آخر الأخبار
موضوعات

الخميس، 18 أغسطس 2016

- كتاب حقوق الإنسان فى الإسلام

عدد المشاهدات:
للعارف بالله تعالى
الشيخ محمد على سلامة
وكيل وزارة الاوقاف سابقا

بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين وعليه نتوكل ولا حول ولا قوة الا بالله العلى العظيم إن الله عزَّ وجلَّ خلق الإنسان على أكرم مثال وأحسن تصوير فقال عز من قائل: ﴿وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ﴾. [64،غافر]. فاختار الله جلَّ شأنه هذه الصورة الفريدة للإنسان لأنه أراد أن يكرمه ويعزه ويعلي قدره على جميع الكائنات، وكان هذا التكريم أولاً في شخص أبينا آدم عليه السلام يوم أن خلقه الله ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته العظام قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ﴾. [11،الأعراف]. وكان ذلك في ملكوت الله الأعلى، في عالم الجنات، وكان احتفالاً مهيباً ورائعاً بالإنسان الأول عليه السلام الذى جعله الله أبا لجميع البشرية من أول نشأها الى آخرها.
ثم توالى تكريم الله جلَّ جلاله لبني آدم على مر العصور والأزمان من غير فتور أو انقطاع، فخلق الله كل العوالم من أجل الإنسان وجعلها في خدمته وطوع أمره لا يتأبى عليه شئ منها فى ملك الله العظيم، وكأن كل كائن يقدم خدماته بين يدي الإنسان ويقول له لبيك لبيك  أنا خادم ومسخر إليك. قال الله فى الحديث القدسي: ﴿خلقت محمد لذاتي وخلقت آدم لمحمد وخلقت كل شئ لبني آدم فمن شغله ما خلقت له أبعدته من رحمتي[1].
وأن الإنسان العاقل المستبصر يدرك مدى عناية الله به من الأزل القديم وكيف أن الله جدد له النعم فى كل طور من أطواره وفي كل نفس من أنفاسه، وكيف أن هذه النعم لا تحصى ولا تعد مهما اجتهد الحاسبون والعادون فى حصرها فلن يقدروا على عدها ولا عد بعضها وذلك فضلاً عن حصر منافعها وخواصها التي استودعها الله فيها، قال الله تعالى: ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا . [34، إبراهيم]. فإن عرف الإنسان هذه الحقائق خَرَّ لله ساجدًا آناء الليل وأطراف النهار شكرا له سبحانه وتعالى على ما أنعم به عليه من النعم الظاهرة والباطنة، ولكن الإنسان دائم النسيان كثير النكران، لأنه ظن أن هذه النعم أمور عادية وشئون جارية حسب الطبيعة قال تعالى: ﴿قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ. [17، عبس].
ولقد تعهد الله عزَّ وجلَّ الإنسان بإرسال الرسل الكرام ليخرجوه من بؤرة الغفلة والجهالة والنسيان إلى حظائر الذكرى والتذكر وإلى العلم والمعرفة وإلى النور والهدى. ولقد توالت الرسل على مدى الزمن في كل قرية من القرى وفي كل أمة من الأمم، قال الله تعالى: ﴿وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ. [24، فاطر]. وقال تعالى: ﴿وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ.  [208، الشعراء].
ولقد ختم الله النبوات والرسالات بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فأتم الله به النعمة وأكمل به الملة، وفتح به القلوب المغلقة والأعين المغمضة، ونور للناس سبيل النجاة والفلاح، وجاء بشريعة سمحاء وآداب علياء، أبهرت الأبصار وحيرت الألباب، وأخذت بمجامع القلوب حتى دخل الناس فى دين الله أفواجا، ولم يترك النبى صلى الله عليه وسلم هذه الحياة حتى أسس المبادئ العظيمة، وقعد القواعد الحكيمة، وترك الناس على أفضل حالة من الرشد، فقال صلى الله عليه وسلم: {تركتم على المحجة البيضاء والملة السمحاء لا يزيغ عنها الا هالك}[2]
وقد وجد أصحابه رضى الله عنهم فى هذه التركة غاية سعادتهم ومنتهى آمالهم فاستمسكوا بها واعتصموا بها، وتبعهم على ذلك أبناءهم وأحفادهم فسعدوا مثلهم وفازوا فوزا عظيما. ولا تزال البقية الباقية من المؤمنين الصادقين فى كل بلاد المسلمين على عهدهم لم يغيروا ولم يبدلوا فعاشوا الحياة الهنية راضين عن الله ورسوله وعن إخوانهم المؤمنين، فرضي الله عنهم ورضي عنهم رسوله قال الله تعالى: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا.   [23، الأحزاب]
وأن الناس الذين بدلوا عهد الله بحظوظ أنفسهم وأهواءهم الرديئة أضاعوا المجد التليد والعز العتيد الذى ورثه لهم آباءهم وأجدادهم، فذلوا وهانوا وضعفوا واستكانوا، و﴿إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ.                                                                                              [156، البقرة]. ذلك جزاء مخالفتهم للحق الذى جاءهم من عند الله والنور الذى بأيديهم قال الله تعالى: ﴿وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ. [36_ 37، الزخرف]، وهكذا تغير شأن كثير من المسلمين إلى أحوال سيئة وأمور مخزية.
وأن الإسلام الحنيف لم يترك المسلمين في هذه المنعطفات يتخبطون بين جدرانها وإنما يمتد إليهم بيده الرحيمة الحانية لينقذهم من ظلماتها وبأسائها، قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا. [64، النساء] وقال الله جل شأنه: ﴿وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا. [110، النساء]. فأكرم الله المسلمين وفتح لهم أبواب العودة إليه سبحانه وتعالى على مصراعيها، فمرة يفتحها عن طريق حبيبه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم ومرة يفتحها عن طريقه مباشرة، ليذلل لهم كل صعب، ويسهل لهم كل أمر. وما على المسلمين إلا أن يلجوا من هذه الأبواب المفتحة قبل أن توصد فى وجوههم فلا يقبل الله استغفارهم ولا يستجيب دعاءهم.
ومن رحمة الإسلام وحرصه على قيمة الإنسان وعلى حياته قرر له حقوقا كثيرة فى هذه الدنيا يؤديها اليه أبناء جنسه أين كان وكيف كان، حتى يعيش فى هذه الحياة مرفوع الرأس موفور الكرامة كما أحب الله له.
وقد وضع الإسلام هذه الحقوق ونفذها فعلا بين أبناء الإسلام وبين غيرهم من أصحاب الأديان الأخرى ما داموا يقطنون دار الاسلام، فصار الناس بعد ذلك أخوة متحابين ورفاقا متعاونين فى جميع نواحي البر والمعروف. ولقد قرر الإسلام هذه الحقوق من لحظة أن استقرت أقدامه على هذه الأرض وكان ذلك من العام الأول للهجرة المباركة الى يومنا هذا.
ولقد أحسن الإسلام إلى الناس أيما إحسان حينما منحهم هذه الحقوق، ولقد سعد الناس بها وعاشوا في ظلها تلك الأحقاب المترامية من الزمان، وما زالوا يهتدون بها الى هذا اليوم وما بعده حتى تقوم الساعة.
وأننى بفضل الله وتوفيقه قد جمعت فى هذا البحث البسيط من هذه الحقوق ما أسعفتنى به الذاكرة وألمت به الفاكرة، وقدمته فى عبارة سهلة يسيرة، وقسمته الى عدة مواضيع وجعلت لكل منها عنوانا ليسهل استيعابه وسميته (حقوق الإنسان فى الانسان) رجاء أن ينفعنى الله به وينتفع به كل من يطلع عليه. وأسأل الله العلى القدير أن يسدد الخطى، وأن يلهمنا الرشاد والتقى وهو حسبنا ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة الا بالله العلى العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد النبى الأمى وعلى آله وصحبه وسلم.
                                                                                                     المؤلف
                                                                                            محمد على سلامة    









حق الجنـين
أولا: أن تتناول أمه الأغذية الجيدة الطيبة الحلال حتى يتكون الجنين تكوينا سليما قويا وأن يقوم الوالد أو ولي أمره بتوفير هذا الغذاء.
ثانيا: أن لا يتعرض له أحد بسوء، كالإجهاض أو تعاطي الأدوية التي تضر به، وذلك مسئولية الأبوين والطبيب الذى يباشر علاج أمه.
ثالثا: توفير الجو الصافي له في البيت، حتى لا يتأثر بالخصومات والمنازعات التى تثار فى محيط الأسرة، فيصاب بالاهتزازات النفسية والأمراض العصبية، كذلك يحظى الجنين بحب الأبوين والرغبة فيه حتى يحرصا على خلق المناخ الطيب له.
رابعا: يكون مسكن الأسرة صحيا ومناسبا لحياة الانسان، فإن الذين يعيشون في المغارات والكهوف والخيام وعشش الصفيح ونحوها تنعكس هذه البيئة بالسلبيات والتقزز والبؤس على حياة الجنين، لذلك يجب على الأبوين الحرص على إيجاد المسكن الصحى قبل الزواج، وليس معنى ذلك أن يكون شقة واسعة مفروشة بالرياش والأساس ونحو ذلك مما يحتفل به الناس اليوم، كلا بل المسكن الصحى حجرة واحدة بمنافعها يدخل اليها الهواء والضوء من النافذة، ومجهزة بما تيسر من المستلزمات الضرورية للأسرة.
هذه الحقوق التى أوجبها الإسلام للإنسان وهو جنين قد بينها القرآن الكريم فى قول الله عز وجل: ﴿أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ . [6، الطلاق]. وقول النبي صلى الله عليه وسلم:{كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته}[3] وقوله صلى الله عليه وسلم فى الحديث الشريف: {كفى بالمرء إثما أن يضيع من يعول}[4] ، وهذان الحديثان من الأحاديث المشهورة المتفق عليها.




حق المولــود
بالإضافة الى ما سبق تقريره من الواجبات له وهو جنين فإنه يجب له الأتى:
أولا: أن ترضعه والدته من ثديها، لأن لبنها هو الذى يناسب تكوين طفلها، ومع اللبن يرضع الطفل معاني أخرى هي كاللبن في الأهمية مثل العطف والرحمة والحب، وغيرها من كرائم الصفات التى تتمتع بها الأم، ولا يغنى أى شئ عن لبن الأم مهما كان، ولذلك أمر الله الأمهات بإرضاع أطفالهن وأن تستمر مدة الرضاعة سنتين كاملتين. قال الله تعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ. [233، البقرة]. وليس للأم أن تخالف هذا الأمر الإلهي، إلا إذا كان بها علة تمنعها عن الرضاعة فإنه يجوز لها أن تلجأ إلى إرضاعه من أخرى أو من اللبن المعد لذلك بمعرفة الطبيب المختص.
ثانيا: أن يختار أبواه له اسما كريما يعتز به إذا كبر وأدرك، فمن حق الولد على أبيه أن يحسن اسمه فقد ورد عن رسول الله صلى عليه وسلم أنه قال: {خير الأسماء ما عبد وحمد}[5]
أي عبد الله وما شاكله ومحمد وأحمد وما شاكلهما من الأسماء، وكذلك أسماء البنات خيرها ما كان على أسماء بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك أمهات المؤمنين رضي الله عنهن والسيدات المسلمات الفضليات، فإن فيها غنى عن الأسماء المستوردة، والمسلمون قوم متبعون حتى فى تسمية أولادهم وبناتهم وليسوا مبتدعين في شيء من ذلك، حتى نعتز بأسماء الآباء والأجداد والأمهات والجدات رضى الله عنهم أجمعين ونجدد بذلك آثار الإسلام وتراثه.
 ثالثا: أن يؤذن أحد أبويه في أذنه اليمنى وأن يقيم الصلاة في أذنه اليسرى، حتى يكون أول كلمة يسمعها الطفل كلمات التوحيد والإيمان، وكلمات الذكر والصلاة والفلاح، فترسخ في روحه معالم الدين الحق من أول نشأته فيترعرع على هذه المعاني المقدسة ويكبر عليها.
رابعا: يقوم والده في اليوم السابع من ميلاده بحلق شعره والتصدق بوزنه فضة أو ذهبا إن أمكن، وأن يختنه إن كان ذكرا، وأن يعق عنه بذبح عنز أو شاة يطعمها للأهل والأقارب والأصدقاء والفقراء فرحا بفضل الله عزَّ وجلَّ الذي أكرم الأسرة بهذا الطفل الكريم فإنه نعمة من النعم الجليلة التى أنعم الله بها على الأسرة. قال الله تعالى: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ. [11، الضحى]. وهذه الأشياء التي تمت في اليوم السابع من ميلاد الطفل هي من سنة الإسلام الشريف، وقد أوصى بها النبى صلى الله عليه وسلم.
خامسا: بمجرد أن ينطلق الطفل ويتكلم يبادر أبوه وأمه لتلقينه كلمات الدين مثل(الله) (محمد رسول الله) (بسم الله الرحمن الرحيم) وغير ذلك من الكلمات الخفيفة التى يمكن أن ينطق بها الطفل، كما ينطق باسم بابا ماما آكل أشرب وهكذا حتى يتعود الكلمات الدينية ويجرى بها لسانه، وياليت الأم تعمل قطعا من البسكويت على شكل الكلمات المقدسة فيأكلها الطفل بعد طلبها بالاسم، وهذه طريقة نافعة جدا للأطفال تجعلهم يتعلقون بهذه الكلمات ويحبونها، ولا يقول أحد أن ذلك حرام أو مكروه لأنه لم يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه رضى الله تعالى عنهم، وأن ذلك من السنن الحميدة التى رأيتها فى تربية أطفالنا على مبادئ الاسلام، وأن الغاية تبرر الوسيلة، قال صلى الله عليه وسلم:{ من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء}[6].
وكلما ازداد الطفل فى النطق كلما ازداد الوالدان فى تعليمه اليسير من القرآن، كالفاتحة وسورة الإخلاص وهكذا. قال الحكيم العربى:
وينشأ ناشيء الفتيان فينا       على ما كان عوده أبوه
سادسا: من حق الطفل فى هذه السن المبكرة أن يلاعبه والديه، وأن يحضرا له اللعب التى تناسبه، وأن يتركا له الفرصة للعب مع أترابه وأنداده ليشعر بالاختلاط والاندماج فى البيئة، وأن يعلماه حب من يلعب معه من أبناء الجيران والأقارب، وأن يرقبا لعبه وحركاته مع زملائه من حين لآخر، قال النبى صلى الله عليه وسلم: {لاعب ولدك سبعا}[7] . وباللعب والحركة الهادئة ينمو الطفل ويشتد عوده، ويتأثر بزملائه ويؤثر فيهم.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلاعب ولديه الحسن والحسين رضى الله عنهما وكان يلاطف أبناء الصحابة رضى الله عنهم ويمزح معهم فقد كان طفلا يدعى عمير وله عصفور صغير يلعب به فخر العصفور منه، فكان النبى يداعبه ويقول له:{يا أبا عمير ما فعل النفير}[8] . ويمسح على رأسه وكتفه.
سابعا: إذا بلغ سن السابعة وجب على ولي أمره أن يعلمه ما استطاع من العلم والمعرفة وما ينفعه من الحرف والمهارات، وأن يوجهه إلى دور العلم ويربيه على أحسن الأخلاق وأكرم الآداب وأن يعوده أحسن العادات. وكان صلى الله عليه وسلم يعلم الصبى كيف يأكل، فقال لعبد الله بن عباس رضى الله عنهما:{يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك}[9]. وذلك من أجل أن نعلم أبناءنا هذه المبادئ القيمة اقتداء بالنبى صلى الله عليه وسلم.
وهذا نذر يسير مما علمه النبى للغلمان، ولقد جعل فداء الأسرى المتعلمين فى غزوة بدر أن يعلم الواحد منهم عشرة من أبناء المسلمين الكتابة والقراءة، حتى ينتشر العلم بين أبناء المسلمين، وتلك سنة حميدة يمكن الأخذ بها فى هذا العصر بما يتناسب مع المتغيرات الدولية، فيمكن أن يأخذ المسلمون خبرات الأسرى من اليهود وغيرهم فى سبيل الإفراج عنهم إذا التزموا الصدق فيها وتحققنا ذلك منهم.
وأن تعليم الصبية يبدأ من سن السابعة، فإنه سن التميز التي يميز الصبي فيها بين الأشياء، قال صلى الله عليه وسلم: {وأدبه سبعا}[10]. يعني أدب ولدك وعلمه سبع سنين.
ثامنا: إذا بلغ الولد أو البنت أربعة عشر عاما يجب على الأبوين أن يتخذاهما صاحبين ورفيقين، وبمعنى أن يشعر الأبناء أن لهما حقا فى أبداء الرأي وفي المشورة والتدخل فى شئون الحياة المنزلية والعملية وتكليفهما بالأعمال المناسبة. وهذا السن هو سن المراهقة الذى يتطلب المراقبة وتوجيه النصائح باستمرار حتى يتضح الطريق أمامهما، وتستمر هذه الصحبة حتى يبلغا سن الواحد والعشرين قال صلى الله عليه وسلم:{وصاحبه سبعا}[11]. أي رافقه وزامله وتعهده سبع سنين، فإذا بلغ سن الإحدى والعشرين يخلى سبيلهما ويترك لهما الفرصة لتدبير شئونهما والوقوف على أقدامهما أمام الحياة.
حق الانسان فى الزواج
فقد كفل الاسلام هذا الحق لكل من الرجل والمرأة، وجعل لهما الحرية الكاملة فى هذا الشأن، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {تخيروا لنطفكم فان العرق دساس}[12]. يعنى أن كل رجل وكل امرأة يختار زوجه وشريك عمره، فإن الشهوة فى هذه الناحية والميول الغريزية خفية ومتقلبة، وتحتاج حسن الاختيار بعد المشورة وتقليب وجهات النظر، حتى لا يندم الانسان ويتحسر على تعجله فى الزواج وليس لأحد مهما كان شأنه أن يقهرهما فى هذا الأمر، فهو حق قررته الشريعة لكل رجل وامرأة. قال تعالى: ﴿وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.  [33،  النور].
فسمى الله الإكراه على النكاح بغاء أي فاحشة وزنا لشدة حرمته وفظاعته. وما تقرر فى حق الفتاة كذلك يتقرر حقا للفتى، فلا يجوز حمله على الزواج ممكن يكرهها، لكن لما كان الإكراه قد يتحقق فى شأن الفتاة أكثر جاء النص لهن لأن الرجل قد يرغم على الزواج لكن لا يرغم على الجماع والوصال بخلاف الفتاة فقد ترغم فى ذلك. وقد اشتكت فتاة الى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أباها أرغمها على الزواج من ابن عمها وهى لا تحبه، فقال لها رسول الله: {إن شئت رددت عليه الذى نحلك وأفرق بينكما، فقالت : يا رسول الله لا أحب إساءة أبي ولكن أردت أن يعلم الناس أنه لا يجوز للأب أن يزوج بنته ممن لا تحب}[13]. وقد رويت هذا الحديث بالمعنى لأننى لا أذكر نصه.
حق الانسان فى الإنجاب
قد قرر الاسلام أن الزوجين لهما حق إنجاب الذرية التى يستطيعان القيام بأعبائها، من تربية وتعليم وتطبيب، وأكل وشرب وسكن ومركب، بحيث لا يضيع الأبناء فى غمار الحياة وزحمة المشاكل. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:{ ألزموا أولادكم وأحسنوا أدبهم}[14]. وقال لصلى الله عليه وسلم:{الساعي على عياله كالمجاهد فى سبيل الله}[15]. وقال عليه الصلاة والسلام:{المؤمن القوى خير وأحب الى الله من المؤمن الضعيف}[16]
فالإنجاب في حاجة إلى تنظيم في مدة الحمل والرضاعة، والاستجمام بعدهما لأنها مجهودات شاقة تقوم بها الأم ويعاونها الأب، وما أعظم الإسلام الذي لا يكلف أحدا الا ما يقدر عليه، فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى. والمنبت هو الذى يحمل أكثر من قدرته، فإن حمله الثقيل أعجزه عن المسير، وأن ظهره الكليل لا يمكنه أن يطرح حمله، فهو فى عناء وشقاء مستمر ولا حول ولا قوة الا بالله العلى العظيم، فمن هنا وجب على الإنسان أن ينظم نسله بحيث يقدر الأبوين على تربية الأبناء تربية جيدة وفاضلة، فالإحسان إلى الأولاد في التربية لا يقل وجوبا عن الاحسان إلى الوالدين بالرحمة والمودة.


حق الإنسان في العمل  
إن الإسلام قد فرض على الانسان هذا الحق حتى لا يتهاون به، وجعله شرفا وكرامة للانسان العامل. وان الاسلام يمقت البطالة والعالة والعجز والكسل. قال صلى الله عليه وسلم: { اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن وأعوذ بك من العجز والكسل وأعوذ بك من الجبن والبخل وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال}[17].
ولقد أكد الإسلام حق العمل للرجل والمرأة من لحظة إدراكهما إلى ساعة الموت فالعمل حق وشرف وواجب، قال الله تعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ. [105، التوبة]. وليس لأي كائن أن يحرم الانسان من العمل ولو كان صغيرا أو شيخا كبيرا أو معوقا أو مريضا بمرض غير معدى، فإن لكل منهم عمل على قدره يثرى به الحياة، وقد رأيت العجائز من النساء يغزلن الصوف والقطن وينقشنه، ويحرسن الداجنة والحيوانات ويطعمنها، ورأيت الشيوخ من الرجال يقومون بأعمال كثيرة لا حصر لها ينفعون بها أنفسهم وأسرهم بل وأمتهم. وإن الإنسان الذي لا ينتج قد مات وهو حي بل لا يستأهل الحياة لأنه لم يعط الحياة شيئا وهى قد أعطته كل شيء.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل فى شتى المجالات، ويحث المسلمين على العمل بصورة قوية، فكان يقول للرجل الذى انقطع للعبادة ويعوله أخوه:{أخوك أعبد منك}[18]. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشجع العمال ويشاركهم فى أعمالهم ليرفع من معنوياتهم، فمن ذلك أنه كان يحمل مع أصحابه اللبن الذى كان يبنى منه المسجد النبوى الشريف، وكان يردد مع أصحابه قولهم: {اللهم لا عيش الا عيش الآخرة فاغفر اللهم للأنصار والمهاجرة}[19]




حق الإنسان في التملك
منح الاسلام حق الملكية الفردية لكل إنسان، صغيرا كان أو كبيرا، ذكرا أو أنثى، واحترم هذه الملكية وحافظ عليها كما حافظ على الدماء والأعراض حتى من اعتدى على هذا الحق وجب على صاحبه الدفاع عنه بكل الوسائل، مرة بالقضاء وأخرى باليد والسنان وثالثة بالاستعانة بالأهل والعشيرة وغيرهم.
وأن طرق هذه الملكية كثيرة، منها الميراث وهو ما يؤول للانسان بعد موت المورث حسب ما ورد فى أحكام المواريث التي قررتها الشريعة السمحاء، ومنها ما يملكه الانسان عن طريق الشراء من الغير، ومنها ما يملك منفعته بطريق الإيجار والاستعارة، ومنها ما يملكه بطريق الهبة والوصية والصدقة والاستعاضة والزكاة وغير ذلك، ومنها ما يملكه عن طريق الغنيمة والفئ بعد الانتصار فى الحرب على الأعداء، ومنها ما يملكه عن طريق اللقطة التى لا يوجد صاحبها بعد التعريف بها المدة الكافية، وما يجده فى بيته أو أرضه من ركاز وهو المال المخبوء فى هذه الأعيان من قديم الزمن كل هذه المجالات طريق للتملك، وتكون الملكية ثابتة بالأحكام التى وضعتها الشريعة فى كل منها.   
حق الإنسان في الأموال العامة
قد جعل الإسلام حقا لكل مسلم فى مرافق الدولة ومصالحها وخزائنها وبيوت المال، هذا الحق يتقاضاه بحكم نصيبه منها حسب ما يقرره الحاكم والمشرع. أما المرافق والمصالح فله حق الانتفاع بخدماتها وأجهزتها، وفى سبيل ذلك أوجب عليه الإسلام المحافظة على المال العام أكثر من حفظه لماله الخاص، لأن المال العام ينتفع به جميع المسلمين فى حين أن ماله الخاص قاصر عليه وعلى من تلزمه نفقتهم ولذلك كانت سرقة المال العام أو غصبه أو اختلاسه جريمة أكبر من الاعتداء على المال الخاص.
حق الإنسان في الكسب
الإسلام حفز الناس إلى استغلال ثرواتهم وتنمية أموالهم والضرب فى جنبات الأرض سعيا وراء هذا الحق، بحيث يتاجر الإنسان ويضارب بخبرته وماله وكذلك يقيم المصانع والمزارع بأنواعها حتى يغني الناس من حوله كما أغناه الله فإن كنز المال والحرص عليه، وعدم تداوله وعدم إنفاقه من المحرمات التي نهى عنها الاسلام الحنيف، قال تعالى : ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ. [34، التوبة].
ويشترط أن يكون الكسب حلالا طيبا بعيدا عن الاستغلال والظلم والربا والتطفيف فى الكيل والميزان، والنقص فى المقيس والمعدود، والبخس في الأثمان والمقادير، والتجارة في الأشياء المحرمة كالخمر والخنزير والأشياء المجهولة عينا وصفة، وغيرها من الأمور الفاسدة التى لا ينتفع بها من يشتريها، وكذلك بيع الأشياء التى لا يملكها البائع كالمسروقة والمغصوبة، فإن كل هذه الأشياء كسب محرم وغير مشروع، قال النبى صلى الله عليه وسلم: {الحلال بين والحرام بين}[20]. يعني صار الحلال والحرام معروفين لكل الناس ولا يجهلهما أحد منهم. وأن الذين ينحرفون ويخالفون تعاليم الإسلام في الكسب المحرم إنما يفعلون ذلك عن علم لا عن جهل، ولكن نفوسهم الخبيثة هي التي أوبقتهم في غضب الله وعذابه وحملتهم على تعدي حدود الله، قال جلَّ شأنه: ﴿وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ. [229، البقرة].
وأن الله جعل فيما أحله من المكاسب خيرا كثيرا وبركة لا نهاية لها، فإن المال الحرام يفور ويغور وأن المال الحلال يمكث طول الزمن في البيوت والجيوب لأنه كالبنيان المؤسس على أرض صلبة لا تهتز قال الله تعالى: ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ.[17،الرعد].
حق الإنسان في تولي المناصب
من رحمة الله بالإنسان ومن فضله عليه أن منحه حق الخلافة عنه جل جلاله في الأرض، وذلك أعظم مركز وأكبر منصب يبلغه الإنسان، فيكون خليفة عن الله في عباده وفي جميع مخلوقاته، ليقيم العدل والحق، ويرسى دعائم الفضيلة والرحمة والإحسان بين الناس، ويدير شئونهم بعلم وحكمة ويصنع لهم الخير والبر بصبر وحلم.
وقد يرغب أهل النفوس القوية والهمم في القيادة والريادة وتولي المناصب الكبيرة بعد حصولهم على الصلاحيات التي تتوفر فيمن يتطلع اليها، وعند ذلك يكن له الحق فى شغلها وإدارتها والقيام على شئونها. فإذا حرم أمثال ذلك منها فقد ضاعت الأمانة وتبددت المسئولية، وطمع في هذه المناصب الغوغاء والسوقة ومن لا خلاق له وأخذوها بالطرق الملتوية، وفسدت الأمور ولا حول ولا قوة الا بالله العلى العظيم، قال النبي عليه الصلاة والسلام:{إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قالوا: وكيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: إذا وسد الأمر لغير أهله} [21]. وقال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا.  [58، النساء].
وأن المنصب الذي يشغله الإنسان أمانة كبيرة ائتمنه الله ورسوله والناس عليها، وقد أوجب القرآن الكريم عليه أن يؤدى هذه الأمانة إلى أصحابها، لأن كل مواطن له حق عند ذلك المسئول وخصوصا إذا طلبه، فإنه يجب عليه أن يدفعه له كاملا غير منقوص وأن يتحمل في ذلك المشاق والمتاعب من أجل الوفاء بمطالب الناس وحاجاتهم، إذ التقصير فيها يعرض صاحبه لغضب الله ونقمته فضلا عن ضياع مصالح الناس وحقوقهم.
حق الإنسان في الشورى
قد احترم الإسلام الإنسان وكرمه وقدره حق قدره وفضله على سائر الكائنات، ومنحه حق الإدلاء برأيه في شئون الحياة الجارية فى بيئته ووطنه وخاصة ما كان منها مفهوما ومدروسا له، فان الدين كفل له الحرية فى ذلك بدون مشاكسة أو معارضة. والإسلام حريص كل الحرص على الانتفاع بأصحاب الخبرة والتجربة، وأهل الرأى والمشورة حتى ينهض بأبنائه الى التقدم والازدهار وإلى السبق في ميادين الحضارة والرقي. وقد كان رسول الله الأعظم يشاور أصحابه وهو من نعلم مكانة وشرفًا، وخبرة وعلمًا، وقد أمره الله عز وجل بذلك فى قوله جل ذكره: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ.  [159، آل عمران]. وقد نوه القرآن بشرف المؤمنين وقدرهم فى قوله تعالى: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ. [38، الشورى].
وإنني أرى أن يختار الحاكم أعضاء المجالس النيابية والمجالس الاستشارية فإنه أقدر على معرفة الرجال الذين يقدمون الخير لأمتهم، ويبذلون قصارى جهدهم فى رفعة الوطن وازدهاره. إن الانتخابات العامة التى تجرى فى طول البلاد وعرضها تمر بفتن ومحن كثيرة، وتترك بين الناس نوعا من الفرقة والحزبية البغيضة تستمر حتى تأتى الدورة التالية للانتخابات. هذا فضلا عن النوعيات التى تفوز وتمثل الأمة فى أعلى القمة فإن من بينها أناسا لا يقدمون ولا يؤخرون، وكل همهم الوصول إلى الكرسي ومصالحهم الذاتية، لأن الغالبية العظمى من الناخبين لا يقدرون الرجال بالحق وإنما يقدرونهم بالهوى والعصبية وفي ذلك ما فيه من المفاسد والضياع.
واننى أرجو أن يتخير كل حاكم إقليم من بين رجاله أهل الإخلاص والعلم والفكر السديد، وأهل الخير والبذل والعطاء، وأن يتقدم بهم الى الإدارة العليا لتعيينهم فى المجالس، وبذلك نكون قد سلمنا الأمانة الى أهلها الأمناء الأوفياء وإن التنافس والتزاحم الذى يجرى فى الشارع العام أيام الانتخابات أنما يمثل خفة فى الأحلام ، وضحالة فى الرأى وصلفا وعجرفة فى كثير من الأحيان.
فهذا رأى رأيته فقد يكون صوابا وقد يكون غير صواب، وإنما أبديته للأمانة والعلم والله من وراء القصد.
حق الإنسان في العلم
العلم هو الوسيلة العظمى للوصول الى الأمل المنشود، وهو أحد أمرين عظيمين لا غنى عنهما فى بلوغ الآمال، وهما المال والعلم. قال الحكيم العربى:
بالعلم والمال يبنى الناس ملكهم         لا يبنى ملك على جهل وإقلال
وقال حكيم آخر غيره:
   العلم يرفع بيوتا لا عماد لها            والجهل يهدم بيت المجد والشرف
وقد جعل الاسلام العلم حقا مقررًا لكل أبناءه، وحقا مشاعا لكل العالمين لا يحرم منه أحد أبدًا، وقد رأينا كيف فتح النبى صلى الله عليه وسلم بابه لكل الطالبين ليلاً ونهارًا، وكان صلى الله عليه وسلم يحث على طلب العلم بصور تلهب المشاعر وتجذب القلوب فقال: {طلب العلم فريضة على كل مسلم}[22].وقال أيضا: {اطلبوا العلم ولو بالصين}[23]. وقال الله جل شأنه: ﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ. [9، الزمر].
ولقد هيجت هذه التوجيهات العظيمة مشاعر المسلمين نحو طلب العلم، وضرب أكباد الإبل في تحصيله وبذل الغالي والرخيص في نواله، وما زالوا كذلك حتى يومنا هذا وهم يسارعون فى تحصيل العلم النافع لهم فى الدنيا والآخرة، وكان هناك فترة قد وهنت فيها عزيمة المسلمين وضعفت همتهم عن النهوض الى تحصيل العلم، وقد مرت هذه الفترة الى غير رجعة وعاد المسلمون الى المجاهدة والمثابرة حتى يصلوا حاضرهم بماضيهم المجيد.
والعلم له مجالات كثيرة بها نظام الدنيا ورخاءها وسعادة الحياة فيها، وبها نعيم المسلم فى دار الخلود، والعلم هو النور الذى يسير الناس فى ضوؤه، والهدى الذى يهتدون به فى ظلمات هذه الدنيا حتى لا تزل أقدامهم ولا يخيب سعيهم.
وإن العلم الإسلامي قد نقل العرب من أمة جاهلة متخلفة إلى قادة العلم ورواده فى كل المجالات، وأخذت الأمم عنهم كل الفنون والعلوم والصناعات وطوروها حتى كان ما كان من تقدم وازدهار فى بلاد الغرب المسيحي وبلاد الشرق الشيوعي، وإن: ﴿اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ.  [257،  البقرة]. وقد تحقق وعد الله والله لا يخلف الميعاد قال الله تعالى:﴿إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ.  [90،  يوسف].
حق الإنسان في مفارقة زوجته
هذا الحق وإن كان مكروها لله ورسوله إلا أنه تقرر للمسلم لاستعماله وقت الضرورة وهو الوقت الذى تتعثر فيه الحياة الزوجية، وكلما أقيمت تعثرت، وأصبحت الحياة نوعا من العذاب، فلا استقرار ولا وفاق، ولا حب ولا تراحم ولا تعاون، والمعيشة بهذا الشكل لا يمكن أن تستمر ولا يتأتى من وراءها أى نفع أو خير، ولذلك يأذن الاسلام بإنهاء هذه الحياة وأن يطلق الزوج زوجته. ومن فضل الله ورحمته أن جعل الطلاق مرة بعد مرة بعد مرة، ثلاث مرات تنتهى بعدها العلاقة الزوجية بلا رجعة، وكان الطلاق كذلك حتى تعطى فرصة لكل من الزوجين فى المراجعة والتفكير وتقليب وجهات النظر، واستذكار الأوقات الطيبة التي جمعت بينهما على الصفاء والمحبة فيعمل كل منهما على إصلاح نفسه وإعدادها لاستئناف الحياة الزوجية على أساس من الوعى والفهم والصبر والتحمل.
وقد أذن الاسلام بمراجعة الرجل زوجته مرة بعد مرة أملا فى تصحيح المسيرة وتغير الأوضاع، وليس الطلاق سوطا في يد الزوج يضرب به زوجته كيف يشاء في أي وقت وإنما وضع الإسلام لذلك شروطا وأحكاما لا يجوز للمسلم أن يتخطاها بأي حال من الأحوال ليس هنا مجال ذكرها، وهي موضحة في كتب الفقه الإسلامي والاطلاع عليها ميسر لكل طالب.
وهناك طريق آخر غير الطلاق للتفريق بين الزوجين وذلك كالخلع، وهو أن تتفق الزوجة على دفع مبلغ من المال فى سبيل إنهاء علاقتها الزوجية معه وذلك الحق أعطاه الإسلام للزوجة التي تكره زوجها ولا تحب البقاء فى عصمته، وبذلك تكون قد عوضت الزوج ما تكبده من نفقات فى سبيل الزواج منها.
وهناك طرق أخرى للتفريق بين الزوجين، كالملاعنة وهى اتهام الرجل زوجته بالزنا وحلفه على ذلك ودفاع الزوجة عن نفسها ورد اتهامه وحلفها على ذلك كما هو مبين فى كتاب الله عزَّ وجلَّ وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وأيضا يتم التفريق بين الزوجين إذا ثبت على الزوجة فاحشة الزنا بالطريق الشرعي.
ملاحظــة
قد أدرك رجال الدين المسيحي حاجة الإنسان الملحة إلى الطلاق فأقرته الكنيسة بعد وجود أحداث كبيرة تحتم عليها السماح به لأبنائها، وبذلك يتضح أن الاسلام جاء بالملة السمحاء والديانة الكاملة التى يحتاج إليها البشر أجمعون فى مشارق الأرض ومغاربها، فبعد أن يئسوا من النظم التي وضعتها الكنيسة فى إصلاح الناحية الاجتماعية لجئوا إلى الدين الحق ليجدوا فيه مخرجا ومتنفسا من المضايق والكربات التي يعيشون فيها، فإن الزوجة قد تصاب بمرض لا تقدر معه مباشرة الجنس أو مرض معدي أو مرض عقلي فيضطر الزوج للطلاق أو التزوج من أخرى سنة الله ولن تجد لسنة الله تحويلا.
حق الإنسان في التعامل
وقد منح الإسلام حرية التعامل لأبناءه مع كل الناس على اختلاف دياناتهم ومذاهبهم واختلاف بلادهم وأوطانهم، حتى المرأة منحها حق التعامل فى الشراء والبيع وكل ألوان المعاملات لأن لها حرية التصرف فى ذلك، وإنما يكون التعامل فى الإطار المشروع من الله عز وجل والمشروع من القانون الوضعى الذى يضبط هذه المعاملات ويرسم لها الأساليب الصحيحة، حرصا على سلامة الناس وحفاظا على أموالهم ولا يحرم أحد من هذا الحق الا إذا كان سفيها أو صغيرا أو مخالفا للشرع والقانون. وكانت الجاهلية تمنع المرأة من التصرف وتحرمها من حرية التعامل فحررها الإسلام من هذه القيود وأطلق حريتها وجعل لها صفة تحترم مثل الرجل فى كل أنواع التصرفات وجعل لها حق الشهادة والوصاية على أبناءها وإخوتها الصغار عند عدم وجود عم أو أخ أكبر لهم، وجعل لها حق الوكالة وكثيرا من الحقوق التى تمتعت بها فى ظل الاسلام الحنيف، وكذلك جعل لها حق الميراث وقد كانت لا ترث قبل الاسلام، بل وصلت مكانتها في الجاهلية إلى حد الإسفاف والذلة والمهانة فكانت هى نفسها متاعا تورث كبقية الأمتعة والأموال، فرد الإسلام إليها اعتبارها وأعزها وأعلى قدرها، قال النبى صلى الله عليه وسلم:{النساء شقائق الرجال}[24]
ولقد كانت المرأة تشارك في أعمال كثيرة فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم تشارك فى الجهاد والغزو وفي الجمعة والجماعات وفي حضور مجالس العلم وفي التعليم والفتوى، ومزاولة الأعمال التي كانت تناسبها فى البيئة آنذاك كالغزل والخياطة وتجفيف البلح والعنب، وهذا كله علاوة على الأعمال المنزلية التى تقوم بها.
حق الزوجة فى مفارقة زوجها
قد قرر الإسلام لها حق طلب الطلاق من زوجها وذلك للأسباب التى سنذكرها:
أولا: إعساره وعدم قدرته على الإنفاق عليها.
ثانيا: عجزه عن أداء العملية الجنسية.
ثالثا: ضربها وأذيتها ايذاءا شديدا لا يليق بكرامة الانسان.
رابعا: الغياب عنها لمدة سنة.
خامسا: التزوج بثانية لأنها أضيرت بذلك ما دام الزواج لغير علة بها أو سبب منها.
فى كل هذه الحالات لها الحق أن تطلب طلاقها منه، والقاضى يطلقها منه ان امتنع هو عن تطليقها.
ما أرحم دين الإسلام الذي أعطى كل ذى حق حقه، وأنصف الناس من بعضهم بل أنصفهم من أنفسهم والله حكم عدل لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون.
حق الإنسان في المساواة
المساواة بين الناس فى الحقوق والواجبات وفى معانى الإنسانية أمر قررته الشريعة الغراء. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:{الناس سواسية كأسنان المشط ليس لعربى فضل على عجمى الا بالتقوى}[25]
فأسنان المشط لو كانت متفاوتة فى الطول والقصر لما انتفع بها أحد فى تصفيف شعره وتنظيفه، ولكنها متساوية ومتناسقة، فكذلك الناس لا يفرق بينهم جنس أو لون أو لغة أو وطن، ولكن الذى يفرق بينهم هو الإيمان والتقوى والعمل الصالح. وتلك المعاني هي التي يكون فيها التفاضل، قال الله تعالى:﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ.  [13، الحجرات].
ولو رأينا التفرقة العنصرية في بلاد العالم المتحضر لوجدنا أنها قد قضت على شعوب بأسرها وأصبحت تاريخا يذكر فى صفحات الورق، مع أنهم رفعوا شعار حقوق الانسان وتباكوا من حوله، وملأوا صفحات الجرائد والمجلات تفاخرا بهذا الشعار هذا فضلا عن أحاديث الإذاعة والتليفزيون، ولكن الفعل يختلف تماما مع زعمهم ودعواهم، يقولون مالا يفعلون، قال تعالى: ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا. [5، الكهف]
وأن رجلا قال لبلال رضى الله عنه يا ابن السوداء، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغضب وقال: {ليس لابن البيضاء فضل على ابن السوداء إلا بالتقوى والعمل الصالح}[26].
وبذلك وضع النبي ميزان التفاضل بين المسلمين، وهى أمور تحتاج الى نظر طويل وبحث واستقصاء حتى يمكن الحكم لإنسان ما بالأفضلية على غيره.
والأفضل للمسلم أن يرى الخير في جميع الناس وأن يرى الشر والتقصير في نفسه دائما ليريح نفسه ويريح الناس من ظن السوء بهم فليس أحد أعلم بالإنسان من نفسه إلا الله عز وجل. وكان أبو بكر رضي الله عنه يقول لمن يمدحه اللهم اجعلنى خيرا مما يظنون ولا تؤاخذنى بما يقولون واغفر لى ما لا يعلمون، والواجب على المؤمن أن يضع نفسه موضع الاتهام والشك فلا يجزم بصلاحها وتقواها، ويدعو بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم: {اللهم انك تعلم سرى وعلانيتى فاقبل معذرتي}[27].
أما المساواة فى الحقوق والواجبات الأخرى قد سبق ذكر بعضها وبقيت منها أمور مثل المساواة فى المعاملات وفى القضاء والفصل فى الخصومات وفى فرض الأعطية والمرتبات حسب الاعمال المنوطة بكل فئة وحسب الإنتاج والقدرات وحسب الجودة الأداء وحسب الإخلاص فى العمل والحرص على أداءه، بحيث تكون المساواة فى هذا المجال حافزا على التفنن والابتكار فى تطوير العمل وزيادة الإنتاج، وكذلك المساواة فى التعيين فى الوظائف كل حسب تخصصه، والمساواة فى التكليف وحمل الأعباء بين الكادر الواحد.
ويجدر بنا فى هذا المقام أن نذكر أن تعهد الدولة بتوظيف الخريجين خلق رواجا فى العطالة والبطالة، إذ أن الخريجين اتكلوا على الدولة وقعدوا وتكاسلوا وضيعوا كثير من عمرهم وجهدهم انتظارا لتعيينهم، وقد كان على الواجب على الدولة فقط أن تربى أبناءها وتعلمهم جميع أنواع العلوم والمعارف النظرية والعملية، وأن تفتح مجالات العمل أمامهم وأن تجتهد فى توفير الفرص لهم وتترك حرية اقتحام المجالات لا تتعهد لهم بشئ حتى يقوم أبناؤنا بالتفكير الهادف نحو اختراع الحيل التى تذلل لهم سبل الحياة، فان الدولة قد ثقفتهم من أجل ذلك وليس من أجل أن توظفهم فى أعمال لا تحتاج إليهم ولا هم يؤدون منها شيئا، والأمثلة كثيرة وليس حصرها فى الإمكان، وقد كان أسلوب تعيين الخرجين أحد الأسباب فى حدوث خلل وارتباك وتميع فى العمل والإدارة بل أدى الى البطالة المستترة فى ظل العمل الوهمى.
إن كل مصلحة حريصة على إنجاح خطتها ومهمتها، وإذا كانت فى حاجة الى عامل فعليها أن تأخذه فقط بدون زيادة، لان كل شئ زاد عن حده انقلب الى ضده.
اننى أرى أن العامل الذى لا يعمل يجب على المصلحة فصله بدون ورع أو حياء ويجب على المشرع أن يخول لها ذلك وبدون الرجوع الى القضاء فى ذلك، لأن كل مصلحة أمينة على عمالها وهى لا تفعل ذلك إلا تحقيقا للهدف العام الذى أنشئت من أجله.
إن العامل الذي لا عمل له عائق فى سبيل العمل والعمالة، ومن هنا كان الحق للمصلحة فى فصله ليكون عبرة لغيره ممن تسول له نفسه أن ينهج على طريقته العمياء وتتسع دائرة اللامبالاة بين الموظفين.
إن الأمر يحتاج إلى حل جذري وإلى سرعة البت فيه لأن المشكلة تتفاقم يوما بعد يوم، وأن كثرة الأحداث المتلاحقة يخشى منها أن تغطي على هذه المشكلة الضخمة التى تتعلق بمصير الأمة ومستقبلها.
حق الإنسان في تقرير مصيره
إن معنى تقرير المصير أن يتخذ الانسان القرارات الخاصة بشأنه من ناحية عمله فله الحرية في اختيار أي عمل ما دام فى إطار الشرع والقانون، ومن ناحية ماله وكيفية إنفاقه واستخدامه ما دام أيضا فى دائرة الشرع والقانون، ومن ناحية إقامته، ومن ناحية زواجه ومن ناحية إنجابه، ومن ناحية صداقته وحركته فى الغدو والرواح، حتى من ناحية ديانته فليس لأحد أن يكرهه على دين من الأديان إذا كان بلا دين أو كان له دين غير الاسلام. قال الله تعالى: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ. [256 ، البقرة]. وقول سيدنا عمر رضي الله عنه لحاكم مصر سيدنا عمرو ابن العاص ( متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهماتهم أحرارا) وذلك فى حادثة القبطى الذى ضربه ابن سيدنا عمرو ابن العاص، فشكاه الى أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضى الله عنه، فكان منه هذا التوجيه الكريم الذى صار قاعدة من قواعد الدين الحنيف، توضيحا لقول النبى صلى الله عليه وسلم: {كلكم لآدم وآدم من تراب أن دمائكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم الى ان تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا فى شهركم هذا فى بلادكم هذا الا هل بلغت اللهم فاشهد}[28].
 وهذا الحديث الشريف جزء من خطبة النبى صلى الله عليه وسلم فى حجة الوداع التى خطبها يوم الجمعة فى عرفات يوم الحج الأكبر، وكانت ميثاقا وعهدا من الرسول صلى الله عليه وسلم، لجميع المسلمين الى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وأصبحت هذه الوثيقة الدينية بمثابة دستور يقنن حياة المسلمين فى كل زمان ومكان.
كذلك من حق الانسان أن يحب من يشاء وأن يبغض من يشاء ما دام ذلك فى حدود الشرع الشريف، فان الضوابط فى هذا المقام تحفظ على الانسان كرامته، وتجعله مرفوع الرأس بين الناس، قال النبى صلى الله عليه وسلم: { إن من أوثق عرى الايمان الحب فى الله والبغض فى الله}[29]
وقال الإمام أبو العزائم رضى الله عنه:
الحب فى الله نور يشرح الصـدر       والحـب  فى الله سر يرفع القدر 
الحب فى الله  معراج الوصول له       من يعشق الله بالمحبوب قد ظفرا  
  والحب شعبة من شعب الإيمان. حب العمل، حب الوطن، حب الناس، حب الأهل والعشيرة، حب الوالدين، حب الزوجة والأولاد، حب الصالحين، حب آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، حب رسول الله، حب الله عز وجل، حب النعم والخيرات التى أنعم الله بها على الانسان، حب العلماء العاملين، حب الرجال المصلحين، حب الأبطال والأفذاذ من الرجال، حب المسئولين الذين يسهرون على حياة الأمة ومصالحها، حب الرؤساء والأئمة العادلين، حب العمل الصالح، حب الدار الآخرة والجنة ونعيمها، حب الايمان والدين، حب جميع الانبياء والمرسلين، حب الملائكة المقربين، حب كائنات الله العظيمة من أرض وسماء وشمس وقمر وهواء وماء وعرش وكرسى ولوح وقلم وما وراء ذلك من عوالم الله العظيم.
وليس للحب حدود يقف عندها إلا ما حرم الله ورسوله محبته من المنكرات والفواحش والسيئات، والظلم والاعتداء، والظلمة والمعتدين والكافرين وكل من يبغضه الله ورسوله. وإن البغض هو المقت والكراهية الشديدة، وهو قسوة فى القلب تجعله ينفر من الشيء المبغوض ويبتئس من رؤيته ويعتم ويتألم عندما يسمع عنه أى خبر سار كما أن الحب هو رقة فى القلب وشفقة فى النفس تجعل المحب ينعطف نحو محبوبه ويميل اليه ويتعشقه ويسعد برؤيته ويفرح بسماع الخير عنه، ويحزن حزنا شديدا إذا سمع مكروها أصابه. والحب يجعل صاحبه يضحى بالغالى والرخيص فى سبيل محبوبه وفى سبيل رضاءه، كما أن البغض يترتب عليه إيصال الضر والأذى بأى وسيلة لمن يبغضه ولو بالنية وتمنى المصائب والبلايا له إذا لم يستطع أن يؤذيه مباشرة.
حق الإنسان في الأمن والرخاء
اإ الإسلام دين تضمن للناس كل خير، ورسم الطرق التى تؤدى الى هذا الخير فمن ذلك أنه أمن الناس على حياتهم وعلى أقواتهم، وجعل ذلك ميسورا لكل الناس على السواء، فالأمن هو أن يطمئن الانسان على نفسه وعلى أهله وعلى ماله، فلا يخاف من السطو والسلب للمال والمتاع، ولا يخشى من الاعتداء على الأهل والنفس، لأن الاسلام حمى المجتمع من كل هذه الرذائل والمخاوف. ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ. [3-4، قريش]. فقد جعل الله وفرة الأرزاق والأمان من الخوف من أجل النعم التى أنعم بها على أهل مكة المكرمة. والاسلام فى كل بقاع الأرض هو امتداد للإسلام فى مكة المشرفة فكل المسلمين فى أنحاء المعمورة يعبدون رب البيت المحرم بصدق وإخلاص، فيفيض عليهم الأرزاق والأمان، سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا.
والرخاء والأمان أخوان متلازمان فحيث يوجد أحدهما يوجد الآخر بالضرورة وقد رأينا العراق لما تزعزع الأمن فى ربوعها هربت الأقوات والأرزاق من أسوارها وأبوابها، وتحقق فيها قول الله تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ.  [112، النحل]. وهكذا تسلب نعمة الرخاء والأمن من المسلمين إذا هم تنكروا لنعم الله وجحدوا خيراته عليهم وتعدوا حدود الله، فكان جزاءهم ما حل بهم، ولا حول ولا قوة الا بالله العلى العظيم.
والإسلام حريص على أبناءه ورخائهم فأمرهم أن يدخلوا فى حصن السلام والأمان قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ. [208،  البقرة].
فمن كان ذا عقل فليتعظ بآيات الله فليس بعدها موعظة ولا بيان. ﴿وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ. [4، الأحزاب].



حق الإنسان في التفويض
وذلك بأن يوكل الانسان عنه غيره فى شأن من شئونه الحيوية لعقد العقود من بيع وشراء ونحوها، والقيام بأعماله بدلا عنه كالموظف الذى ينيب أحدا مكانه لعذر من الأعذار، وله أيضا الحق فى أن يفوضه عنه فى جميع شئونه المدنية.
وقد منح الإسلام هذا الحق للانسان رحمة به، فقد يضعف عن مباشرة الأعمال لمرض أو كبر أو لشغله بأعمال أخرى، وذلك كله وارد، والإسلام دين رفق وتعاون فلم يضيق على الانسان في باب من الأبواب التي تفتح عليه الخير. قال الله جلَّ ذكره: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ. [78، الحج].
والتفويض والإنابة والتوكيل كلها بمعنى واحد.
حق الرقيق في العتق
والرق هو امتلاك الإنسان لأخيه الإنسان، وقد كان نظامًا موجود قبل الإسلام وكان يمثل ضرورة من ضروريات المجتمع البشري آنذاك فقد كان يشبه آلات الإنتاج والأيدى العاملة في هذا العصر، وكان بمثابة ثروات هائلة للأمم والأفراد والهيئات فلم يتمكن الإسلام من القضاء عليه مرة واحدة وإلا شلت حركة الحياة في المجتمع فسار الإسلام مسيرة الحكمة فى القضاء عليه تدريجيا، وضيق روافده جدًا ووسع مخارجه، ففتح آفاقا كثيرة لتحرير الرقيق لم يكن واحدا منها من قبل حتى أنهى الإسلام هذه الظاهرة البشعة من حياة الناس، ولم تستطع أمة من الأمم على مدى التاريخ أن تفعل شيئا مما فعله الإسلام فى القضاء على الرق حتى جعل للرقيق نفسه حقا فى تحرير نفسه، وذلك بأن يطلب من سيده أن يعتقه فى نظير كذا وكذا من المال يؤده اليه فى مدة كذا حسب ما يطلب العبد أو الأمة. والإسلام يفرض على السيد قبول هذا الطلب، بل يحث السيد وغيره من المسلمين على مساعدة هذا المكاتب فى تحرير نفسه وبذل ما فى الوسع من أجل ذلك. قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ. [60، التوبة ]. يعني فرض الله الزكاة لهذا الرقيق الذى يطلب تحرير نفسه حتى يعطي سيده ما اتفقا عليه ويعتقه.
وكذلك أمر الله بمعاملة الرقيق معاملة كريمة مثل معاملة الإنسان لوالديه وأبناءه وأقاربه قال الله تعالى: ﴿وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا.  [36، النساء]هذه المعاملة الطيبة جعلت الرقيق يفضل حياة الرق على الحرية لأن الإسلام سوى بينه وبين مالكه فى المأكل والمشرب والمركب والمنكح، وقرر النبي أخوتهم لسادتهم فقال:{إخوانكم خولكم}[30] يعنى خدمكم وعبيدكم إخوانكم تطعمونهم مما تأكلون وتلبسونهم مما تلبسون وتسكنونهم حيث تسكنون.
ولقد دخل أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب مدينة بيت المقدس راجلاً على قدميه وكان غلامه راكبا لأنها كانت نوبته فى ركوب الناقة التي كان يتناوبان عليها. فانظر إلى عظمة الإسلام كيف بأمير المؤمنين يسوى بينه وبين عبده فى الركوب؟ !! فهذا هو دين المساواة حقا ويقينا وليست نظريات يملأ بها الناس صفحات الكتب وأبواق الإذاعات،  ولكنها وقائع ثابتة وحقائق قائمة ومبادئ منفذة، نعم الناس فى ظلها وسعدوا بها أيما سعادة، وقد بلغ الرجال المسلم أن ملأ بصوته أسماع الدنيا فخرا واعتزازا بالإسلام فقال:
أبى الإسلام لا أب لى سواه        إذا ما افتخرت قيس أو تميم
إن الرق قد اتخذ الآن شكلا آخر من أشكال استعباد الناس واسترقاقهم والتحكم فى مصيرهم، وإن الدول الكبرى والغنية قد استذلت الدول الفقيرة واستعبدتهم وفرضت عليهم الخضوع والاستكانة والاستسلام لحاجتها الماسة إلى رغيف الخبز أو الدواء أو الكساء ليسدوا جوعتهم أو يعالجوا مرضاهم أو يواروا سوءاتهم. وهذا اللون من الرق أتعس حالا من الرق القديم، إذ أنه كان حالات فردية ولكن الرق الجديد يخيم بظلامه على الأمم والشعوب.
ويزعم من لا يعرف الإسلام أن الإسلام أباح الرق وأقره مع أنه موجود قبل الإسلام بآلاف السنين، ولم يقض عليه إلا الإسلام وقد طهر الدنيا من عاره الى الأبد.
ولكن أعداء الاسلام قد استبدلوا الرق الفردي بالرق الجماعي كما ذكرنا، وأن دوام الحال من المحال و ﴿لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ. [4، الروم].
إن الإسلام الذي كرم الإنسان واحترم آدميته فى قوله تعالى: ﴿ôوَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً. [70، الإسراء]. كيف يرضى بامتهانه واستذلاله واستعباده؟ حاشا لدين أنصف الانسان من نفسه فضلا عن إنصافه من غيره أن يقبل شيئا من ذلك أو يعترف به. إن الإنسان الذي حمَّله الله أماناته وخلفه بشرائعه وشعائره، وسخر له أرضه وسمواته وما فيهما وما بينهما، وجعله سيدا لجميع كائناته، وتعبده الله لذاته دون العالمين، كيف يستعبده أخوه الإنسان ويستهين بإنسانيته؟ كل هذه المساوئ والمخازى هدمها الإسلام و نعى على أصحابها، وقضى عليها فى نفوس المسلمين حتى صار كل إنسان أخا لأخيه الإنسان لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره.
وإن عهد الحياة الذهبي قد خلقه الإسلام على وجه هذه الأرض حتى تطلعت اليه عيون الناس فى الشرق والغرب وتمنوا أن يسود هذا النظام على أهلهم وديارهم، ولا يزال المنصفون من رجالاتهم يشيدون بالإسلام ويتغنون بأحكامه وآدابه السامية. وغدا سيعم نور الإسلام جميع العالمين كما قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا. [28، الفتح].
  حق المرأة فى الميراث
كانت المرأة قبل الاسلام لا ترث مطلقا، بل كانت هي نفسها متاعا يرثها الأبناء والأحفاد. وجاء الاسلام فرفع قدرها وأعطاها الحقوق المقررة للرجل فلم يفرق بينهما إلا في الميراث وبعض أمور أخرى سنذكرها فيما بعد.
وقد ورث الاسلام المرأة وجعل لها نصف الرجل فى الميراث، وذلك لأن المرأة لها حقوق مالية أكثر من الرجل، فقد أعفاها من النفقة على نفسها بجميع أنواعها من الطعام والشراب واللباس والسكن والركوب والتمريض، وجعلها حقا لها فى عنق وليها قبل الزواج وفى عنق زوجها بعده، ولها كذلك حق المهر وحق المتعة أن طلقت، وليس عليها أى نفقات الا إذا تطوعت بشئ لبعلها أو أبناءها أو والديها.
والمرأة بذلك تكون قد أخذت من الاسلام هذه الحقوق من ميراث وخلافه بدون أن يطلب الإسلام منها شيئا، إلا ما كان الرجل هو الذى يتحمل عن المرأة أعباءها فقد ضاعف الله له حق الميراث، قال الله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ. [11، النساء].
وإن المشرع الحكيم جل جلاله حكم عدل وهو أعلم بمصالح عباده فأعطى كل واحد منهم نصيبه غير منقوص. وقد عرفت المرأة نفسها وشهدت قدرها في ظل الإسلام، فغمرتها السعادة والفرحة وسارعت بشكر الله ورسوله على النعم التى لم تكن تحلم بها أبدا لولا الإسلام.
وقد استمسك المسلمون بهذه الأحكام فعمتهم الرحمة، وغشيتهم السكينة والمحبة، وهطلت عليهم بركات السماء، وخرجت عليهم بركات الأرض، هذا فضلا عن مغفرة الله ورضوانه وعفو الله وإحسانه فى الدنيا والآخرة.
وقد هضم أناس حق المرأة فى الميراث فلعبت فيه أهواءهم وحرموها منه أو من بعضه غير مؤمنين بما شرعه الله، ولا مقتنعين به، فحلت عليهم المحن والفتن ولا حول ولا قوة الا بالله العلى العظيم.
حق الرجل في القوامة
قال الله تعالى: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ.[34،النساء].                                                                             
هذه الآية الشريفة قررت حق الرجل فى القوامة على الأسرة وشئونها، وتولى أمورها دون المرأة للأسباب التى وضحتها هذه الآية الكريمة:
أولا: أن الله فضل الرجل على المرأة لقوة التحمل فى إدارة الشئون، وصبره في المعاملة مع الناس، وسعة أفقه في الخبرة والتجربة، لأن طبيعته تقتضى ذلك. وقد أناط الله به الكدح والمغامرة والتصدى للأحداث التي لا تقدر المرأة على مواجهتها، لأن طبيعة المرأة مرهفة ورقيقة وأعدت لأعمال عظيمة أخرى تناسب فطرتها وطبيعتها مثل الحمل والولادة والرضاعة والحضانة، وهى تحتاج الى حنان المرأة وعواطفها الرقيقة ومشاعرها الرحيمة.
ثانيا: أن الله فرض على الرجل التكسب للأسرة والانفاق عليها والسهر على مصلحتها والضرب فى الأرض طولا وعرضا من أجل ذلك، والمرأة تضعف عن تحمل المشاق والمتاعب التى ينوء بها الرجل للأنفاق على أهله، وأن انسد فى وجهه باب طرق بابا آخر وهكذا دواليك ولا ييأس لأن الله جعله رجلا من أجل ذلك.
ومن هنا جاء القرآن المجيد مقررا سنة من سنن الحياة، وفطرة من فطرها التي خلق الله الناس عليها. والمرأة لا تقوم بأمر الأسرة الا بفقد وليها من أب أو جد أو عم، وعندما يرشد أحد أبناءها يتولى القيام بشئون الأسرة بدلا عنها، وقيامها بأمر الأسرة فى هذه الفترة كان لضرورة مؤقتة ألجأها الى حمل هذا العبء الثقيل.
وليست لقوامة الرجل على المرأة نوعا من الاستبداد والتسلط، وإنما هو نوع من التعاون الذى زادت فيه أعباء الرجل لقوة شخصيته وقيامه بتحقيق العدالة بين أفراد الأسرة، وتقويم العوج فيها بالرفق واللين والحسنى من غير صلف ولا عجرفة حتى يكون الرجل خادما لأسرته وخيرا لأهله كلهم. قال النبى صلى الله عليه وسلم:{خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي}[31]
وأن أحق الناس بخير الإنسان زوجته وأولاده وأبويه ومن يليهم من الأقارب والعشيرة.
حق المسلم فى الشهادة
إن الشهادة نوع من الولاية لأنها إما تزكيه لإنسان وإما إدانته وإما أن تكون بيانا لحق أو كشفا عن باطل، ويشترط فى الشاهد العدالة، قال اله تعالى: ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ. [2،الطلاق]. والرجل تقبل شهادته فى أي قضية ما دام عدلا وفي الحدود التي رسمتها الشريعة المطهرة في كل قضية من القضايا فهناك قضايا ترد فيها شهادة الرجل العدل وذلك كما فى الزنا أو اللواط أو إتيان البهائم، فان شهادته لا تقبل وترد عليه ويجب أن يرجع عنها ويتوب إلى الله منها، وأن أصر عليها جلده الحاكم ثمانين جلدة لأنه لم يأت بثلاثة شهود معه حسب ما حكم الله به فى كتابه العزيز حيث قال جل شأنه: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ. [4، النور]
وأن المرأة ليس لها الحق في الشهادة على هذه القضايا التي تتعلق بالجنس، وقد أعفاها الإسلام منها، لأن حياء المرأة ورقة مشاعرها قد يؤثر عليها في التحقق من إدراك هذه الأحداث، ولأنها تخجل من تقرير هذه الوقائع أمام الناس في ساحة القضاء، فاحترم الإسلام هذه الأمور فيها وأعفاها من الشهادة في مثل ذلك من الوقائع، وإن رأت شيئا منها يحرم عليها الإدلاء به لأن دينها منعها من ذلك فلا تتجاوزه، ولا يقبل منها الكلام فيما رأته من هذه الأشياء. تشريع حكيم وحكمة بالغة، وللمرأة بعد ذلك الحق في الشهادة على الأقضية الأخرى التي يشهد عليها الرجل لكن لابد أن تكون معها امرأة أخرى لتشهد معها، ولا تنفع شهادتهما إلا مع رجل يشهد بما شهدتا به قال الله تعالى: ﴿وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى.[282، البقرة].
والحكمة بعد ذلك أن المرأة ليس من طبيعتها المماحكات والمجادلات والمنازعات حول الأمور فإن عواطفها لا تتحمل ذلك، وأنها كثيرة النسيان بل سريعة النسيان لمثل هذه القضايا، لانشغالها بما هو من سجيتها في إصلاح ذات نفسها والاهتمام بشئون زوجها وأولادها أو والديها وأخواتها إن كانت لم تتزوج بعد. كل هذا يجعلها تنسى الكثير مما دار حولها من الأحداث والشئون. فسبحان الله العلي العظيم شرع فأحسن التشريع وقدر فأحكم التقدير قال الله تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ.[49، القمر]. وقال جلَّ ذكره: ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ. [8-9،الرعد].
وقد تلقت المرأة المسلمة هذه الأحكام بالفرح والسرور لأن الله خفف عنها هذه الأعباء الثقال ورفعها عن كاهلها، قال الله تعالى: ﴿ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ. [178، البقرة]. وأن هذه الشهادة التي أعفاها الله منها أو خففها عنها ليس لنقص فيها أو تقليل من شأنها، وإنما كان ذلك حفاظا على كرامتها وصيانة لها من الدخول فى المهاترات والخصومات وغير ذلك مما يقع بين الناس وبعضهم.
فانظر رعاك الله كيف ينهى الله عن كتمان الشهادة، وكيف يحرم الشهادة ويمنع منها الرجال تارة ويمنع منها النساء تارة أخرى، إن الإسلام جاء بالعجب العجاب من الأحكام والحكم، ومن الوصايا والآداب، وكلها لسعادة الإنسان وإصلاح حاله وباله فى الدنيا والآخرة، فقد قال جلَّ شأنه: ﴿وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ. [283، البقرة]. ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ.  [282، البقرة].فكيف هذا مع قول النبي عليه الصلاة والسلام لعمر ابن الخطاب {يا عمر البينة أو حد في ظهرك}[32]
عمر الصحابي العظيم العدل المؤيد من السماء بالقرآن يرد النبي صلى الله عليه وسلم شهادته وهو من نعلم جلالة وقدرا!! وذلك لأن الإسلام دين الرحمة، ودين الستر والمداراة، ودين الدقة والتحري في هذه الأمور الخطيرة. فرجع عمر فورًا عن شهادته إلى الأبد واعتذر الى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ذلكم لأن الله هو الحاكم جل شأنه، وهو المشرع عزَّ جاره وجل ثناؤه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون منفذون لأمر الله سبحانه وتعالى على أنفسهم أولا وعلى أهليهم ثانيا وعلى المسلمين أجمعين. ﴿رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ. [53، آل عمران].
حق الإنسان في الإشهاد
وذلك بأن يطلب الشهادة من غيره على صحة ادعائه، وللشاهد أن يستجيب إليه وأن يقرر الحقيقة فيما رأى وما سمع حول الأمر الذي يشهد عليه، وعلى القاضى أن يحقق للطالب ذلك فإن العدل يحتم استيفاء جوانب القضية حتى يقف القضاء على كل أمر فيها، ويبني حكمه بعد ذلك على الحق اليقين.
والشاهد إنما يكشف الغموض واللبس الذي يكتنف القضية بشهادته ويعطي للقاضي الضوء الأخضر أو الأحمر فيها. وأننى أرى أن شهادة الرجلين تثبت الحق لصاحبه أن كان له وتنفيه عنه أن كان ليس له، ولا يحتاج القاضى بعد شهادتهما الا التحقق من صحة الأوراق والمستندات ومطابقتها لشهادة الشهود ولا يقبل القاضى الطعن فى الشهود بعد الثقة فيهم والتأكد من عدالتهم، لأن ذلك تجريح من غير مبرر، وتضييع لوقت القضاء الثمين، ومماطلة لصاحب الحق فى الحصول عليه، وتترتب على ذلك ضياع مصالح كثيرة.
وسرعة البت فى القضايا من أعظم علامات التحضر والرقي في الأمم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي بين الناس في مجلس واحد إذا ما اتضح الحق وانكشف، وذلك حسما للنزاع والبغضاء بين الناس، لأن حكم الحاكم ينهي جذور الخلافات ويقضي على سوء التفاهم بين الناس، وبذلك يستتب الأمن ويستقيم النظام، ويتفرغ الناس للعمل والإنتاج وتهدأ خواطرهم وتستريح ضمائرهم ويتحابب الناس ويتعاونون على البر والتقوى.
وأن الناس الآن أصبحوا يتبرمون بالقضاء ويتألمون من تأخير البت في مشاكلهم فتتزايد المشاكل وتتعقد أكثر من ذي قبل، لأن الفرصة تكون لشياطين الإنس يسرحون ويروحون فى تأزيم المشاكل وترويجها. وأننى أناشد السادة القضاة (سدد الله خطاهم) أن يترفقوا بالناس ويسارعوا فى إنهاء قضاياهم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {اللهم من ولى من أمر أمة محمد شيئا فرفق بهم فأرفق به ومن ولى من أمر أمة محمد شيئا فشدد عليهم فاشدد عليه}[33].
وأني أعيذ السادة القضاة والمستشارين من الوعيد الذى جاء فى هذا الحديث الشريف. نعم وإن كان قضاءنا فى غاية الشرف والنزاهة إلا أنه في حاجة ماسة الى سرعة البت والانجاز فى القضايا الكثيرة المتراكمة. وأننى أرجو أن تكافئ الدولة القاضى الذى يبت فى قضاياه فى وقت قياسى من الزمن يحدد له بمعرفة المسئولين عن القضاء، حتى تتطهر ساحة المحاكم من القضايا التى تعفنت بطول الانتظار ولله در السيد الأستاذ وزير العدل فى ثورته المباركة لإصلاح القضاء وتطويره الى أحدث النظم فى هذا المجال، وفقه الله وأيده بروح من عنده.... آمين.


حق الإنسان المحتاج
إن الإنسان قد يتعرض لمحن قاسية وبلايا شديدة، وقد أوجب الاسلام أن نقف بجواره ونساعده فى مصيبته حتى يكشفها الله عنه، وهذه المصائب كالأمراض الخطيرة والحوادث المفجعة، كالحريق والغرق وجفاف الزراعة وضياع الأموال أو سرقتها، وغيرها من الأضرار التي تلم بالإنسان فى هذه الحياة. ومن كان فى حاجة أخيه كان الله فى حاجته، قال النبي صلى الله عليه وسلم:{والله في عون العبد ما كان العبد فى عون أخيه}[34].وقال رسول الله أيضا:{من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة}[35].
وهذه الأحاديث الشريفة جاءت فى معرض الحث والترغيب، ولكنها فى الحقيقة أبلغ فى الأمر والتكليف مما لو كانت أمرا مباشرا، فإن تنويع الأساليب في مثل هذه الأمور يحمل المخاطبين على الالتزام والتنفيذ بحب واشتياق، وتفان ومسارعة.
ولقد نعت الله المتقين بأبلغ النعوت وأجلها فقال عز وجل: ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء.[134، آل عمران] والإنفاق في الضراء هو مساعدة أهل الحاجة والعوز، وأهل المحن والمصائب حتى تقال عثراتهم ويستردون أنفاسهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ان لله عبادا اختصهم لقضاء حوائج الناس حببهم فى الخير وحبب الخير إليهم أولئك هم الآمنون من عذاب الله يوم القيامة}[36].
وهكذا كانت البشائر لأهل البر والمرحمة الذين يواسون الناس فى نكباتهم وبأسهم، ومن يستمع لهذه الوعود الكريمة من الله ورسوله ضحى فى سبيل إنقاذ أهل العوز والحاجة أملا فى الفوز بما وعده الله به ورسوله، قال الحكيم العربى:
ومن أغاث البائس الملهوف           أغاثه الله إذا أخيف
وأهل الايمان يسدون حاجة المحتاج ولو من قوتهم الضروري لأنهم يحسون بآلامه ويشعرون بما يعيش فيه من بؤس وعناء، ولذلك تراهم يتسابقون لهذا الخير العظيم، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ. [29-30، فاطر]. نعمت التجارة، وأنعم بهم من تجار تجاوزوا المدى فى البر والإحسان والبذل والعطاء، رضى الله عنهم ورضوا عنه أولئك هم خير البرية.
حق الإنسان في الانتخاب
   الانتخاب هو اختيار الرجل الصالح الكفء لينوب عن الناس فى مجالس التشريع والشورى، والإنسان الذى له حق الانتخاب هو الرشيد الواعى الذى يعرف مصلحة الوطن ويقدرها وليس كل الناس. والانتخاب شهادة تزكية يشترط في صاحبها العدالة كأي شهادة أخرى ولا يقلد هذا الحق لكل الناس البالغين على حد سواء باعتبار أنهم عدول راشدون، ولذلك قررنا فيما سبق من هذه المذكرات أن الحاكم ومعاونيه هم الذين يختارون النواب الذين يمثلون الأمة فى هذه المجالس نظرا لأن الشروط التى يجب توافرها فى الناخب لا تتوفر إلا في قلة ضئيلة من الناس، وقد يعسر الحصول عليهم بين عامة الناس إذ العامة مشغولون بحياتهم ومصالحهم أكثر من شغلهم بالتفكير السليم نحو الرجل الذى يمثلهم في مجالس التشريع والشورى.
وقد كان هذا الحق يمنحه الاسلام لرجال سماهم- أهل الحل والعقد- يعني الذين يقدرون على النظر فى الأمور، والتقصى للحقائق، ويزنون الرجال بالموازين الحقة، ويستطيعون حل المشاكل التى ليس لها حكم فى كتاب الله ولا فى سنة رسوله ولا فى أقوال الأئمة المجتهدين ولا فى إجماع الأمة ولا فى القياس، فإن هذه المشاكل المستجدة يبحثونها ويضعون لها حلا بعد التشاور فيما بينهم واتفاقهم على أحسن الحلول.وكذلك أهل العقد يبرمون الأمور ويعقدون الصفقات وينجزون الاعمال بحكمة وعلم وخبرة وتجربة.
وهؤلاء هم الذين يقدرون على اختيار الرجال الذين ينصحون للأمة ويعانون على دفع عجلة التطور والتقدم فيها ويساعدون الحاكم فى إقرار الأمن والعدل والرخاء فى داخل البلاد وخارجها.
والله الموفق والهادى الى سواء السبيل.
مساواة المرأة بالرجل
ان الاسلام سوى بين المرأة والرجل في أشياء كثيرة منها التكاليف الدينية من الاعتقادات والعبادات والأخلاق والمعاملات، وسوى بينها وبين الرجل فى الأجر والثواب فى الآخرة، قال الله تعالى: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ. [195، آل عمران]. وقال جل شأنه: ﴿لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ. [32، النساء] فكانت المساواة في الأجر والثواب لأنهما تساويا في العمل وفي التكليف به من فبل الشارع الحكيم.
وكذلك سوى الاسلام بينهما فى طلب العلم وتحصيله، أيا كان هذا العلم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:{طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة}[37].
وذلك أمر طبيعي، لأن الدين طلب من المرأة والرجل القيام بشعائر الدين وأحكامه، وذلك يتطلب العلم بالضرورة، إذ أن العمل من أجل أن يكون صحيحا لابد أن يكون قائما على العلم والمعرفة، وإلا كان باطلا وغير مقبول عند الله سبحانه وتعالى.
وأيضا سوى الإسلام بين الرجل والمرأة في العمل بحيث تتولى المرأة الأعمال التي تناسب فطرتها وتحتاج إليها الدولة فيها، ولكن إذا خرجت للعمل تكون وقورة ومحتشمة في لبسها وفي حركاتها وفي اختلاطها بالرجال، وذلك في الإطار الذي حددته الشريعة الغراء. وقد كانت النساء فى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تخرج للصلاة فى المسجد وتشهد الجماعات والجمع والأعياد والمناسبات الأخرى، وكانت تخرج لطلب العلم وللغزو والجهاد فى سبيل الله، وكانت تخرج لشراء حاجتها وقضاء مآربها وزيارة أقاربها وصويحباتها وكانت تشارك فى الأفراح، كل ذلك كان فى الصورة التى أمرها الدين بها بعد أذن وليها أو بعلها، وعليها فى سبيل ذلك أن تغض من بصرها وأن تخفض من صوتها وأن لا تبدى زينتها الا الوجه والكفين، وأن تحفظ الآية التي فى سورة النور وتستمسك بما جاء فيها من أحكام وآداب، وهذه الآية الكريمة هى قول الله تبارك وتعالى :﴿وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. [31، النور].
وفى التزام المرأة بتعاليم الإسلام إظهار كرامتها وأنوثتها، وتجعل الرجال يتلهفون عليها، لأنها كلما تحشمت وتسترت كلما شدت انتباه الرجال ولفتت أنظارهم نحوها، فإن كل ممنوع مرغوب وكل مخبوء مطلوب.
وكلما تبرج النساء وتكشفن كلما مجتهن الأذواق وأعرض عنهن الرجال لأنها صارت مبتذلة خليعة كالسلعة المعروضة للبيع أمام المشترين وغيرهم كالحلوى المكشوفة يقع عليها الذباب مرة ويقع على القاذورات التي في الطرقات مرة أخرى.
والمرأة التى تريد إبراز محاسنها ومفاتنها فعليها بالتعفف والتصون فإن جمالها وزينتها فى ذلك، قال الله تعالى : ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. [59،الأحزاب].
فهذه الآية الشريفة تأمر النساء بالاستقرار فى البيوت وعدم تعكير الجو بالمهاترات والخصومات وكثرة المطالب التى ترهق كاهل الأزواج أو أولياء الأمور فإذا كان هناك داع لخروجهن من البيوت فلا تستعملن المساحيق ولا تلبسن الملابس المزركشة ولا تفعلن فى أنفسهن ما يدعو الرجال للوقوع فى شباكهن، فإن ذلك من الأمور التى حرمها الله على المرأة. وأن اللاتى يرتكبنها يجب عليهن التوبة إلى الله منها وكثرة الاستغفار حتى يتوب عليهن.
كذلك فإن الإسلام قد سوى بين الرجال والمرأة فى الحقوق المدنية كالملكية الخاصة بها ،وتصرفها الكامل فيها من غير اعتراض أحد عليها من زوج أو أب أو ابن أو أخ أو غيرهم من الأقارب، لأن الاسلام منحها أهلية التصرف المطلق فى جميع شئونها، حتى تزويجها نفسها بدون ولي. حقوق لم تكن تحلم المرأة بها لولا الإسلام. وكذلك سوى الإسلام بين الرجل والمرأة فى الإنسانية فاحترم إنسانيتها كما احترم إنسانية الرجل فهى لا تقل عن الرجل فى هذا الشأن لأنها إنسانة كاملة الأوصاف والمعانى كالرجل تماما فى ذلك، فلا تفاضل بينهما فى ناحية الإنسانية.
وان الأمور التى تختلف المرأة فيها عن الرجل قليلة جدا، وهى القوامة والشهادة والميراث، وقد سبق الحديث عنها، ومنها الطلاق والانفاق، وسنتكلم عليهما الآن.
أولا: الطـلاق:
وقد جعله الله للرجل دون المرأة لأن العصمة بيده بحكم أنه هو الذى يطلب الزواج ويسعى فيه ويتحمل تكاليفه، فكان حريصا عليه أكثر من المرأة، وكذلك هو القيم على الأسرة والمدبر لشئونها، وله نظر بعيد وبصر نافذ فى معالجة المشاكل التى تعترضها بخلاف المرأة التى كثيرا ما تنقاد وراء العواطف والدموع.
وأن طريق الزواج ممتد على مدى الحياة، وأن القلاقل والهزات فيه كثيرة، وان الرجل له قدرة على احتوائها أكثر من المرأة بحكم فطرته وطبيعته التى خلقه الله عليها، من أجل ذلك وغيره وجعل الله حق الطلاق للرجل، وقد جعله للمرأة فى أضيق الحدود، وذلك إذا اشترطت فى العقد أن تكون العصمة بيدها وقبل الرجل هذا الشرط.
وان الذين يعيبون على الإسلام كون الطلاق من حق الرجل قد غفلوا عن هذه الأمور التى ذكرناها واعتبروا عقد الزواج كبقية العقود المدنية الأخرى من البيع والشراء وغيرها، ولكن عقد الزواج هو رباط بين رجل وامرأة أحب كل منهما الأخر، وأعطى كل منهما نفسه للأخر يستمتع بها، وهذه المعانى لا توجد فى أى عقد من العقود الأخرى التى تجعل المتعاقدين على حد سواء قال الله تعالى فى شأن النساء وأزواجهن: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ . [187، البقرة]
فاللباس هو ما يستر الإنسان ويقيه من الحر والبرد والميكروبات ونحوها. واللباس أيضا هو الزينة والفضيلة التى يحفظ به الإنسان كرامته بين الناس، ولذلك كان عقد الزواج عهدا وميثاقا غليظا كما ذكر الله عز وجل حيث قال: ﴿وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا. [20-21، النساء]. ففى قول الله ﴿وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ. أسرار بين الزوجين لا تباح، ويكفى أن كلا منهما أفضى الى الأخر بكل ما لديه من ظاهر ومستور ومن سر وإعلان.
وأن الميثاق الغليظ الذى أخذته المرأة على الرجل هو أن يكون عوضا لها عن الأب والأخ والعم والخال وعن كل الأهل والأقارب، وأن يكون نعم الصاحب والرفيق ونعم الزوج والحبيب، وأن يعاملها بالرفق والرحمة، وأن يعاشرها بالمودة والحسنى.
ميثاق غلظه الله يعنى مكنه وقواه وجعله متخللا فى شعاب الحياة الزوجية كلها أن نسيه الزوج أو جهله ظهر له من كل ناحية عملاقا عظيما يأخذ عليه كل مشاعره وحواسه، ولذلك لا تنفصم عرى الزوجية بسهولة ويسر وإنما بغلظة وشدة وعناء ومشقة، لأن رباطها كان كذلك ذو قوة وغلظة، فليس سهلا ولا هينا.
ولقد أحاط الاسلام الرابطة الزوجية بحصون تحميها من الزعزعة والانهيار فأعلم الزوج ان الطلاق أمر يبغضه الله عزَّ وجلَّ بغضا شديدا، وأعلمه أنه لا يجوز له أن يطلق زوجته أثناء حيضها وكذلك لا يجوز أن يطلقها فى طهر جامعها فيه، وأيضا لا يصح طلاقه أثناء غضبه وخروجه عن صوابه بحيث لا يعقل الأمور ولا يدريها أثناء غضبه، وكذلك لا يقع الطلاق المعلق على فعل شيء أو تركه، وكذلك لا يقع الطلاق الذى أرغم عليه أو الطلاق الذى أراد به التهديد والتخويف ولم يرد به الطلاق.
وقد شرع الله الطلاق للضرورة القصوى التي لا خلاص منها الا بالطلاق ومن أجل ما ذكرنا كان الطلاق بيد الرجل الذى يقدر هذه المواقف ويحسب لها ألف حساب قبل الأقدام على الطلاق الذى يهدم بيت الزوجية ويشتت الأسرة.
ومن الحصون التي جعلها الله حول الزواج الصلح بين الزوجين، وأيضا التحكيم بأن يتولى الحكم فى الخلافات التى بينهما حكمين رجل من أهل الزوجة ورجل من أهل الزوج.
ومن الحصون أيضا تشريع الطلاق على مرات ثلاث بعدها تنفصم عرى الزوجية وينهدم بيت الأسرة. كل هذه الضمانات من أجل أن يبتعد شبح الطلاق والفراق عن الأسرة التى جمعها الله على الخير والمعروف، وربطها برباط وثيق قال الله تبارك تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا. [19،النساء]. فهذه الآية الشريفة تقرر أن الرجل قد يكره زوجته أو يكره شيئا من أخلاقها وأعمالها فيكون ذلك سببا فى طلاقها مع أن هذه الكراهية قد يكون فيها خير كثير للرجل وهو لا يدرى، وذلك يؤكد عليه التريث والتروى ومشورة أهل العلم والتقوى، واتخاذ الوسائل الكثيرة لتجنب الطلاق.
ولقد عالج القرآن ناحية النشوز فى المرأة فقال: ﴿وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ. [34، النساء].والنشوز هو المخالفات والمنازعات الكثيرة، ومع ذلك لم يصرح القرآن بالطلاق وإنما اكتفى بعلاج هذه الحالات بالوعظ تارة، والهجران تارة أخرى، وبالضرب أخيرا حتى يستقيم هذا الاعوجاج.
وهكذا نجد الاسلام أباح الطلاق وأعطاه للرجل وأخذ عليه تعهدات وتحفظات كثيرة، فلا يقدم عليه الا مضطرا، فهذا هو الحلال الذى لا يتناول منه أحد شيئا غير المضطرين اليه.
ثانيا: الإنفـاق:
وهو القيام بكل متطلبات الأسرة من الطعام والشراب واللباس والسكن والتعليم والعلاج وغير ذلك من المستلزمات التي تحتاجها الزوجة وأولادها، فإن الإسلام قد فرض على الزوج أو ولى الأمر هذه النفقات ولم يفرض على المرأة شيئا منها بل أعفاها منها رحمة بها وشفقة عليها، لأن قيامها بتدبير المنزل ورعاية أبناءها وزوجها اكتفى بها الإسلام من المرأة ولم يكلفها بشئ من النفقة، قال الله تعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ. [233، البقرة].
فقد ذكرت الآية وجوب الرزق والكسوة على من يولد له. والرزق هو كل ما ينتفع به الإنسان في حياته ويرتفق به فى معيشته من كل ما يحتاج اليه فى يومه وغده.
وذكرت الآية الشريفة الكسوة لأن البعض قد يظن أن الكسوة ليست من الرزق فنص عليها القرآن المجيد من باب ذكر الخاص بعد العام لدفع الشبهة التى قد تقع فى ذهن البعض من أن الرزق هو ما يطعمه الإنسان أو يشربه فقط. فسبحان الحكيم فى شرعه العليم بخلقه.
ولما أوجب الله النفقة على الرجل أمده بالقدرة والحيلة التى يتكسب بها الرزق لنفسه ولزوجته وأولاده ووالديه أن كان عاجزين عن نفقة أنفسهما وأعطاه طاقة على مواجهة الصعاب وتحمل المشاق والصبر فى معاملة الناس بخلاف المرأة التى تتأبى عليها طبيعتها ذلك، فقد كلف الله كل نفس على قدر ما تحتمل قال الله تعالى: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ. [14، الملك].وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:{اكلفوا من العمل ما تطيقون}[38].وقال أيضا:{أن الله سائل كل راع عما استرعاه حفظ ذلك أم ضيع}[39].
ملاحظــة
قبل الإسلام كان هناك استبداد فى كل بقعة من بقاع الأرض فلم يكن ذو السلطان والدولة يقرون حقا لمن دونهم، وكانوا يعتبرون الناس جميعا عبيدا لهم، لا يسمحون بحرية لأحد ولا يمنحون حقا لأحد الا فى حدود ضيقة جدا، وكانت تساس الشعوب بأسلوب الغلبة والقهر، والتسلط والجبروت، لأن الأديان السابقة كاليهودية والمسيحية لم تزك نفوس المؤمنين بها بل اتخذوا منها وسيلة لإشباع أهواءهم وأطماعهم، فتاجر رجال الدين بالدين واتخذوه شبكة يصطادون بها الدنيا ومتاعها، وانطحن الناس بين رجال الدين ورجال السلطة، وذلك لأن رجال الدين استباحوا لأنفسهم تغيير كثير من أحكامه وآدابه، فما وافق أمزجتهم تركوه وما خالفها غيروه، وجعلوا من أنفسهم أوصياء على الدين وجعلوا من أنفسهم قديسين لا يخطئون وأن الرب قد فوضهم فى تغيير شرائعه ومنهاجه حسبما يشاءون، وانتهى بهم الأمر الى تغيير الكتب السماوية حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ففضح أمرهم وكشفهم أمام الناس جميعا: ﴿لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ.  [42، الأنفال]. وطلع الصبح وأسفر، وتوضحت الأشياء وظهرت، واندحر الظلام وانقشع، و﴿جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا.  [81، الإسراء].
فخرج الناس من الظلمات إلى النور وآمنوا بدين الله الحق الذي انتظم جميع الأديان وصححها وزاد عليها ما احتاج الناس إليه إلى يوم القيامة، وأسلموا وجوههم لله رب العالمين، وأحسوا بالأمن والأمان والسلامة والاطمئنان، حتى أنهم دخلوا فى دين الله أفواجا بمجرد أن نظروا بأعينهم الى الاسلام، وتحققوا بقول الله تبارك وتعالى:﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ. [85، آل عمران].
ورأى الناس فى الاسلام حقوقهم وحريتهم وإنسانيتهم فقابلوا إنصاف الدين لهم بالعرفان والشكران لله عزَّ وجلَّ ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
وأن الشعوب اليوم بدأت تتطلع إلى الإسلام مرة أخرى لينقذهم من الويلات التي حاقت بهم من كل ناحية، وإنهم لواجدون الإغاثة والخلاص بإذن الله كما أنقذهم من قبل،قال الله تعالى: ﴿الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ.  [1، إبراهيم].
والكتاب ما زال هو الكتاب كما أُنزل على النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي باق في الناس بسنته وبيانه وهديه وتبيانه قال صلى الله عليه وسلم:{بدأ الدين غريبا وسيعود كما بدأ فطوبى للغرباء}[40].
تلك بشارة ووعد من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعودة الدين إلى أمجاده وعظمته والى علوه ورفعته ولو كره الكافرون، قال الله تعالى: ﴿يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ. [32-33، التوبة].
حق المـريض
الإنسان إذا مرض وتوعك وجب على من يعوله أن يسرع بتطبيبه، وذلك بعرضه على الأطباء المتخصصين فى هذا المرض، فان برئ وشفاه الله فذلك فضل الله عليه وان لم يبرأ من مرضه طلب له أهله طبيبا متخصصا آخر، وهكذا فإن وجهات النظر تختلف في تشخيص العلة وتحديدها ووصف الدواء الناجع لها، ولا ييأس أهله من شفائه وطول علاجه. والمريض الذى لم يبرأ من علته فإن السبب في ذلك هو الطبيب المعالج أو العقاقير التي يتعطاها المريض، فإما أن يكون تشخيص المرض ليس صحيحا وإما أن يكون العلاج ليس سليما.
وإن معظم حالات الموت تأتى من عدم التمريض السليم، وأن على المريض وأهله أن يستعينوا على شفاءه بالدعاء والاستغفار من الذنوب، فان الأمراض التى تصيبنا من كثرة ذنوبنا وخطايانا، قال الله تعالى: ﴿مَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ. [30، الشورى].
وإن الدعاء والاستغفار بابان عظيمان من أبواب الشفاء والعافية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:{من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرج ومن كل ضيق مخرجا ورزقه من حيث لا يحتسب}[41].
وهناك علاج نبوي آخر من أعظم الأشفية الجسمانية والروحية، ألا وهو الصدقة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:{داووا مرضاكم بالصدقة}[42].
وهذه الأشفية النبوية تحتاج إلى حسن اعتقادا بها وعدم التشكك والارتياب فيها. وأن المؤمن يأخذها بتسليم ويقين، فعند ذلك يحصل الشفاء بإذن الله تعالى، وأننى والله رأيت بعين رأسى أناسا كثيرين إذا مرض لهم مريض خرجوا من بيوتهم بمال كثير وأعطوه لأهل الحاجة والمسكنة بنية الشفاء من المرض فما يعودون الى البيت إلا وقد وجدوا أن حالة المريض قد تحسنت وتغير الوضع من حال الى حال، وليست هذه الأمور تحتاج الى تجربة لأنه قد ورد فى بعض الآثار(لا تجرب الرب الهك)، وإنما يؤخذ الأمر بيقين صادق وتسليم كامل فتجد كل ما تقر به عينك وينشرح به صدرك، وإنما تكون التجارب مع أمثالك من بني الانسان.
وليس للمريض ولا لأهله بعد يأسهم من الدواء والأطباء الا اللجوء الى الله عزَّ وجلَّ بصدق وإخلاص وتذلل وانكسار فإنهم سيجدون الخلاص والشفاء بإذن الله تعالى، فهذا سيدنا أيوب عليه السلام لما دعا ربه وقال: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. [83،الأنبياء]. فلبى الله دعاءه واستجاب الله له بقوله سبحانه وتعالى: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ. [84، الأنبياء].
وأن الأنبياء عليهم السلام كانوا قدوة لنا فى كل شئ فنحن ندعوا بدعائهم فيستجيب الله لنا إكراما لهم لاقتداءنا بهم.
والواجب على الناس عدم اليأس ما دام المريض به عرق ينبض بالحياة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:{كل داء له دواء إلا الموت}[43] وان بعض الناس يقولون أن المريض الذى لا يرجى شفاءه يتركه أهله حتى يموت، وهذا الرأى فى الحقيقة بعيد عن الصواب لأن معناه أننا نترك المريض يتألم ويتململ أمام أعيننا ونحن نقف نتفرج عليه. أعتقد أن هذا حرام جدا لأن الواجب علينا أن نحاول تخفيف المرض عنه إن لم نقدر على إزالته بالكلية، وعلينا أن نتخذ كل الوسائل في سبيل ذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من فى الأرض يرحمكم من فى السماء}[44].
ولى نصيحة أوجهها الى السادة الأطباء وهى توجيه المريض إلى المتخصصين في حالته فإن ذلك من أعظم مهمتهم الطبية، فالنصيحة من الايمان قال الله تعالى:﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ.[76، يوسف]. وذلك بعد بذل قصارى الجهد فى علاج المريض.
وان الناس الأثرياء لا يقتصرون على العلاج فى بلادهم بل يتجهون الى البلاد الأجنبية طلبا للشفاء والعافية، وذلك من حقهم فى هذه الحياة ما دام الله قد يسر لهم ذلك، فليس هناك شئ أغلى من الصحة والعافية، وكان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بذلك فى قوله: {تداووا يا عباد الله فإن الله خلق الداء وخلق له الدواء}[45]. وكل إنسان فى هذا المجال على قدره.
وإننى أعلم أن الأطباء قد وضع الله فى قلوبهم الرحمة بالمرضى ولذلك يتجه الناس إليهم ويقصدونهم، فقد ورد فى الأثر ( اطلبوا الرحمة عند الرحماء) فعليهم أن يترفقوا بالمرضى بقدر استطاعتهم وخصوصا فى التكاليف والأجور، فإن ذلك من روح الاسلام وحقيقته، فلا نجمع على المريض وأهله هم المرض وهم التكاليف الباهظة، وكم من الفقراء يموتون بعلتهم وأن المجتمع يتحمل مسئوليتهم أمام الله يوم القيامة وخاصة الأطباء الذين يفرضون التكاليف الكبيرة عليهم.
أن أمتنا العظيمة أنشأت كثيرا جدا من المؤسسات العلاجية والمستشفيات، ولكنها تحتاج الى نظرات كبيرة ومكثفة حتى نتلافى القصور الموجود بها رغم أن الدولة وفرت الكثير لتغطية احتياجات هذه المؤسسات ولكن القائمين عليها شغلتهم عنها أمور خاصة بهم. إن الدولة أقوى من أصحاب المؤسسات العلاجية التى أنشأها كبار الأطباء والتجار لأغنياء المرضى، وأننا نجد تلك المؤسسات على مستوى رفيع فى كل شئ، فما بال المستشفيات العامة لم تكن مثلها أو خيرا منها لأن الدولة لا تبخل عليها؟.
أناشد أخواتي المسئولين عن هذه المستشفيات ليقوموا بواجبهم نحوها حتى يتحقق أمل الأمة فى أبنائها المسئولين عنها، قال الله تعالى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ. [30، آل عمران].  وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أن الله سائل كل راع عما استرعاه حفظ فى ذلك أم ضيع}[46].
 اللهم أيد كل مسئول بتوفيقك وهدايتك واجعله خيرا وبركة على الأمة يارب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
    ملاحظــة                                                                                                                     
هناك بعض الناس من غير المسلمين يقولون بإنهاء حياة المريض الميئوس من شفائه رحمة به وبمن حوله من الأهل والأقارب. وهذا القول بلغ غاية الإسفاف والجهل إذ هو جناية على حياة نفس تستحق الرحمة والشفقة بدلا من القضاء عليها للأبد. من الذى أخبرهم بأنه لا يبرأ من علته؟ إنه إنسان مثل هذا المريض لا يدرى ماذا سيحصل له بعد لحظة، ولقد بنى هذا الرأى على الخبرات والتجارب الطبية التى تدخل تحت طاقة البشر، ولكن علم الغيب فى الحقيقة انما هو لله عزَّ وجلَّ وحده لا شريك له فيه، وكل ما يخبر به الطب من هذا القبيل إنما الذى أمرضه سبحانه وتعالى هو الذى يعافيه ويشفيه، وقد تحصل المعجزة التى لم يتوقعها أحد، وأن الحكيم الاسلامى يقول:
 كم حاربتـنى شدة بأسرها          فضاق صدرى منها وأنزعـج
حتى إذا أيست من زوالها           جاءتنى الألطاف تسعى بالفرج
وقال الله تعالى: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا. [5-6، سورة الشرح] .
وأن هؤلاء الذين يرون هذا الرأى ليسوا أرحم من الله عز وجل بهذا المريض وبمن حوله، فإن الله هو الذى خلق الخلق وهو أرحم بهم من أنفسهم ومن الناس أجمعين.
وأننى أسأل هؤلاء الناس هل يقبل أحدهم على نفسه هذا الحكم إن كان في مكان هذا المريض وأصيب بالمرض الذى أصابه؟ أعتقد أن أحدا منهم لا يقبل الاعتداء على ملابسه فيمزقها فضلا عن الاعتداء على عضو من أعضاءه، فكيف يرضى بالقضاء على حياته!!
ولو فرض أن المريض طلب ذلك فإنه يحرم على أى أحد الاستجابة اليه، لأن حياة الإنسان ملك لله فليس من حقه أن يعتدى عليها مهما كانت الأحوال، فإن قاتل نفسه أعظم عند الله جريمة من قاتل غيره، لأنه استعجل قضاء الله فيه، ولأنه غير راض عن حكم الله الذى حكم به عليه، ولأنه كفر بنعمة الحياة التى منحها الله له وهى أجل نعمة يتفضل بها الله عزَّ وجلَّ على الإنسان، فإن جميع النعم لو وضعت فى كفة ونعمة الحياة فى كفة  لرجحت نعمة الحياة، فكل النعم من غيرها لا تساوى شيئا، قال الله تعالى: ﴿مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا. [32، المائدة].
إذا كان الاسلام قد حرم الاعتداء على النفس بالهمز واللمز والغيبة والنميمة والتجسس والشتم والسب، واللعن والقذف، والاتهام والبهتان وافتراء الكذب والامتهان والاحتقار وكل ما يضر الانسان ويؤذيه، فإن الله قد حرمه على كل الناس صوتا للنفس وحفاظا عليها وعلى كرامتها، فكيف تكون حرمة الاعتداء عليها بالقتل وإنهاء حياتها؟
وأن من قتل نفسه بحديده فهو يضرب بها نفسه فى نار جهنم خالدا فيها، ومن قتل نفسه بالسم فهو يتجرعه أبدا فى نار جهنم خالدا فيها، وكان الجزاء من جنس الفعل الذى فعله الانسان بنفسه، وأن كان القتل من فعل الغير فإنه يعذب به كذلك فى نار جهنم خالدا فيها حتى يقضى الله أمرا كان مفعولا ولله عاقبة الأمور.
إن بعض المرضى يمكثون عشرات السنين بين ذويهم وهم يزدادون عطفا عليهم وشفقة بهم ولا ييأسون من رحمة الله ولا شفاءه، فإن لله فى كل نفس مائة ألف فرج قريب، قال الله تعالى: ﴿وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ .  [87،يوسف].
وهكذا شأن المسلمين فى كل بلاد الله قد احترموا الحياة فى كل كائن حى وخاصة فى الانسان، فإذا أرادوا أن يذبحوا داجنة أو بهيمة فإنهم يذبحونها باسم الله وبإذنه وبالصورة التى شرعها الله عز وجل. قال النبى صلى الله عليه وسلم:{فليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته}[47].
والقتل إنما يكون للحشرات المؤذية والوحوش الضارية والحيوانات القارضة كالجرذان وما شاكلها من الحيوانات، والطيور الجارحة كالحدأة والصقر والغراب، فإذا قتلها الانسان يسرع فى الإجهاز عليها ولا يقتلها على مرات ولا يعذبها، بالقتل وقد مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل يشحذ سكينه أمام شاه ليذبحها فقال له رسول الله: {أتميتها موتات آفلا يحد أحدكم شفرته بعيدا عن ذبيحته ثم يأتى فيذبحها}[48].
هذه رحمة الإسلام بالأحياء غير الإنسان، فكيف تكون رحمته بالإنسان الذي فضله الله على سائر المخلوقات؟ انها رحمة لا يمكن لا يمكن لأحد أن يدرك مداها إلا الله ورسوله ولذلك أمرنا الله أن نذكره  بأسماءه الرحمن الرحيم فى كل عمل، وفى كل قول، وفى كل حركة من حركات الحياة حتى تشملنا رحمته سبحانه وتعالى، وحتى نتذكر الرحمة فى كل موقف وفى كل مشهد، وتكون الرحمة ديننا فى كل أمورنا ومنهجنا فى جميع حياتنا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {الراحمون يرحمهم الرحمن}[49].

جعلنا الله منهم آمين.
ولتسمع الدنيا بهذه القيم الرفيعة التى شرعها الاسلام للناس جميعا، فإن كل البشرية فى أمس الحاجة الى الأخذ بها، لأنها أمثل الأساليب للحياة الفاضلة والمجتمعات المتحضرة الراقية، حيث أن الرحمة تسود فيما بينهم حتى تعم جميع الكائنات الحية من حولهم.
ولقد انتشرت هذه الرحمة فى المجتمع الاسلامى الأول حتى وصل بهم الأمر الى أن الذئب كان يعيش مع الأغنام كأنه كلبها الذى يحرسها، سبحان الله!! ذلك لأن الرحمة لما غمرت المسلمين أحس بها كل كائن فى حياتهم، فتراحمت هذه الكائنات وكفت شرها عن الناس وعن مواشيهم، قال الله تعالى: ﴿إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا . [70،الأنفال]. وقال الله تعالى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.  [156-157، الأعراف]. صدق الله العظيم، فقد كتب الله الرحمة لهؤلاء القوم، أى فرضها لهم وجعلها حقا لهم دون العالمين، فضل منه وإحسان، وهو سبحانه الذى أوجب على نفسه منحهم هذه الرحمة، وكانوا أحق بها وأهلها. ولقد أفاضوا من هذه الرحمة على الناس والدواب وكل المخلوقات التى تعيش معهم وتدور فى فلكهم، فلله درهم، صاروا أمثلة عالية للناس كالأقمار والكواكب تهدى السائرين فى ظلمات الليل البهيم، فهم سرج الدنيا ومصابيح الآخرة.



حق الشـيخوخة
الإنسان إذا تجاوز الستين من عمره بدأ الضعف يدب فى جميع أعضاءه، وابتدأت تثقل حركته، وتظهر عليه أمراض الكبر، قال الله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ. [54، الروم]. فتلك هي سنة الحياة كلها ولكن مظاهرها فى الانسان أكثر، فترى الشيب وقد كسا رأسه ولحيته وعارضيه، وترى الوهن فى العظام، وترى التجاعيد قد ظهرت فى الوجه وغيرها من الأعراض التى تستجد على الانسان فى الشيخوخة، ولذلك يقف الاسلام بجانبه ويحمى ضعفه وكبره من قسوة الزمان، فيفرض له عطاءا يكفيه ليعيش منه، ويفتح له المؤسسات التى ترعاه، ويفسح له صدره فى كل المجالات حتى يقضى الله أمرا كان مفعولا وتنتهى حياته على خير ما يحبه الله ويرضاه.
ولم يكتف الاسلام بتقدير هذه الحقوق لمن بلغ سن الشيخوخة من المسلمين بل قررها كذلك لبقية المواطنين من اليهود والمسيحيين وغيرهم، فقد مر سيدنا عمر ابن الخطاب رضى الله عنه على رجل يهودى قد طعن فى السن ويسأل الناس الصدقة فقال له عمر رضى الله عنه : لم تسأل الناس أيها الرجل؟ قال : يا أمير المؤمنين أسأل الناس المساعدة على دفع الجزية فقد عجزت عن دفعها لبيت المال بعد ما كبرت، فقال أمير المؤمنين: والله ما أنصفناه أكلناه صغيرا وتركناه كبيرا، ثم أعفاه من الجزية وفرض له فى بيت المال عطاء يكفيه ويسد حاجته وأمر مناديا ينادى فى الناس بأن من بلغ سن الشيخوخة من أهل الذمة فقد أعفى من دفع الجزية.
وهكذا كانت عدالة الاسلام ورحمته بالناس المسلم وغير المسلم على السواء مما جعل الناس يدخلون فيه أفواجا وأمما، إذ عانا منهم للحق وإقرارا منهم بأنه خير دين جاء به خير نبى للبشرية جمعاء.
وأن دولتنا والحمد لله قد رسخت هذا المبدأ الاسلامى العظيم بل عممته على الموظفين وغير الموظفين حتى تحفظ ماء وجوه أبنائها الذين بلغوا سن التقاعد عن العمل، وأننا نرجو المزيد من مضاعفة هذا العمل المشكور حتى يأمن الناس فى هذا السن عثرات الأيام، فإن الشيوخ والعجزة أولى بأن ترعاهم الدولة حق الرعاية فقد أنفقوا زهرة عمرهم فى خدمة الوطن سواء كانوا داخل النظام الوظيفى أو خارجه، فإنهم جميعا أسهموا فى عمارة الحياة فى ربوع البلاد وأدوا الذى عليهم من المجهود والجهاد. وانه يجب المزيد من دور رعاية المسنين حتى تعم جوانب البلاد اعترافا بقدرهم ورحمة بهم، وأنه لا بأس من مزاولتهم بعض الأعمال اليسيرة التى يشغلوا بها وقتهم، بحيث تناسب رغبة كل واحد منهم لتستمر أعضاءهم متماسكة فى هذه الحركة الخفيفة التى تساعد على نشاطهم والاعتماد على أنفسهم فى قضاء ضرورياتهم من الأكل والشرب واللبس ودخول الحمام وغير ذلك من الضروريات التى لابد فيها الحركة.
وقد حث الاسلام أهل القدرة واليسار على مساعدة هؤلاء المسنين كل بقدر استطاعته، وقد جاء رجل الى ابن عباس رضى الله عنهما وقال له: يا صاحب رسول الله ان لى أما بلغت من العمر كذا وكذا وأنا أطعمها وأسقيها وأحملها لقضاء حاجتها وقد حملتها على عاتقي حتى أدت فريضة الحج، أفلا أكون قد وفيتها حقا؟ قال: لا، انك تفعل ما تفعل وتتمنى لها الموت وهى كانت تفعل معك أكثر من ذلك وتتمنى لك الحياة وطول العمر.
وان تكريم المسنين هو تكريم لنا فى الحقيقة، لأن الفلك دوار وسيأتى اليوم الذى نبلغ فيه هذا السن وننتظر فيها لرد هذا الدين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، اعمل ما شئت فكما تدين تدان}[50]. وقال صلى الله عليه وسلم: {بروا آباءكم تبركم أبناءكم}[51].
حق الميـت
قد أوجب الاسلام للميت أربعة أشياء: غسله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه. وهذه الأمور الأربعة حق له فى رقاب أهله وأقاربه، فإن كان فى غربة لا أهل له فيها وجب على المسلمين الذين معه من الجيران وغيرهم ممن علم بموته القيام له بهذه الحقوق.
أولا:- غسله:
الميت فى ساعاته الأخيرة قبل خروج روحه تعتريه أحوال وأهوال عظام تفقده الوعى، فلا يحس بما يحصل منه ولا يدرى أحد بذلك، فأوجب الاسلام غسله من أجل هذه الأمور حتى نصلى عليه وهو طاهر ونحن متأكدون من طهارته. وأن الرجل يقوم على غسله الرجال، والمرأة يقوم على غسلها النساء فإن لم يوجد من النساء أحد يقوم بغسلها محارمها من الرجال. وأن ماء الغسل يشترط فيه أن يكون ماء طاهرا مطلقا فلا يجوز أن نضيف اليه شئ من العطور ونحوها، أما بعد الغسل فإنه يجوز تعطير الميت، فإن ذلك من السنة كالرجل الذى يتطيب قبل توجهه الى المسجد.
ثانيا:- تكفينه:
وهو لف الميت وستر جميع جسمه فى ثلاث أثواب طاهرة، ويستحب أن تكون بيضاء، ولا يجوز التغالي في الكفن كما يفعل بعض الناس فإن ذلك مكروه لأن الكفن المطلوب هو أن يستر جميع الميت الا إذا كان محرما فلا تستر رأسه كذلك المرأة المحرمة لا يستر وجهها، ولو كان الكفن من الثياب القديمة يكون أفضل، لأن القبر سيبليها، وأن الاسلام يوصى بترك الثياب الجديدة للأحياء ينتفعون بها.
ثالثا:- الصلاة:
 والصلاة على الميت شفاعة له بين يدى الله عز وجل فى آخر عهده بالدنيا قد أوجبها الله على الأحياء تكريما للميت وتوديعا له بأعظم الأعمال وأجلها عند الله وهي الصلاة عليه، وان من رحمة الله وفضله أن لا يرد شفاعة هؤلاء الشافعين لأن الله حيي كريم يستحي أن يرد هؤلاء الضارعين السائلين وهم وقوف بين يديه، وأن الصلاة على الميت تكتب له فى صحيفة أعماله، وهو لم يفعلها وذلك فضل الله عليه، وأن كان السبب فى إقامته، وكذلك يكتبها الله لكل من صلى على الميت ويعطيه ثوابها وأجرها لأنه أداها وفعلها.
وفضل الله كبير على المؤمنين لا يستطيع أحد أن يدركه أو يقدره. وأن أولى الناس بالصلاة على الميت أهله وأرحامه وأقاربه حتى يسامحوه فيما وقع منه لهم، إذا هم أقرب الناس اليه فى المعاملة والحقوق، ودائما كانت بينهم المناوشات والأخذ والرد لأنهم شركاء فى أمور كثيرة. فتكون الصلاة عليه منهم بمثابة اعتذار الى الله عز وجل عما وقع منه، وطلب العفو والغفران له فى هذه اللحظة المهيبة.
وكيفية الصلاة عليه تكون بأربع تكبيرات يقرأ الفاتحة بعد التكبيرة الأولى، ويصلى على النبى صلى الله عليه وسلم بعد التكبيرة الثانية، وأن يدعو للميت بما يفتح الله عليه بعد التكبيرة الثالثة، وأن يسلم بعد التكبيرة الرابعة، وأن يكون ذلك بعد نية الصلاة على هذا الميت، وأن تكون هذه الصلاة من وقوف فلا ركوع ولا سجود فيها.
رابعا:- دفنــه:
 وذلك بعد تشييع جنازته، وأن يدفن فى قبر من الطوب اللبن أن كانت الأرض جافة وان كانت رخوة أو سبخة فلا بأس أن يبنى القبر من الطوب الأحمر أو أى حجر آخر. ولا يجوز تزيين القبر وزخرفته كما لا يجوز تعلية القبر وجعل الأضرحة والشواهد الشاهقة فوقه، كل ذلك غير جائز فى دين الله لأنه ضياع الأموال فى غير منفعة تعود على الناس بالخير، وأن الميت لا ينتفع بشئ من ذلك لأنه أفضى الى ربه وأقبل عليه بإيمانه وعمله الصالح أو بكفرانه وعمله الطالح، وأن كليهما سيعيش فى البرزخ إما في نعيم مقيم وإما فى عذاب أليم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:{أربع لأربع اللحم للدود، والعظم للبلى، والمال للورثة، والروح لخالقها، إما فى نعيم مقيم وإما فى عذاب أليم}[52].
   وإنه يجب على  أقارب الميت وعلى إخوانه وعلى أصدقاءه أن يذكروه دائما بأعماله الصالحة والدعاء له، والترحم عليه والترضي عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:{أذكروا محاسن موتاكم}[53].
كما يسن لهم زيارته فى قبره بين الحين والآخر وقراءة القرآن له فإن الله ينفعه ويرحمه بها، قال الله تعالى: ﴿وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. [64، النحل].
والرحمة التي في القرآن تكون للأحياء والأموات على حد سواء، فليس لأحد حجة يحتج بها بعد القرآن المجيد. وأن الناس الذين يمنعون قراءة القرآن للموتى سيحرمون غدا من رحمة القرآن التى جعلها الله فيه للمؤمنين وسيندمون فى وقت لا ينفع فيه الندم ولا يفيد، لأنهم فوتوا على أنفسهم بحكمهم على القرآن بالباطل، وقيدوا القرآن حسب أهوائهم وتجاهلوا نصوص القرآن ذاته فى هذه الناحية، ولم يعتبروا بها مع أنهم يصلون على الميت بالفاتحة وهى أم القرآن، فكيف يفرقون بين الصلاة عليه بالقرآن وبين قراءة القرآن عليه بعد دفنه.
ان العجب كل العجب من اناس لا يفقهون ما يقولون ولا يفعلون، وأخذوا يجادلون بالباطل حول هذه المسألة، وأن القرآن الكريم يقول أيضا ويرد عليهم: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا.   [82، الإسراء].
ولو أمعنوا النظر فى هذه الآية الشريفة لوجدوا القرآن نفسه يرحم المؤمن بما يتنزل منه أثناء تلاوته، فسبحان الله الذى جعل لكلامه هذه الطاقات والقدرات والأفعال العجيبة فى الأحياء والأموات، لأن الله عز وجل لما قال فى الآية الأولى ﴿لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. وفى الآية الثانية ﴿لِّلْمُؤْمِنِينَ. لم يقل الله للمؤمنين الأحياء فقط أو الأموات فقط، وإنما أطلق الله العبارة فى كل من الآيتين من أى قيد حتى يسعد المسلمون بفضل الله الذى جعله لهم فى القرآن، ويتهنون برحمة الله التى خصم بها القرآن .
 وأننا والحمد لله قد فرحنا بهذه المكرمات الربانية التى جاءت فى هاتين الآيتين الشريفتين وفى غيرهما من الآيات، فرحا أعظم من فرحنا بالمال والعيال والجاه والصحة والعافية، عملا بقول الله عز وجل : ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ. [58، يونس]. قال الله جل شأنه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ. [57، يونس]
صدق الله العظيم وبلغ رسوله الكريم وهذا تنزيل من رب العالمين، ربنا آمنا بما أنزلت وابتعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين، آمين آمين آمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وعلى ورثته والتابعين لهم بإحسان الى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.
خاتمــة
قد تم بحمد الله وفضله هذا البحث المتواضع الذى يشتمل على حقوق الإنسان في الإسلام، وهو نبذة يسيرة فى هذا البحر الخضم، إذ أن حقوق الانسان الكاملة مرسومة فى بطون الكتب التى تركها لنا العلماء المحققون مستقاة من كتاب الله عزَّ وجلَّ فهو المعين الذى لا ينضب من هذه المعانى التى أنزلها الله عز وجل فى صفحاته المباركة، ومستفادة من هدى النبى الكريم صلى الله عليه وسلم.
وقد وفقنى الله تبارك وتعالى لأن أرشف رشفة من هذه المحيطات المتدفقة بهذه الخيرات الهاطلة وأننى أرجو الله عزَّ وجلّ: أن أكون قد أصبت الحقيقة والصواب فيما كتبت، كما أرجو الله أن يجعل من هذا البحث الصغير مادة ينتفع بها اخوتى المسلمين، وقد تحريت الرشد قدر طاقتى ولم أدخر وسعا فى ذلك والله نعم المولى ونعم المستعان ولا حول ولا قوة الا بالله العى العظيم، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد الفاتح لما أغلق والخاتم لما سبق والناصر الحق بالحى والهادى الى صراط مستقيم وعلى آله وعلى أصحابه وعلى من اتبعهم بإحسان الى يوم الدين وسلام على جميع الأنبياء والمرسلين وآلهم والحمد لله رب العالمين.





المراجع
1.    القرآن الكريم.
2.    الأحاديث النبوية الشريفة.
3.    كتاب توجيهات في بناء الأسرة للشيخ / محمد على سلامة.
4.    كتاب الجامع الكبير للعلامة السيوطي.
5.    كتاب حقوق الإنسان في الإسلام للدكتور/ علي عبد الواحد وافي.
6.    كتاب الإسلام وطن للإمام المجدد / محمد ماضي أبو العزائم.
7.    كتاب مصابيح على طريق الإيمان للشيخ / محمد علي سلامة.
8.    كتاب شعب الإيمان للشيخ / محمد على سلامة.
9.    كتاب بشائر الأخيار في مولد المختار للإمام المجدد / محمد ماضي أبو العزائم.
   



[1]
هذا الحديث مروى بالمعنى. [2]
[3]  رواه أحمد والبخارى ومسلم والترمذى عن ابن عمر.
 رواه أحمد ومسلم وأبو داود وغيرهم عن ابن عمر.[4]
 رواه الطبرانى عن أبى سبرة الجعفر. [5]
  رواه الطبرانى وأحمد وغيرهم عن جرير وهو حديث مشهور.[6]
هذا الحديث مروى بالمعنى.  [7]
رواه الطبرانى وأحمد وغيرهما عن أنس. [8]
رواه البخارى ومسلم عن عمر ابن أبى سلمة [9]
  هذا الحديث مروى بالمعنى [10]
هذا الحديث مروى بالمعنى.[11]
رواه الحاكم والبيهقى عن عائشة [12]
هذا الحديث مروى بالمعنى.[13]
رواه ابن ماجة وغيره عن أنس .[14]
البخاري عن أبى هريرة .[15]
رواه أحمد ومسلم وابن ماجة عن أبى هريرة.
[16]
رواه أحمد والبخارى ومسلم وغيرهم عن أنس.
[17]
هذا الحديث مروى بالمعنى البخارى ومسلم وغيرهم عن أنس.[18]
رواه البخارى ومسلم وغيرهما عن النعمان ابن بشير. [20]
رواه البخارى عن أبى هريرة  
[21]
 رواه الحاكم وابن عبد البر وغيرهما عن أنس
[22]
رواه البيهقى وابن عبد البر عن أنس .[23]
رواه أحمد عن عائشة.[24]
رواه ابن بلال عن سهل ابن سعد . [25]
  هذا الحديث قد روى بالمعنى.[26]
هذا الحديث مروى بالمعنى.[27]
رواه الطبرانى عن أبى عادية.[28]
رواه ابن أبى شيبة والبيهقى عن البراء. [29]
متفق عليه عن المعرور ابن سويد .[30]
رواه ابن ماجة عن ابن عباس والخطيب عن أبى هريرة.[31]
رواه أحمد ومسلم عن عائشة. [33]
رواه مسلم وأبو داود والترمذى وغيرهم من حديث أبى هريرة .[34]
رواه مسلم وأبو داود والترمذى وغيرهم من حديث أبى هريرة.[35]
روى الطبرانى والحاكم عن ابن عمر.[36]
رواه ابن عدى وغيره عن أنس.[37]
رواه أحمد وأبو داود والنسائى عن عائشة.[38]
رواه أبو نعيم والنسائى وابن حبان عن أنس.[39]
روى أحمد عبد الرحمن ابن سنة.[40]
.
رواه أبو داود وابن ماجه والبيهقى عن ابن عباس [41]
رواه أبو داود فى السنن عن الحسن.[42]
روى ابن حبان عن أسامة ابن شريك [43]
رواه أبو داود والبيهقى عن ابن عمر [44]
[45] رواه ابن حبان عن أسامة ابن شريك.
[46] رواه أبو نعيم والنسائى وابن حبان والضيا المقدسى عن أنس.     
               رواه مسلم وأحمد وغيرهما عن شداد ابن أوس.[47]
 هذا الحديث قد روى بالمعنى.[48]
رواه أبو داود والبيهقى عن ابن عمر[49]
رواه عبد الرازق وأحمد عن أبى قلابة.[50]
رواه الطبرانى فى الأوسط عن ابن عمر.[51]
هذا الحديث قد روى بالمعنى.[52]
   رواه أبو داود والترمذى والحاكم والبيهقى عن البن عمر.
[53]
التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:




شارك فى نشر الخير