آخر الأخبار
موضوعات

السبت، 27 أغسطس 2016

- "رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا"

عدد المشاهدات:
"رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا"
قبل أن نتكلم عن تأويل هذه الآية أشير لك إشارة . تعلم أنه ورد فى الحديث الشريف قولهe: [من عرف نفسه فقد عرف ربه] ، وأهل هذه المقامات يتفاضلون ، فأقل مقام من هذه المقامات أن يعلم أن نفسه مكونة من ضد أسماء وصفات الربوبية ، فما من أسم من أسماء الله إلا والعبد يسمى بضده ، ولكن ذلك قد يكون علما وقد يكون شهودا وقد يتجاوز الشهود حتى يكون وجودا وقد يكون حضورا ومثولا ، ونحن الآن نتكلم عن العلم الآية مفتتحة بالراسخين فى العلم ، وهذا الدعاء دعاء أهل العلم.

وإذا علمت نفسك بمقام العلم أنها مكونة من أضداد الأسماء والصفات، فالله القوى وأنا الضعيف ، والغنى وأنا الفقير ، والقادر وأنا العاجز إلى آخر الأسماء والصفات ، وقد بلغت مقام اليقين فى العلم الذى عرفته قبلا وهو تصور النفس رسوم المعلوم ، ولا يكون علما حقيقيا إلا إذا تصورت النفس رسوم المعلوم ، أما ما عدا ذلك من فهم أو حفظ أو حكم بالعقل فليس ذلك بعلم لأن الذى يدركه الحس من المادة مهما كانت المادة سافلة أو عالية يشترك فيه الكافر والمؤمن ، فعلم الرياضة الذى يجب أن يكون له . مادة ف الذهن وأن لم يكن له مادة فى الخارج تقتضي تحصيله ، وعلم النجوم الذى له مادة عالية عن المادة السافلة ، وعلم ما فوق المادة مما عظمة أهل الجهالة ممن خرجوا عن الأدب مع الله ورسوله ، وتلقوه عن فلاسفة الرومان واليونان والأشوريين والبابليين الذين يسمونه العلم الإلهي وليس بعلم إلهي.

كل تلك العلوم لها مصائد هى الحواس الخمس ، وكل إنسان روض نفسه فى أى نوع من أنواع الرياضة يحصل تلك العلوم ، أما العلم الذى أثنى الله على أهله فأخبر عنهم أنهم راسخون فى العلم فهو العلم الذى لا يشترك فيه معهم إلا إبدال الرسل ، وإبدال الصديقين ، وكل ورثة رسول اللهe، وهو العلم الذى أخبرنا الله أنه يتفضل به على من عمل بعلمه الذى تلقاه عن الرسل –عليهم الصلاة والسلام.

إذا تقرر هذا فالراسخون فى العالم علي يقين كامل أن الله فوق كلمته بل فوق وعده ووعيده ، حتى لو قال للراسخ فى العلم : أنت حبيبى أجلس فوق عرشى منحتك كلمة "كن" تصرف فى ملكى وملكوتى ما ازداد إلا خشية من الله ، لأن الله فوق كلمته لا شريك له فى ملكه.

فقول الراسخين فى العلم : "ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا" الآية برهان على قربهم من الله الذى دل عليه النداء ، وفى قولهم : "لا تزغ" الزيغ كما بينت لك هو الميل والنزوع إلى الباطل ، أى لا تزغ قلوبنا عن الحق ، بمعنى احفظنا من أن تنزع قلوبنا إلى الباطل عملا او قولا أو حالا ، وذلك يا ربنا بعد إذ هديتنا.

وقد بينت لك أنواع الهداية فيما تقدم ، وفى قولهم "بعد إذ هديتنا" دليل على أنهم منحوا هداية الإحسان التى يتفضل الله بها على أهل محبته الذين أختصهم من بريته ، وهو أكمل مقام يصل إليه السالك ، وليس فوقه إلا الفناء من المقامات ، وهو رضوان الله الأكبر ، ثم مقام الاتحاد بالأمر والمشيئة.

ومن منح الاتحاد فى الأمر والمشيئة كان صديقا أكبر ، وهو الذى شاء الله أن يكون هاديا مهديا راضيا مرضيا ، وأمره بذلك ، فكانت إرادة الله وأمره متحدين فى ذات الرجل ، كما تفضل الله على أبى بكر –رض الله عنه –ونعوذ بالله من اختلاف الأمر والإرادة فى شخص ، كما قدر الله ذلك على أبى جهل ، وهناك مقام فى الاتحاد العلى وهو أن يجلى الله تعالى للعبد الراسخ فى العلم معانى صفاته العلية ، من جمال وجلال فى هيكله الإنساني حتى يتجمل بكل معانى الصفات ، فيكون سدرة منتهى علوم الخلائق ، يغشى بظلال الأسماء وهذا يكون الاتحاد الشهودى ، وقد تغلب المشاهد على النفس المطمئنة فتصول عليها صولة تمحو من أمامها الكون عالية وسافله حتى تشرق أنوار وجه الله حيث ولى الفرد وجهه.

هذا العلم الذى رسمت صورته على جوهر النفس يجعل العالم به دائم الخشية ، طويل الحزن ، يراه الجاهل آنسا فرحا راضيا عن الله مستبشرا وعين روحه تشاهده عظمة وجلالا وكبرياء لأنه فصل القوة الروحانية عن الجسمانية وقامت كل قوة بواجبها ، ويكون هذا الشأن أظهر وأجمل عند الملامتية ، وهم كمل مقام أهل الإحسان ، وأول ملامتى هو رسول اللهe، وهو أمامنا فى طريق الله تعالى ، وكيف لا وقد تحمل فى الملامة مالا يطيقه أولو العزم من الرسل ، وفى كل دور كان يقول : [رب أهد قومى فأهم لا يعلمون] بخلاف غيره ممن أهلك قومه أو خسف بهم الأرض أو مسخهم قردة وخنازير ، وهنا تتجلى لك وسعة رسول اللهe.وصدق الله حيث سماه باسمين من أسمائه فقال "رَءُوفٌ رَحِيمٌ"([77]).

"وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً"

أقاموا الحجة على كمال علمهم بالله فأثبتوا أن فضل الله موهبة منه لا لعلة ولا لغرض ، وبينوا أن المعية والعندية واللدنية مقامات متفاوتة ، فطلبوا رحمة اللدنية التى هى فوق العندية ، وهذا مقام فوق مقام خضر موسى لأن الله أخبر عنه بقوله : " آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا"([78]) وهؤلاء –رضى الله عنهم–يطلبون الرحمة من لدنه سبحانه ، وإذا طلبوا الرحمة من لدنه فينبغي أن يكونوا قد بلغوا من العلم فوق العندية.

والرحمة هى جماع الخيرات كلها التى تكون للنفس والعقل والجسم والحس ، ما عدا الروح فإن عطاياها تسمى محبة ، وكل عطايا القوى الأخرى تسمى رحمة ، فمنها التوفيق لطاعة الله ، ونيل الفضل منه سبحانه ، والوسعة فى الأرزاق وكثرة الأولاد والبركة فيهم ، والعافية فى البدن والأولاد والأموال ورفعة المقام فى الدنيا ، والوفاة على الإسلام ، وكون البرزخ روضة من رياض الجنة وقيامه يوم القيامة مع السابقين ، كل تلك الحقائق وما شابهها ينطوى فى الرحمة ، أما مواجهتهم وجه الله الكريم والأنس بالله ، والفناء عما سوى الله ، وما شابهها فمحبته سبحانه.

"إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ"

إقرار بيقين حق ثبت لديهم شهودا أو وجودا ، أى إنك انفردت بالألوهية وبالإعطاء والمنع والإيجاد هذا هو العلم اللدنى الذى لا يعلمه إلا العلماء بالله قالe: [أن من العلم كهية المكنون لا يعلمه إلا العلماء بالله فإذا ذكروه أنكره أهل الغرة بالله] فى تلك الآية الشريفة أشار إلى أن الأنسان يجب عليه أن يتشبه بمن اقتطعهم الله لذاته ، واصطفاهم لنفسه ، وأختطفهم إليه سبحانه ، حتى جعلهم ضنائنه فى خلقه.

والعلماء الراسخون يعلمون الناس بأعمالهم أكثر مما يعلمونهم بأقوالهم ، ويعلمونهم بأحوالهم أكثر مما يعلمونهم بأعمالهم ، فهم يقولون قليلا ويعملون كثيرا ، وكذلك كان أصحاب رسول اللهeمجاهدين أنفسهم أن يتشبهوا به ف أعماله حتى بلغ بهم الأمر أن يتساهلوا فى أقواله خشية أن يكونeرحمهم وتلطف بهم ، ولذلك كانوا يرسلون نساءهم إلى أمهات المؤمنين يسألنهن عن عمل رسول اللهeليلا ونهارا ، وكم تركوا العمل بقوله حرصا على أن يعملوا بعمله ، ومن ذلك أنهeأمرهم فى غزوة الحديبية بحلق رءوسهم أمر صريحا ودخل الحجرة وخرج فلم يجد أحد نحر ولا حلق فدخل إلى أم سلمة رضى اله عنها يتململ ، فقالت : مالك يا رسول الله ، لا أراعك الله ، فقال : [كيف لا وقد خالفني أصحابي ؟ ] ، فقالت : أخرج إليهم يا رسول اله فاحلق رأسك وأنحر هديك وانظر . فخرج وفعل ، فحلقوا كلهم ونحروا حتى سالت دماء الهدى فملأت الوادي ، حتى كان القصاص بأخذ من المسلم ما يرضيه حرصا على أن يساوى رسول اللهeفى زمان عمله ومكانه.
التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:




شارك فى نشر الخير