عدد المشاهدات:
( 4 ) قوله رضي الله عنه:
(وبذله عند نواله فرحاً بمفارقته، مسروراً بما استعاضه عنه )
وفي هذه الفقرة، يبين الإمام أبو العزائم رضي الله عنه، أن العبد الواصل إلى بغيته ومقصوده من محبة الله ورضوانه عزَّ وجلَّ، إذا نال شيئاً من متع هذه الحياة الدنيا ولذاتها وشهواتها، بل وطيباتها ومسراتها، وزخرفتها وزينتها، مما هو مباح شرعاً ولا إثم في نواله والحصول عليه،من مأكل شهى، ومشرب هني، وفراش ناعم وطي، قام هذا العبد الموصول بالله عزَّ وجلَّ، فبذل كل ذلك وتركه من أجل الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، برضي وسرور وانشراح صدر وطيب خاطر، وآثر به أخوانه ممن يحتاجون إليه، فرحا ًبمفارقته هذه الأشياء، سعيداً ببذلها، لأنه قد تخفف منها ومن الشغل بها، ليجد ويجتهد في الوصول إلى مقامات الرضى عن الله عزَّ وجلَّ فإن فيها خير العوض وخير الجزاء، وإن فيها كذلك جمالات وصله ونعيم أنسه، ومسرات قلبه وسعادة روحه.
بل قد يبذل ما هو أكبر من ذلك وأعظم، فيتنازل عن ضرورياته وحاجاته الملحة، مما لا بد للجسم منه، من راحة ونوم وأكل وشرب، ولباس ومال وجاه ومنزلة، وغير ذلك من ضروريات الحياة البشرية، كل ذلك عن رضى واطمئنان وكرم نفس وطهارة وجدان.
بل قد يبلغ مقاماً أرفع من ذلك، فيزهد في هذه الأشياء. والزهد في الحقيقة هو كراهية الشيء المزهود فيه، والنفور منه، لأن هذا الشيء صار غير ملائم ولا مناسب لوضعه ورتبته ومقامه. كل هذا من نتائج المجاهدة الحقة في ذات الله.
وقد ورد في الحكمة (المجاهدة للمشاهدة). والمشاهدة معناها، مشاهدة الغيب العلي، ورؤية معاني أسماء الله وصفاته، ونور الله وبهائه، قد أشرق في النفس وفي الآفاق وفي الأنحاء والأرجاء. قال الإمام أبو العزائم رضي الله عنه:
يا قلب وجه المنعم الوهاب قد لاح فاشهده بغير حجاب
ومن أعطى الكل لله، أخذ من الله كل ما يتمناه، ومن بخل بشيء على مولاه حرم من فضله ورضاه، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
وكيف يبخل عبد مملوك لله، بشيء من إنعام سيده عليه ؟ إن هذا لشيء عجاب، إذ الفضل والبر، والخير والمعروف، والإحسان كله من الله سبحانه واصل منه جل جلاله إلى عبده الذي خلقه من العدم وسواه.
قال الأمام أبو العزائم:
فالواصلون رأوا جمالا ظاهرا قد أخرج النساك من ظل الظلام
دارت عليهم خمرة الحب التي قد ووجهوا فيها بوهاب سـلام
اللهم نعمنا بوصلك، وقربنا بفضلك، وأشهدنا جمال وجهك، يا على يا عظيم أغفر الذنب العظيم، فإنه لا يغفر الذنب العظيم إلا العظيم. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى الله وصحبه وسلم.
وبعد بذل المرغوب فيه، والملائم للنفس، يتفضل الله فيعوض العبد عوضاً لا حد ولا عد، ويمنحه نوراً في نفسه وفي جميع قواه الحسية والروحية، يرى به الغيب العلى، من كمالات الله وجمالاته، وبهائه وجلاله وتنزلاته، ويرى وجه ربه عزَّ وجلَّ في كل شيء، وهذه المشاهد فوق كل ما يتصوره العبد الواصل من النعيم المقيم، قالت السيدة رابعة:
ولقد جعلتك في الفؤاد محدثي وأبحت جسمي من أراد جلوس
فالجسم منى للجليس مؤانس وحبيب قلبي في الفؤاد أنيس
وقال أبو العزائم:
فالروح في أنس بوجه حبيبها والجسم في طرب وفي إسعاد
وقالت السيدة رابعة رضي الله عنها:
فيا مدعى حبنا دع الروح ثم انطـرح
ووحد جمال الحبيب وقل للعزول استرح
فضيلة الشيخ محمد على سلامة