عدد المشاهدات:
العمل في
الإسلام
بسم الله
الرحمن الرحيم
ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم
سلطانك، ولك الحمد حمداً يوافى نعمك ويكافئ مزيدك، ولك الشكر كما تحب وترضى، ولك
الثناء الحسن الجميل، والصلاة والسلام على سرك الساري في هياكل الموجودات، ورسولك المؤيد منك بالآيات
والمعجزات، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه سادة المؤمنين والمؤمنات وسلم تسليما كثيرا،
أما بعد...
فقد روى الإمام مسلم عن أبى هريرة رضي الله عنه من حديث
طويل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه:{ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه}.
هذه الفقرة استوقفت نظري طويلاً إذ أنها أساس
قوى من أساسات هذا الدين المتين الذي لم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا بينها للناس،
حتى لا يضلوا ولا يختلفوا، اللهم أعظم تحياتك وبركاتك على ذات حبيبك ومصطفاك، فقد
ترك لنا الخير كله، وهدانا إليه برأفة وحنان.
أيها المسلم الكريم:
إن العمل والجد والنشاط هو روح هذا الدين ونظامه، وهو عماد هذا الدين ومنهاجه.
والعمل يشتمل على عمل القلوب وعمل اللسان وعمل الجوارح، فإن الله عزَّ وجلَّ قد وسَّعَ
دائرة العمل أمام المسلمين حتى لا يضيع منهم مثقال ذرة في هذه الحياة الدنيا، فإن كل عضو من الإنسان
يعمل ويثرى الحركة ويطور العمران ويزيد في الخير والبرِّ والتقوى، والله يحصى كل
هذه الأعمال، وقد ينساها الإنسان ولكن الله لا ينسى شيئاً، قال الله تعالى: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ
أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا﴾. [29، النبأ].
وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ
وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ
الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ
قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾.
[16-18، ق].
وقال الله جل شأنه: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن
يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾. [7-8، الزلزلة].
إن العين لها عمل، وإن الأذن لها عمل، وإن اليد
لها عمل، وإن الرجل لها عمل، وإن اللسان له عمل، وإن الفرج له عمل، وإن الأنف له
عمل، وإن العقل له عمل، وإن القلب له عمل، وإن الماضغين والبطن لهم عمل، وهكذا نجد
كل جزئية في الإنسان لها خدمة وعمل تقوم
به ولا تتأخر عنه، لأن الله جعلها طوع الإنسان وتحت أذنه وتصرفه.
وهذه الجوارح خلقها الله على كيفيات وهيئات
مختلفة، بحيث تقوم كل منها بمهمة تختلف عن الأخرى، ويكمل بعضها بعضا في حاجات الإنسان وضرورياته وكمالياته، بحيث لو
نقص عضو منها فات على الإنسان خير كثير، وعاش حزيناً متألماً لفقده، قال الله
تعالى: ﴿رَبُّنَا
الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾. [50، طه].
ولقد جَهَزَ الحقُ سبحانه وتعالى الإنسان
بهذه الأعضاء حتى يبادر بالأعمال الصالحة، ويسارع إليها وينال حظه منها، ولا يقعد
ولا يتباطأ، ولا ينام ولا يتكاسل حتى يؤدى ما عليه، ويستخدم هذه الآلات والقوى التي
منحها الله له في القيام بما فرضه الله عليه وسنَّه رسول الله إليه من العمل لخيري
الدنيا والآخرة حتى يرجع إلى الله وهو راض عن نفسه وعن عمله، لأنه لم يدَّخر وسعاً
ولم يضيع فرصة من عمره من غير أن يقوم فيها
بعمل نافع له أو لغيره في الدنيا والآخرة،
قال الله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ
أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً
وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾.
[97، النحل].
وقال
الإمام أبو العزائم رضي الله عنه:
العلم يهتف
بالعمل ... فاعمل تنل كل الأمل
فبالعمل تسعد الحياة والأحياء، وبالعمل ينال
الإنسان رضا الله ورسوله ويرضى عنه المجتمع، فاعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل
لآخرتك كأنك تموت غداً.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
***
الاعتماد
على الناس
بسم الله
الرحمن الرحيم
على الله توكلنا، ربنا افتح بيننا وبين قومنا
بالحق وأنت خير الفاتحين، والصلاة والسلام على من زكى النفوس ببيانه، وطهر القلوب
بنوره، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب
العالمين.
أما
بعد.
فيا
أيها الإنسان الرشيد: افتح أذن روحك لاستكمل معك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي
يقول فيه:{ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه}.
وقد تكلمنا في الدرس السابق عن العمل، وعن حاجة الإنسان
إليه، وعن توجهات الدين بشأنه، والآن نوضح قول النبي صلى الله عليه
وسلم
{لم يسرع به نسبه}، والمعنى أن الإنسان الذي تأخر به مجهوده وسعيه، وأبطأ به علمه
وفعله، وفاته الركب ولم يستطع اللحاق به، قد خسر خسرانا مبيناً، ولم يجد معه أي شئ
آخر يقوم مقام العمل أو يسد مكانه، حتى ولا النسب الذي ينتمي إليه ـ إن كان آباءه
وأجداده من ذوى الشرف والمجد العالي ـ فإنهم لن يسعفوه، ولن يقدروا على تعويضه عن
عمله ومجهوده وسعيه وكده، فإن الإنسان الضعيف هو الذي يعتمد على أقاربه وآباءه،
ويحرم نفسه من نصيبه في العلم والعمل
والخلق، فذلك هو الإفلاس الذي يعيش فيه
ضعاف الناس وسذاجهم، فإنهم لا يدرون قيمة الحياة، ولا يعرفون قدر أنفسهم، فإن التباهي
بالآباء والأجداد لا يغنى عن العمل شيئاً، فإن العمل هو قيمة الإنسان في هذه الحياة، بل فيها وفي الدار الآخرة، قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم محذراً عشيرته والأمة
العربية جمعاء: {إياكم أن تأتى الأعاجم يوم القيامة
بأعمالهم وتأتوا أنتم بأحسابكم وأنسابكم}.
وقد قال الله تعالى: ﴿فَإِذَا
نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ﴾.
[101، المؤمنون].
وقال النبي صلى الله عليه
وسلم لابنته فاطمة رضي الله عنها:{يا
فاطمة اعملي فإنني لن أغنى عنك من الله شيئاً}.
وذلك الحديث الشريف يرفع من قيمة
العمل ومن مستوى الأداء في محيط الحياة
الإيمانية وإن أي شئ لا يغنى عن العمل مهما كان شأنه، وإن كان لي ملاحظة في توجيه
هذا الحديث الشريف الذي ساقه النبي صلى الله عليه وسلم
للحث على العمل بأعظم صورة من البيان، وهذه الملاحظة هي في الشرح والتوضيح لهذا الحديث، ويمكن بيانها
فأقول:
فإنني لن أغنى عنك من الله شيئاً
إلا بإذنه سبحانه وتعالى ـ أما وقد أذن الله له في
الشفاعة، وأعطاه ربه خيراً كثيراً لا نهاية له، وأذن له في التصرف فيه حسب ما يشاء ـ فإنه بذلك يمكن القول بإن النبي
صلى الله عليه وسلم له الشأن والأمر والتصريف
المطلق بإذن الله تعالى، إكراماً له عليه
الصلاة والسلام، ورفعاً لذكره وشأنه في الدنيا والآخرة، وبناءً على ذلك فإنه يغنى
عنها وعن غيرها كل شئ بفضل الله عزَّ وجلَّ.
اللهم ارزقنا شفاعته وولايته،
ورحمته ورأفته، صلى الله عليه وسلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
***
أذكار
الرسول عقب الصلاة
بسم الله
الرحمن الرحيم
حمداً لله على آلاءه، وشكراً لله
على نعمائه، والصلاة والسلام على سيدنا محمد صفوته من بين رسله وأنبياءه، وعلى آله
وأصحابه ومن اقتفى أثارهم إلى يوم ميعاده، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد...
فيا أيها المسلم الكريم: استمع معي إلى حديث
شريف رواه مسلم في صحيحه، عن ثوبان رضي الله عنه
قال:{كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثاً وقال اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا
الجلال والإكرام}.
قيل للأوزاعي وهو أحد رواة الحديث:
كيف الاستغفار؟ قال تقول: استغفر الله استغفر الله.
هذا الحديث الشريف يعلمنا الأذكار التي
نقولها عقب صلاة الفريضة، هذه أذكار سمعها سيدنا ثوبان وغيره من الصحابة رضي الله عنهم،
وذلك دليل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان يرفع صوته بها حتى سمعها أصحابه ورووها عنه لأنه لو كان يقولها سراً ما علمها
أحد وما بلغوها لنا، وكان أصحابه يقتدون به صلى الله عليه وسلم
ويرفعون أصواتهم بهذه الأذكار عقب الصلوات، إظهاراً لشعائر الله وإعلاناً بذكر
الله، وكانت تتجاوب له الأرجاء وتهتز له الأعضاء.
وقد وردت أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه
وسلم بأذكار مختلفة بعد انتهاء الصلاة رواها أصحابه رضي الله تعالى
عنهم، وكلها تدل على أن الرسول كان يهلل بها بعد تسليمه من الصلاة. وكثير
من الناس يحدثون ضجيجاً حول هذه الأذكار، ويفرضون على المسلمين قولها سراً لأنها
تشوش على المصلين. من الذي قال أن ذكر الله يشوش على المصلين وهو سنة رسول الله
قولاً وأداءً؟
هل غاب ذلك عن رسول الله وعن
أصحابه حتى يتهجم هؤلاء الناس على رسول الله بهذا التشويش الذي أحدثوه في دين
الله؟
وقد رأينا السلف الصالح من الآباء
والأجداد رضي الله عنهم، كانوا يؤدون هذه السنة في جميع بيوت الله وفى أرجاء المعمورة ولم ينكر عليهم
أحد من عهد رسول الله حتى ظهرت هذه الدعاوى في عصرنا هذا وتبناها أناس لا يحسنون
الإرشاد والتوجيه، فزادوا الأمر سوءً والطين بله، إن ترك المسلمين يرفعون أصواتهم
بذكر الله بعد الصلوات أفضل ألف مرة من إحداث التفرقة بينهم حول هذه الشعائر، فمن
قائل يقول إنها بدعة وضلالة، ومن قائل يقول أنها مكروهة، وآخر يقول أنه سنة. وهذه
البلبلة فرقت المسلمين وجعلتهم يتشيعون ويتحزبون حول أصحاب هذه الآراء وينتصرون
لها، وهذا هو التفريق في الدين.
وإن الذي يفرق بين المسلمين قد
ارتكب إثماً كبيراً يجب عليه التوبة إلى الله منه والإقلاع عنه، وإصلاح ما أفسده
من قلوب العامة والبسطاء من المسلمين، حتى يتوب الله عليه، والواجب أن نفرق الناس
عن معصية الله لا عن ذكر الله وعبادته. وإن المساجد إذا حدث الجدال فيها حول هذه
الشعائر فلنعلم أن الساعة أوشكت جداً على القيام، إذ أن المساجد يحرم رفع الصوت فيها إلا بذكر الله وعبادته، وتلاوة القرآن
والعلم والحديث الشريف، وهل إذا قرأ الإمام السورة بعد الفاتحة مباشرة نقول إنه
شوش على المأموم الذي يقرأ الفاتحة؟ لم يقل أحد بذلك مع اختلاف مذاهب المسلمين.
نسأل الله الرشاد والسداد، والتو
فيق إلى الصواب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
***
أبواب
الخير
بسم الله
الرحمن الرحيم
الحمد لله يسر للمؤمنين سبيل الخير
وأعانهم على فعله، وحفظهم من الشرور والمفاسد ونجاهم من المهالك والمخاطر. والصلاة
والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وعلى أصحابه صلاة وسلاماً دائمين متعاظمين بدوام
عظمة الله، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد...
فقد روى الترمذي من حديث طويل عن
معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال:{ألا
أدلك على أبواب الخير: الصوم جُنًّة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار،
وصلاة الرجل في جوف الليل ـ ثم تلا:﴿تَتَجَافَى
جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾. [16، السجدة].
أيها المستمع الكريم: هذه فقرات من
حديث طويل لرسول الله صلى الله عليه وسلم بيَّن فيها للمسلمين جميعاً أبواب الخير، وإذا دخل
المسلم من أي باب منها وجد خيراً عاجلاً في الدنيا وسعادة ونعيماً في الآخرة.
أول هذه الأبواب قوله صلى الله عليه
وسلم: {الصوم جُنًّة}،
ومعنى ذلك أن صوم المؤمن عن الطعام
والشراب والشهوة الجنسية ـ وهى أمور ضرورية بالنسبة للإنسان ـ وقد امتنع عنها
تقرباً إلى الله عزَّ وجلَّ، ومسارعة في مرضاته، فإنه بذلك قد ترك كل المحرمات والمكروهات
التي تسيئه وتشينه عند الله عزَّ وجلَّ وعند
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزاد في التعبد والتقرب بالصيام عن الضروريات اللازمة
لحياته، فهو بذلك قد دخل في حصون منيعة،
واستجن في جُنَّةٍ قوية لا يقدر عدو أن
يقتحمها. فالصوم من أعظم العبادات وأجل الصالحات التي يؤديها المؤمن احتسابا لوجه
الله تبارك وتعالى وطمعا في مرضاته.
فإن كثرة الطعام والشراب تقوى
الشهوة وتفتح أبوابها على الإنسان وإن الذي غلبت عليه شهوته قد غلبت عليه شقوته
ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله العلى العظيم.
والباب الثاني من أبواب الخير قول النبي
صلى الله عليه وسلم: {والصدقة
تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار}.
صدقت يا سيدي يا رسول الله، فإن
الخطيئة هي نار في حقيقتها لو تبصر المؤمن وتفكر. وقد أكرمنا النبي بتوضيح ما يطفئ
هذه النار التي توقد بالناس والحجارة، ألا وهو الصدقة، وهى ما يدفعها الإنسان
متطوعاً بها عن طيب نفس وكرم طبع، فرحاً بها لأنه نفع بها إنساناً ووسع بها عليه،
وهى غير الزكاة التي فرضها الله على المؤمنين إذ هي حق الله ورسوله وحق المحتاجين من
عباد الله، وهى ركن من أركان الإسلام وعمود من أعمدته التي لا قيام له بدونها، قال
الله تعالى: ﴿وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ
وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾.
[43، البقرة].
والباب الثالث من أبواب الخير ـ
أيها الأخوة الكرام ـ قول النبي عليه الصلاة والسلام {وصلاة
الرجل في جوف الليل}،
وهى أحدى المكرمات وتحتاج من المؤمن لكثير
من المجاهدات، حتى يقوم بهذه السنة الشريفة، وإن ركعتين في جوف الليل تعدل الكثير والكثير من الصلاة في النهار، لأن القيام بالليل يحتاج إلى همة
عالية وجهاد كبير بخلاف النهار، فإن الإنسان متيقظ فيه بالطبع، والصلاة فيه ميسرة، قال صلى الله عليه وسلم:{عليكم
بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم ومقربة إلى ربكم، ومطردة للداء من أجسامكم}.[3]
وفقنا الله جميعاً للدخول في هذه الأبواب الكريمة... آمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
***
غيب
الأرحام
بسم الله
الرحمن الرحيم
هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة
ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبين لكتاب الله، والهادي
إلى دين الله، وعلى آله وأصحابه وعلى كل من والاه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد...
أيها الأخ في الإنسانية: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فقد روى الإمامان البخاري ومسلم، عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى
عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال:{إن أحدكم يجمع خلقه في بطن
أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه
الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات، يكتب رزقه وأجله
وعمله وشقي أو سعيد}.
صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أيها الأخوة المؤمنون: هذا الحديث
من المعجزات التي أيد الله بها رسول الله صلى الله عليه
وسلم، لأنه أخبر عن غيب الأرحام التي
لا يعلم ما فيها من تخليق الإنسان وتطويره إلا الله عزَّ
وجلَّ. ولكن رسول الله صلى الله عليه
وسلم كشف عن أحوال الجنين في
ظلمات الأرحام، فقد قال عليه الصلاة والسلام:{ إن أحدكم
يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة}.
وهذه النطفة تتكون أولاً في أصلاب
الآباء والأمهات ـ وهى العظام القوية ـ وفى ترائبهما ـ وهى العظام الرقيقة ـ ومعنى
ذلك أن النطفة تتكون في هذه العظام
والأعصاب ليكون الإنسان هو خلاصة وعصارة أبيه وأمه، فيكون نسيجاً منهما، ومزيجا من عناصرهما، لينال
منهما كل العطف والحنان، وكل الرحمة والإحسان.
ثم إن هذه النطفة تتجمع في رحم الأم، وتستقر فيه أربعون يوماً، تأخذ بعض التغيرات والتطورات في اللون والشكل والتكوين بخيوط دقيقة جداً، إلاَّ
أنها ما زالت قريبة من هذا السائل المعروف بالنطفة، وذلك معنى التجميع الذي ذكره
سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{ثم يكون
علقة مثل ذلك} في
نهاية الأربعين الأولى يبدأ تعلق هذه النطفة المتجمعة في جدران الرحم، ويحتضن الرحم هذه العلقة، وتنمو
وتأخذ وضعاً آخر من التخليق والتكوين، وتقوى بعض الشيء، وتنمو حتى تصير في نهاية الأربعين الثانية كالمضغة في المقدار، وليس في الهيئة والصورة. والمضغة هي القطعة من اللحم التي
يمضغها الإنسان بين فكيه. وتستمر تلك المضغة في النمو والتطور أربعين يوماً حتى يتخلق منها
الجسم الإنساني بكامل أجزاءه وأعضاءه، وفى نهاية اليوم الأخير من الأربعين يرسل
الله الملك الموكل بالأرحام إلى هذه المضغة، فينفخ فيها الروح التي تحيا بها الحياة الإنسانية.
ويبدأ هذا الخلق يتحرك في رحم
الأم، وتحس بحركته وتقلبه في بطنها، وفي نفس الوقت الذي نفخ فيه الروح يأمر الله الملك بكتابة أربع كلمات في
كتاب هذا الإنسان الذي تم خلقه جسما وروحاً.
وهذه الكلمات هي: رزقه ـ والرزق هو
كل ما ينتفع به الإنسان في حياته، من
بداية هذه اللحظة، فيتعاطى رزقه من أمه التي تمده به وهو في أحشاءها، ثم ما
يتناوله بعد ولادته من لبنها وغيره ـ وكساءه وغطاءه، وفراشه ومسكنه، وماله وزوجه
وأولاده، فإن كل ذلك من رزقه، وكذلك علمه وثقافته، وما ينتفع به في معانيه ومداركه، فإنه رزقه الروحي.
وكذلك
يكتب الملك أجله، يعنى مدة حياته في هذه الدنيا من لحظة نفخ الروح فيه إلى ساعة
خروجها منه، ويكتب أجله هذا بعدد الأنفاس التي يتنفسها، قال تعالى: ﴿ وَكُلُّ
شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ﴾. [8،
الرعد].
وكذلك يكتب الملك عمله الذي يقوم
به في الدنيا من ساعة تحركه في بطن أمه حتى تبطل حركته بالموت، وهذا بخلاف الحساب
على العمل، فإن الإنسان يحاسب على أعماله من ساعة بلوغه سن التكليف الشرعي، وذلك
إن حاسبه الله، أما إن عفا عنه فشأنه العفو والإحسان. ويكتب الملك أيضاً شقيٌ أو
سعيد. وهذه الكتابة بأمر من الله عزَّ وجلَّ
للملك، ولا يكتب الملك شيئاً من عنده ﴿ ذَلِكَ
تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾. [38، يس].
والإنسان لا يدرى ماذا كُتِبَ له،
وإنما إذا أحب أن يعرف ذلك فلينظر فيما أقامه الله فيه، وفى حاله وشأنه الذي يعيش فيه، فإن كان عاملاً من عمال الله، قائماً
بأوامر الله، مسارعاً في الخيرات
والصالحات فليعلم أن الله قد أكرمه بسابقة الحسنى، وجعله من عباده الصالحين، فيشكر الله على ذلك، ويحمده آناء الليل وأطراف
النهار على ما أكرمه به، وأنعم به عليه.
والله عزَّ جلَّ
نسأل أن يجعلنا ممن سبقت لهم الحسنى، إنه سميع قريب، مجيب الدعاء.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
***
الأعمال
بالنيات
بسم الله
الرحمن الرحيم
اللهم لك الحمد ولك الشكر كما تحب
وترضى، ولك الثناء الحسن الجميل، لا نحصى ثناءاً عليك، كما أثنيت أنت على نفسك،
اللهم إنا نسألك أن تصلى وتسلم وتبارك على ذات حبيبك ومصطفاك، سيدنا محمد وعلى آله
وصحبه وسلم، صلاة تحل بها العقد، وتفرج بها الكرب، وتزيل بها الضرر وتهون بها
الأمور الصعاب، وصلاة ترضيك وترضيه وترضى بها عنا يارب العالمين.
أما بعد:
فقد روى البخاري ومسلم عن أمير
المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: {إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل
امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت
هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه}.
أيها المسلمون: إن هذا الحديث
الشريف يدخل إلى القلوب فيصحح أعمالها، ويجدد إيمانها، ويهز أوتارها نحو الفضيلة.
فإن القلوب عليها المدار والمعول، فحركة يسيرة منها تعدل كثيراً من حركات الجوارح
والله سبحانه وتعالى يطلع عليها وينظر فيها، إذ هي محل نظره سبحانه
وتعالى من الإنسان، قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم:{إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم
ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم}.[4]
وقال الله
تعالى في شأن المؤمنين الصادقين: ﴿فَعَلِمَ
مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا
قَرِيبًا﴾. [18، الفتح].
وإن الواجب على كل مسلم أن يطهر
قلبه لله، وأن يجمله لله، وأن يعمره بالله، وأن يوجهه دائماً إلى الله، وأن يملأه
بالخير والبر لكل بني الإنسان، وأن يجنبه كل مكروه وخبث وفجور.
إنما الأعمال بالنيات، يعنى لا تصح
الأعمال ولا تقبل عند الله إلاَّ إذا كانت ممهورة بالنية الطيبة، والقصد الحسن،
والعزيمة الصادقة، والهمة العالية، والنية هي قصد الشيء عند بداية فعله. وأن تكون
النية متجهة إلى رضاء الله وإطاعة رسوله فيما يتعلق بالعبادات، وإلى رضاءه سبحانه
وتعالى وإلى نفع الناس فيما يتعلق بمصالح
الناس، وإلى غير ذلك من قصود الخير ونوايا البر والإحسان، بحيث يكون للمؤمن نوايا
حسنة وكريمة في كل فعل أو قول، أو خلق أو اعتقاد، فمثلاً تنوى بصلاتك إطاعة أمر
الله عزَّ وجلَّ والتشبه بنبيه صلى الله عليه
وسلم، وطلب رضاؤه سبحانه وحسن مثوبته، وأداء حق الله عليك، وأن تكون قدوة
حسنة لغيرك، وهكذا يكون لك في كل شئ تنويه أجراً وجزاءاً من الله عزَّ وجلَّ،
فإنما لكل إنسان ثواب ما نوى.
قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم:{بنياتكم ترزقون}.
وفى حديث آخر:{
نية المرء خير من عمله}.
والنية تضفى على الشيء صبغة شرعية
ولو كان أمراً عادياً كالأكل والشرب، واللبس والنوم، والغدو والرواح، وإن الأعمال التي
اعتادها الإنسان إذا نوى بها التقرب إلى الله، والتقوى على عمل الصالحات، والاستعانة
بها على نفع نفسه أو غيره، هذه النوايا تجعلها عبادات بعد أن كانت عادات.
ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام:{فمن
كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله}.
والمعنى أن من نوى بهجرته إرضاء
الله ورسوله، وقصد بها الجهاد في سبيل
الله ورسوله، فإن هجرته مقبولة عند الله ورسوله، وأن له من الأجر العظيم والنعيم
المقيم، ما لا تدركه الأرواح العالية، ولا
تتخيله النفوس الكاملة، وإنما هو عطاء يكرم به المؤمن عند لقاء الله عز وجل،
لم يكن يتصوره أو يدرى عنه شيئاً، قال الله تعالى: ﴿فَلَا
تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ﴾. [ 17،السجدة].
{ومن
كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه}.
والمعنى أنه يجازى على قدر نيته في
الهجرة، وعلى قدر قصده فيها، فإن الهجرة
من أجْلِ المكاسب والثراء، أو الزواج والنكاح لا بأس بها في الدين، ولكن ليس لها
من الثواب والأجر ما يساوى عشر معشار الهجرة لله ورسوله.
والله أسأل أن يخلص النوايا
والقصود من كل شائبة، إنه مجيب الدعاء، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته...
***
تقريب الله
لعباده
بسم الله
الرحمن الرحيم
وصلاة وسلاماً على سيدنا محمد
الصادق الأمين، وعلى إخوانه النبيين والمرسلين، وعلى آلهم وأصحابهم أجمعين وسلم
تسليماً كثيراً..
أما بعد...
فإني أقدم هذه الباقة الكريمة من
روضة المصطفى عليه الصلاة والسلام، لأخواتي المؤمنين والمؤمنات، علهم يتعطروا
بأريجها العبق، ويمتعوا بها أنفسهم وسط هذا الجو البهيج، فقد روى مسلم عن أبى ذر رضي الله عنه
من حديث طويل، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول
الله عزَّ وجلَّ: ﴿ومن تقرب
منى شبراً تقربت منه ذراعاً ومن تقرب منى ذراعاً تقربت منه باعاً، ومن أتانى يمشى
هرولة أتيته هرولة﴾.
صدق رسول الله فيما أخبر به عن الله عزَّ وجلَّ.
أيها المؤمنون: ما أروع هذا البيان
الذي تجلت فيه عناية الله ورأفته بعباده
المؤمنين، إن الله سبحانه وتعالى غنىٌ عن الناس، وغنىٌ عن عبادتهم
وعن جميع أعمالهم، ولكنها الرحمة في أسمى
معانيها وأرفع كمالاتها، فقد أفاضها الرب تبارك وتعالى
على عباده الذين هم في أمسِّ الحاجة
إليها، إن المؤمن يتقرب إلى الله بكل ما يحبه الله عزَّ وجلَّ
من الفرائض والسنن، لأنه محتاج إلى نصر الله ومدد الله، ومحتاج إلى رحمة الله
ومغفرته، ولقد كان من فضل الله أن كافأ الله عبده بنفس الأعمال التي يتقرب بها إلى
ربه، فهو يتقرب إلى الله بطاعته ويتقرب منه الرب سبحانه وتعالى
بفضله ورحمته، وهكذا يتقرب العبد باليسير من الأعمال ويتقرب منه الله بالعظيم من
الهبات والخيرات، وذلك شأن الرب العظيم الكريم الحنان المنان.
وذكر الشبر والذراع والباع كناية
عن الشيء القليل من العبد والعطاء الكبير من الرب، فإن العبد يقرأ الحرف من القرآن
فيأخذ عليه من الله عشر حسنات، وهكذا في كل الأعمال والأذكار، فقد ورد عن سيدنا رسول
الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:{من
قرأ آية من كتاب الله فله بكل حرف عشر حسنات، لم أقل ألم حرف وإنما ألف حرف ولام
حرف وميم حرف}.
وأما قول الله تعالى في الحديث القدسي: { ومن
أتاني يمشى أتيته هرولة}، والمشي هو السير على مهل، وعلى
راحة الإنسان بدون تكلف ولا مشقة، والهرولة هي السير بخفة بسرعة ما، بحيث يكون
السائر بين الماشي والمسرع، حالة وسط بين الشيئين، ومعنى ذلك أن الله عزَّ وجلَّ
يُقْبِل على عبده بما يحتاجه من الضروريات والكماليات أكثر وأعظم من إقبال عبده
عليه بالطاعات والقربات، وهذه سنة الله في
عباده وعادته مع أولياءه الذين يتجهون إليه سبحانه بما يحبه ويرضاه.
فإن طلب العبد لربه هو عين طلب
الله له، ولولا طلبه لك ما طلبته أنت ولا اشتقت إليه، هذا وبالله التو فيق.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
***
فضائل شهر
شعبان
بسم الله
الرحمن الرحيم
اللهم إنا نسألك أن تصلى وتسلم
وتبارك على ذات حبيبك ومصطفاك سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها المستمع الكريم: السلام عليكم
ورحمة الله وبركاته.
وبعد:
فقد روى الأئمة عن السيدة عائشة أم
المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت:{لم
يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من شهر أكثر من شعبان
فإنه كان يصوم شعبان إلا قليلاَ}.
هذا الحديث الشريف تذكر فيه السيدة عائشة رضي الله عنها
ـ صيام النبي صلى الله عليه وسلم في شهر شعبان، والصيام عبادة من أعظم العبادات التي
يتقرب بها الناس إلى الله عزَّ وجلَّ، والصوم
يتمثل في جميع أعضاء الجسم لأن كل عضو يمتنع عن حاجته ومتعته التي أحلها له الله،
تعبداً لله وتقرباً إليه جلَّ شأنه، واحتسابا لوجهه الكريم.
وليس هناك أشد على النفس من
حرمانها لوازمها وضرورياتها، ولذلك كان الصوم عبادة لكل الجوارح والأعضاء، فإن من
صام يوماً لله كان كفارة له وعتقاً لرقبته من النار. وإن هناك باباً في الجنة يقال له الريان لا يدخل منه إلا
الصائمون.
ولما سئل رسول الله عن كثرة صيامه
في شهر شعبان قال: {هذا شهر ترفع فيه الأعمال إلى الله عزَّ وجلَّ
وأحب أن يرفع عملي وأنا صائم}.
وإن أعمال السنة كلها ترفع إلى
الله جملة في هذا الشهر مع العلم أن
الأعمال ترفع إلى الله بمجرد الانتهاء منها، ولكنها ترفع مرة ثانية في هذا الشهر،
وذلك لحكمة عالية اقتضتها مشيئة الله سبحانه وتعالى
ألا وهى نظر الله إليها ومضاعفة أجرها والعفو عن مسيئها، لأن العبد قد يراجع نفسه في
كثير من الأمور، ويستدرك ما فاته بالتوبة والإنابة والندم على ما فرط منه، وإن
الله يحب ذلك من عبده.
لذلك كان شهر شعبان شهر التوبة
والدعاء والاستجابة من الله عزَّ وجلَّ، وقد
أجاب الله فيه دعوة نبيه ورجاءه في تحويل
القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة، و فيه استجاب الله دعوة نبيه صلى الله عليه
وسلم فشق له القمر وجعله معجزة أدهشت الكفار وحيرتهم وزادت يقين
المؤمنين، فكان صلى الله عليه وسلم يشكر الله على هذه المنن بصيام
أكثر أيام هذا الشهر المبارك.
وإنه من الواجب ألا يغفل المؤمن عن
هذا الشهر، وإنما يوليه عناية خاصة كما كان يفعل النبي عليه الصلاة والسلام، فيكثر فيه من الصيام والصدقة والصلاة وفعل الخيرات
استعداداً لشهر رمضان، وتدريباً عملياً على المجاهدات الكبيرة التي يقوم بها
المؤمنون في شهر رمضان.
أيها المؤمنون: سدد الله خطاكم،
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
***