آخر الأخبار
موضوعات

الجمعة، 19 أغسطس 2016

- كتاب أيام الله

عدد المشاهدات:
كتاب أيام الله 
للعارف بالله فضيلة الشيخ محمد على سلامة 
مدير اوقاف بورسعيد سابقا
بسم الله الرحمن الرحيم     
الحمد لله الأول بلا بداية، والآخر بلا نهاية، الأزلي بلا سابق، الأبدي بلا لاحق، أول في آخريته، آخر في أوليته، أزلي في أبديته، أوجد العوالم من العدم بقدرته، وأمدهم بعنايته ورعايته، ثم يميتهم بعد ذلك بقهر قوته، ثم يبعثهم يوم القيامة بأمره ومشيئته، لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، وهو على كل شيء قدير.
والصلاة والسلام على أول خلق الله، وخاتم رسل الله وأنبيائه سيدنا محمد صلى الله علية وسلم الفاتح لما أغلق، والخاتم لما سبق، والناصر الحق بالحق، والهادي إلى صراط مستقيم، وعلى آله وأصحابه مصابيح الدجى، وكواكب الهدى، ومن تابعهم من غير ضلالة وهوى إلى يوم الدين.
وبعد: فإن إخواني في الله رضي الله عنهم، قد طلبوا منى وألحوا عليَّ كثيرا أن أكتب لهم رسالة صغيرة، أبين فيها أيام الله فاستخرت الله تعالى وكتب لنفسي ولإخواني المسلمين هذه الرسالة، التي أرجو الله عزَّ وجلَّ  أن يجعلها ذكرى لقلبي، وتذكرة لأخواني، ولقد بينت فيها على قدري ما فتح الله به علىَ من أخبار هذه الأيام، وما أجراه الله فيها وسيجريه من أحداث هائلة تهم كل مؤمن ومؤمنة، ويحتاج إلى العلم بها كل مسلم ومسلمة، فإن معرفة هذه الأيام دين ندين إلى الله به، والتذكير بها واجب على العلماء العاملين، حتى يستحضرها كل مسلم على قدر قواه الروحانية، ويعيش في ذكرياتها فإن الذكرى تنفع المؤمنين.
وقد تحريت الدقة والصواب ما استطعت إلى ذلك سبيلا، ولكنني مع هذا أشعر بعجزي عن الوفاء بقدر هذه الأيام، وعن الوفاء بكل ما يحتاجه المسلم من علم ومعرفة بها، فالتمس من إخواني عند اطلاعهم على هذه المعلومات الضحلة، والمفاهيم البسيطة، التي حوتها تلك الرسالة تجاه هذا الأمر الجلل الذي لست أهلا للحديث عنه، أن يلتمسوا لي العذر في قصوري وتقصيري، وأن يسألوا الله لي العفو والمغفرة، وأن يصححوا لي أخطائي التي وقعت مني أثناء كتابتها، فلست معصوما من الخطا: ﴿وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾،  [53،يوسف]. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، صلاة يدوم لنا مددها ونفعها إلى أبد الآبدين.. آمين يا رب العالمين ﴿رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾، [4،الممتحنة]. ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم.
                                  العبد المنكسر إلى الله
                                             المتوسل إليه بسيدنا رسول الله
                                                                   محمد على سلامة


بسم الله الرحمن الرحيم
أيام الله            
قال الله تعالى: ﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأيام اللّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾، [5،إبراهيم].
وأيام الله هي الأوقات الخالدة ذات الأمجاد العظيمة، والشئون العجيبة. وهي الآنات التي أظهر الله فيها مكنون غيبه، وما قدره في أزله، وما أراد من علمه.
وهذه الأيام لجلال قدرها جعلها الله فاتحة وبداية للوجود الإنساني، كما جعلها تكريما وتشريفا لرسله وأنبيائه، وجعلها كذلك حركة وحياة للإنسان ثم ختم بها حياته، وطوى بها صحيفة أعماله، ثم أعاده فيها إليه للمساءلة والحساب، ثم جازاه فيها على حسن صنيعه بالخلود في دار النعيم، أو تعذيبه على سوء أفعاله وقبائح صفاته في نار الجحيم.
وتلك الأيام قد أقسم الله بها في كتابه العزيز، ليلفت الأنظار إليها، ويشد الانتباه إليها، فقال عزَّ شانه: ﴿وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾، [1-2،العصر]. إشادة بقيمة الزمن، وتنويها بقدره، وأنه عمر الإنسان وحياته، وهي أثمن ما في الوجود كله وأغلى من الذهب والفضة، والأهل والزوجة والولد، ثم أقسم الله سبحانه وتعالى بيوم القيامة، فقال سبحانه: ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾، [1،القيامة]. وقال جل شانه: ﴿وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ﴾، ليبين مواقف هذا اليوم ومشاهدته وأحواله وأهواله، وما ينتهي إليه الأمر، من تكريم المؤمنين، وإهانة الكافرين.
هذه الأيام سأذكرها وأبينها على قدر معرفتي، والله ورسوله أعلم، وإنما هي تذكرة وذكرى لنفسي ولأخواني المسلمين، عسى الله أن ينفعني وينفعهم بها، إنه نعم المولى ونعم السميع المجيب وتلك الأيام هي كالآتي:
اليوم الأول: يوم الميثاق
وهو اليوم الذي جمع الله فيه الأنبياء والمرسلين، واخذ عليهم عهدا موثقا، وعقدا قويا، شهد عليه الحق عزَّ وجلَّ وأشهدهم جميعا علية، بأن يؤمنوا برسول الله الخاتم، وأن ينصروه ويؤيدوه، وقد اخبرنا الله بهذا الميثاق في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأولَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾، [81-82،آل عمران].
وإخبار الله لنا بهذا الميثاق، ليعلم الخلق أجمعون قدرا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنزلته من الأنبياء والرسل عليهم السلام، وأنه سيدهم وخاتمهم ورسولهم الذي امنوا به جميعا، ونصروه وتابعوه، ويشروا به أممهم، ودعوهم إلى الإيمان به مثلهم، حتى أن اليهود الذين كانوا يعيشون في الجزيرة العربية قبل بعثته صلى الله عليه وسلم، كانوا يستنصرون به، ويستفتحون به على أعدائهم، ويقولون لهم: سيبعث نبي قد أظلنا زمانه، نؤمن به ونتبعه، ونقتلكم معه قتل عاد وإرم، وكانوا ينعتونه لهم حسب ما جاء في كتبهم المقدسة: ﴿فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ﴾، [89،البقرة].
وبفضل الله أبين معنى هذه الآية الشريفة على قدر ما فهمت منها، وفوق كل ذي علم عليم. فيقول الله لحبيبه ومصطفاه: أذكر يا محمد للمؤمنين وللناس جميعا هذا اليوم الذي أخذ الله فيه العهد والميثاق على جميع الأنبياء إليك، وذكرهم به وبين لهم هذا المشهد العظيم، ليزداد المؤمنون إيمانا بآيات الله، وبأيام الله، وبأخبار الله عزَّ وجلَّ، وليراجع الكافرون – من اليهود والنصارى وغيرهم – أنفسهم ويذعنوا لله ولرسوله، الذي أذعن له الأنبياء، وصدَّق به المرسلون من الأزل، وهم الذين تلقوا عن الله أحكامه ودينه ورسالاته، وبلغوها إليهم وإلى جميع العالمين، ومع ذلك فهم عليهم السلام أول من آمن به وصدقه ونصره، ولم يتأخر واحد منهم، وإن كنتم تزعمون أنكم أتباع الرسل والأنبياء من قبل، فهؤلاء هم الأنبياء والمرسلون أول المؤمنين به صلى الله عليه وسلم، فما لكم قد كفرتم وجحدتم به.
وهذه الآية الشريفة حجة قصمت ظهور الكافرين والمكذبين أجمعين، ولم يتبق لهم أدنى شبهه يتشبثون بها، وقد قطعت عليهم السبيل من كل جانب، وتركتهم في حيرة من أمرهم، وفي ظلمات لا يبصرون، لأنها معجزة لرسول الله  صلى الله عليه وسلم لم يستطيعوا إنكارها ولا معارضتها.
وأنه لشرف عظيم، وتكريم في غاية الإجلال والإعظام، لرسول الله، أن يتولى الله بنفسه أخذ هذا ميثاق له صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى ﴿مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ﴾، ولم يقل المرسلين، لأن النبوة تسبق الرسالة، ولأنهم أُكرموا بالنبوة في هذا المشهد. والنبوة في حقيقتها إخبار الله تعالى من اصطفاهم من خلقه بمعاني الغيب المصون، وبما أراده الله منهم ومن عباده من حقيقة الدين، الذي أوجبه الله عليهم وعلى الناس أجمعين، أما الرسالة فإنها تكون في عالم الكون، وفي الوقت الذي أقته الله لكل رسول، وفي القوم الذين أراد الله أن يرسله إليهم.
وقوله تعالى: ﴿ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ﴾، يعنى بحق ما أعطيتكم ومنحتكم من كتاب وحكمه. والكتاب هو ما أنزله الله إليهم من الهدى والنور، والآداب والأحكام والوصايا، والحكمة هي ما أكرمهم الله به من الحلم والرحمة، والتواضع والصبر، والرضا والقوة والشجاعة في تبليغ الرسالة، ويجوز أن تكون الحكمة هي ما وهبهم الله إياه من العلوم والمعارف القدسية الخاصة، التي يأتنسون بها في أنفسهم، ويفيضونها على من أحبهم الله وتابعوهم بصدق وولاء، من أوصيائهم وأمنائهم وورثتهم.
وقد استحلفهم الله بالكتاب والحكمة لأنهما أجلُّ نعمة، وأعظم فضل، وأكبر عطاء أسعدهم الله به، وفضلهم به على سائر العالمين. فلم يكن هناك نعمة في الدنيا والآخرة أعظم من ذلك.
قوله تعالى ﴿ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ﴾، وقد ذَّكر الله حبيبه في هذا المشهد الجليل بالرسالة، ولم يذكره بالنبوة كباقي الأنبياء، والرسالة معا، ذلك لنعلم انه صلى الله عليه وسلم رسول الله من القدم ومن الأزل، وانه في المشهد كان رسولا للأنبياء صلوات الله وسلامة عليهم أجمعين. وأنهم فعلا آمنوا به، وأسلموا له، وأقروا بفضله، وذلك لما جاءت دورة الكيان، وقام كل رسول بدعوة قومه إلى الله، وقابلتهم الشدائد والخطوب، كانوا يستغيثون برسل الله صلى الله عليه وسلم، ويتوسلون بجاهه إلى الله غز وجل، فينصرهم الله لأنهم عرفوا قدره ومكانته عند الله عزَّ وجلَّ يوم أخذ الميثاق عليهم. والتنوين في كلمه ﴿رَسُولٌ﴾، للتعظيم.
قوله تعالى: ﴿ ُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ﴾،  من الكتاب والحكمة، يعنى مؤكد له، ومبين له، وكاشف لما التبس منه على الناس، وخصوصا ما غيرَّه وبدَّله وحرَّفه أهل الكتاب.
وقوله تعالى ﴿ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ﴾، يعنى حضر إليكم. وقد حضر إليهم في اخذ ميثاق حقيقة لا تمثيلاً، ليشهدوه وليعرفوه فلا ينكروه بعد ذلك. وإني اعتقد والحمد لله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء إلى كل نبي ورسول في عالم الكون بحقيقته التي شهد عليها يوم الميثاق، لينصره ويثبته ويؤيده، ويُشْهِدَه من الأسرار والغيوب التي يتحقق بها كل منهم، أنه صلى الله عليه وسلم رسولهم وسيدهم وخاتمهم، وأنهم قد انتفعوا به، وتلقوا عنه، وتعلموا منه ما لم يكونوا يعلمون، ولا عجب في ذلك ولا غرابة فيه، فإن الأرواح الكاملة التي وهبها الله لرسله، لها طاقات وقدرات، تعجز عن إدراكها أرواح المؤمنين، ولو قرأت معي فول الله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، [8،النمل].لرأيت العجب العجاب. وشهدت معي الأسرار وقد رفع عنها الحجاب، والله يرزق من يشاء بغير حساب.
قوله تعالى ﴿لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ﴾، أي يا أيها الأنبياء بحق ما آتيتكم من كتاب وحكمة لتؤمنن به ولتنصرنه. وكما أنه جاءكم مصدق لما معكم ومؤكد له، وناصر لكم على أعدائكم، وشاهد ببراءتكم مما نسبوه إليكم، وشاهد بصدقكم وتبليغكم ما أرسلتم به، فآمنوا به وصدقوه وانصروه كذلك.
وقد جعل الله شهادته صلى الله عليه مسلم للأنبياء في هذه الآية الشريفة وتصديقه لهم، في مقابلة إيمانهم به ونصرتهم له عليه الصلاة والسلام، ليكون هو صلى الله عليه وسلم مساوٍ لهم جميعا. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، وقال جلَّ شانه: ﴿وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾، [113،النساء].
قوله تعالى: ﴿قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي﴾، أي قال الله للأنبياء أأقررتم. والإقرار هو الاعتراف المتكرر من المعترف، لأن الإيمان يحتاج إلى التجديد وكثره الإقرار به من المؤمن، فإننا جميعا في كل وقت نكرر الإقرار بالإيمان، ونقول في الصلاة والأذان والإقامة، وغيرها من العبادات والأذكار، أشهد أن لا إله إلا الله و أشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله. وإن هذا الاعتراف المتكرر هو قضية الإيمان الذي أمرنا الله به طول العمر، من غير فتور أو توقف. ﴿وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي﴾، يعنى قبلتم عهدي، وعقدتم قلوبكم على الإيمان به ونصرته صلى الله عليه وسلم.
﴿قَالُواْ أَقْرَرْنَا﴾، أي قال الأنبياء عليهم السلام. أقررنا واعترفنا، وقبلنا ما عاهدتنا عليه. ﴿قَالَ فَاشْهَدُواْ﴾، أي قال الله لهم: فاشهدوا أي وقعوا على هذا الميثاق بأسمائكم، واشهدوا بذلك على بعضكم وعلى أنفسكم. ﴿وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ﴾، يعنى المصدقين على شهادتكم، والضامنين لقيامكم بموجباتها، تعظيما لحق حبيبي لديكم، وواجبه عليكم.
ثم وجه الله الخطاب لأهل الكفر والعناد بقوله: ﴿فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأولَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾، والمعنى أن الذي يُعْرِض عن الإيمان بهذه الأخبار، وتلكم البيانات والحقائق، التي أخبر الله بها في هذه الآية الشريفة، وتولى عن الإيمان بها بعد ذلك، فإنه فاسق أي خارج على الله وآياته، وخارج على دين الله وتشريعاته التي فرضها الله على رسله وأنبيائه وعلى الناس جميعا يوم الدين.
وهذا اليوم كان أول الأيام التي اخبرنا الله بها، لأنه القاعدة الأولى في تقرير حقائق الإيمان بالله ورسله وملائكته وكتبه واليوم الآخر، وبالقضاء والقدر، ولأن أنبياء الله هم أصل هذا الوجود الإنساني، فأراد الله أن يصقل هذا الأصل بالمعارف والعلوم والمشاهد الحقَّة، لأنهم أمناء الله على خلقه، ورسله إليهم، وليكونوا قبل الرسالة من أهل الشهادة واليقين الأكبر، فتهون عليهم عظائم الأمور والمحن التي يلقونها في الدنيا. وليس من شهد ورأى كمن سمع وتلقَّى، ورسل الله قد فازوا بالأمرين، فشهدوا وعاينوا وتلقوا وسمعوا.
ولى ملاحظة في قوله تعالى: ﴿فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ﴾، وهي أن هذه الآية الشريفة، تشير إلى أن رسول الله صلى الله عليه  وسلم كان وقت أخذ الله العهد له من الأنبياء غائبا عنهم في ستائر القدس الإلهي، وبعد أن أقر الأنبياء واعترفوا به صلى الله عليه وسلم، اشتاقوا لرؤيته علية السلام، فأشهدهم الله إياه، وأطلعهم عليه وقال لهم: ها هو ذا رسولي إليكم الذي عاهدتكم له، فاشهدوه وتمتعوا به، وتهنوا برؤيته وتلقوا عنه، وأنا معكم من الشاهدين، لأنه صورة حسنى وجمالي، ومعاني كمالي وجلالي.
وليس المراد باليوم هو اليوم الفلكي، وهو حركة الأرض أمام الشمس في أربع وعشرين ساعة، بل المراد هو الوقت الذي تم فيه هذا الميثاق عن الله عزَّ وجلَّ، وإن كان لم يدر أحد تحديد هذا الوقت، لأنه في أزل الله القديم، حيث لم يشهد هذا الميثاق إلا أنبياء الله صلوات الله عليهم أجمعين، وكانوا عند ذلك أرواحا قدسية في هياكل نورانية، تجاوزت العقل والمعقول، والرسوم والحدود والزمان والمكان، والله من ورائهم محيط. وما على المؤمنين إلا التصديق والتسليم لأخبار الله عزَّ وجلَّ، قائلين كما قال الراسخون في العلم: ﴿آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا﴾، [7،آل عمران].
اليوم الثاني: يوم الست بربكم
وقد جمع الله في هذا اليوم ذرية بني آدم كلهم، بعد أن استخرجها من أصلاب آبائهم، وأخذ عليهم العهد والميثاق أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وأشهدهم على أنفسهم. وليس هناك دليل أقوى من اعتراف الإنسان وشهادته على نفسه، فالإقرار والاعتراف سيد الأدلة.
وقد اخبر الله عزَّ وجلَّ الناس جميعا بشأن هذا اليوم ليذكروه ولا ينسوه، وليعلموا أن الله عزَّ وجلَّ تعهدهم من بداية أن خلقهم، فعرَّفهم وعلمَّهم، واطَّلع عليهم بمعاني الربوبية، وخاطبهم وسمعوا منه وأجابوه سبحانه مذعنين إليه، مؤمنين به.
وهذا الخبر من الله تعالى لعباده بمثابة الإعلان والإنذار لهم، وهو قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدم مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أو تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾، [172-173،الأعراف].
وهذه الآية الشريفة قررت عمومية القرآن، وشمولية الرسالة المحمدية لجميع بني البشر، لأن الله اخذ فيها العهد على كل الناس بتوحيده وعبادته. وهي أيضا معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنها أخبرت عن غيب من غيوب القدر الإلهي الذي أجراه الله على جميع البشرية، وقد نسيته بعد أن حجبت الروح بمادة الجسم الكثيفة المظلمة، فذكَّرها الله به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ليوضح لنا أنه صلى الله عليه وسلم هو المذكِّر عن الله عزَّ وجلَّ، وهو نور العلم القدسي، وسراج العالم الروحاني والعقلاني.
وفي الآية معان كثيرة جدا، نقتطف من رياض أزهارها ما نستطيعه، لنشم أريجه الزكي، وعبيره الشذى، فقوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدم مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾، معناها: وذكِّرهم يا محمد بهذه الحقيقة، وتلك الحادثة، وهذا الوقت الذي أخذ فيه ربك ذرية بني آدم من ظهور آبائهم، وأشهدهم على أنفسهم: وهذا شيء عجيب حقا، إذ أن هذا المشهد يختلف كثيرا عن مشهد يوم الميثاق السابق، فهذا المشهد فيه ذرية أخذها الرب جلَّ جلاله من أصلاب الآباء، وهي أمور مادية وكونية، وليست الأمور القاصرة على الأرواح فقط !! وذلك لنؤمن أن قدرة الله لا تعجز عن شيء، فإذا أراد الله شيئا أبرزته القدرة على حسب مراد الله عزَّ وجلَّ.
ولم يكن المشهد أمرا تمثيليا، ولكنه حقيقة واقعية – لأن التمثيل والتصوير والخيال إنما يتأتى ممن عجز عن إبراز الحقيقة وإيجادها، فيمثلها ويصورها للخيال، ليستحضرها الخيال على قدر قوته. ولا يجوز ذلك على الله عزَّ وجلَّ، القادر الحكيم الذي إذا أراد شيئا قال له كن فيكون – ولذلك أمر الله رسوله أن يذكر بها ويوضح أمرها للناس أجمعين.
ولقد أقام الله هذه الذرية في هياكلها بين يديه عزَّ وجلَّ، وأقبل عليها بوجهه الكريم، وأشهدهم على أنفسهم، وتجلى لهم بمعاني الربوبية، وخاطبهم وقال لهم: ﴿أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ﴾،
والاستفهام هنا على حقيقته، ولكنه طلب الإقرار منهم بأنه ربهم وخالقهم، ومالكهم ومدبر أمرهم، وهو استفهام تقريري كما يقول علماء اللغة، فإنهم أقرُّوا وشهدوا على أنفسهم بأنه سبحانه ربهم، و ﴿قَالُواْ﴾، في اعترافهم بهذا ﴿بَلَى شَهِدْنَا﴾، أي نعم شهدنا على أنفسنا بأنك أنت ربنا، لا إله غيرك، ولا شريك لك، ولا معبود سواك.
وهذا الاعتراف كان منهم في هذا المشهد وهم في عقل ووعى كامل، لأنهم سمعوا الخطاب من الله عزَّ وجلَّ، وعقلوه وأجابوا بهذا الجواب، الذي يشعر بأنهم لم يكونوا في حالة قهر أو خوف أو إزعاج، وإنما يشعر بأنهم كانوا في هدوء واستقرار، وسلامة وأمن، وهذه هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها لو تركوا وشأنهم من غير أن يتدخل في أمورهم أحد. وهذا معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه}[1]
قال تعالى: ﴿ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾،
و﴿ أَن﴾، هنا حرف تعليل ونفي، بمعنى حتى لا تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا اليوم، وعن الإقرار والاعتراف بوحدانيتك وربوبيتك، وعن شهادتنا على أنفسنا بذلك، غافلين – والغافل عن شيء هو  الناسي له، أو المشغول عنه بغيره، حتى كأنه لم يكن مطلوبا منه – أو كنا عن هذا المشهد كله، بما فيه من مخاطبة الله لنا، ومواجهته إيانا بمعاني صفات الربوبية – من التربية والتعليم والتوجيه، ومن القدرة والسيطرة والمراقبة والمحاسبة والإطلاع والإحاطة، ومن الإيجاد والإمداد والخلق والتصوير، والإعطاء والمنع، والإحياء والإماتة، وما إلى ذلك من صفات الربوبية التي أشهدها الله للناس يوم ألست – إنا كنا عن هذا كله غافلين.
قوله تعالى: ﴿أو تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ﴾، يعنى لا ينبغي لكم أن تقولوا إنَّا كنا عن هذا الإشهاد والإقرار به غافلين، ولا يجوز كذلك أن تقولوا إنما كفر آباؤنا وأشركوا من قبلنا، ونحن كنا ذريتهم من بعدهم تبعا لهم، ونسير على مناهجهم الذي وجدناهم عليها، ولم نكن نعرف شيئا، غير ذلك، ولم يأت إلينا رسول يبين لنا ما نحن عليه من شرك وضلال، فليس لنا ذنب في هذا الكفر نستأهل الإهلاك والعذاب عليه، ولكنه ذنب الآباء والأجداد الذين اتبعناهم، فلا تأخذنا بما فعل المبطلون.  
لا يجوز ولا يصح لكم أن تقولو ذلك، لأن الإيمان بالله أمر فطري، مقرر في النفوس وفي الطبائع البشرية، ولا يحتاج إلى رسول ولا إلى شيء غير عقولكم التي ميزَّكم الله بها عن جميع الكائنات، فهي تدرك بداهة أن الله سبحانه وتعالى واحد لا شريك له، ولكن الرسول ضروري ليعلمنا ما يطلبه الله منا من عبادة ومعاملة، وأخلاق واعتقاد بالغيب. وبهذا تبطل حجة من كفر بالله أو أشرك به، لأن الإله الحق معروف بالبداهة والفطرة للعقول، قال تعالى: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرض لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾،
ومن رحمة الله بالإنسان أرسل إليه الرسل مذكرين ومعلمين، ومبشرين ومنذرين، حتى يؤمن الإنسان بأن الله تعهده في كل طور من أطواره بالتربية والإرشاد، والعناية والإمداد، لأن النسيان شيء يعترى النفس البشرية ويخالط فطرتها. وهناك نفوس كاملة لم يتطرق إليها النسيان، وذلك لصفاء جوهرها، ونقاء فطرتها، فإنها تنظر فيما حولها، بل في ذاتها، فترى الأدلة والآثار شاهدة على وجود الواحد الأحد الإله الحق.
وقديما قال العربي قبل مجيء الإسلام، أثر الأقدام يدل على المسير والبعرة تدل على البعير، وهذه أرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، وسماء ذات أبراج، وجبال راسيات، وكواكب سيارات، أفلا يدل ذلك على اللطيف الخبير، وهذه نفس قد استجابت لفطرتها، ولم تنسى عهد الست بربكم. وقال الإمام أبو العزائم رضي الله عنه:
من الست لم ننسى ما قد شهدنا... من جمال الجميل إذ خاطبنا
وقد سئل الإمام على رضي الله عنه، فقيل له: يا أمير المؤمنين أتذكر يوم الست بربكم؟. فقال: نعم أذكره وأذكر من كان عن يميني ومن كان عن يساري.
وذلك لأن الله قرر الذرية في هذا المشهد على ما فطرها عليه من توحيد وعدم الإشراك به، وهذا هو الإيمان في حقيقته. أما الإيمان ببقية القضايا الأخرى فيحتاج إلى بيان الرسول وإرشاده، لأنه من الغيوب التي لم يطلب الله من الإنسان أن يدركها بنفسه من غير معلم ومبين.
هذا وأن يوم الست بربكم تعيش الأرواح في ذكرياته إلى وقت أن تلتقي بأجسادها في بطن الأم. ومن الملاحظ أن جميع الذرية أذعنت وأجابت وقالت: ﴿بَلَى شَهِدْنَا﴾، ولم يتخلف أحد، وذلك لأن الاعتراف بالرب الخالق الرازق، والواحد الأحد، أمر لا يتأخر العقل عن إدراكه لأول وهلة، ومن أول نظرة، وعند أول سؤال يطرح عليه (من ربك؟) لأنه أمر بديهي لا يحتاج إلى تفكير.
ولماذا أخذ الله الذرية من الأصلاب وأشهدها على نفسها؟
لأن الأرواح شاهدة بالإلوهية والربوبية والوحدانية. بصفائها ونورانيتها. ولكن الذرية المركبة من عناصر المادة هي التي تجحد وتنسى وتحجب، فاحضرها الله وأشهدها وقررها. ولما اطلع الله عليهم، وظهر لهم في هذا اليوم بمعاني الربوبية، وأشهدهم هذه المعاني العلية عيانا، من غير حجاب ولا سحاب ( قالوا بلى).
وإنما تشهد معاني الربوبية بالعقل والقلب، والمشاعر التي في الإنسان، وهي الآلات والقوى التي استودعها الله في الإنسان ليدرك بها الحقائق والمعاني الرفيعة. وهذه الآلات والقوى هي قضية تكريم الله للإنسان التي ميزه بها على سائر المخلوقات. قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾، [70،الإسراء]
وكانت مدة اليوم الأول والثاني من أيام الله بقدر ما دار فيها من حديث الله عزَّ وجلَّ  مع أنبيائه، وأخذ العهد عليهم والميثاق منهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين، ومن حديث الله مع ذرية بني آدم، وتقريرهم على ربوبيته ووحدانيته. وبعد ذلك استمرت حقائق الأنبياء عليهم السلام في رعاية يوم الميثاق، وفي الأنس بهذا المشهد إلى ماشاء الله، وإلى ابد الآبدين، حيث أنها أرواح كاملة لا يتطرق إليها النسيان، ولا تحجبها الحياة الكونية، وكذلك استمرت أرواح ذرية بني آدم في مراقبة وملاحظة عهدها في يوم الست بربكم حتى استقرت في أجسادها في رحم الأم.
اليوم الثالث: يوم الدنيا
وهذا اليوم يبدأ من تكوين الإنسان من سلالة الطين، ثم نطفة، فعلقة، فمضغة، فعظاماً، فكسوة العظام لحماً، فإنشاءه خلقاً آخر، وذلك بشق السمع والبصر واللسان والأنف، واليدين والرجلين، وما إلى ذلك من المعدة والأمعاء، والكبد والطحال، والقلب والرئتين، والأوردة والشرايين وغيرها. ثم يأذن الله للروح أن تدخل إلى هذا الجسم الذي تكامل خلقه، والسكن الذي تم بنيانه، فتبارك الله أحسن الخالقين.
ثم يولد ويتدرج في طفولته إلى أن يبلغ أشده صبياً، فشاباً، فرجلاً، فكهلاً، فشيخاً كبيرا، ثم تنتهي حياته بعد ذلك.
وهذه اليوم هو عمر الإنسان وحياته، وهو عصره وحظه ونصيبه من الدنيا، وهذا اليوم هو يوم الاختبار والابتلاء من الله بالأوامر والتكاليف والشرائع، وابتلاه فيه كذلك بالمحن والخطوب والأمراض وغيرها، واختباره أيضا في هذا اليوم بالصحة والعافية، والمال والزوجة والأولاد، والشهوات والمتع واللذات.
وهذا اليوم من أخطر الأيام التي يمر بها الإنسان، إذ أنه تتوقف عليه سعادته أو شقاؤه بعد ذلك، وأنه يوم العمل والحركة، يوم الجهد والاجتهاد، ويوم الإيمان والإسلام والإيقان، ويوم يشتد ندم الإنسان عليه أن ضيعه، ويعظم أسفه على فقدان جزء منه من غير فائدة، وقد عبر النبي صلى الله عليه وسلم عن يوم الدنيا بقوله: {الدنيا كسوق انتصب ثم انفض ربح فيه من ربح وخسر فيه من خسر}[2].
وهو يوم يغتر به أهل الغفلة والجهالة، ويغتنمه أهل الذكر والنباهة، وقد أكثر الله من الحديث عن شأن هذا اليوم في القران الكريم، فقال سبحانه: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالأرض أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾،
والمعنى الإجمالي لهذه الآيات الشريفة: أن الله عزَّ وجلَّ وضح لنا شأن الحياة الدنيا بالنسبة للمفتونين بها والمخدوعين بحبها، وأنها لعب ولهو وزينة وتفاخر بالآباء والقبائل، والعصبية والمناصب، والوظائف والجاه والمنزلة، والأثاث والرياش واللباس والمراكب، والقصور والمزارع وما إلى ذلك، وتكاثر في الأموال والأولاد، يعنى اجتهاد في جمع الأموال وتكثيرها وتكديسها واقتنائها، وكذلك تكاثر في الأولاد يعنى كثرة التزاوج، وكثرة التناسل حتى يكون الإنسان مفاخر ومُدلاً على أقرانه وأنداده بكثرة أولاده وذريته، ومباهيا من كان أقل منه في الأولاد والأموال كما قال الرجل لصاحبه في القرآن الكريم: ﴿أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا﴾، [34،الكهف].
ثم أراد الحق سبحانه أن يضع بين أيدينا صورة محسوسة، ومثلا مرئيا ملموسا، يقرب لنا به حقيقة الحياة الدنيا، حتى لا تنطلي علينا ولا تخدعنا، فذكر لنا أن شأنها كزرع أعجب الزراع شكله ومنظره، وفرحوا بخضرته ونضرته، وهيجانه وثماره، فإذا به قد اصفر لونه، وذبل عوده، وصار حطاماً متهالكة وهشيماً دارساً. وهذا المثل قد كشف الغطاء عن حقيقة الدنيا لكل عاقل نظر إليها من خلال القرآن الكريم وبيان الله عزَّ وجلَّ لشأنها.
ولذلك يوضح الله أن الذين يعيشون في الدنيا من أجل هذه الأشياء التي مر ذكرها، مخدوعون، ومغرورون بها، فإذا انتهت حياتهم هذه ندموا ندامتين ندامة على ذهابها عنهم إلى غيرهم من الورثة، وضياعها من أيديهم، وندامة على معاناتهم وشقائهم في جمعها من غير فائدة أخذوها من وراء ذلك، ومحاسبة الله لهم على ذلك. وهذا معنى قول الله تعالى: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾، ثم أمر الله المؤمنين بالتسابق والمسابقة إلى المغفرة وإلى الجنة. والجنة والمغفرة هما في الحقيقة، التوبة والإنابة والعمل الصالح الذي يؤهل الإنسان لمغفرة الله وجنته، قال صلى الله عليه وسلم: {كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى}[3].
والتسابق هو الإسراع والتعجل حتى لا تضيع الفرصة على المؤمنين، لأن العمر قصير جدا، والمطلوب عظيم جدا. أما قصر العمر فإن الإنسان لا يدري أيدرك الغد أم لا، فهو في شك في بقاءه ساعة أخرى بعد ساعته التي هو فيها. ومن هنا كان العمر قصير جدا. وأما كون المطلوب عظيما جدا. فلأن طلب المؤمن هو المغفرة من الله وجنته ورضوانه. ومن هنا أمرنا الله بالسباق والتسابق نحو تحصيل هذه الخطوة في دار النعيم المقيم.
وتلكم الجنة ﴿عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالأرض﴾، وذلك معناه أن السموات والأرض لاشك في وجودهما، وهما معروضتان أمامنا كما نرى، ونعيش فيهما نستظل بالسماء وننتفع بما فيها، ونمشى على الأرض وننتفع بخيراتها، فكذلك الجنة التي عرضها الله علينا في القران هي حق اليقين لاشك في تسخير السموات والأرض لنا – وذلك مستحيل، لأن عرضهما علينا، وتسخيرهما لنا، من البديهيات التي لا يختلف عليها أحد، ومن المسلمات عند كل الخلق مسلمهم وكافرهم – فإن الجنة بالنسبة للمؤمنين كذلك، والله على كل شيء قدير.
وإن كُمَّل المؤمنين من أهل اليقين، إذا قاموا إلى عمل صالح، وطاعة من الطاعات، وشهدوا أنهم قائمون إلى مغفرة الله وجنته، فتسابقت أعضاؤهم ونواياهم، وعقولهم وقلوبهم ومشاعرهم، كل ذرة فيهم، إلى المغفرة والجنة، إذ أنهم يرون طاعة الله ورسوله هي جنة النعيم فيسارعون إليها. ويرون المعصية هي نار الجحيم فيهربون منها.
وتلك الجنة ﴿أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ﴾، وأُعِدَّت يعنى جهزت لهم. وأنها تنتظر قدومهم، بل أنها تسعى في استقبالهم والحفاوة بهم، كما قال تعالى: ﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ﴾، [31،ق].
والإيمان بالله ورسله عمل من أعمال القلوب الذي يشرق نوره على الأجسام والجوارح فيشدُّها إلى اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتأسي به في أعماله وأقواله وأحواله، وأخلاقه ومعاملاته وعباداته.
والإيمان والعمل الصالح إنما يكون من الإنسان في فترة وجوده في هذه الدنيا. وبذلك قد انكشف المراد من قوله عزَّ وجلَّ: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ﴾، إلى آخر الآية الشريفة  فاللعب واللهو والزينة والتفاخر والتكاثر، هي الحياة الدنيئة الرديئة الهابطة الضائعة، وهي عمل لعمارة الدنيا بالحق والعدل والعلم والنفع العام والخاص.
ومن هنا كان يوم الدنيا للمؤمن يوم مغانم ومكاسب، ومنافع وأرباح هائلة، وتحصيل للمكارم والأخلاق العالية، وأن أنفاسه في هذا اليوم أغلى من النفائس والدرر والجواهر، وإنه يبخل بأصغر جزء من عمره أن يضيع في غير فائدة، لأنه يعيش مرة واحدة في كل لحظة من عمره، فهو يعمرها بما يسعده عاجلا وآجلا. وقد قال العارف بالله: (إن الكون رواية تمثيلية تمثل أدوار جد وكمال، وتحوى فصول هزل ونقص وضلال. وأبطال التمثيل قسمان: قسم يدعوا إلى الحق، وآخر يهدي إلى الضلال، فالذين يدعون إلى الحق الأنبياء المرسلون والعلماء العاملون، وأئمة الضلال فرعون وهامان وقارون والنمرود ويؤيد دعواهم إبليس اللعين وكل مغرور بزخارف الدنيا ونسيان يوم الدين)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {نعمت الدنيا مطية المؤمن للدار الآخرة}[4]. وقال صلى الله عليه وسلم: {الكيس دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني}[5]. والكيس يعنى العاقل، ودان نفسه يعنى حملها المسؤلية وطالبها بالسداد والوفاء، واتهمها دائما بالقصور والتقصير، وحاسبها بصفة مستمرة على لك، حتى لا تطغى عليه، ولا تقهره على معصية الله ورسوله. والعاجز هو الضعيف الجاهل الذي ترك نفسه تتبع هواها وتتمادى فيه، ولم يقو على حبسها ومنعها، فهامت به في أودية الضلال والشهوات، وتاهت به في أفعال السوء والظلم والمعاصي، فأوردته المهالك والأخطار الشديدة، وأخذ يمنيها بالأحلام والأماني الباطلة، ويطلب من الله تحقيق هذه الأحلام والأماني بدون حق: ﴿كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ﴾، [39،النور]. وهنالك يندم ويتحسر ولا ينفعه الندم ويقول: ﴿يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾، [24،الفجر].
وقد اقسم الله بالعصر، وهو يوم الحياة الدنيا، تبياناً لقدره وأهميته، وتنبيها على شأنه وحرمته وقيمته. فقال سبحانه: ﴿وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾، [1-2،العصر]. والعصر هو عمر الإنسان، والمقسوم عليه هو خسران الإنسان العاجز الغافل الذي لم يدر قيمة عمره وحياته، وأضاعها سدى﴿ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾، [3،العصر]. فقد خرجوا من الخسران وغنموا المكاسب العظيمة في عصرهم، فآمنوا واجتهدوا في فعل الخيرات وعمل الصالحات، واستمسكوا بالحق والصبر، ووصى بعضهم بعضا بهما، وعرفوا لعمرهم حقه ومكانته، وانتهزوا فرصته ولم يضيعوا شيئا منه، فطوبى لهم وحسن مآب.
فكم من جأهل مات غما بحسرة، وكم من عالم نال حظا من الخيرات. وان يوم الدنيا ينتهي بالموت. وأسال الله العلي القدير أن يوفقني وإخواني المسلمين في هذا اليوم لما يحبه ويرضاه، وأن يتقبل منا وأن يقبل علينا بوجهه الكريم، إنه مجيب الدعاء، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اليوم الرابع: يوم البرزخ
وهذا اليوم يبدأ بالموت، ويستمر إلى يوم البعث. والبرزخ يعني الحجاب والفاصل الذي يفصل ويحجز بين شيئين. وقد حجز يوم البرزخ بين الحياة الدنيا وبين الحياة الآخرة، وفصل بين يوم الدنيا ويوم البعث، أو أنه حجز بين الأحياء وبين الأموات فلا يكاد الأحياء يعرفون شيئا من أمر الأموات إلا ما أخبرنا الله ورسوله به عنهم.
والبرزخ هو الحجاب المعنوي الذي لا يدركه الحس، ولا يخضع للبحث والتجربة. قال تعالى: ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ﴾، [19-20،الرحمن]. وماء البحر وماء النهر ماديان مرئيان، ولكن البرزخ الذي بينهما معنوي لم يدر حقيقته أحد. لأنه من أسرار القدرة الإلهية العجيبة، أما الحواجز المادية فلا يقال لها برزخ وإنما يقال لها فاصل، حاجز، سدَّ إلى غير ذلك.
وقال الله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾، [99-100،المؤمنون].
وهذه الآية الشريفة بينت حال الكافر عند الموت، وأنه يطلب من الله عند الاحتضار الرجوع إلى الحياة الدنيا ليؤمن ويعمل صالحا، لأنه عاين الحق اليقين الذي كذب به من قبل، ورأى عذاب البرزخ الذي ينتظره، وشاهد الأهوال المقبل عليها، متمنى الرجوع إلى الدنيا ليعمل صالحاً، ولكن اجله قد انتهي، وعمره قد انقضى، ورجوعه مستحيل، لأن نظام الله في خلقه، وسنته في كونه لا تتبدل حتى لو رجع ما نفعه هذا الرجوع شيئا، لأن نفسه الشريرة لا تلبث أن تعود إلى ما كانت عليه من الكفر والظلم والعناد، وتلك هي فطرتها التي عاشت عليها عمرها وحياتها. قال الله تعالى وهو اعلم بهذه النفوس: ﴿وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾، [28،الأنعام]. في طلبهم الرجعة إلى الدنيا ليعملوا صالحا.
قال تعالى ﴿كَلَّا﴾، كلمة نفى الله بها صدق الكافر في طلبه الرجوع إلى الدنيا ليؤمن ويعمل صالحا، ونفى بها أيضا رجوعه إلى الدنيا لاستحالته. ومعنى قوله تعالى:﴿إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا﴾، أي لابد أن يقولها ندما وتحسرا مع علمه أنه لا رجعة له، لأنه لم ير أحدا قبله رجع إلى الدنيا. ولكنه لما عاين عذاب البرزخ تمنى الرجوع بهذه الكلمة. والتمني هو طلب الأمر المستحيل. قال الشاعر: إن الأماني والأحلام تضليل.
قال الله تعالى: ﴿وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾، يرد الله على الكافرين المنكرين لحياة البرزخ، وعلى الذين تركوا أمر الحياة البرزخية وراء ظهورهم لا يعبأون بها ولا ينظرون في أمرها، بأنها حقيقة واقعية ولاحقة بهم لا محاله وعند الموت يرونها كما رآها صاحبهم هذا الذي طلب الرجوع إلى الدنيا عند معاينتها.
والحياة البرزخية هذه بينَّها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله:{القبر إما روضه من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار}[6]
والمؤمنون يسمعون هذه الأخبار، فيؤمنون بها، والتصديق بحقيقته. لأن بيان رسول الله للغيبيات هو حق اليقين. قال تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾، [44،النحل].
والقبر محسوس ملموس، ولكن ما يجري فيه لصاحبه لا يشهده ولا يراه إلا رسول الله الذي اخبرنا به. وقد مرَّ رسول الله على قبرين يعذب فيهما صاحباهما، فقال رسول الله {إن صاحبي هذين القبرين يعذبان، وما يعذبان في كبير ارتكباه. أما أحدهما فكان. لا يستبريء من بوله، وأما الآخر فكان يمشى بين الناس بالنميمة}[7]
وأن صاحبي القبرين معروفان لأصحاب رسول الله الذين يخبرهم، ولكنهم لو فتحوا القبرين ليروا بعين الرأس العذاب ما رأوه، لان العذاب يُوَصِّله الله لمن يستحقه بكيفية لا يعلمها إلا الله ورسوله، وقدرة الله فوق الشك والتُهَمِ، وكذلك كان رسول الله يخبر عن أصحاب النعيم في البرزخ، لأنه صلى الله عليه وسلم مبشرا ونذيرا، وشاهد على كل شيء: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾، [2-3،النجم].
وأما المعذَّبون في البرزخ من عصاة المؤمنين، فإن الله سبحانه يعذبهم على قدر جناياتهم، ثم يعفو عنهم. وهناك مواسم للعفو الإلهي، يعفو الله فيه عن العصاة من المسلمين، مثل رمضان وأيام الجمعة، وأيام عرفة وعاشوراء، وأيام مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرها من مواسم الخير الإلهي.
هذا وإن عذاب القبر أنواع كثيرة، قال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾، [38،المدثر]. ونعيمه كذلك درجات متفاوتة. قال تعالى: ﴿لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾، [4،الأنفال]. فمنهم ومنهم ومنهم. أما أهل الكفر والعياذ بالله فإنهم معذبون في قبورهم حتى تقوم الساعة، جزاء وفاقا، وما ظلمهم الله شيئا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.
فانظر كيف طلب الكافر الرجوع إلى الدنيا عند الموت، وانظر كيف يستبشر المؤمن بالموت ويفرح بلقاء ربه الكريم، الغفور الرحيم..! فإن الملائكة الذين يتوفون المؤمنين يقولون لهم عند الموت: ﴿سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾، [32،النحل]. فيهنئوهم بالتحية والسلام، وبدخول الجنة والنعيم السرمدي، قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾، [32،النحل].  فليس بين المؤمن وبين الجنة إلا خروج الروح، وهنالك يفرح المؤمن بلقاء الله ويستبشر ويسر سرورا عظيماً بما أكرمه الله به، ويقول: ﴿يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ﴾، [26-27،يس].
أما الكافرون فانه ليس بينهم وبين عذاب النار إلا خروج الروح، وإن ملائكة العذاب تفزعهم وتهددهم بالإنذارات المؤلمة المحزنة، ويضربونهم ضربا شديدا وهم ينتزعون أرواحهم من أجسامهم  قال سبحانه: ﴿فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾، [27،محمد].
وبعد موتهم فورا يعذَّبون في قبورهم. قال تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ﴾، [93،الأنعام].
فقوله تعالى: ﴿أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ﴾،  يعنى يوم الموت تجزون عذاب الذُّل والهوان والنكال الشديد. ومعنى قوله تعالى: ﴿أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ﴾، تقريع وتهديد لهم، أي مالكم استسلمتم للموت وسكراته، فاخرجوا أنفسكم مما أنتم فيه من الخطوب والمصائب إن كنتم تملكون لها شيئا، فإنكم اليوم تلقون جزاءكم على سوء صنيعكم، وليس بينكم وبين هذا الجزاء الشنيع إلا خروج الروح من أجسادكم. قال الله في شأن قوم نوح عليه السلام: ﴿أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا﴾، [25،نوح]. فبمجرد إغراقهم في الطوفان دخلوا عذاب النار، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.
وان الفاء من قوله تعالى (فادخلوا) تقتضى ترتيب ما بعدها على ما قبلها ووقوعه فورا وبدون مُهْلَه، وتسمى فاء الفورية كقوله تعالى: ﴿خَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى﴾، [38-39،القيامة]. فإن الفاء عطفت هذه الأفعال على بعضها بدون تراخ.
ونود أن نشير إلى أن الموت الذي كتبه الله على كل حَيٍّ، إنما هو نهاية الحياة الكونية الجسمانية، التي تقوم بالغذاء والشراب والعلاج والتنفس، وإنما يكون الموت بخروج الروح من هذا الجسم، والروح سر من أسرار الله، وغيب من أمر الله، لم يدر حقيقتها أحد إلا الله، وإنما تقوم بتدبير هذا الجسم إلى الأجل الذي قدره الله للبقاء في الدنيا.
وإن الإنسان يدركه الموت أين كان وكيف كان. قال تعالى: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ﴾، [78،النساء]. ومعنى بروج مشيدة يعنى قصور منيعة ومجهزة بكل أنواع المتع والزينة، وبعيدة عن أسباب الموت التي تعرفونها، فإن الموت يهجم على الإنسان بسبب وبغير سبب، لأن الأجل قدره الله بالأنفاس، فإذا انقضى آخر نفس خرَّ الإنسان ميتا ولو كان في ريعان شبابه وبكامل صحته وقوته، وبين أهله وعشيرته وخدمه وحشمه، فلن يغنى عنه كل ذلك شيئا. قال جل شأنه: ﴿فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ﴾، [61،النحل].
والساعة عند الله أسرع من لمح البصر. والمعنى إذا حضر أجل الإنسان لا يقدر أحد أن يؤخره لحظه ولا أقل ولا يقدر أحد أن يميت أنسانا قبل مجيء أجله بطرفة عين أو أقل. ذلك لأن الله نظَّم هذا الأمر وحده بمشيئته وقدرته، فلا دخل لأحد من أهل السموات والأرض فيه.
هذا وأن المقتول ميت بأجله الذي حدده الله له، وإن كان القتل سببا في موته. وأن القاتل يحاسب على مباشرته أسباب القتل، وعلى قصده ونيته.
والموت سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلا. وأنه آية من آيات الله عزَّ وجلَّ الدالة على كمال قدرته، وسيطرته وقهره لعباده، وتصريفه في خلقه وحده لا شريك له، له الخلق وله الأمر يحي ويميت وهو على كل شيء قدير. قال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾، [2،الملك]. فكما أن الحياة آية من آيات الله الكبرى الدالة على قدرة الله وإرادته وحكمته، فإن الموت كذلك، وقد خلق الله الموت لأنه آية الفناء والعدم لمظاهر الحياة التي خلقها الله في الأحياء.
وقد طلب بنو إسرائيل من سيدنا موسى عليه السلام أن يرفع الله عنهم الموت. وألحوا في هذا الطلب، فسأل سيدنا موسى ربه أن يرفعه عنهم خمس سنين، فاستجاب الله له، وفي خلال هذه السنين الخمس ابتلاهم الله بالأمراض الشديدة، وبالجدب وبالفقر، وموت الحيوانات والطيور، ومنع عنهم الغيث وجفَّ ماء العيون والآبار، حتى أكلوا الأخضر واليابس، والحشرات السامة والحيوانات الميتة، والكلاب والجيف، وضاقت  عليهم الأرض بما رحبت، واخذوا يتمنون الموت فلم يجدوه، وعلموا أن الموت هو رحمة من الله بخلقه، وإغاثة منه لعباده، فمرت عليهم السنوات الخمس كخمسين ألف سنة في شقاء وأمراض وجوع وويلات.
وقد يتمنى الإنسان الموت فلم يعثر عليه، وقد يكرهه الإنسان فيقع عليه رغم أنفه.
فكم من سليم مات من غير عله.. وكم من مريض عاش حينا من الدهر
ولله في خلقه حكم وشئون تخفى على أهل البصائر والقلوب وإذا أراد شيئا قال له كن فيكون.
أما حياة البرزخ فهي تشبه إلى حد كبير حياة الرؤيا المنامية، ففيها إحساس معنوي، وإدراك روحي، بحيث يشعر الإنسان بالنعيم والسرور الذي يعيش فيه، أو بالعذاب والبؤس الذي يتقلب فيه.
وكل واحد من أهل البرزخ له حالة خاصة لا يحس بها غيره من أهل البرزخ، فقد يجمع القبر بين ضدين، وبين مؤمن وكافر، وبين صالح وطالح، بين تقي وفاجر، بين مظلوم وظالم، وكل منهم يعيش في عالمه وفي ملكوته، من روضات الجنة الهنيئة أو حفرة من حفر النار المتلهبة، ولا يحس احدهما بصاحبه وهما متلاصقان، فسبحان من خلط ماء البحر بماء النهر العذب، وجعل بينهما برزخا لا يبغيان.
فلو أن رجلين نائمان على سرير واحد، ورأي أحدهما في منامه أنه يتمتع في عيشة هنيئة، يأكل ويشرب، ويتفكر ويتلذذ بمشتهياته، بين خلانه وإخوانه، ورأي الآخر في منامه انه يمر بمحنة قاسية، وأن السباع تطارده والأفاعي تنتهشه، والنار تحرقه، وانه يستغيث ولا مغيث. فانظر كيف يعيش كل منهما في رؤياه ولا يحس أحدهما بصاحبه وهما في سرير واحد متلاصقان..!!
وحياة البرزخ كلها عجائب، ومن صفت من الأكدار سريرته، وطهرت من الأوزار علانيته، وتلقى علوم البرزخ بيقين وتسليم لله ورسوله، علمه الله ما لم يكن يعلم، وكاشفة بمعاني الأحاديث والآيات الواردة في شان الحياة البرزخية، فازداد يقينا وتسليما لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: ﴿وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ﴾، [282،البقرة].
هذا وان الروح بعد خروجها من الجسد، تأخذ منه صورته وطباعه، وفطره وأخلاقه، وأعماله وأحواله، وتعيش بها في البرزخ. وذلك لأن الروح اكتسبت كل ذلك من الجسم أيام إقامتها فيه، حتى يتعارف مع نظراءه وأشكاله من أهل البرزخ، كما كان التعارف في الدنيا.
أسال الله عزَّ وجلَّ  أن يجعل قبورنا روضة من رياض الجنة، وأن يرزقني وإخواني جوار سيدنا رسول الله الأعظم في الفردوس الأعلى، انه مجيب الدعاء، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم.
اليوم الخامس: يوم البعث والنشور
وهو اليوم الذي يحيي الله فيه الموتى من قبورهم، ويعيدهم إلى حالتهم التي ماتوا عليها. قال صلى الله عليه وسلم: {يبعث الإنسان على ما مات عليه}[8].
فلا تتبدل صورتهم وهيئتهم عن ما كانت عليه قبل الموت، حتى لا ينكر أحد نفسه ولا ينكره أهله وإخوانه والناس الذين كانوا يعيشون معه.
وإذا أراد الله أن يبعث الناس، أمر الأرض بما فيها من بحار وجبال وسهول ووديان وصحارى وقفار، وهواء وأرجاء وأجواء أن تجمع عناصر كل إنسان إلى بعضها، لأنه لو صار هباءاً وذرَّات، تفرقت في جميع أرجاء الأرض، لجمع بفعل الجاذبية التي استودعها الله في ذرات كل كائن، وذلك عند زلزله الأرض واهتزازها. لأن الإنسان لم يخرج منها، إذ أنه موجود فيها. قال تعالى: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا﴾، [1-2،الزلزلة].
فإذا ما جمعت تلك العناصر إلى بعضها، أمر الله السماء أن تمطر ماءا كمنى الرجال، يختلط بهذه العناصر حتى تكون طينا، ويتمدد هذا الطين على هيئته التي كان عليها قبل الموت، ويرسل الله عليه الرياح فتجففه، والحرارة فتسوية حتى يصير كالفخار، ثم يأمر الله الملك الموكل بالنفخ في الصور. فينفخ فيه، فتطير كل روح إلى جسدها لا تخطئه فتدخل إليه: ﴿فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ﴾، [68،الزمر].  وكما قال تعالى: ﴿كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ﴾، [29،الأعراف].
وهذا اليوم أشار الله إليه بقوله: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾، [56،الروم].

وذلك ردًا على منكري البعث الذين يدَّعون أنهم لم يمكثوا في الأرض إلا ساعة، واحدة لم يتمكنوا فيها من معرفة الله ورسوله وما انزله الله عليهم. فرد عليهم أهل العلم والإيمان بأنهم كاذبون في ادعائهم، وأنهم لبثوا في الأرض إلى يوم البعث، ولكنهم جهلوا بذلك لعدم قبولهم هذه المعارف والحقائق في الدنيا من أهل العلم والإيمان.
ويوم البعث يسمى يوم القيامة، ويوم الرجوع إلى الله، ويوم الساعة، ويوم الميعاد. قال الله تعالى: ﴿كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ﴾، [29،الأعراف]. وقال جل شأنه: ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ﴾، [104،الأنبياء]. وقال سبحانه: ﴿يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ﴾، [43،المعارج].
وسيكون الخلائق يوم البعث على ثلاثة أنواع:
النوع الأول: يقومون من قبورهم إلى الجنة، وهم الصديقون والشهداء، والصالحون والمقربون، وأهل اليمين، وهم عامة المؤمنين الذين ماتوا على توبة صادقة، وكانوا في الدنيا من أهل الإيمان والعمل الصالح، وإن كانوا يتفاوتون في درجات الجنة. قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا﴾، [107،الكهف].
وهذا النوع من الناس لا يشهدون أهوال يوم القيامة، ولا يخافون ولا يحزنون: ﴿أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾، [82،الأنعام]. ﴿لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾، [103،الأنبياء].
والنوع الثاني: يقومون من قبورهم إلى النار والعياذ بالله، وهم الكافرون والمشركون، والضالون والمغضوب عليهم. وهؤلاء لا ينظر الله إليهم ولا يكلمهم ولهم عذاب أليم. قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا﴾، [105،الكهف].
وقال جلَّ شانه: ﴿فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ ﴾، [39-41،الرحمن].
وهؤلاء يشهدون الأهوال الشديدة، والمصائب الفظيعة، والمخاوف والأحزان والآلام القاتلة، وهم مسوقون ومقهورون إلى جهنم والعياذ بالله، وقد تمنى كل منهم أن يكون ترابا، ولكن هيهات... هيهات، فإن قلوبهم تتقطع من الحسرة، وأكبادهم تتفتت من الأسف، ولا يغنى عنهم ذلك من العذاب شيئا. وإسقاطهم من الحساب والمساءلة لأنهم أهملوا عقولهم وقلوبهم ومشاعرهم التي منحها الله لهم، بل إنهم استعملوها في محاربة من وهبها لهم، فكانوا أضل من الوحوش الضارية والحشرات السامة التي يقتلها الإنسان بمجرد رؤيتها، لأنها لا خير فيها بالمرة.
وهناك صنفٌ من المجرمين في الدنيا لا تفيد محاسبته، ولا تجدي مساءلته لأن نفسه قد تمرَّست على الإجرام، واستمرأته، وصار لا يعيش إلا على القنص والسفك وارتكاب الفظائع، وقد جعل الله جزاءه في الدنيا سرعة التخلص منه لعدم الأمل في إصلاحه. وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾، [33،المائدة].
وإن الحكمة من الحساب هي إقرار العدالة في الحكم، وإظهار الحق والصواب حتى يري المحاسب أنه قد اخذ حقه ولم يُظلم شيئا.
ولكن الكافر بالله ورسوله وكتبه واليوم الآخر، قد أهدر حقه ونصيبه، كما أنه أضاع حق الله وحق رسله، فلم يكن له نصيب بالمرة في أي شيء يطالب به، حتى إنه يحكم على نفسه يوم القيامة أن عذاب النار هو أقل جزاء له على كفره بالله وإصراره عليه. قال تعالى: ﴿اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾، [14،الإسراء].
والنوع الثالث من الناس يوم القيامة هم أهل الحساب، وهم المسلمون الذين ارتكبوا المخالفات ولم يتوبوا المخالفات ولم يتوبوا إلى الله منها، وماتوا على ذلك، وهؤلاء أمرهم مفوض إلى الله عزَّ وجلَّ، إن شاء عذَّبهم، وإن شاء عفا عنهم. والحساب له مواقف كثيرة، وأنواع متفاوتة. فمن الناس من يحاسبه الله سرا ومنهم من يحاسبه الله جهرا، ومنهم من يحاسبه الله حسابا يسيرا ومنهم من يحاسبه الله جهرًا، ومنهم من يحاسبه الله حسابا يسيرا ومنهم من يحاسبه الله حسابا عسيرا، ومنهم من يقرره الله على أعماله فيقرها ويقبل الله اعتذاره ويأذن له في دخول الجنة، ومنهم من يشفع له الشفعاء فيعفو الله عنه بتلك الشفاعة، ومنهم من يسامحه أصحاب المظالم فيدخله الله الجنة بذلك، ومنهم من يدفع الله عنه لأصحاب الحقوق حقوقهم ثم يدخله الجنة، ومنهم من يستغيث برسول الله فيغيثه الله برسوله، ومنهم من يستجير بالله فيجيره الله، وهو سبحانه: ﴿وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ﴾، [88،المؤمنون]. ومنهم من تزيد حسناته على سيئاته وهو كذلك من الناجين، أما من زادت سيئاته على حسناته، فإما أن يدركه الغوث من ناحية، وإما أن يأخذ نصيبه من العذاب ثم يدخل الجنة بعد ذلك.
ولكن الله سبحانه سبقت رحمته غضبه، وسبق عفوه عقابه، وسبق حلمه مؤاخذته، وذلك الفضل كله لأهل الحساب الذين يحاسبهم الله على إعمالهم.

اليوم السادس: يوم الحساب
قال تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾،  [47،الأنبياء].
والموازين هي المعايير والمقاييس التي يحاسب الله الناس بها يوم القيامة، وهي أحكام الله وآدابه، ووصاياه وتعاليمه، وشرائعه ودياناته التي أرسل بها المرسلين إلى الناس في هذه الدنيا، فمن وفَّى فله الجنة، ومن نكث فإنما بنكث على نفسه ولا تظلم نفس شيئا.
وإن عمل الإنسان مثقال حبَّة من خردل وتاهت أو ضاعت في أرجاء السموات والأرض، ولم يعرف عنها أحد شيئا، ولم يذكرها صاحبها، أتى الله بها واحضرها، لأنها في ملكه وملكوته، وفي قبضته. وهذه قدرة عجيبة لم يسمع أحد بمثلها ولا يقدر الثقلين على شيء منها ولو اجتمعوا عليه، فسبحان ذي الملك والملكوت وسبحان ذي القدرة والعزة والجبروت. وسبحان الحي القيوم على كل شيء. لا تأخذ سنة ولا نوم، وهو العلى العظيم، وكفي به حسيبا وحفيظا ورقيبا، وهو سبحانه وتعالى أسرع الحاسبين.
ويوم الحساب يطول بحسب أعمال كل عبد. وقد قال أعرابي لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله أيكون الحساب على يديك؟ قال النبي: لا قال الأعرابي: أيكون على يد الملائكة ؟ قال النبي: لا. قال الأعرابي: أيكون على يد الله؟ قال النبي: نعم: فقال الأعرابي لنفسه: أبشر يا أعرابي فما استوفي كريم دينه. فقال رسول الله. لقد فقه الأعرابي.
وقد ورد أن رجلا كان يطوف بالبيت ويقول: يا كريم، ورسول الله يطوف وراءه ويقول مثله: يا كريم. فالتفت إليه الرجل وقال له. أتهزأ بي يا أخا العرب؟ والله لولا انك كريم المحيا لشكوتك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله: ألا تعرف رسولك يا أخا العرب؟ فأدرك الرجل أنه بين يدي رسول الله، فقال: يا رسول الله أيحاسبني ربى؟ قال له: نعم. قال الرجل: إن حاسبني على ذنبي حاسبته على مغفرته، وإن حاسبني على جهلي حاسبته على حلمه، وإن حاسبني على ظلمي حاسبته على عفوه، وإن حاسبني على بخلي حاسبته على كرمه، فقال رسول الله للرجل: {أبشر يا أخا العرب، فقد جاء جبريل وقال: يا نبي الله قل لصاحبك أن الله يقول لك ابشر لا نحاسبك ولا تحاسبنا}[9]
وذلك فضل الله وكرمه. اللهم لا تحسبنا فانك إن حاسبتنا أهلكتنا، ولا تسألنا فانك إن تسألنا ضيعتنا، وأدخلنا الجنة من غير سؤال ولا حساب.
ويقول الله في الحديث القدسي: ﴿ينادي المنادي من بطنان العرش يوم القيامة فيقول: يا أهل التوحيد ليعفوا بعضكم عن بعض اعف عنكم[10].
وقال تعالى مذكرا بهذه اليوم: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا﴾، [33،لقمان]. وقال تعالى ناعيا على الكافرين حالهم لنسيانهم هذا اليوم: ﴿فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ﴾، [14،السجدة].
وقال تعالى متوعدا الكافرين الذين يضلون عن سبيل الله والناسين ليوم الحساب: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾،[26،ص]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم}[11]
ومن رحمة الله بعباده المؤمنين، أنه لا يحاسبهم على ما أحل لهم وأباحه إليهم في هذه الحياة الدنيا من الأكل والشرب واللبس، والسكن والزواج وغير ذلك مما أكرم الله به المؤمنين في الدنيا من الطيبات التي أباحها لهم، قال تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾، [32،الأعراف].
يعنى تفضل الله بها على المؤمنين في الدنيا، وأكرمهم بها، ثم أسعدهم بها في الآخرة خاصة وخالصة لهم من دون الكافرين، لا يشاركونهم فيها كما كان في الدنيا، لأنها دار أعطى الله الفرصة فيها للجميع، المسلم والكافر، أما الآخرة فهي دار جزاء على ما قدم كل واحد في الدنيا، فحرم الكافر من النعم التي أمدَّه الله بها في الدنيا ولأنه كفر بها ولم يشكر المنعم عليها. وأما المؤمن فقد أسعده الله بها في الآخرة لأنه عرف حقها في الدنيا وأدَّاه وشكر الله عليها.
وإن الجزاء من جنس العمل، فإن شكر الله على نعمه يديمها ويزيدها، وإن جحود حق الله فيها يضيِّعها ويحرم منها في الآخرة.
وقد قال الحكيم:
إذا كنت في نعمة فارعها........ فإن المعاصي تزيل النعم
وداوم عليها بشكر الإله.......... فإن الإله سريع النقم
وقال عزَّ وجلَّ: ﴿لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾، [7،إبراهيم].
 ﴿رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ﴾، [19،النمل].
والحساب هو البحث الدقيق عن كل جزئية وإن صغرت جداً، من جزئيات الموضوع الذي يحاسب الله الإنسان عليه. قال تعالى: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾، [7-8،الزلزلة].
والله لا تخفي عليه خافية: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾، [19،غافر].﴿يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾، [7،طه].
ويمكن للإنسان أن يتفلت من أي قوه تحاسبه، وأن يكذب عليها، وأن يموه عليها، وأن يمثل أمامها، ويخدعها ولكن الله الذي خلق الإنسان وصوَّره وعلم بكل شيء يكون منه قبل أن يخلقه، هو الذي يحاسب الإنسان، حتى إن حاول الإنسان أن يكذب على الله، أخرس الله لسانه ونطقت أعضاءه وجوارحه بما فعلت. قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾، [65،يس].
فسبحان من أنطقها وأنطق كل شيء من أرض وحيوان، وزرع وبحر وهواء، وليل ونهار وفلك، وأشهده على الإنسان بما باشر من أعمال وأقوال وأحوال.
اللهم إنا عبيدك الضعفاء المساكين الأذلاء، فلا تحملنا مالا قبل لنا به من المحاسبة والمساءلة، واجعلنا من الذين أكرمتهم بقولك: ﴿فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾، [40،غافر]. وقولك سبحانك: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾، [10،الزمر].
وقد قال بعض العارفين:
حاسبونا فدققوا........... ثم منوا فاعتقوا
كذلك شأن الملوك......... بالمماليك ترفق
وقد قال سيدنا ابن عطاء الله السكندري: (الهي كم من طاعة لك بنيتها وحالة شيدتها، هدم اعتمادي عليها عدلك، بل أقالني منها فضلك. الهي ترددي في الآثار يوجب بعد المزار. الهي كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك!! أيكون لغيرك من الظهر مالا يكون لك حاشا. إلهي فاجمعني عليك بفضل منك يجذبني إليك. إلهي عميت عين لا تراك عليها رقيبا، وخسرت صفقة عبد لم يجعل له من حبك نصيباً).
يوم الحساب وما أدراك ما يوم الحساب، هو يوم القضاء والفصل بين الناس وإعطاء كل ذي حق حقه. قال تعالى: ﴿فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾، [54،يس].
وهو يوم تشيب فيه الولدان من الرعب والخوف، وهو يوم تذهل فيه كل مرضعة عن رضيعها لعظم انشغالها بنفسها، وما تتوقعه عند محاسبتها. وهو يوم ترجف فيه القلوب، وترتعش فيه الأعضاء، وترتعد فيه الفرائص من خوف ما ينزل بها من حكم الحكم العدل، العليم الخبير، الذي ينصف الناس من أنفسهم ومن بعضهم، ولا يظلم أحدًا شيئا.
وهناك سؤال وهو أخف من الحساب بكثير، لكنه نوع من أنواع الحساب اليسير.
قال تعالى:﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾، [8،التكاثر].
وقال تعالى ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ﴾، [6،الأعراف].
وقد يكون السؤال للتكريم والتقدير، كمساءلة الله للمرسلين عن استجابة قومهم لهم، وسؤال الله للمؤمنين عن المرسلين، فإنهم يشهدون للرسل بالتبليغ والنباهة، والحكمة والأمانة، والعصمة والفطانة.
وبانتهاء الحساب مع الإنسان ينتهي يوم حسابه، وتذهب به الملائكة الموكلون به إلى تنفيذ الحكم الإلهي الذي صدر له أو عليه فورا. فإذا كان للجَّنة فقد فاز فوزًا عظيمًا، وإذا دخل النار، أخذ يستغيث بالله ورسوله، فيخرج منها بشفاعة رسول الله، أو بعفو الله – ويسمى عتيق الله من النار – أو بعد انقضاء مدة الحكم الذي عليه، وينتهي أمره بدخول الجنة.
اللهم أجرنا من النار ومن عذاب النار، ومن كل عمل أو قول أو حال يقربنا إلى النار، وأدخلنا الجنة مع الأبرار بفضلك وكرمك يا عزيز يا غفار، بجاه النبي المختار، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم.
اليوم السابع: يوم الخلود
والخلود هو البقاء الأبدي السرمدي، الذي لا نهاية له ولا يشوبه كدر انقطاع أو زوال، وينادى المنادى: يا أهل الجنة خلود بلا موت، ويا أهل النار خلود بلا موت. فتزيد بهجة أهل النعيم وسرورهم، وتعظم حسرة أهل الجحيم ويتضاعف حزنهم.
قال الله عزَّ وجلَّ تكريما للمؤمنين: ﴿ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ﴾، [34،ق].
أي ادخلوا الجنة بسلام، وفرح وأمان، وسرور وابتهاج، فإن ذلك اليوم هو يوم الخلود والحياة الباقية الدائمة في ظلال النعيم المقيم. قال سبحانه في بيان هذا النعيم الأبدي والخلود السرمدي: ﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ﴾، [60-61،الصافات].
وإن أهل الجنة يتقلبون فيها في كل وقت في الدرجات العالية، والرقي والرفعة التي لا نهاية لها، فكل ساعة يشهدون لونا جديدا من ألوان الجمال الملكوتي، وينالون لذة جديدة من لذات الجسم والحس والعقل والروح، بحيث تتهنى كل حقيقة بما يناسبها من نعيم الجنة. قال تعالى: ﴿كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً﴾، [25،البقرة]. يعنى وأتتهم به الملائكة متشابها في اللون، مختلفا في الطعم والرائحة واللذة. ولا يزال حالهم وجمالهم وأنسهم متجددا على الدوام من غير تكرار لشيء من هذا النعيم. قال تعالى: ﴿لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾، [35،ق].
وقال صلى الله عليه وسلم: {إن الله أعد لعباده الصالحين في الجنة مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر}[12].
وكان الخلود في هذا النعيم جزاءًا للمؤمنين، لأنهم لو طالت بهم الحياة في الدنيا إلى يوم القيامة، لاستمروا على إيمانهم وعلى صالحات أعمالهم، وما غيروا وما بدَّلوا، وما تهاونوا وما توقفوا، فكان جزائهم سعادة الأبد في الجنة وهي دار تكريم الله لأولياءه وأحبابه. قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا﴾، [107-108،الكهف]. وقال جلَّ شانه: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾، [25،البقرة].
وأما أهل النار من الكافرين والمشركين والضَّالِّين، والمغضوب عليهم والملحدين والمنافقين، فأنهم جميعا خالدون في عذاب الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، جزاءا بما كانوا يعملون.
وإنَّ العذاب يتجدد لهم، ويتنوع لهم على حسب كفرهم وأعمالهم، كلما نضجت جلودهم – يعنى احترقت من النار – بدلهم الله جلودًا غيرها من نفس أجسامهم ليذوقوا ألم العذاب، وبأسه وشقاءه، ولا حول ولا قوة إلا بالله، والله لا يظلمهم شيئا، ولكنهم هم الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم وشركهم. وجحودهم وعنادهم، ومحاربتهم للحق وأهله، وتكذيبهم لله ورسله. والجزاء من جنس العمل، قال تعالى في شأن المنافقينَ:  ﴿لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾، [10،البقرة]. وقال جل شأنه في شأن الكافرين: ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾، [22-24،الانشقاق]. وقال سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ﴾، [6،البينة].
وكان خلودهم الأبدي في النار لأنهم لو طال عمرهم إلى أبد الآباد، لم يزدادوا إلا كفرا وجحودا وضلالاً، فكان جزاءهم على قدر كفرهم، وعلى سوء نياتهم التي أصرُّوا عليها، وشركهم الذي أقاموا عليه، ولو مكثوا في الدنيا ملايين السنين، لظلوا على شركهم وكفرهم. وأن مغفرة الله حظر عليهم قال تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء﴾، [48،النساء].
هذا وإننا نؤمن بأن الله سبحانه قد قدَّر كل شيء في علمه القديم، وأن ما يجري في هذه الحياة الدنيا من شئون وأمور، صغيرة كانت أم كبيرة، قد أرادها الله عزَّ وجلَّ، وقدَّر وجودها في سابق علمه. وكذلك ما سيكون في الآخرة فإنه بمشيئة الله وقدرته، وأن العوالم كلها مربوبة لرب قوى متين، مريد عالم، حكيم قادر، وأن جميع الكائنات والمخلوقات في قبضته وتحت سلطانه وقهره، بيده الخلق والأمر، وبيده الخير وهو على كل شيء قدير.
وأن أهل السموات وأهل الأرض لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم شيئًا ولا نفعًا ولا ضرًا إلا ما شاء الله.
وان الله سبحانه خلق خلقاً للوفاء والصفا، وخلق خلقا للقطيعة والجفا وقد قال جلَّ شانه في كتابه العزيز: ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾، [7،الشورى]. وقال سبحانه: ﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾، [23،الأنبياء] وقد ورد في الحديث القدسي ما معناه أن الله عزَّ وجلَّ  يقول يوم القيامة لملائكته: ﴿يا ملائكتي أقيموا عبادي صفوفا على أطراف أنامل أقدامهم للحساب. يا عبادي: حضروا حجتكم، ويسروا جوابكم، فإنكم مسئولون محاسبون[13]. وقال جلَّ جلاله في شأن المؤمنين: ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ﴾، [101-102،الأنبياء].

وقال سبحانه في شأن الكافرين: ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ﴾، [96،يونس].
وإن هذا التقدير الإلهي لحكمة عالية، هي الإيمان واليقين بكمال تصرف الله المطلق في جميع مخلوقاته، من غير شريك لا معين ولا مشير. فسبحان الله ﴿ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾، [15-16،البروج].
وإن أهل الجنة قد يسَّر الله لهم أسباب دخولها من الإيمان والعمل الصالح، والابتعاد عن كل ما حرم الله عليهم. وإن أهل النار قد أجرى الله أسباب دخولها على أيديهم من الكفر والشرور والآثام، والبعد عن كل ما يحبه الله ويرضاه من الإيمان بالله ورسوله والعمل الصالح.
وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {اعملوا فكل ميسر لما خلق له}[14]
جوابا لمن قال له ما معناه: يا رسول الله قد سبقت الحسنى لأهل الجنة، وحقت كلمة العذاب على الكافرين. فما فائدة العمل؟ فكان جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحديث الذي تقدم.
وقدر الله أن تكون حياة الإنسان أبدية، لأنه أحسن صورة وأكمل حقيقة خلقها الله عزَّ وجلَّ  على معاني أسماءه وصفاته، وأخلاقه وكمالاته وجمالاته، وحمله جميع أماناته، فحملها دون بقية مخلوقاته. وأن الله عزَّ وجلَّ  قد أهله بذلك للحياة السرمدية، وخدَّم له عوالم ملكوته في الآخرة كما سخر له عوالم ملكة في الدنيا، ليعلم الإنسان قدره، وانه سيد مطاع بإذن الله في عالم السموات والأرض، في الدنيا والآخرة.
اللهم اجعلنا من الذين تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم.
وبذلك قد تم الحديث عن ذكر أيام الله والتذكير بها في هذه الرسالة القصيرة، ولعلني أكون قد وفيت ببعض الواجب على لأخواني المسلمين الذين أوجب الله على تذكيرهم وتذكير نفسي معهم: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾، [55،الذاريات]. صدق الله العظيم.


خاتمة
هذه الأيام السبعة التي ذكرناها، هي أيام الله المجيدة التي ذكَّر الله بها عباده في القرآن المجيد، وذكر بها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمنين، لتكون هذه الأيام ماثلة أمام أعينهم، واضحة لقلوبهم، فيأخذوا منها العبرة والفكرة، ويعيشوا على بينة من أمر هذه الأيام. قال تعالى: ﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأيام اللّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾، [5،إبراهيم].
والآيات هي الدلائل والعلامات، والمواقف والمشاهد، والعبر والعظات. والصَبَّار هو كثير الصبر على كل مصيبة ويعتريه من أمر الدين والدنيا. وهذا اللفظ يقول عنه علماء اللغة العربية صيغة مبالغة، يعني صبر بلغ القمة في القوة والتحمل، بعزم شديد وحزم أكيد. والشكور هو كثير الشكران على النعم المادية والمعنوية. فهو يشكر الله على ما وهبه من الدين وما أعطاه من الدنيا، وشكره هذا موصول بعضه ببعض، لا يكاد ينقضي شكر حتى يبدأ في شكر آخر، فهو في شكر دائم. ولذلك قال الله تعالى: ﴿وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾، [13،سبأ]
ولنعلم أن الشكور اسم من أسماء الله عزَّ وجلَّ، وصفة من صفاته، وان الذين يتذكرون أيام الله هم أهل الشكر على التحقيق والتيقين، وأنهم قد تخلقوا بأخلاق الله عزَّ وجلَّ، وتحلوا بجميل صفاته، فرضيَ الله عنهم ورضوا هم عن الله.
وكما أشرنا أن هذه الأيام السبعة هي أمهات الأيام، وإن كان هناك أيام لله في دنيانا هذه كثيرة جدا، أجرى الله فيها عجائب الأمور، وغرائب الآيات والمعجزات والكرامات، مثل أيام الرسل التي نصرهم الله فيها وهزم الباطل. والقرآن مليء بهذه الأيام العظام، وإن فيها لعبرة وذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. وكذلك أيام الإسلام المجيدة مثل أيام الحج، وأيام رمضان، وأيام مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وأيام الإسراء والمعراج وعاشوراء وتاسوعاء، وأيام إنزال القرآن وليله القدر، وأيام الانتصارات والفتوحات التي فتح الله بها على المسلمين البلاد، وأدخل أهلها في دين الله أفواجا، ومثل أيام الجمعة والعيدين والهجرة ونحوها.
وإنني أرجو الله عزَّ وجلَّ أن أكون قد ألممت إلمامة ولو يسيرة بتلكم الأيام السبعة، ليرى آخى المسلم فيها بعض ما يطلبه من الوقوف على إخبار هذه الأيام، ولتكون هدى ونورا لروحي وروحه، نهتدي به في معرفة ما خفي عليا من أمر هذه الأيام، ولتكون وسيلة لطلب المزيد من العلم بها، فإنني لم أعرف عن هذه الأيام إلا قليل جدا، وفوق كل ذي علم عليم. قال سبحانه: ﴿وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً﴾، [85،الإسراء].
اسأل الله عزَّ وجلَّ أن يتقبلها منى، وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم وأن يغفر لي ذنوبي ما عملت منها وما لم اعلم، وأن يغفر لجميع المسلمين، إنه سميع قريب مجيب. وصلى الله على سيدنا مولانا رسول الله على اله وصحبه وسلم........ آمين.....وسلام على جميع الأنبياء والمرسلين  والحمد لله رب العالمين.



[1] رواه الترمذي عن أبي هريرة.
[2]
[3] رواه البخاري عن أبي هريرة.
[4] رواه أبو بكر بن لال في مكارم الأخلاق.
[5] رواه ابن المبارك وأحمد والترمذي والبيهقي في السنن والحاكم في المستدرك عن شداد بن أوس.
[6] البيهقي في السنن عن ابن عمر.
[7] البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة.
[8] أبو داود وابن حبان والحاكم عن أبي سعيد.
[9] رواه الغزالي في الإحياء.
[10] رواه ابن أبي الدنيا في ذم الغضب عن أنس.
[11] رواه أحمد وابن عساكر وابن أبي الدنيا.
[12] رواه البخاري من حديث أبي هريرة.
[13] روى الديلمي عن معاذ إن الله تعالى ينادي يوم القيامة بصوت رفيع غير وضيع، يا عبادي أنا الله لا إله إلا أنا أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين وأسرع الحاسبين. يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون فأحضروا حجتكم ويسروا جوابكم فإنكم مسئولون محاسبون، يا ملائكتي أقيموا عبادي صفوفا على أطراف أنامل أقدامهم للحساب.
[14] رواه البخاري ومسلم والترمذي وابن حنبل من حديث على وعمران بن حصين.
التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:




شارك فى نشر الخير