آخر الأخبار
موضوعات

الاثنين، 8 أغسطس 2016

- الشكر من مقامات العارفين

عدد المشاهدات:
قال الله تعالى: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) سورة إبراهيم آية 7، وقد أمر الله به، ونهى عن ضده، وأثنى على أهله ووصف به خواص خلقه، وجعله غاية خلقه، وأمره، ووعد أهله بأحسن جزائه، وجعل من الشكر حارساً لنعمته، وأخبر أن أهله هم المنتفعون بآياته، واشتق لهم اسماً من أسمائه، فإنه سبحانه هو الشكور، وهو غاية رضا الرب من عبده، أهله هم القليل من عباده، قال الله تعالى: (وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) سورة النحل آية 114، وقال سبحانه وتعالى: (وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ) سورة البقرة آية 152، وقال جل جلاله عن سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) سورة النحل آية 120-121، وقال جل ثناؤه عن سيدنا نوح عليه الصلاة والسلام: (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا) سورة الإسراء آية 3، وقال تعالى: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) سورة النحل آية 78، وقال: (وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) سورة آل عمران آية 144، وقال تعالى: (إِنَّ فى ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) سورة إبراهيم آية 5، وقال تعالى: (هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا) سورة الإنسان آية 22، ورضاء الرب عن عبده كقوله تعالى: (وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) سورة الزمر آية 7، وقلة أهله فى العالمين تدل على أنهم هم خواصه، كقوله تعالى: (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) سورة سبأ آية 13.



وعن عطاء قال: (دخلت على عائشة رضى الله عنها مع عبيد ابن عمير فقلت أخبرينا بأعجب ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكت وقالت: وأى شأنه لم يكن عجباً؟ إنه أتانى فى ليلة، فدخل معى فى فراشى (أو قالت فى لحافى) حتى مس جلدى جلده، ثم قال: يا بنت أبى بكر، ذرينى أتعبد لربى، قالت: قلت إنى أحب قربك، فأذنت له، فقام إلى قربة من ماء فتوضأ، وأكثر صب الماء، ثم قام يصلى، فبكى حتى سالت دموعه على صدره، ثم ركع فبكى، ثم سجد فبكى، ثم رفع رأسه فبكى، فلم يزل كذلك حتى جاء بلال فآذنه بالصلاة، فقلت: يا رسول الله، ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: (أفلا أكون عبداً شكوراً) ولم لا أفعل وقد أنزل على (إِنَّ فى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) سورة آل عمران آية 190.



وقال عليه الصلاة والسلام لمعاذ: (والله يا معاذ إنى لأحبك فلا تنسى أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعنى على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) وقال عليه الصلاة والسلام: (ما أنعم الله على عبده فرأى عليه أثرها إلا كتب: حبيب الله شاكراً لأنعمه، وما أنعم الله على عبده نعمة فلم ير أثرها إلا كتب: بغيض الله كافراً لأنعمه).



وفى المسند والترمذى من حديث ابن عباس رضى الله عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهؤلاء الكلمات: (اللهم أعنى ولا تعن على، وانصرنى ولا تنصر على، وامكر ولا تمكر على، واهدنى، ويسر الهدى لى، وانصرنى على من بغى على، رب اجعلنى لك شكاراً، لك ذكاراً لك رهاباً، لك مطاوعاً، لك مخبتاً إليك أواها منيباً، رب تقبل توبتى، واغسل حوبتى، وأجب دعوتى، وثبت حجتى، واهد قلبى، وسدد لسانى، واسلل سخيمة صدرى) .



والشكر على ثلاثة أضرب: شكر بالقلب وهو تصور النعمة، وشكر باللسان وهو الثناء على المنعم، وشكر بالجوارح وهو مكافأة النعمة بقدر استحقاقه.

والشكر مبنى على خمس قواعد: خضوع الشاكر للمشكور، وحبه له، واعترافه بنعمته، والثناء عليه بها، وأن لا يستعملها فيما يكره.

هذه الخمسة هى أساس الشكر، وبنأؤه عليها، فإن عدمت منها واحدة اختلت قاعدة من قواعد الشكر، وكل من تكلم فى الشكر فإن كلامه إليها يرجع وعليها يدور.



وقال الإمام القشيرى: الشكر الأعتراف بنعمة المنعم على وجه الخضوع، وقيل: الثناء على المحسن بذكر إحسانه، وقيل: هو عكوف القلب على محبة المنعم، والجوارح على طاعته، وجريان اللسان بذكره، والثناء عليه، وقيل هو مشاهدة المنة،  وحفظ الحرمة، وقال حمدون القصار: شكر النعمة أن ترى نفسك فيها طفيلياً، ويقربه قول الجنيد: التشكر أن لا ترى نفسك أهلا للنعمة، وقال أو عثمان: الشكر معرفة العجز عن الشكر، وقيل: هو إضافة النعم إلى وليها، وقال رويم: الشكر استفراغ الطاقة، يعنى فى الخدمة، وقال الشبلى: الشكر رؤية المنعم لا رؤية النعمة، ومعناه أن لا يحجبه رؤية النعمة، لأن شكره بحسب شهوده للنعمة، وكلما كان أتم، كان الشكر أكمل، والله يحب من عبده أن يشهد نعمه، ويعترف بها ويثنى عليه بها، ويحبه عليها، لا أن يفنى عنها، ويغيب عن شهودها، وقيل: الشكر قيد النعم الموجودة، وصيد النعم المفقودة، وفى الحديث: (الحمد رأس الشكر، فمن لم يحمد الله لم يشكره)، والفرق بينهما أن الشكر أعم من جهة أنواعه وأسبابه، وأخص من جهة متعلقاته، والحمد أعم من جهة المتعلقات، وأخص من جهة الأسباب، ومعنى هذا: أن الشكر يكون بالقلب خضوعاً واستكانة، وباللسان ثناء واعترافاً، وبالجوارح طاعة وانقياداً، وقال سيدنا داود عليه الصلاة والسلام: (يا رب كيف أشكرك وشكرى نعمة على من عندك تستوجب بها شكراً؟ فقال: الآن شكرتنى يا داود) وفى أثر إسرائيلى: (أن سيدنا موسى عليه السلام قال: يا رب، خلقت آدم بيدك، ونفخت فيه من روحك، وأسجدت له ملائكتك، وعلمته أسماء كل شىء، وفعلت وفعلت، كيف أطاق شكرك؟ قال الله عز وجل: علم أن ذلك منى، فكانت معرفته بذلك شكراً لى) وقال الجنيد وقد سأله سرى السقطى عن الشكر وهو صبى: الشكر ألا يستعان بشىء من نعم الله على معاصيه، فقال: من أين لك هذا؟ قال: من مجالستك، وقيل: من قصرت يداه عن المكافآت، فليطل لسانه بالشكر، وفى أثر إلهى، يقول الله عز وجل: (أهل ذكرى مجالستى، وأهل شكرى أهل زيادتى، وأهل طاعتى أهل كرامتى، وأهل معصيتى لا أقنطهم من رحمتى، فإن تابوا فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيببهم، أبتليتهم بالمصائب لأطهرهم من المتعاب) وقيل: التزم سيدنا الحسن بن على عليهما السلام الركن وقال يا إلهى، أنعمت على فلم تجدنى شاكراً، وابتليتنى فلم تجدنى صابراً، إلهى، فلا أنت سلبت النعمة بترك الشكر، ولا أدمت الشدة بترك الصبر، إلهى، ما يكون من الكريم إلا الكرم.

ويقال: شكر: هو شكر العالمين يكون من جملة أقوالهم، وشكر: هو نعت العابدين يكون نوعاً من أفعالهم، وشكر: هو شكر للعارفين بإستقامتهم له فى عموم أحوالهم.



الشكر عند السالكين

سطور قليلة مفقودة...

وشهود ما يلائمهم من النعم التى لا تحصى والثناء على الله سبحانه وتعالى بالقلب والجوارح واللسان قولاً وعملاً لما تفضل به عليهم بعد الحب والإخلاص له  سبحانه وتعالى لشهود تلك الأيادى السابقة، قال صلى الله عليه وسلم: (أحبوا الله لما يغذوكم به من النعم)، وهذا الشكر خاص بأهل الإيمان وإن ظهر أن غيرهم من أهل الكفر اشترك فيه معهم، فإن الخلق أجمعين من مؤمنين وكفار يشعر بالسرور عند وجود ما يلائمه وبالشكر قولاً، ولكن أهل الإيمان امتازوا بأن الشكر منهم يكون بالجوارح والقلب واللسان مع الإيمان الكامل، وأما غيرهم من أهل الكفر بالله فإنهم إن شكروا فإن شكرهم يكون باللسان فقط لما يلائمهم من مأكل ومشرب وعافية وجاه، وهذا لا يعد شكراً لله سبحانه وتعالى من وجوه:

أولها: أن قلوبهم منعقدة على غير الحق والله لا يقبل من مشرك.

الثانى: أنهم قد يتلذذون بما حرمه الله تعالى ويفرحون بفعل الكبائر ويرونها نعمة فيشكرون عليها، وكيف يشكر الإنسان ربه على معصية ويتلذذ بمخالفته ويفرح باقتراف  الكبائر !!

الثالث: أن الشكر عمل خاص وهو صرف الجوارح فيما خلقت له والإستعانة بالنعمة على نيل رضاء المنعم، وهؤلاء إن قالوا باللسان فقد صرفوا جوارحهم فيما يغضب الله واستعانوا بنعم الله على عما ما نهى عنه.



ولا يتحقق الشكر عند السالكين إلا بعد أن تستبين لهم سبل الهداية ويتضح لهم ما يحبه الله من الأعمال وما يكرهه، ويتحققون بتوفيق الله لهم وإقامته سبحانه إياهم فيما يحب لمشاهدة أنوار التوحيد بقدر مقاماتهم وبنظر عيون الإيمان بالغيب بقدر مشهدهم، ولديها يكونون من الشاكرين. ومن شكر الله على ما يلائمه من النعم وما يسره له من الأيادى دون ملاحظة تلك المعانى فله من الشكر قسط يسير. ولِسِعَةِ فضل الله وعميم إحسانه وعظيم بره يقبله من العبد ويهب به المزيد فى الدنيا والمثوبة فى الآخرة، لأنه سبحانه وتعالى يحب الشكر ويقبل يسيره.



ومن وفقه الله تعالى من السالكين للشكر فقد أسبغ عليه نعمته وأهَّله لنيل فضله العظيم. ومن السالكين من يظهر الشكر حياء من الناس أو خوفاً من شماتتهم أو تجملا لهم، وهذا لا يعد شكراً ولكنه يعد نكراً، فإن الشكر من أعلى مقامات اليقين، ولا يتحقق للسالك إلا بعد التوبة والإخلاص والتوكل والرضا والتفويض، لأن تلك المنازل معارج للشكر، وليست مــنزلة الشكر من المنازل التى تدعى، فإن منزلة أهل المحبة والمحبة أعلى من أن يدعيها مدع لأن أحوالها العلية تقطع العبد إلى حضرة المحبوب الأول سبحانه انقطاعاً لا يجعل له ميلاً إلى الخلق ولا نظراً إليهم ولا رغبة فيهم فلا يخاف إلا الله ولا يرجو إلا الله.

وكيف يدعى السالك أنه فى منزلة الشكر وعلام الغيوب يطلع على سرائر القلوب؟

           

والشكر من أجمل حلل المقربين، وتــلك الحلل زينة للقلوب لا زينة الجوارح. فمن ادعى أنه من الشاكرين مجمـِّـلاً ظاهره للخلق غير مراقبٍ ربه بقلبه لا يلبث إلا ريثما يبتلى فتكشف عنه تلك الستارة فيفضح فى الدنيا قبل الآخرة. ومن تجمل للحق ألقى الله عليه محبة منه وعظمه فى قلوب عباده. ومن السالكين من يجمل باطنه بالشكر ملاحظاً نيل المزيد من النعمة والجاه فى الدنيا فتلفت نيته عمل قلبه وجوارحه، وتلك المنزلة من أدق منازل الطريق وأخفاها معالم على السالك لأنها منزلة خاصة أهل الخاصة قال تعالى (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) سورة سـبأ آية 13، فلينتبه السالك فى هذه المنزلة وليحافظ على مراقبة ربه جل جـلاله وليدم محاسبة نفسه. ولئن يتحقق بالمنزلة غير شاعر بأنه فيها خير من أن يتحقق أنه نزل تلك المنزلة وهو بعيد عنها.



وأهل السلوك فى الحقيقة غافلون عن منازلهم لأن الله تعالى منَّ عليهم بالعيون التى تشهدهم بأنهم صغار ناقصون فى أشد الضرورة إلى التخلية من الرذائل مع ما منَّ الله بهم عليهم من الفضائل التى أخفاها عنهم رحمة بهم. وكم من ولى محبوبٍ لله مقرب يذوب قلبه من الخوف يبكى ليله من خوف العذاب ينظر إلى من هــو فوقه علما وتقوى فتتضاءل فى نظره نفسه وينظر من هو دونه فى الدنيا فتعظم نعمه لديه، وكم من جاهل مغرور ينظر إلى من دونه فى الدين فيرى نفسه محسناً وإلى من فوقه فى الدنيا فيرى نفسه محروماً، وشتان بين من صعد كلمه الطيب إلى الله ورفع عمله الصالح إلى الله فرأى نفسه ليس له كلم طيب وعمل صالح وبين من رد عليه كلمه وعمله فرآه كثيرا - قـال الله تعالى: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) سورة فاطرآية 10. وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: يبكون خوف السابقة مع ما تفضل الله به عليهم من الشكر بأنهم رضى الله عنهم ورضوا عنه وما بشرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم: بأن لهم الجنة ولكن الله قبل أعمالهم ورفعها إليه وقبل كلمهم الطيب فصعد إليه لأنها فيه منه وإليه وبه سبحانه ولم يبق لهم إلا احتقار أنفسهم وتعظيم خالقهم والتحقق بالعجز عن القيام بالشكر.. منحنى الله وإخوانى المؤمنين ببركتهم التوفيق لما يحب من القول والعمل والحال، ويتفضل على وعليكم بما به يدوم شكرنا وذكرنا وطاعتنا له سبحانه ، آمين.



كمال العبد فى ثلاثة امور: إذا أنعم عليه شكر، إذا ابتلاه صبر، وإذا أذنب استغفر.

وهذه المنازل الثلاثة عنوان سعادة العبد، وعلامة فلاحه فى الدنيا والآخرة، لأن العبد يتقلب بين هذه الأحوال الثلاث.. نعم من الله تعالى تترادف عليه، فيزيدها بالشكر.



والشكر مبنى على ثلاثة أركان: الاعتراف بالنعم باطناً، والتحث بها ظاهراً، وتصريفها فى مرضاة موليها ومعطيها.. ومع كل، فإن فعل ذلك فقد شكرها مع تقصيره فى شكرها.

والصبر هو حبس النفس عن السخط بالمقدور، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن المعصية.



ومدار الصبر على هذه الثلاثة: فإذا قام به العبد كما ينبغى، انقلبت المحنة فى حقه منحة، واستحالت البلية عطية، وصار المكروه محبوباً، لأن الله لم يبتلينا ليهلكنا، وإنما ابتلانا ليمتحن صبرنا وعبوديتناَ.



وعلى ذكر العبودية، فإن لله تعالى على العبد عبودية فى الضراء، كما له عبودية فى السراء، أى أن له سبحانه على العبد عبودية فيما يكره، كما له عليه عبودية فيما يحب.



وأكثر النس يعطون الله العبودية فيما يحبون فقط، غير أن مراتب الناس وأقدراهم، ومنازل قربهم من ربهم، تكون بقدر شأنهم فى إعطاء العبودية فى المكاره، فالوضوء بالماء البارد فى شدة الحر عبودية، ومباشرة الزوجة الحسناء عبودية، والنفقة على العيال وعلى النفس عبودية، وهذا من ألوان العبودية فى السراء لأن النفس تميل إليها، فإذا أتاها الإنسان وهو صادق النية، أثيب عليها لأنها عبودية لله فيما يحبه الإنسان، وفى الحديث : (وفى بضع أحدكم صدقة).



ومن ألوان المكاره الوضوء بالماء البارد فى شدة البرد، وترك المعصية التى اشتدت إليها الناس، وكذلك النفقة إليها النفس، وكذلك النفقة فى المكاره وفى الضراء.



وقد ذكرنا لك ألونا من العبودية فيما يحب الإنسان، وألونا من العبودية فيما يكره، وذكرنا أن أكثر الخلق يعطون العبودية فيما يحبون فقط، ولكن فرق عظيم بين العبوديتين، فمن كان عبداً لله فى الحالتين، قائماً بحقه فى المكروه والمحبوب، فذلك الذى صدقت عبوديته، وأصبح من عباده الذين ليس لعدو الله إبليس عليه سلطان، (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) الحجر آية 42.



ولما علم عدو الله أن الله تعالى لا يسلم عباده إليه ولا يسلطه عليهم: (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) سورة ص آية 82-83، فاستثنى عباد الله المخلصين، لأنه لا سلطان له عليهم، وذلك واضح مما تقدم، فهؤلاء الصادقون فى عبودية الضراء وعبودية السراء هم فى حرز الله وحفظه وتحت كنفه، على أنه ليس معنى هذا أنه يستحيل وقوع أحدهم فى معصية، وإنما شأنه شأن الرجل الذى يغتاله اللص، ولا يبتلى العبد إلا إذا وقع فى الغفلة والشهوة والغضب، وقد كان آدم أبو البشر عليه السلام من أحلم الخلق، وأرجحهم عقلاً، وأثبتهم جناناً، ومع هذا، فلم يزل به عدو الله حتى أوقعه فى معصية ربه.. وإبليس لا يتمكن من المؤمن إلا غيلة، وعلى غرة وغفلة، حتى قد يظن المؤمن أنه لا يستقبل ربه عز وجل بعدها، وأن تلك الوقعة قد اجتاحته وأهلكته، ولكن الله يفتح لعبده المرمن باب العودة إليه بالتوبة، والندم، والاستغفار، والانكسار، والذل والافتقار، والاستعانة، وصدق اللجوء إليه، ودوام التضرع والدعاء والتقرب منه سبحانه، بما يمكن أن يقدمه العبد من الحسنات، وعندها تعلوا مرتبة المؤمن بسبب ذلك مرتبته الأولى قبل المعصية، وعندها يقول الشيطان: (يا ليتنى تركته ولم أوقعه).



وهذا معنى قول بعض العارفين: إن العبد ليعمل الذنب يدخل به الجنة، ويعمل الحسنة يدخل بها النار، قالوا كيف؟ قال: يعمل الذنب فلا يزال نصب عينيه خائفاً منه، مشفقاً، وجلاً باكياً، نادماً مستحياً من ربه تعالى ناكس الرأس بين يديه، منكسر القلب له، فيكون ذلك الذنب أنفع له من طاعات كثيرة، بما ترتب على هذا الذنب من أمور سعادة العبد وفلاحه، حتى يكون ذلك الذنب سبب دخوله الجنة، ويفعل الحسنة، فلا يزال يمن بها على ربه، ويتكبر بها، ويرى نفسه شيئاً، ويعجب بها، ويستطيل بها، ويقول: فعلت، وفعلت، فيورثه من العجب، والكبر، والفخر، الاستطالة، ما يكون سبب هلاكه، فإذا أراد الله تعالى بهذا المسكين خيراً، ابتلاه بأمر يكسره به، ويذل عنقه، ويصغر نفسه عنده، وإن أراد به غير ذلك، خلاه وعجبه وكبره، وهذا هو الخذلان الموجب لهلاكه، فإن العارفين كلهم يجمعون على أن التوفيق هو أن لا يكلك الله تعالى إلى نفسك.
التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:




شارك فى نشر الخير