عدد المشاهدات:
ميلاد الأمَةِ
ربَّتَهَا-وقد اقتصر الحديث
الذي معنا على ذكر هاتين العلامتين
الأولى: إذا ولدت الأمة ربتها، ومعناها أن الأمة في
الإسلام إذا ولدت من سيدها ولدًا أو بنتًا، صار هذا المولود سيدها أو سيدتها، وفي
الوقت نفسه هو ابنها أو بنتها.
ومثل هذه الأمة كان ولدها هذا، أو بنتها هذه، سببًا في
عتقها وتحريرها من الرق والعبودية وتصير حرة، وأمرها بيدها مثل بقية النساء
الحرائر، وليس مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث الشريف
هذه الأمة فإن ذلك أمرًا كان يقره الإسلام أيام وجود الرقيق في المجتمع الإسلامي،
وقد قضى الإسلام على هذه الظاهرة الاجتماعية بما رغب فيه، وشوق إليه من الرحمة
والمغفرة التي جعلها الله جزاء لتحرير الرقيق وعتق الرقاب، وقد فرض الإسلام العتق
جزاءًا في كل كفارة من الكفارات، مثل كفارة اليمين بالله ، وكفارة الظهار وكفارة
القتل الخطأ كأساس لبراءة ذمة المسلم من هذه المخالفات التي وقع فيها، وقد قضى
الإسلام على الرق بتلكم التشريعات الكريمة، وبهذا تحققت وصية أمير المؤمنين عمر بن
الخطاب رضي
الله عنه وهي قوله:
(متى اسْتَعْبَدتُم
الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا).
ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يريد بذكر هذه العلامة
وهي: {أن تلد الأمةُ ربتها}
كثرة عقوق الأولاد والبنات لأمهاتهم حتى يتخذوا من أمهاتهم إماءً وخدمًا، يتسلطون
عليهن، ويتحكمون فيهن، ويؤذونهن وينهرونهن، ويتنكرون لهن حتى كأنهن لسن بأمهاتهم ولا
تنال الأم من ولدها أو بنتها ما يسد رمقها أو تقضي به ضرورياتها إلا بشق الأنفس،
أو بواسطة القضاء والمحاكم.
وقد كثرت هذه الأحداث في زماننا هذا، أو أن الولد يجفو
أمه ويهجرها ويؤذيها إرضاءًا لزوجته أو أولاده مثلاً، وما يقال في الأم يقال كذلك
في الأب، ولكن الحديث ذَكَرَ الأم لأنها أحق بحسن الصحبة والعشرة والإحسان لضعفها
ولأنها أكثر تعبًا ومعاناة في تربية أولادها من الأب، وأشد عاطفة عليهم ورحمة بهم
من الأب، ومع ذلك فإنها تلقى منه هذا الجزاء السيئ الذي حرمه الله ورسوله ونهى عنه
الإسلام، وكذلك قد يولد للأب سيده وربه تحكمًا وتسلطًا، وغلظة وجفاءً وامتهانًا
وإذلالاً، وهذا من أبرز علامات الساعة التي شاعت في المجتمعات الإسلامية اليوم،
فضلاً عن كونها عمت المجتمعات غير الإسلامية لتفكك الروابط الأسرية، وعدم الاكتراث
بها بالمرة، وأصبحت هذه المجتمعات أشبه بالحيوانات الضالة في صحراء الدنيا القاحلة
من معاني الفضيلة والكرامة، وكلمة {ربتها} في الحديث الشريف فيها معنى التعالي والتكبر،
وفيها معنى المن والتهكم والسخرية، لأن الإنسان إذا انسلخ من صفاته الإنسانية وهي
التواضع والشفقة واللين والحب والرحمة والرفق والصبر والتسامح والحلم والبذل
والعطاء والكرم والسخاء، انقلب شيطانًا مَرِيدًا وإن كان في شكل إنسان طويل القامة،
عريض الأظفار يمشي على رجلين، بل صار أضر من الشيطان بما له من الدهاء والمكر
والحيلة.
وقد كان هذا من علامات الساعة لأن الإنسان قد فقد
إنسانيته ولم يكن فيه خير لأرحم الناس به بعد الله ورسوله وهما الوالدان أو
أحدهما، وإذا وصلت الإنسانية إلى هذا الشر المستطير فكيف يكون فيها خير لغير
الوالدين؟. وبذلك تصبح الحياة على ظهر هذه الأرض نوعًا من العذاب الأليم، ويسخط
الله على الأبناء بسبب سخط الوالدين أو أحدهما عليهم، ولو كانا كافرين، وعند ذلك
يرفع الله البركة من الأرض، وتكثر المجاعات والغلاء والعناء بين الناس، وتحصل المظالم
والمفاسد بين الخلق، وتدق الأبواب علامات قيام الساعة مصداقًا لقوله تعالى: ﴿أَزِفَتْ الْآزِفَةُ لَيْسَ لَهَا
مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ﴾[1] وذكر لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه العلامة في حديث
جامع لأصول الدين من الإسلام والإيمان والإحسان ليوضح للناس أن وجود هذه العلامة
في المجتمع الإسلامي هدماً لمبادئ الإحسان والإيمان والإسلام . لأن الله قرن
الإحسان إلى الوالدين بعبادته وتوحيده فقال جل شأنه: ﴿وَاعْبُدُواْ
اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾[2]. هذا وقد رأيت بعيني
رجلاً يطلب من ولده جلباباً جديداً يلبسه في يوم عيد الفطر لأن ملابسه قديمة
فانهال الابن على وجه أبيه ضرباً ويقول له: (إزاي تطلب مني جلبية في الشارع قدام
الناس يا راجل يا مجنون) فأسرعت ومنعته عن ضرب أبيه.
وإن المجتمع إذا سمح لهذه الظاهرة بالانتشار فيما بينهم,
كان مجتمعاً متهالكاً مضمحلاً, آخذاً في الفناء وهنا يحين حينه, وينتهي أجله,
وتقوم قيامته. والله حكم عدل إما أن يُبَدِّلَهُمْ بقوم آخرين, وبذلك تكون ساعتهم
قد جاءتهم, وهي إهلاكُهُم وإما أن تكون القيامة الكبرى لجميع الخلق قد قامت, لأن
موعدها قد حضر وتنتهي بهم الحياة على هذه الدنيا, والله بكل شيء عليم, وعلى كل شيء
قدير.