... ومنهم، قال الله تعالى: (هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ) سورة آل عمران آية 163، وقال سبحانه وتعالى: (وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ) سورة الصافات آية 164.
والتسليم لقضاء الله تعالى يتصل بالتسليم بحكم الله، فإن المؤمن إذا عرف نفسه عرف ربه، ومتى عرف ربه جمله بالتسليم له سبحانه وتعالى، ويعرف أن الحكم لله سبحانه وتعالى، قال الله تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ)سورة الأنعام آية 57، فكذلك جريان الشئون إنما هو بقضاء وقدر من الله تعالى، فالمسلم للحكم يسلم للقضاء بلا معارضة ظاهرة، إنما التسليم إرجاع الأمور كلها إلى الله تعالى، واعتقاد أنها منه سبحانه، وأنه لا يحصل شأن من الشئون إلا بتقديره.
وهنا لطيفة تخفى على كثيرين من أهل التسليم، فإن الإنسان إنما يسلم لحكم الله فيما يتعلق بالمعاملات والعبادات والأخلاق والعقيدة، ولا يسلم فى الحكم بما جاء يخالف صريح الشرع، بل يلزمه أن يعارض فيه، ويدفعه ما استطاع، ويكرهه حتى يغلب على أمره، وكذلك فى القضاء بصفته عبداً لله يجب عليه أن يسلم لله جل جلاله، فيما يتعلق بالشئون بعد بذل ما فى وسعه لدفع المضرة عن نفسه وجلب الخير لها، ثم بعد ذلك يسلم له مسارعاً إلى العمل بأمره سبحانه، فإن الواجب علينا أن نسعى لطلب ما لابد لنا منه كما أمر، ونرضى عنه سبحانه فيما قدر.
وهناك تسليم للجهلاء ليس من الدين فى شىء، فترى الجاهل يعصى الله جل جلاله، فإذا سألته يقول لك: مقدر على، وأنا راض بما قدره الله على، وقد جهل، فإن الله جل جلاله قدر ما يحبه وما يكرهه، والعبد مطالب أن يكره ما يكرهه الله، وأن يحب ما يحبه الله، ومطالب أن ينسب إلى نفسه ما يكرهه الله أدبا مع الله، وأن ينسب إلى الله ما يحبه الله تحقيقاً لكمال التوحيد، ومن قال تلك الكلمة ارتكب إثمين عظيمين: مخالفة لحكم الله تعالى، وسوء الأدب مع الله تعالى، فالأدب مع الله شريعة، والتحقق بالتوحيد بأن الله قدر كل شىء حقيقة، ومن ترك الشريعة كيف يتفضل الله عليه بالحقيقة، والحقيقة روح الشريعة؟!
ولا يكون التسليم تسليماً حقاً إلا إذا تجرد من العلل، فمن شهد نفسه مسلماً، وسكنت نفسه إلى التسليم، لم يكن مسلماً عند العلماء حتى يفنى عن تسليمه، ويرى أن الله تعالى هو الذى من عليه بالتسليم، وأنه أسلم به إليه سبحانه، فإن التسليم من أعلى مقامات اليقين ومنازل المقربين، قال الله تعالى: (إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) سورة الشعراء آية 89.
التسليم عند السالكين
رجوع ما تقف دون دركه العقول، بما لا ينكشف للأوهام من الغيب للمدبر القادر، ثم الإذعان لما يخالف ترتيب العقول، ويضاد تجارب النفوس من تداول الدول تصديقاً لقوله تعالى: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) سورة آل عمران آية 140، مع الرضا بما قسم معتقداً أنه بتقدير أزلى، ثم المسارعة ببذل المجهود إلى ما يتجمل به المريد من الأحول السنية، فإن أسرار الغيب تزاحم العقول مزاحمة، إن استرسل المريد معها حجبته عن مشاهدة حكمة الوجود، وإن لم يخضع لمقتضيات القدر فى سير الدول حجب عن التصديق بالقدر، وإن لم يسارع إلى بذل الجهد لنيل ما به رقيه وقف دون الغاية التى تسارع إليها نفوس المريدين الطاهرين.
التسليم عند الواصلين
هو تسليم العلم إلى الحال، بمعنى أن العلم سير مخصوص فى الأحكام، فمن حكمه لم يفز بالرضوان الأكبر، لأن علم الأحكام فرقان ما بين المنزلتين، أو رد، فمن حكمه على الحال، إما أن يقف بين المنزلتين، أو يرد إلى البعد، والحال داع لبذل قصارى المجهود، لينتقل من الأعراف إلى التعريف، ومن التعريف إلى التعرف، ومن التعرف إلى المعروف سبحانه وتعالى، بمجاهدة لا يتحملها إلا أهل الأحوال السنية، الناتجة عن بذل ما فى الوسع للتمسك بالأعمال السنية، وليس المراد بتحكيم الحال على العلم ما يفهمه من لا معرفة لهم، من أن الأحوال خروج عن النمط والأوسط، ومفارقة للصراط المستقيم، فإن هذا ليس هو الحال، وإنما هو استدراج- نعوذ بالله منه إنما الأحوال عندهم أن تنكشف لك الجنة وما فيها، فترى مهانة الدنيا وما فيها، وترى أن نفساً تصرفه فى طلب الدنيا قد يحجبك عن تلك الدار المنجلية لك، ويتتج لك خيبة وندامة، فتبخل بأنفاسك وتجود بما سواها فراغاً لقلبك، وأحوال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هى الأحوال العلية، فإنهم بذلوا أوطانهم ففارقوها فرارا بدينهم، وبذلوا أموالهم ثقة بربهم جل جلاله، وبذلوا أنفسهم فرحين راضين عن ربهم، لا لعلة دعت ولا لغرض بعث، إلا وجه الله الكريم، وتلك الأحوال هى موازين أهل الأحوال العلية، وكل من ظن أنه من أهل الأحوال، ولم تكن أحواله مطابقة لأحوالهم فهو مستدرج مخدوع، إذ الحال مقتضى الوقت ولازمه، فإن اقتضى الوقت الهجرة من الوطن هاجر، وإن يقدم نفسه قدمها لله راضياً عنه مرضياً منه، ومن كان حاله يقتضى جمع أموال الناس واستخدمهم، والشهرة بينهم، فحاله حال مستدرج.
إذا علمت من أجمالى هذا ما لابد لك منه من علم الحال، فهذا هو الحال الذى يحكم على العلم، ويجب أن نسلم له العلم يفعل فيه ما يشاء، والرجل ذو الحال العلية ينوع الله به أفكار الخلق إلى منازل القرب والحب، وللحال تأثير روحانى على قلوب المريدين، ربما أخرجهم من الملك إلى الملكوت فى نفس، بل ومن أنفسهم إلى منفسها سبحانه، ثم يسلم القصد إلى الكشف، وليس بتسليم القصد إلى الكشف أنه عند الكشف لا يكون قصد، وذلك ما لا يقول به عارف بالله، ولكن المراد من تسليم القصد إلى الكشف أن المريد قد يقصد فى بدايته مقصوداً بقدر علمه، فإذا من الله عليه بالمشاهدة جهل فحكم القصد فى الكشف، وقد يكون مقصده الجنة، فتلوح عليه أنوار قدس العزة، فيقف قصده عند الجنة، فيكون شهوده فوق قصده، بل الواجب عليه أن يسلم قصده إلى كشفه، فيكون مقصوده فوق الكشف، فإن الكشف يظهر له ما فوق علمه، قال الله تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ) سورة البقرة آية 282، وقال تعالى: (إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) سورة لأنفال آية 29، وقال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) سورة الحديد آية 28.
ومن يسلم القصد إلى الكشف يدوم رقيه، وينمو القصد عنده، ومن أنساه الكشف القصد، وقد سلم القصد إلى الكشف، ومن فهم أن تسليم القصد إلى الكشف أن الكشف لا يجعل للواصل قصداً، فقد جهل طريقنا، فإن الكشف ينمو به وجد الأوراح المحرق، وتشتد له الحيرة، ويقوى به الشوق المزعج إلى القصد الأعظم الذى شهدت الأرواح آياته، وواجه السر تجلياته، فالكشف يقوى به المقصد، ثم يسلم الرسم للحقيقة، وقد جهل بعض من لا علم لهم بطريقنا، فظن أن المراد بالرسم الأحكام الشرعية، وتسليمها للحقيقة ترك العلم بها، وهو الجهل الذى أوقع كثيرين من الأدعياء فى مهاوى الضلالة والكفر نعوذ بالله من الجهل بطريقنا هذا، ومن السير بغير المرشد الكامل وكيف يصل من لا دليل له، أو يفهم من مفقه له؟!.
ومعالم الطريق خفية، والمقصود عظيم كبير متعال، والمرشد الكامل كبريت أحمر، فمن لم يبذل نفائس أنفاسه فى البحث عنه، وكرائم أمواله فى الحصول عليه، ونفسه ليرضيه ويقتدى به، فهو طالب لحظه وشهوته ومغرور، ولنا فى اصطلاحنا إشارات تومى إلى حقائق، إن لم يتلقها السالك أو الواصل من المرشد الكامل حقاً، ضل فى سيره ووصوله، فالرسم عندنا هو الواصل بنفسه لأنه فى الحقيقة رسم وصورة، وتسليم الرسم إلى الحقيقة تسليم معانى الإلهية للإلهية، وصفات الربوبية إلى الربوبية، حتى يكون متجملاً بحقيقته، متحلياً بحلل رتبته، فلا يرى له سمعاً ولا بصراً، ولا حولاً ولا قوة، ولا علماً ولا ظلاً، ولا نفعاً ولا ضراً، وبذلك يكون سلم الرسم للحقيقة، وتخلى عن الدعاوى الباطلة والنسب الكاذبة، مع القيام بما فرض الله سبحانه وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع المسارعة إلى نوافل البر، بما قام به الأئمة، مسلماً تلك الرسوم إلى الحقيقة، منها وبها ولها، بحسب مشهده، وقد ادعى بعض أهل الباطل والضلال، أن قولهم هدم الرسوم، هو ترك العمل بالشريعة، وقولهم تسليم الرسم للحقيقة، أى: ترك أحكام الشريعة، وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل، وليست الأحكام الشرعية رسوماً ولكنها حقيقة، فيجب على الواصل، أن يرد الرسوم: وهى أوهامه، وخيالاته، وظنونه الناتجة من حظوظه، وشواته، إلى الحقيقة لتى هى الأحكام الشرعية، وهذا الظن السىء جعل كثيراً ممن وقفوا عند قشور الشريعة من العلماء أهل الظاهر، يؤولون كلامنا إلى غير ما نريد، بحسب ما وصل إليه مبلغهم من العلم، فأنكروا على الرجال حالهم وكشفهم، لما فهموه وما رأوه من أهل الضلال الجهال، ولولا أنى أكره أن أشغل الواصلين بما لا فائدة فيه، لكشفت لهم الحقيقة فى هذا الموضوع، ولكنى أكل نفسى وأكلهم إلى الولى الذى يتولانا بولايته، وأنبه إخوانى إلى نظر هذا الموضوع بفكر وروية، وأن يتذوقوا من كلامى ذوقاً لا يخرجهم عن مرادى إلى ما يخالف الشرع الشريف، أسأل الله أن يحفظنى وإخوانى والمؤمنين جميعاً من السير فى طريق الله على غير هدى، وأن يمن علينا جميعاً بسوابع إنعامه، ومزيد فضله، إنه مجيب الدعاء رب العالمين.
التسليم عند أهل التمكين
تسليم ما سوى الحق إلى الحق، فالتسليم عند الواصلين تسليم ما للحق للحق بتبرئة من الحول والقوة، والتسليم عند المتمكنين تسليم تمليك له سبحانه، قال تعالى: (وَلِلَّهِ مَا فى السَّمَاوَاتِ وَمَا فى الْأَرْضِ) سورة آل عمران آية 129، فهم قد شهدوا معانيهم الحقية التى هى عين ما هم عليه فى الحقيقة، ثم كاشفهم الحق بأنه مبدعهم وموجدهم، وأنهم له وليسوا لهم، فسلموا ما له ملكاً، وأقبلوا عليه عبيداً مملوكين، حتى حصلت المواجهة بين العبد والسيد، فكان أقرب إليهم من أنفسهم، وأولى بهم منها، وأحب إليهم منها، ثم بلغوا من القرب مبلغاً تركوا فيه التسليم، لأنه أشهدهم أنه سبحانه أسلمهم به إليه، وليس لهم فى الحقيقة عمل، فخلصوا من وحلة التوحيد، ومن اللبس من خلق جديد، وفازوا بحقيقة التنزيه والجريد، فهم العبيد حقاً، الذين أقامهم الله سبحانه عمالاً له، وأكرمهم بأن جعلهم أولياءه، فهم أولياؤه وهو وليهم أسأل الله أن يجعلنا منهم، وأن يكرمنا بسرهم، إنه مجيب الدعاء.. آمين.
ومن دعاء النبى صلى الله صلى عليه: (اللهم أنت ربى لا إله إلا انت..خلقتنى وأنا عبدك، وعلى عهدك وعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، وأبوء لك بنعمتك على، وأبوء بذنبى، فاغفر لى فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت).
والتسليم والإسلام بمعنى واحد، ولذلك ورد فى بعض الروايات: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) البقرة آية 128، بالتشديد، لأن مدلول اللفظين الاستسلام لحكم الله وقضائه سبحانه، فالإستسلام للحكم شأن المؤمنين العارفين، بدليل قوله تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فى أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) النساء آية 65، فوصفهم الله بصفات ثلاثة: بأن يرجعوا فى أمورهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وبأن يشرح الله صدورهم لما يحكم به، وبأن يسلموا تسليماً ينبىء عن الرضا الحقيقى، لا تسليماً مشوباً بكراهة ولا قبض صدر، فإن كثيراً من الناس يسلم مكرها، وليس هذا بالتسليم عندنا.
والتسليم لقضاء الله فيما يجريه الله تعالى من الشئون، هو الميدان الذى تتسابق فيه همم المؤمنين، لأن العبد بين حالتين: شدة ورخاء، فالمؤمن الكامل يرضى عن الله سبحانه وتعالى فى الشدائد رضا عن انشراح صدر، لعلمه بحكمة ذلك، لأن الله سبحانه وتعالى له فى كل شأن حكماً تطمئن بها قلوب المؤمنين.
والمؤمن الكامل يشكر الله سبحانه وتعالى عند الرخاء، شكراً ينبىء عن حقيقة التوحيد التى كشفت له أنه عدم، لولا فضل الله عليه، وأنه لا يستحق شيئاً إلا بفضل الله ورحمته، فيكون شكره خالصاً ورضاه حقيقياً، ومنهم من يعتقد سرعة إغاثة الله تعالى، وينتظر فضله فيصبر، ومنهم ... ومنهم، قال الله تعالى: (هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ) سورة آل عمران آية 163، وقال سبحانه وتعالى: (وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ) سورة الصافات آية 164.
والتسليم لقضاء الله تعالى يتصل بالتسليم بحكم الله، فإن المؤمن إذا عرف نفسه عرف ربه، ومتى عرف ربه جمله بالتسليم له سبحانه وتعالى، ويعرف أن الحكم لله سبحانه وتعالى، قال الله تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ)سورة الأنعام آية 57، فكذلك جريان الشئون إنما هو بقضاء وقدر من الله تعالى، فالمسلم للحكم يسلم للقضاء بلا معارضة ظاهرة، إنما التسليم إرجاع الأمور كلها إلى الله تعالى، واعتقاد أنها منه سبحانه، وأنه لا يحصل شأن من الشئون إلا بتقديره.
وهنا لطيفة تخفى على كثيرين من أهل التسليم، فإن الإنسان إنما يسلم لحكم الله فيما يتعلق بالمعاملات والعبادات والأخلاق والعقيدة، ولا يسلم فى الحكم بما جاء يخالف صريح الشرع، بل يلزمه أن يعارض فيه، ويدفعه ما استطاع، ويكرهه حتى يغلب على أمره، وكذلك فى القضاء بصفته عبداً لله يجب عليه أن يسلم لله جل جلاله، فيما يتعلق بالشئون بعد بذل ما فى وسعه لدفع المضرة عن نفسه وجلب الخير لها، ثم بعد ذلك يسلم له مسارعاً إلى العمل بأمره سبحانه، فإن الواجب علينا أن نسعى لطلب ما لابد لنا منه كما أمر، ونرضى عنه سبحانه فيما قدر.
وهناك تسليم للجهلاء ليس من الدين فى شىء، فترى الجاهل يعصى الله جل جلاله، فإذا سألته يقول لك: مقدر على، وأنا راض بما قدره الله على، وقد جهل، فإن الله جل جلاله قدر ما يحبه وما يكرهه، والعبد مطالب أن يكره ما يكرهه الله، وأن يحب ما يحبه الله، ومطالب أن ينسب إلى نفسه ما يكرهه الله أدبا مع الله، وأن ينسب إلى الله ما يحبه الله تحقيقاً لكمال التوحيد، ومن قال تلك الكلمة ارتكب إثمين عظيمين: مخالفة لحكم الله تعالى، وسوء الأدب مع الله تعالى، فالأدب مع الله شريعة، والتحقق بالتوحيد بأن الله قدر كل شىء حقيقة، ومن ترك الشريعة كيف يتفضل الله عليه بالحقيقة، والحقيقة روح الشريعة؟!
ولا يكون التسليم تسليماً حقاً إلا إذا تجرد من العلل، فمن شهد نفسه مسلماً، وسكنت نفسه إلى التسليم، لم يكن مسلماً عند العلماء حتى يفنى عن تسليمه، ويرى أن الله تعالى هو الذى من عليه بالتسليم، وأنه أسلم به إليه سبحانه، فإن التسليم من أعلى مقامات اليقين ومنازل المقربين، قال الله تعالى: (إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) سورة الشعراء آية 89.
التسليم عند السالكين
رجوع ما تقف دون دركه العقول، بما لا ينكشف للأوهام من الغيب للمدبر القادر، ثم الإذعان لما يخالف ترتيب العقول، ويضاد تجارب النفوس من تداول الدول تصديقاً لقوله تعالى: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) سورة آل عمران آية 140، مع الرضا بما قسم معتقداً أنه بتقدير أزلى، ثم المسارعة ببذل المجهود إلى ما يتجمل به المريد من الأحول السنية، فإن أسرار الغيب تزاحم العقول مزاحمة، إن استرسل المريد معها حجبته عن مشاهدة حكمة الوجود، وإن لم يخضع لمقتضيات القدر فى سير الدول حجب عن التصديق بالقدر، وإن لم يسارع إلى بذل الجهد لنيل ما به رقيه وقف دون الغاية التى تسارع إليها نفوس المريدين الطاهرين.
التسليم عند الواصلين
هو تسليم العلم إلى الحال، بمعنى أن العلم سير مخصوص فى الأحكام، فمن حكمه لم يفز بالرضوان الأكبر، لأن علم الأحكام فرقان ما بين المنزلتين، أو رد، فمن حكمه على الحال، إما أن يقف بين المنزلتين، أو يرد إلى البعد، والحال داع لبذل قصارى المجهود، لينتقل من الأعراف إلى التعريف، ومن التعريف إلى التعرف، ومن التعرف إلى المعروف سبحانه وتعالى، بمجاهدة لا يتحملها إلا أهل الأحوال السنية، الناتجة عن بذل ما فى الوسع للتمسك بالأعمال السنية، وليس المراد بتحكيم الحال على العلم ما يفهمه من لا معرفة لهم، من أن الأحوال خروج عن النمط والأوسط، ومفارقة للصراط المستقيم، فإن هذا ليس هو الحال، وإنما هو استدراج- نعوذ بالله منه إنما الأحوال عندهم أن تنكشف لك الجنة وما فيها، فترى مهانة الدنيا وما فيها، وترى أن نفساً تصرفه فى طلب الدنيا قد يحجبك عن تلك الدار المنجلية لك، ويتتج لك خيبة وندامة، فتبخل بأنفاسك وتجود بما سواها فراغاً لقلبك، وأحوال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هى الأحوال العلية، فإنهم بذلوا أوطانهم ففارقوها فرارا بدينهم، وبذلوا أموالهم ثقة بربهم جل جلاله، وبذلوا أنفسهم فرحين راضين عن ربهم، لا لعلة دعت ولا لغرض بعث، إلا وجه الله الكريم، وتلك الأحوال هى موازين أهل الأحوال العلية، وكل من ظن أنه من أهل الأحوال، ولم تكن أحواله مطابقة لأحوالهم فهو مستدرج مخدوع، إذ الحال مقتضى الوقت ولازمه، فإن اقتضى الوقت الهجرة من الوطن هاجر، وإن يقدم نفسه قدمها لله راضياً عنه مرضياً منه، ومن كان حاله يقتضى جمع أموال الناس واستخدمهم، والشهرة بينهم، فحاله حال مستدرج.
إذا علمت من أجمالى هذا ما لابد لك منه من علم الحال، فهذا هو الحال الذى يحكم على العلم، ويجب أن نسلم له العلم يفعل فيه ما يشاء، والرجل ذو الحال العلية ينوع الله به أفكار الخلق إلى منازل القرب والحب، وللحال تأثير روحانى على قلوب المريدين، ربما أخرجهم من الملك إلى الملكوت فى نفس، بل ومن أنفسهم إلى منفسها سبحانه، ثم يسلم القصد إلى الكشف، وليس بتسليم القصد إلى الكشف أنه عند الكشف لا يكون قصد، وذلك ما لا يقول به عارف بالله، ولكن المراد من تسليم القصد إلى الكشف أن المريد قد يقصد فى بدايته مقصوداً بقدر علمه، فإذا من الله عليه بالمشاهدة جهل فحكم القصد فى الكشف، وقد يكون مقصده الجنة، فتلوح عليه أنوار قدس العزة، فيقف قصده عند الجنة، فيكون شهوده فوق قصده، بل الواجب عليه أن يسلم قصده إلى كشفه، فيكون مقصوده فوق الكشف، فإن الكشف يظهر له ما فوق علمه، قال الله تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ) سورة البقرة آية 282، وقال تعالى: (إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) سورة لأنفال آية 29، وقال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) سورة الحديد آية 28.
ومن يسلم القصد إلى الكشف يدوم رقيه، وينمو القصد عنده، ومن أنساه الكشف القصد، وقد سلم القصد إلى الكشف، ومن فهم أن تسليم القصد إلى الكشف أن الكشف لا يجعل للواصل قصداً، فقد جهل طريقنا، فإن الكشف ينمو به وجد الأوراح المحرق، وتشتد له الحيرة، ويقوى به الشوق المزعج إلى القصد الأعظم الذى شهدت الأرواح آياته، وواجه السر تجلياته، فالكشف يقوى به المقصد، ثم يسلم الرسم للحقيقة، وقد جهل بعض من لا علم لهم بطريقنا، فظن أن المراد بالرسم الأحكام الشرعية، وتسليمها للحقيقة ترك العلم بها، وهو الجهل الذى أوقع كثيرين من الأدعياء فى مهاوى الضلالة والكفر نعوذ بالله من الجهل بطريقنا هذا، ومن السير بغير المرشد الكامل وكيف يصل من لا دليل له، أو يفهم من مفقه له؟!.
ومعالم الطريق خفية، والمقصود عظيم كبير متعال، والمرشد الكامل كبريت أحمر، فمن لم يبذل نفائس أنفاسه فى البحث عنه، وكرائم أمواله فى الحصول عليه، ونفسه ليرضيه ويقتدى به، فهو طالب لحظه وشهوته ومغرور، ولنا فى اصطلاحنا إشارات تومى إلى حقائق، إن لم يتلقها السالك أو الواصل من المرشد الكامل حقاً، ضل فى سيره ووصوله، فالرسم عندنا هو الواصل بنفسه لأنه فى الحقيقة رسم وصورة، وتسليم الرسم إلى الحقيقة تسليم معانى الإلهية للإلهية، وصفات الربوبية إلى الربوبية، حتى يكون متجملاً بحقيقته، متحلياً بحلل رتبته، فلا يرى له سمعاً ولا بصراً، ولا حولاً ولا قوة، ولا علماً ولا ظلاً، ولا نفعاً ولا ضراً، وبذلك يكون سلم الرسم للحقيقة، وتخلى عن الدعاوى الباطلة والنسب الكاذبة، مع القيام بما فرض الله سبحانه وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع المسارعة إلى نوافل البر، بما قام به الأئمة، مسلماً تلك الرسوم إلى الحقيقة، منها وبها ولها، بحسب مشهده، وقد ادعى بعض أهل الباطل والضلال، أن قولهم هدم الرسوم، هو ترك العمل بالشريعة، وقولهم تسليم الرسم للحقيقة، أى: ترك أحكام الشريعة، وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل، وليست الأحكام الشرعية رسوماً ولكنها حقيقة، فيجب على الواصل، أن يرد الرسوم: وهى أوهامه، وخيالاته، وظنونه الناتجة من حظوظه، وشواته، إلى الحقيقة لتى هى الأحكام الشرعية، وهذا الظن السىء جعل كثيراً ممن وقفوا عند قشور الشريعة من العلماء أهل الظاهر، يؤولون كلامنا إلى غير ما نريد، بحسب ما وصل إليه مبلغهم من العلم، فأنكروا على الرجال حالهم وكشفهم، لما فهموه وما رأوه من أهل الضلال الجهال، ولولا أنى أكره أن أشغل الواصلين بما لا فائدة فيه، لكشفت لهم الحقيقة فى هذا الموضوع، ولكنى أكل نفسى وأكلهم إلى الولى الذى يتولانا بولايته، وأنبه إخوانى إلى نظر هذا الموضوع بفكر وروية، وأن يتذوقوا من كلامى ذوقاً لا يخرجهم عن مرادى إلى ما يخالف الشرع الشريف، أسأل الله أن يحفظنى وإخوانى والمؤمنين جميعاً من السير فى طريق الله على غير هدى، وأن يمن علينا جميعاً بسوابع إنعامه، ومزيد فضله، إنه مجيب الدعاء رب العالمين.
التسليم عند أهل التمكين
تسليم ما سوى الحق إلى الحق، فالتسليم عند الواصلين تسليم ما للحق للحق بتبرئة من الحول والقوة، والتسليم عند المتمكنين تسليم تمليك له سبحانه، قال تعالى: (وَلِلَّهِ مَا فى السَّمَاوَاتِ وَمَا فى الْأَرْضِ) سورة آل عمران آية 129، فهم قد شهدوا معانيهم الحقية التى هى عين ما هم عليه فى الحقيقة، ثم كاشفهم الحق بأنه مبدعهم وموجدهم، وأنهم له وليسوا لهم، فسلموا ما له ملكاً، وأقبلوا عليه عبيداً مملوكين، حتى حصلت المواجهة بين العبد والسيد، فكان أقرب إليهم من أنفسهم، وأولى بهم منها، وأحب إليهم منها، ثم بلغوا من القرب مبلغاً تركوا فيه التسليم، لأنه أشهدهم أنه سبحانه أسلمهم به إليه، وليس لهم فى الحقيقة عمل، فخلصوا من وحلة التوحيد، ومن اللبس من خلق جديد، وفازوا بحقيقة التنزيه والجريد، فهم العبيد حقاً، الذين أقامهم الله سبحانه عمالاً له، وأكرمهم بأن جعلهم أولياءه، فهم أولياؤه وهو وليهم أسأل الله أن يجعلنا منهم، وأن يكرمنا بسرهم، إنه مجيب الدعاء.. آمين.