عدد المشاهدات:
قد
قدر الله تعالى أن يكون جيلنا هذا في آخر الزمن ليكرمنا الله بما أكرم به الأولين
السابقين إلى الإسلام، فقد كانوا يتسابقون إلى نور الإيمان في وقت كان المجتمع فيه
من حولهم في جاهلية عمياء، وضلالة حمقاء، لا علم فيها ينفع، ولا صناعة لها تذكر،
ولا أخلاق عنده تحمد، ولا دين يهديهم إلى سواء السبيل وكذلك جاء المؤمنون في هذا
الزمن يتسابقون إلى نور الإيمان، والمجتمع الكافر والمترف من حولهم في جاهلية
مادية كثيفة، مظلمة وقاتمة، عبر الله عنها بقوله: ﴿وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا
الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى﴾[1] والطاغوت هو طغيان المادة البشع، من الشهوات
الفاجرة والأعمال الفاسدة، والزينة والزخرف والعلوم المادية التي اخترعوا بها ما
يشبه المعجزات من آلات الدمار والهلاك، ولتلك الأمور طغيان أكبر من طغيان الجاهلية
الأولى، فقد زادتهم تلك الصناعات والعلوم كفرًا وجحودًا وعنادًا لله ولرسوله
ولدينه ومحاربة للمسلمين وسفكًا لدمائهم واستيلاءً على بلادهم وأموالهم.
والمؤمنون
في هذا الجو المكفهر يجاهدون ويتسابقون، ليلحقوا بمن سبقهم من المؤمنين رضي الله
عنهم، سر قول الله عزَّ
وجلَّ: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ
أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ
وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ﴾[2] اللهم اجعلنا من هذا
القليل يارب العالمين، بل إن التسابق إلى الخيرات والأعمال الصالحة في وسط
الجاهلية الثانية هذه، أعظم أجرًا من التسابق أيام الجاهلية الأولى، لأن تلك
الجاهلية أشد عتوًا وعنفوانًا وإغراء وإضلالاً من الجاهلية الأولى.
وهذه
الظاهرة من أكبر الأدلة على قرب قيام الساعة قال تعالى: ﴿حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ
زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ
أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ
تَغْنَ بِالأَمْسِ﴾[3] فإنه يجوز أن تكون
كلمة الأرض في هذه الآية الشريفة قد أراد الله بها أرض الأمم والدول التي بلغت
شأوًا بعيدًا في الصناعات والاختراعات والعلوم الكونية مثل دول الغرب والشرق
الكافرين، الذين تبجحوا في هذه الأيام بزخارفهم وصناعتهم وعمارتهم، وتمكنهم من قهر
الطبيعة في بلادهم، واستيلائهم على مقدرات الحياة فيها، وظنهم أنهم وصلوا إلى
منتهى القوة التي لم تقدر أي قوة على قهرها، ونسوا الله سبحانه وتعالى وتجاهلوا قوته
وقدرته عليهم، وكفروا بلقاء الله وجحدوا بيوم الحساب.
ومن هذا المنطلق قاموا يفسدون في الأرض، ويستعبدون
الشعوب، ويتحكمون في مصائرهم، وأنه قد حصل فعلاً زخرفة أرضهم بما وصلوا إليه من
علم وتكنولوجيا، حتى صارت أرضهم كالجنات الفيحاء والرياض الغناء في وسط هذه
الدنيا، وحيث أنهم يجاهرون بقدرتهم، ويتطاولون
بقوتهم ويتحكمون بها في رقاب الناس، وغفلوا عن ذي القدرة والجلال سبحانه
وتعالى، فإن قوتهم هذه على وشك الانهيار والخراب، وبلادهم في طريق الهلاك والدمار
بما صنعوا في عباد الله من ظلم وطغيان، وتطاول على قدرة ذي الجلال والإكرام.
وعلى ذلك تكون هذه الآية خاصة بأصحاب هذه البلاد الكافرة
ومن على شاكلتهم، دون بقية العالم، وخاصة المسلمين فإنهم لا يتطاولون على قدرة
الله، ولا يظنون أنهم قادرون على كل شيء في أرضهم وديارهم لأن المسلمين حتى وإن
بلغوا شأنًا كبيرًا في الحضارة والرقي والتقدم والازدهار وعمروا الأرض، وزخرفوها،
وزينوا البلاد، وجملوها إلا أنهم لا يعتقدون أنهم قادرون عليها، ولا يتطاولون بذلك
على عباد الله، ولا يفسدون في الأرض بعد إصلاحها، بل إنهم يؤمنون بأن الله على كل
شيء قدير، وإن الذي أجراه الله على أيديهم من هذه الصناعات والعمارات والتقدم
والازدهار إنما هو بفضل الله وتوفيقه، ومعونة الله وتأييده، فالآية إذن خاصة بدول
الكفر والجحود ودول الاستعمار والفساد، وإننا نرى أن ما أعدوه من الآلات الجهنمية
والقنابل الذرية والغازات السامة إنما هو نذير إهلاكهم، وآلات إبادتهم وخرابهم
بسبب ظلمهم وعدوانهم: ﴿وَمَا
ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾[4]
وإن الله سينجي المؤمنين بقدرته وحكمته من هذا العذاب
الأليم، الذي تسعره وتوقده هذه الدول الكافرة لإهلاكهم قبل إهلاك غيرهم ولكنهم لا
يعلمون.
هذا وإن في قوله تعالى: ﴿ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ
نَهَارًا﴾
إشارة إلى هذا التوجيه الذي ذهبنا إليه لأن كلمة ﴿ أَوْ﴾ في هذه الآية
الشريفة تقتضي العطف بدون ترتيب المعطوف على المعطوف عليه، وإنما تفيد كلمة ﴿ أَوْ﴾ هنا معنى الجمع لأن
الليل والنهار حاصلان فعلاً في وقت واحد، وكل منهما جهة من الأرض، وإنَّ أَمْرَ
الله بإهلاك هذه الأرض ومن عليها سيأتيهم في لحظة ما وستكون هذه اللحظة نهارًا في
جهة من الأرض، وليلاً في الجهة الأخرى منها.
وقد قال الإمام أبو العزائم رضي الله عنه مشيرًا إلى هذا
المعنى في تنبؤاته بأحداث المستقبل:
وفي قلب أوربا يثور
شعوبها ويصطدم الجمعان من تغير تعيين
والجمعان هما معسكر الغرب وحلفاؤه، ومعسكر الشرق
وأحلافه، وسيضرب بعضهم بعضًا في ساعة لا تستطيع مخابرات كل منهما تحديدها. أي أن
دول الكفر والظلم يصدمون مع بعضهم في وقت واحد، لا يعرفه أحد منهم، حتى يهلكون
جميعًا في آن واحد وهذا معنى قوله تعالى: ﴿فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن
لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ﴾
وذلك تقدير العزيز العليم.
ومن ذلك يتضح أن هذه الأحداث ستقع قبل يوم القيامة، لأن
يوم القيامة ليس فيه ليل، وليس فيه نهار، لأن حركة الفلك قد انعدمت فيه، وإن هذه
الأحداث الكبرى ستكون علامة من علامات اقتراب الساعة، لأنها حقيقة الهرج والمرج
الذي يجتاح العالم حينئذ وهو الذي أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: {وتظهر الفتن ويكثر الهرج قِيل أَيُما الهرج قال القتل القتل}[5].
وقد كتب الله النجاة للمؤمنين، ليعيدوا عمارة الأرض من
جديد على مبادئ الإيمان والإسلام: ﴿وَاللّهُ
غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾[6] وقد وعد الله بذلك
في قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ
حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ﴾[7] وصلى الله على سيدنا
محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
هذا وإن الناس ينظرون إلى الإسلام اليوم على أنه الملجأ
الوحيد الذي يجدون فيه المخرج مما ألم بهم من الأهوال والشدائد. وذلك لأنهم يئسوا
من الأوضاع الراهنة التي لم تزد الأمور إلا تعقيدًا وحرجًا.
وقد قال بعض المفكرين الكبار من دول الغرب المسيحي لو أن
محمدًا موجود الآن لحل مشاكل هذا العالم في مدة لا تتجاوز شُرْبُهُ لفنجالِ من
القهوة، فأخذوا فعلاً يتجهون للإسلام، ويفكرون فيه جيدًا، فإنهم يعلمون أن محمدًا
قائمًا في المسلمين بتعاليمه وآدابه وهديه الكريم، فلم يتغير منه شيء عما كان عليه
يوم أن كان يعيش بين أظهرهم، وإننا نرى اليوم كثيرًا من الناس يعتنقون الإسلام
ويدخلون فيه اقتناعًا منهم بأن فيه الخلاص والصلاح والإصلاح وسيتحقق قول سيدنا
رسول الله صلى
الله عليه وسلم:{إذا كان آخر الزمان أهلك
الله جميع الملل والنِّحل فلم يبق إلا الإسلام}. وقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ
بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى
بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾.