آخر الأخبار
موضوعات

الثلاثاء، 16 أغسطس 2016

- كتاب دروس فى قصص

عدد المشاهدات:
الحمد الله من دَلَعَ لسان الصباح ينطق تَبَلُّجه, وسرَّح قطع الليل المظلم بغياهب تلجلُجه, وأتقن صنع الفلك الدوار في مقادير تبرجه, وشعشع ضياء الشمس بنور تأججه يامن دل على ذاته بذاته, وتنزه عن مجانسة مخلوقاته, وجل عن ملاءمة كيفياته .

والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله البهي, السراج المضيء, الكوكب الدري, العبد المؤيد, الرسول المُسَدَّد, المصطفى الأمجد, المحمود الأحمد . وعلى آله الناصرين المعنيين أولياء الدين, المخلصين الأصفياء, المطلوبين لكل طالب, أصحاب المفاخر والمناقب, أئمة المشارق والمغارب, الذين حبهم فرض على الحاضر والغائب, وعلى صحابته الهادين المهديين ورضي الله تبارك وتعالى عن الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبي العزائم حجة الله على خلقه, الوجيه عند الله, علم الهدى, الرفيع ذي الحسب المنيع, العالم بالفرائض والسنن, صاحب الجود والمنن. ونضر الله وجه خليفته الإمام الممتحن السيد أحمد ماضي أبي العزائم السيد الزاهد, الإمام العابد الراكع الساجد, زين المنابر والمساجد, آمين آمين يارب العالمين.

وبعد فتقدم دار الكتاب الصوفي – أحد أوجه نشاط الطريقة العزمية الطبعة الأولى من كتاب  " دروس في قصص " للإمام المجدد السيد محمد ماضي أبي العزائمuوهو يحوي أثني عشر قصة قصيرة يقصها علينا الإمام المجدد  uلنتعظ ونعتبر .

تاريخ القصة قبل الإسلام:

يرى الكثير من الباحثين والنقاد أن الشرق العربي هو مهد القصة, فمصر القديمة في نظرهم تعد المنبع الأول للقصة, فبينما كان هذا الفن الأدبي مهملاً في المجتمعات الأوربية والأجنبية, كانت الشعوب المصرية والسامية في عهد ما قبل التاريخ تتميز بوفرة الإنتاج القصصي .

ومما يؤيد ذلك الرأي قصة " إيزيس وأزوريس "  التي تجسد الصراع بين الخير والشر وهي من الأساطير الفرعونية القديمة التي تجاوزت الآفاق وعرفها العالم .

فكان لقدامى المصريين قصب السبق في تجسيد تلك المعاني في أعمالهم الأدبية . كذلك عرف البابليون والآشوريون القصة حيث نقل عنهم بعض الأساطير مثل " برج بابل " .

أما العرب قبل الإسلام فقد كان لهم فنونهم القصصية النابعة من بيئتهم, والمصورة لحياتهم ومغامراتهم وبطولاتهم مثل " سيرة عنترة " التي تعد من أهم السير العربية وأشهرها .

القصة في العصر الإسلامي:

ثم حاول الإسلام الذي أتى بالقرآن الكريم, وكان قصصه دعامة للإقناع والدعاية  وقص علينا أحسن القصص . والحقيقة أنه قصص رائع, أتقنت أحداثه وحبكته . ويشير المولي سبحانه وتعالى إلى ذلك في سورة يوسف بقوله تعالى : ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾(1) .

ولقد ذكر القرآن الكريم العديد من القصص مثل : قصة سيدنا يوسف, وأهل الكهف ، وسيدنا سليمان, وسيدنا موسى, وملكة سبأ, وغيرها من القصص ويرى الباحثون المتخصصين أن القرآن الكريم قد جمع المذاهب المختلفة في الفن القصصي, والتي يتشدق بها نقاد الغرب, ويزعمون أنها تجارتهم التي صدروها إلى الأمم الأخرى, وأخذها عنهم الأدباء في العالم العربي.

فللقصص القرآني قصب السبق في تحديد معالم الكثير من المذاهب الأدبية.

ففي القصص القرآني نلمس خصائص وسمات المدارس الكلاسيكية  والرومانسية والواقعية والرمزية.

فالقصص القرآني يتسم بفطامية الشخصيات, فأبطاله من الأنبياء والرسل والملوك, وهذه سمة المدرسة الكلاسيكية, والقصص القرآني يتميز بتطور الشخصية ونموها, وهذه خاصية من خصائص المدرسة الرومانسية .. والقصص القرآني يجمع بين أحداثه لونين من المستوى في, المعنى, ونعني بهما عالم الواقع الملموس, ومستوى عالم ما وراء الواقع وازدواجية المعني من سمات المدرسة الرمزية والقصص القرآني يهدف بالدرجة الأولى إلى الحياة الكريمة للشعوب, وهذه خاصية من خصائص المدرسة الواقعية .

أمام في العصر الأموي فقد اشتهرت بعض القصص مثل روايات كتاب ألأغاني للأصفهاني .. وكذلك تفجرت ينابيع أخرى في العصر العباسي بعضها مترجم مثل " قصة كليلة ودمنه " التي ترجمها " ابن المقفع " عن اللغة البهلوية .

وفي ميدان التأليف, كتب الجاحظ " البخلاء " بأسلوب يجمع بعض خصائص القصة, ومن أهمها خاصية الحكاية .. وكذلك اشتهرت قصص "ألف ليلة وليلة " التي تمثل سفراً عظيماً جمع العديد من فنون القصص.

فن القصة في العصر الحديث :

قال بعض الباحثين : بأن فن القصة في العالم العربي في العصر الحديث فن مستحدث, نقلته إلينا الترجمة والاتصال بالآداب الغربية, ويدللون على ذلك بأن معظم من كتبوا القصة العربية في العصر الحديث كانوا متأثرين أو ناقلين مقتبسين للقصة الغربية . ورد عليهم باحثون آخرون ببيان أثر الأدب العربي وخاصة أدب القصة على الآداب الغربية, وعقد بعض الباحثين دراسة مقارنة لبعض الأعمال القصصية العربية وتأثيرها في الآداب الأوربية مثل ألف ليلة وليلة والمقامات, وقصة حي بن يقظان وغيرها .

ميلاد القصة القصيرة ونشأتها :

قرر بعض الدارسين على سبيل الجزم أن القصة القصيرة بصورتها الفنية في الأدب الحديث, قد أخذت عن أدب الغرب, ولم تنحدر من التراث أو تتطور عن فن عربي مشابه . والذي دعاهم إلى ذلك الرأي هو أن كتاب القصة القصيرة في عالمنا العربي كانوا من ذوي الثقافة الأدبية الأوربية وكان أوائلهم بصفة خاصة  على صلة قوية بالأدب القصصي الفرنسي   أمثال  :  " محمد تيمور – عيسي عبيد – شحاتة عبيد – محمود تيمور .... الخ " حيث استلهم هؤلاء أدب القصاص الفرنسيين أمثال :

" موبا سان – بلزاك – زولا " وها هو محمود تيمور يعبر عن شغفه وفتنته بالقصاص الفرنسي "موباسان " فيقول : ما كدت أقرأ له حتى فتنت به, وما زلت محتفظاً لموبا سان بالمكان الأول في نفسي, فهو عندي زعيم الأقصوصة الأكبر ", حيث فتن به هو وشقيقه محمد تيمور اللذين اعتبرا أن مولد القصة القصيرة بصورتها الفنية كان على يديه حين أذاع قصته " في القطار " سنة 1917 م .

وإن كان لنا رأي آخر سنبينه بعد قليل

وذكر الباحثون أيضاً : أن هناك محاولات غير كاملة سبقت ذلك في مجال القصة القصيرة على يد كل من " عبد الله نديم – خليل مطران – منصور فهمي – المويلحي – المنفلوطي ..الخ ".

خصائص القصة القصيرة:

تتميز القصة القصيرة عن الرواية بأنها تنحصر في موقف محدد, أو تصور لحظة معينة, ينفعل بها الكاتب, ويعبر عنها في حادث موحد . فالموقف هو الموضوع الغالب على القصة القصيرة, بينما رسم الشخصية هو الموضوع الغالب على الرواية, فحسب كاتب القصة القصيرة الناجحة أن يصور الفكرة الواحدة في قصته, لا مجموعة من الأفكار مهما يكن بينهما من ارتباط كما هو الشأن في القصة الطويلة, فالقصة القصيرة تفضل أقل عدد ممكن من الشخصيات خلافاً للرواية حيث يكثر الأشخاص . ونستطيع أن نجمل خصائص القصة القصيرة في كلمتين : الوحدة والتركيز, فالوحدة في الحادث والغرض والموقف . والتركيز يكون في كل شيء, وهو أهم مميز للقصة القصيرة .

الإمام المجدد أبو العزائم uعميد الأدب الإسلامي :

لقد أثبتت الرسائل العلمية من " ماجستير – دكتوراه" التي أخذت في أدب الإمام المجدد أبي العزائم  uذلك, وسوف تسهم الدراسات المتتالية في أدبه في تدعيم ذلك الرأي وتأكيده .

فالإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائمuله نظرياته الأدبية الجديدة, وله إسهاماته الشاملة في كل مجالات الأدب العربي الإسلامي, والتي سبق به جميع من عاصروه من الأدباء والمفكرين " من شعراء – قصاص – بلغاء – مسرحيين وغيرهم " .

وللإمام المجدد uرأي خاص وجديد في مفهوم الأدب والأديب يقول فيه : " لا أستطيع أن أقول أن ابني أديب أو مؤدب لمجرد أنه حفظ المنظوم والمنثور والبلاغة من كلام العرب, فالقرآن الكريم قد تحدى بلاغتهم فشهدوا بأنه مغدق, وأنه ليس بقول البشر . ولكن الأديب حقًا من تأدب بآداب القرآن وتخلق بأخلاقه, واقتدى برسوله﴿ rوآله﴾واهتدى بخلفائه, وزكى نفسه وطهر قلبه, وصدق رسول الله ﴿ rوآله﴾حين قال: أدبني ربي فأحسن تأديبي " هذا هو الأدب وهذا هو الأديب بحق .

ولقد سرت هذه النظرية في الأدب في كل أدب الإمام المجدد أبي العزائم "نثراً ونظماً " وفي كافة الفنون الأدبية التي قدمها " من مسرح - قصة – مواجيد – شعر صوفي " . والإمام المجدد سبق غيره في مجال المسرح والقصة والمواجيد النظمية ..

ففي مجال المسرح .. أملى الإمام المجدد uمسرحية محكمة الصلح الكبرى سنة 1919 م تلك المسرحية التي تناولتها رسالة دكتوراه  قدمت لجامعة الأزهر بعنوان " النثر الصوفي عند كتاب مصر المحدثين من 1900 – 1940 " فذكرت أن هذه المسرحية أعظم ما كتب في النثر الصوفي منذ كتبت اللغة العربية إلى الآن .

والإمام المجدد أبو العزائم رائد القصة القصيرة في عالمنا العربي الإسلامي بلا ريب وها هي مجموعة قصصه القصيرة التي نقدمها لك تشهد بذلك .. فلقد سبق الإمام المجدد الآخرين من كتاب القصة القصيرة زمنياً حيث بدأ في نشر هذه القصص بمجلة " السعادة الأبدية " التي كان يصدرها منذ عام " 1900 إلى 1915 م " . ولو أن الباحثين والدارسين بذلوا مزيدًا من البحث والدراسة, واطلعوا على قصص الإمام المجدد التي نشرت بمجلة " السعادة الأبدية " والتي نقدمها اليوم بين دفتي هذا الكتاب لشهدوا بذلك . فهو  uقد سبق زمنيًا كل من يسمى برواد أو كتاب القصة القصيرة الذين ذكرناهم آنفا.

ثم تميز الإمام المجدد أبو العزائم uبشيء هام, وهو عدم تأثيره بالنهج الغربي في القصة القصيرة, كما تأثر غيره . لأنه المجدد .. والمجدد يؤثر ولا يتأثر .. يغير ولا يتغير فهو المنوط به أن يجدد للأمة أمر دينها كما جاء بنص الحديث الشريف " وهو  uيؤكد ذلك المبدأ صراحة في كتابه " النور المبين لعلوم اليقين ونيل السعادتين" ص 126 فيقول : ( لقد رأيت أكثر أهل زماني هذا قد تركوا آداب الدين وفضائله وراء ظهورهم ، وعلوم العلماء المدونة في كتبهم هجروها ، والتفتوا إلى القشور التي وضعها الإفرنج مما نسخوه أو مسخوه من كتب سلفنا الصالح ، ورأيت إعجاب أهل زماني بآداب  بني الأصفر وشعرهم وعلومهم, ولو أنهم اطلعوا على علوم آبائهم وآداب أسلافهم وحكمة أجدادهم, والكنوز الخفية التي كنزها لنا إخواننا الذين سبقونا بالإيمان لميزوا بين الثرى والثريا وبين الحق والباطل .

فالإمام المجدد جامعة إسلامية شاملة وكاملة و وسطية وتجديدية وعالمية .. فدوره أن يستنبط من القرآن والسنة الدواء والعلاج المناسب لروح العصر .

وفي هذا الكتاب الذي نقدمه للقاريء المسلم, بل نقدمه للإنسان أينما كان, وهي مجموعة من القصص القصيرة التي تعالج الكثير من الأزمات  الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها بمنهج إسلامي راق, وبفكر وذوق أدبي رائع, جمع فيه كل المدارس الأدبية في هذا المجال, بل وسبق فيه .

وقد اتجه الإمام للأسلوب الرمزي للتعبير في عرض هذه المشكلات والأزمات وحلولها من خلال هذه المجموعة من القصص القصيرة .. والإمام المجدد يعتبر هذه القصص دروس عامة لضرب الأمثلة للحقيقة تلك الأمثلة التي كانت تنفذ إلى سويداء القلوب, ويحدب عليها الخيال فلا تغيب عن بال. مثل كانت له uفي قالب روائي لا تغيب عن الذهن, ولا يعقبها النسيان, ولا يتطرق إليها الوهن .

 لذلك قدمنا للقاريء تعليقًا على كل قصة قصيرة من هذا الكتاب نحاول فيه على قدر فهمنا لا على قدر كلام الإمام المجدد .. أن نكشف للقاريء بعض من معالجات الإمام المجددu لقضايا محلية أو عالمية " اجتماعية – اقتصادية – سياسية "  ونحن ندعو الباحثين والدارسين إلى مزيد من البحث والدراسة في فكر الإمام المجدد وأدبه الإسلامي .. الذي يعتبر بما قدمه في كل فنون الأدب كما ذكرنا عميدًا للأدب الإسلامي بلا جدال .. فرضي الله عن الإمام المجدد  uونسأل المولي العلي القدير أن ينفع الأمة بأدبه وفكره الإسلامي المستلهم من كتاب الله وهدي سيدنا رسول الله ﴿ rوآله﴾.



دار الكتاب الصوفي                                 الخليفة الثاني

في يوم الاثنين                         السيد عز الدين ماضي أبو العزائمu

غرة المحرم 1414 هـ                                

21 /6 /1993 م



الناسك والمخترع

كان وديع بن رافع في جامعة العلوم والفنون ببغداد بقسم علوم النفس, فكان يميل بفطرته لمذهب السلف الصالح, لصفاء جوهر نفسه ولعلمه بقدر الدنيا : فكان يصرف أوقات الفراغ في زيارة الزهاد, والعباد, والعلماء بالله تعالي, وكانوا كثيرين, تقف على أبوابهم الأمراء والوزراء والعلماء, لأن التربية كانت موجبة لتزكية النفوس, جامعة للقلوب إلى علام الغيوب .

وكان له صديق في قسم الفنون والصناعات والحكمة اسمه رقيع, صحبه من صغره, فنشأ وديع ناسكا حريصا على تزكية نفسه, آنسا بالوحدة, نافراً من الخلق, راغباً في الحق, ونشأ رقيع ميالا للبحث في خواص الكائنات, حتى برع في علم الطبيعيات, وفنون الكيمياء, والصيدلة, والطب, وخطأ كثيرا من اليونانيين والفرس والرومان, وأخذ يحكم بعد التجربة والامتحان, حتى اخترع في الطب والصناعات ما نفع به العالم أجمع, وصارت له شهرة في عالم الصناعات والفنون ، وازدحم عي أبوابه العلماء, والصناع والتجار .

وفي يوم خرج للنزهة في البادية, فمر على صومعة على عين, فنزل تحت شجرة, وسأل عن الذي في هذه الصومعة راغباً في زيارته, فأخبر أنه ناسك, له زمن طويل في هذه الصومعة فرغب فيه ليروح نفسه من عناء الأعمال, وقام فدق باب الصومعة أكثر من ساعة فلم يجبه أحد فلزم الباب وزادت رغبته, وبعد زمن سمع قائلا يقول :

الناسك وديع, أضعت أنفاسا هي فوق النفائس ، ماذا تريده مني أو ترويه عني ؟

المخترع رقيع, اسمح لي بزيارتك, لأنتفع برؤيتك, وأشكر نعمة الله على بالعقل, ومنته علىَّ بنفع عباده .

 ففتح وديع باب الصومعة .

الناسك وديع, أدخل منفردًا وقدم التوبة, وأسرع بالأوبة, فالأنفاس مراحل العمر, والسعيد من عمرها بالطاعة, والشقي من أضاعها في معاصيه سبحانه .

المخترع رقيع, سمعت كلام الناسك, فاقشعر جلدي, وذرفت عيناي, وخشعت تعظيما له, ودخلت واجلا, فرأيت ملكا في هيكل إنساني, ونجماً مشرقاً في جسم آدمي, إذا به رجل في الخمسين من عمره أصفر اللون, أبيض الشفتين,غائر العينين, كث اللحية, ذقنه ملتصقة بصدره وما وقع بصري عليه إلا وخرس اللسان, وصغرت الدنيا في نظري, ونسيت مخترعاتي, وما حصلته من المال والشهرة والثياب, وتذكرت هول الموت وما بعده .

وعلمت أن الناسك زهد في نعيم يزول وخير يفنى, وملاذ هو والحيوان فيها سواء مسارعا إلى نعيم يبقى, ومسرات دائمة ونجاة من هول لابد منه للإنسان إن لم يفر من الوقوع   فيه .

فلما رآني الناسك قال بسرعة : ألست رقيعًا ؟ فخشع قلبي هيبة وقلت : بلى ياسيدي ، فقال وديع لرقيع أتذكر كذا وكذا ؟

 فعظمت حيرتي, واحتقرت الدنيا وما فيها ومن فيها,, بعد إن كنت أراني بلغت بمخترعاتي مقاماً عند الملوك, ومنزلة عند العالم أجمع لم يبلغها أحد, وأيقنت أن كل علو في الدنيا وشهرة ومكانة لا بقاء لها, وأن كل المخترعات والصناعات إنما هي نتائج تمرين الأعضاء, وأبحاث العقول, وأن فوائدها تعود عل الأجسام . وربما أضر المخترع العالم أجمع بما اخترعه, كمخترع الآلات الجهنمية, وكالمتفنن في أنواع الخمر وكمخترع الأزياء والأثاثات والأواني التي تعين على شهوة الأكل والشراب والنكاح . وكمخترع التلغرافات اللاسلكية, فإنها كشفت عورات بعض المجتمعات الإنسانية الآمنة الراضية عن الله, لأهل القوة والطمع الساعين في الأرض بالفساد والقهر .

وقف رقيع يحاسب نفسه بعد أن كان يرى نفسه أسعد الناس في عصره وأرفعهم قدراً . قوي عامل الفكر به حتى علم  كم أضر مجتمعات, وكم شغل الحس بالآلات التي اخترعها, المنبهة للشهوات, وكم أفسد آدابا وأخلاقاً, فإن الإنسان قبل تلك المخترعات كان في أمن من الشرور العامة .

بكي رقيع بكاءً شديدًا, وأحنى ظهره أمام الناسك قائلاً  : أتقبلني خادما لك ؟ عسى الله أن يتوب على فأنال قسطا مما فزت به, فقد أضعت عمري باحثاً فيما أصلح به المادة, لينتفع الإنسان بها, وغفلت عن تربية نفسي وتزكيتها, فجعلت من الحديد آلة تدفع الجسم بقوة تمزق الحجر لو قابلها, وسميتها المسكتة ( البندقية ) فاستعملها الظلمة للانتقام, والجبابرة للاستيلاء على الأمم, وكم اخترعت آلات وأدوات كلها لمضرة بني الإنسان, وعلا بكاؤه قائلاً : هل لي ياسيدي من توبة ؟ هل ترضاني لك عبداً ؟ فلما سمع من معه خارج الصومعة بكاءه, أكبروا الأمر وقالوا : كيف يبكي من يتملق الأمراء بين يديه أمام الناسك المهان الذي لم ينفع الناس بشيء ؟ ولبلادته وجهله هرب من الناس إلى هذا المكان, وهموا بقتل الناسك شفقة على رقيع .

فلما فتحوا باب الصومعة ووقع نظرهم على الناسك ارتجفت قلوبهم مما كوشفت به تلك القلوب .

مواضع العبرة والعظة في هذه القصة .

يكشف الإمام المجدد أبو العزائم  uفي قصة ( الناسك والمخترع ) .... الفروق الجوهرية بين الحضارة الإسلامية والمدنية الغربية .. ويبين من خلالها أن المدنية الغربية المزيفة قد أودت بالعالم إلى أزمة كبيرة لا خلاص منها إلا بالرجوع إلى أنوار الإسلام وإشراقا ته وحضاراته .

فالناسك, ( وديع بن رافع ) في هذه القصة رمز للأمة الإسلامية التي أكرمها المولى بأشرف العلوم وأجلها وهو معرفة الله والعلم به سبحانه وتعالي وبأيامه وبأحكامه وبحكمة أحكامه .. فجملها ذلك العلم بالعقيدة الحقة والعبادة الخالصة والمعاملة الحسنة والأخلاق الفاضلة وسرى ذلك النور من الأمة الإسلامية إلى الأمم المختلفة الأخلاق والأنساب والعادات, فجعلها تمتزج بعضها ببعض, وتتجنس بجنس واحد هو الإسلام,  وكان المسلمون كجسم واحد موصل جيد التوصيل للحضارة وأما المخترع, (رقيع ) فهو رمز للغرب وحضارته الوحشية الهمجية, الذي برع في علوم الكونيات التي أشار إليها القرآن الكريم  في قوله تعالى : ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾  ذلك العلم الذي اغتر به الغرب فاستخدمه في ضرر العالم باختراع أسلحة الدمار (نووية – كيميائية – بجيولوجية) .. بل وأدى بالغرب إلى الإلحاد ونسبة الولد له تنزه سبحانه, بالاعتقاد بألوهية عيسي بن مريم أو بنوته لله رب العالمين ...

وما ذكره الإمام المجدد أبو العزائم وكشفه مبكراً في قصة ( الناسك والمخترع ) تحدث عنه الفيلسوف الفرنسي رجاء جارودى  مؤخراً حين قال : ( إن المفهوم الغربي الذي يعتمد على التكنيك للتكنيك, والعلم للعلم سيؤدي إلى العدم . وأن الحياة من أجل لا شيء هي انتحار بطيء, وأن هذا كله يأتي من نسيان تبعية الأساليب ونسيان الأبعاد الروحية للحياة . وقال جارودي أيضاً  : (إن الحضارة الغربية في سبيلها إلى الموت لا لأنها تفتقد الأساليب ولكن لأنها تفتقر إلى الغايات ) . وهذا ما سبق إليه الإمام المجدد في قصة الناسك والمخترع .. وما وضعه من حلول حيث أكد على ضرورة عودة المخترع إلى رحاب الناسك .

السياسي والحكيم والغشيم

السياسة : تدبير المنزل والمدن  والمملكة, مأخوذة من ساس يسوس سياسة أي أصلح إدارة المنزل أو المدينة أو المملكة, لجلب المنافع ودفع المضرات مع رعاية الرحمة العامة بالمجتمع الإنساني.

فإن خرجت السياسة عن أصلها كانت ظلماً وجوراً وكيداً ومثال السياسة الحقة ما فعله الصديق يوسف علية السلام مع أخوته, من أخذ أخيه منهم لينالوا الخير العام في المستقبل وعمل تلك التدابير لنيل الخير مع الإخلاص سياسة, وقد مدحه الله عليها فقال ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ سورة يوسف آية 76 وأما ما يسميه الناس الآن سياسة فهو كسياسة القط مع الفأر أعاذنا الله وإخواننا منها .

الحكمة: هي وضع الشيء في محله واستعمال كل شيء فيما وضع له مع رعاية الشريعة المطهرة .

الغشم, التسليم من غير روية ولا نظر .

الغشيم, بين أبنائه وحفدته وأقاربه في مزارعه ومصانعه وأسواق تجارته في هناء وصفاء.

السياسي, نظر إلى نفسه وأبنائه وأقاربه نظرة إعجاب, فكره أن يعملوا عملاً نافعاً لغيرهم وأحب أن يتسيطر بالقوة القاهرة على الغشيم ومن معه, وكان عند الغشيم رجل حكيم .

السياسي, جمع الجيش وهجم على الغشيم

الحكيم, رأى الغشيم خرج من غير تدبير ليقابل السياسي فمنعه وقال : دعهم يدخلون البلاد واجمع قومك وأعد العدة حتى إذا فرحوا بالنصرة وملكوا بعض القرى أمكنك أن تحصن قومك وبلادك, وترسم طريقة حكيمة تستأصل بها هذا الجيش الظالم .

الغشيم, سلم له وأقامه إماما.

الحكيم, أمر بإخلاء القرى أمام العدو.

السياسي, تيقن النصرة وأمن جانب الغشيم .

الحكيم, أنزل قومه في مكان محصن, ثم أمر بالسلاح فحمل وأقام أهل الرأي قواداً, وأمرهم بالصبر حتى يصدر أمره ورسم المناورة بروية, فأرسل قسما خلف جيش السياسي من طريق مجهول وأبقي قسما داخل البلد وجعل قسما جناحًا أيمن وقسمًا أيسر, ثم أرسل الطلائع وأمرهم بالهزيمة أمام الجيش.

السياسي, فرح جداً وأمر الجيش بالتقدم من غير روية, معتقداً أنه تمكن من عدوه, فأبعد في داخل البلاد معتقداً تحصيل ضروريات الجيش من البلاد فتفرق جيشه من السرعة والبطء فرحاً بالغنائم .

الحكيم, انتهز تلك الفرصة وأمر الجناحين والقسم الذي خلف العدو أن يلتقوا في نقطة كذا.

السياسي, لم يشعر إلا وقد أحاطت به الجنود فلم يجد له نجاة إلا بالهزيمة أمامه معتقداً عدم القوة الاحتياطية فهلك أكثر جيشه ولما أن وصل إلى داخل البلاد قابله الجيش الاحتياطي فأسر البقية وبعد ذلك اصطلحوا على شروط مخصوصة .

الغشيم, علم أن هذا الفوز بإتباع الحكيم فأمر قومه أن يحافظوا على أوامر الحكيم ليدوم لهم الملك والمجد.

السياسيرجع حزيناً واعتقد أن الغشيم مادام مقتديا بهذا الحكيم لا يمكن أن يتمكن منه فجمع قومه وطلب أن يكيدوا معه للغشيم كيدا يخرجونه عن إتباع الحكيم ليتمكنوا منه ويجعلوا الجميع عبيدا له, فحضر معه إبليس في صورة إنسان, وقال : الرأي عندي أن ترسلوا لهم ما يفسد عقولهم, ويضر صحتهم ويضيع أموالهم, وبذلك يخالفون الحكيم فنملكهم . فسألوه : ما هي تلك الأشياء ؟ وما الطريق في انتشارها بينهم ؟ فقال أما ما يزيل العقل فالخمر والحشيش والبنج .

وأما ما يفسد الصحة فالعاهرات خصوصاً المريضات بالزهري, وأما ما يضيع المال فانتشار الربا ولهذه الأشياء رابع لا بد منه وهو التفرقة بينهم .

السياسي, ( سأله ) من أنت ؟

إبليس : أنا العدو اللدود للغشيم .

السياسي: لم عاديته ؟

إبليس: إنه أطاع عدوي الحكيم, فأمره بالمخالفة بعد أن كانوا جميعاً عبيداً لي .

السياسي: كيف نتمكن من انتشار تلك المفاسد بينهم ؟

إبليس: ترسل أولاً تلك المفاسد إلى كبرائهم, فإذا تمكنوا من الكبراء قلدهم الأتباع, والأمير إذا فعل قبيحا لا ينكر عليه ولا يقدر أن يمنع من ارتكابه .

السياسي: أرسل تلك الأنواع المضرة في طريق الخفاء, فأرسل نساء عاهرات بآلات الطرب ومعهن الخمر إلى الحكام, فانتشرت تلك المضار بسرعة حتى تناسي الناس وصايا الحكيم.

السياسي, أرسل رجالاً من أهل الخبث يحملون تلك الأشياء في الأسواق لتباع علناً, بعد أن يقدم كل واحد منهم هدية لحاكم المدينة التي يحل فيها ويتردد عليه صباح مساء ليعلم أهل المدينة أنه محسوب الحاكم .

آثار الحكيم, كان في المدينة تلاميذ للحكيم, فصاحوا صيحة النصيحة, فأصغى إليهم أهل التسليم وقالوا : هذا يخالف وصايا الحكيم فيجب مصادرته ورد الحاملين له .

وفود السياسي, الحاملون للشرور – أسرع كل واحد منهم إلى الحاكم في مدينته وقالوا له : كيف يصفوا لك الملك وفي المدينة حزب ويسعى  في سلب الملك ويعصب عليك قومك؟ فتدارك الأمر واقتلهم شر قتلة .

الغشيم, قبل منهم الكلام وعظم عليه الأمر فأرسل للحكام المشتركين معه في حب تلك المضار, أن يسجنوا من تظاهر ضد الرؤساء فقبضوا على تلاميذ الحكيم واعتقلوهم .

وفود السياسي, تمكنوا من القوم فأزالوا عقولهم, وأضروا أبدانهم وأضاعوا أموالهم وعقاراتهم حتى بلغ من جنونهم أنهم اعتقدوا أن السياسي ورجاله أرحم بهم من والديهم .

الغشيم وقومه, تفرقوا حتى صاروا يمدحون السياسي بما قام به لهم من المصالح والإصلاح ويذم بعضهم بعضا وهم في هاوية الذل لا يشعرون بمكايد السياسة .

السياسي, لم يرض بإفساد العقول ولا بضعف الأجسام ولا بتحصيل الأموال ولكنه سعى لمحو الدين والأخلاق فجمع العقلاء لهذا الغرض فجاء إبليس وجلس معه, فرجعوا إليه فأمرهم بأن يبذلوا المال للغشماء الجهلاء من أعدائهم ويخرجوهم من الدين ويجعلوهم آلة في ذم دينهم بين قومهم ومدح غيره ويظهروا أن الذي يخرج من الدين ينال المال الكثير والجاه ثم نشروا بين القوم زخارف الأباطيل وأكاذيب الأضاليل وأظهروا أنفسهم بأنهم رحماء بالحيوانات وبالمرضى ليسلبوا عقول البسطاء بغرورهم فتمكنوا من إضلال رجال من أهل دينهم ، فادعوا أنهم من دين الأمة وأنهم ارتدوا عنه, ونشروا المفاسد والأكاذيب فلم يرق ذلك عند الأمة, ولكنهم لما أصابهم من ضرر المفاسد المنتشرة بينهم لم يتمكنوا من دفع هذا الشر, لأن السياسي استولى على الأسلحة والأمتعة .

القوي القهار خالق السموات والأرض غضب على السياسي وقومه, لأنه لم يرضهم أن يقهروا عباده ويفسدوا بلاده بل قاموا فكذبوه وكذبوا رسوله ﴿ rوآله﴾ فغار لدينه غيرة منتقم قهار فأوقع نار الحرب الانتقامية بينهم, ونظر إلى عباده نظرة حنان وأيقظ قلوبهم إلى وصايا الحكيم .

الغشيم, تذكر مجده وملكه وبحث بروية كيف نال هذا الملك وبأي شيء سلب منه ؟ ! فتحقق أنه ما قهر السياسي قومه وتسلط عليه إلا بإهمال المحافظة على وصايا الحكيم ومازال مجده وملكه وسلطانه إلا بترك وصايا الحكيم فأطلق تلاميذ الحكيم من السجون وجلس بين أيديهم ذليلاً يبكي ويتوب إلى  الله, وطلب منهم أن يغيروا كل ما خالف وصايا الحكيم وأن يعيدوا الأمر إلى الماضي الذي وضعه الحكيم فعرضوا كل شيء في المملكة على القرآن والسنة, ومحوا أنواع الشرور كلها وقامت الأمة من نومة الغفلة ورقدة الجهالة .

السياسي, جمع عقلاء جميع مملكته ليتدارك الأمر فجاء إبليس فقالوا : ماذا ترى ؟ فقال لا رأي لي أعداؤكم رجعوا إلى القوي القهار الحكم العدل الذي يهب الملك لمن يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء ولطم على وجهه ونتف لحيته وفر يدعوا بالويل و الثبور .

تلاميذ الحكيم انتشروا بين قومهم فقام في كل بلد حكيم أو صورة للحكيم وكأن لسان حال الأمة ينادي



إِنَّا لَنَرْخُصُ يَوْمَ ٱلرَّوْعِ أَنْفُسَنَا
إِنْ تَبْتَدِرْ غَايَةً يَوْمًا لِمَكْرُمَةٍ

وَإِنْ نُسَامُ بِهَا فَي ٱلأَمْنِ أَغْلِينَا
تَلْقَ ٱلسَّوَابِقَ مِنَّا وَٱلْمُصَلِّينَا

وصار كل فرد منهم هو المعني بقول الشاعر

وَيَارَبِّ يَوْمَ ذَوْبِ ٱلْغَشِّ نَارَهُ
وَقَفْتُ وَمَا فِي ٱلْمَوْتِ شَكٌ لِوَاقِفٍ
تَمُرُّ بِكَ ٱلأَبْطَالُ كَلْمَىٰ هَزِيمَةً

فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ صَارِمٌ أَوْ ضَارِمُ
كَأَنَّكَ فِي جَفْنِ ٱلرَّدَىٰ وَهُمْ نَائِمُ
وَوَجْهُكَ وَضَّاحٌ وَثَغْرُكَ بَاسِمُ

               

وصار كل فرد منهم حكيماً, لأنه اتبع الحكيم الأكبر ﴿ rوآله﴾, فاستخلفهم الله في الأرض, ومكن لهم ينهم الذي ارتضى لهم, فساسوا العالم أجمع بالعدل والرحمة, ومحا الله الظلم وأهله, والعاقبة للمتقين .

 مواضع العبرة والعظة في هذه القصة

في قصة ( السياسي والحكيم والغشيم ) يشخص الإمام المجدد أبو العزائم uأزمة الأمة الإسلامية تشخيصًا شاملاً ودقيقًا وكاملاً .

فالسياسي, في هذه القصة رمز لأعداء الإسلام من الأوربيين والأمريكان وغيرهم, الذين يستطيعون بدهائهم ومكرهم وخداعهم إفساد أحوال المسلمين من حكام وعلماء وشعوب  .. ويقيمون أنظمة ديكتاتورية متسلطة عن طريق انقلابات عسكرية لمنع الحرية عن المجتمعات الإسلامية لأنهم يعلمون أن المسلمين إذا أعطوا الحرية الحقة عادت لهم حضارتهم ودولتهم وقوتهم ... وهم يفسدون حكام السوء في البلاد الإسلامية وكذلك الشعوب عن طريق الخمور والمخدرات وأماكن اللهو والعهارة وإفساد التعليم ونظمه ونشر البنوك الربوية والسياحة والعري وإقامة أحزاب سياسية هلامية تتناحر فيما بينهما على مصالحها الشخصية وتتنكر لمصلحة الأمة .... وهذه وسائل برع فيها الإنجليزي قديما .. والأمريكان حديثاً, يدعمهم في ذلك اليهود من وراء حجاب .









وأما الحكيم, فهو رمز للعالم الرباني والعارف الروحاني والوارث المحمدي الذي يجدد للأمة أمر دينها والذي يحزنه حال الأمة المتردي بسبب حماقة الحاكم ( الغشيم ) وتسليمه لأعداء الأمة فيقف موقف الناصح للحاكم ( الغشيم ) ويحذره من دسائس أعداء الأمة ومكائدهم وشعاراتهم وصلحهم ووعودهم الكاذبة .

أما الغشيم، فهو رمز ( لحكام السوء ) الذين  يسلمون للأعداء عن غير فكر ولا روية ولا وعي وتدعوهم حماقتهم وجهالتهم إلى معاداة المصلحين ، ومعاداة العلماء العاملين وينخدعون بأقوال أعداء الأمة ، ويصدقون وعودهم الكاذبة ،  وسلامهم الخادع وحديثهم الماكر عن حقوق الإنسان ، والشرعية الدولية ، والنظام العالمي ..   وكل هم الحاكم  ( الغشيم ) هو الحفاظ على كرسي الحكم ولو بموالاة الأعداء ومعاداة الحكماء !!

وكأني بالإمام المجدد أبي العزائم يختصر التاريخ السياسي للأمة الإسلامية ويكشف أمراض الأمة في أمسها ويومها باقتدار واختصار ! !

وما زالت أمة الإسلام تعاني حتى الآن من السياسي الغربي ( الأمريكي والإنجليز ... الخ ) وتعاني من ( الغشيم ) أي حكام السوء المتصدرين للسلطة ، ولا علاج لهذه الأمة إلا بالتلقي من الحكيم إن أرادت عودة مجدها ودوام عزها .



ريانة الشرقاوية ..

وزبيدة المصرية..

تربت ريانة الشرقاوية في قرية ، ووالدها اعتنى بتربيتها فحفظت القرآن واعتادت الصلوات الخمس مع والدها ، وسمعت أحاديث العفة والآداب والخير الذي ينالها المحافظ عليهما، فكانت تستحي أن تنظر إلى وجه أبيها أو أخيها ، أو أن تخلع ثيابها في خلوة ، خوفًا من أن الملائكة تراها ، بلغت العشرين من سنها على هذا الاعتقاد.

واتفق أن تزوجت زبيدة المصرية بعمدة القرية ، وكانت كل بنات القرية أشبه بريانة عفافا وصونا ، فلما حضرت العروس توجه السيدات لاستقبالها ، وتوجهت ريانة لزيارة زبيدة.

ريانة، دخلت الحجرة على زبيدة ،فلما رأتها ظنتها شابا  أفرنكيا لافا شعره على رأسه ، لابسا ثوبًا إلى نصف ساقيه وإلى كتفيه ، فصاحت ووقعت على الأرض مغشياً عليها ، لظنها أنها أضاعت العفاف والصون والعوائد الإسلامية بالنظر إلى الخواجة .

فقامت زبيدة وظنت أنها مصروعة فرشت على وجهها ماءً فلما أفاقت نظرت إلى زبيدة  فتمثلتها عفريتاً وصاحت : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ،وقامت مسرعة إلى بيتها وجلدها يقشعر وهي تقول العفريت العفريت ، ومرضت فجاءت زبيدة لعيادتها.

زبيدة ، علمت بالحادثة وأسبابها وتصورت ما كان عليه آباؤها من قبل ، ومقدار الحياء عندهم ، وحرصهم على العفاف ، وكيف انمحى كل هذا الشرف والغيرة ، وحل محلهما التبرج وإظهار العورات ! ،وتمثلت تلك المصائب فبكت ، وبينما هي كذلك وإذا بزوجها يكلفها بمقابلة والده فتوجهت معه حتى دخلت حجرة جميلة بها شيخ وشيخة ،وأمامهما أمة بيدها مبخرة تبخر الحجرة . فلما رأياها التفت الرجل مغضباً وغمض عينيه ، وصاحت أمه قائله : ياشيطان ، تدخل علينا الخواجة.

وخرجت من الحجرة بسرعة ، ودخلت في أخرى  وأغلقتها عليها .

تذكر زوجها عوائد قومه فحزن جداً ، وعلم أنه أساء الأدب ، وأسرعت زبيدة بالخروج ، وقام الرجل فلطم ابنه ونادى زوجته قائلاً : من أين أتيت بهذا الشقي ، ليس هذا مني ، إني استحي أن أنظر إلى وجه ابنتي  أو إلى ساقيها .

بكت المرأة وأقسمت بالله ما نظرت عيناي إلى غيرك أبداً ولا نظر إلى ما فوق كتفي غيرك ، وأن الشمس لا تراني إلا إذا خرجت لنشر الثياب ، وأن هذا ذنبك لا ذنبي ، فلعلك أكلت حراماً أو شربت حراماً ، فارتفع صوت الرجل والمرأة لما رأياه على هذا العجب .

العمدة ، صار بين همين : الخجل من زوجته ، وغضب والديه ، وضاقت عليه الأرض بما رحبت ، وتمنى الموت ، ولكنه خر يقبل قدمي والده قائلاً: أخطأت ياسيدي ، ويبكي ، فأجابه الوالد : تب إلى الله  وحافظ على عوائدك الإسلامية ، واعلم يابني أن الحيوان يغار أن يرى غيره أنثاه ، فكيف بك وأنت من صميم العرب ، وتعلم أن آداب الإسلام  غض المرأة بصرها ، وإخفاء زينتها – فضلاً عن عوراتها -، فكيف ترضى أن ترى زوجتك عريانة اليدين والساقين والصدر متبرجة وترضى عنها ؟! ينهاها الله عن إبداء زينتها  فتبدي عورتها !! وعندها وقفت أمه في الشمس وقالت : أقسم لا أنتقل من الشمس حتى تستتر أو تطلقها  ، فقال : السمع والطاعة وأخذ يبكى بين يديها لتجلس في الظل فجلست وتوجه إلى زوجته.

زبيدةأسرعت بعد وصولها لحجرتها فخاطت لها ثوبا كثيابهن ولبسته ، وقابلته به فلما دخل قال : أين زبيدة هانم ؟ فأجابته : نعم ، فلما نظر إليها قال لا تحزني ، فالعادة طبع خامس ، وللعادة سلطان قوي فتبسمت في وجهه قائلة : ياسيدي لا يكره الفضيلة إلا سفيه ، وإن أفضل الفضائل الآداب الدينية ، وقد علمت أنكم آل بيت كريم ، فأشكر الله على أن أكرمني بهذا الشرف – شرف الدنيا والآخرة – فأخذها وتوجه بها إلى والده ووالدته وعلمها آداب الزيارة والمجالسة. فبينما هم في مبادلة التحية جاءت امرأة فقالت : إن ريانة مريضة من تأثير رؤية العفريت ، فطلبت زبيدة من زوجها زيارتها فسمح لها ، فتجملت من ملابس نساء القرية وتوجهت إلى ريانة .        

مواضع العبرة والعظة في القصة

معلوم أن أعداء الإسلام قد درسوا جيداً مواطن القوة في المجتمعات الإسلامية لإضعافها, ومواطن الضعف لتوسيعها .. ووجد أعداء الإسلام أن المرآة في المجتمعات الإسلامية في حجاب شديد, ولا يمكن تسريب الفساد إليها .

فكان قرارهم ضرورة إغواء المرآة وإخراجها من ثوب العفة والفضيلة والآداب الإسلامية .وأجريت تلك العملية في إطار ما يسمي ( بتحرير المرأة) تلك الحركة التي قادها أناس تربوا في أحضان الغرب, وآمنوا بمعتقداته والإمام المجدد أبو العزائم uيتناول تلك القضية الهامة في قصة ( ريانة الشرقاوية وزبيدة المصرية ) .

فريانة الشرقاوية : رمز للمرأة المسلمة العفيفة المصونة, التي تجملت بالأخلاق والآداب الإسلامية, بالنفور من كل أجنبي لا يعنيها التكلم معه, والوحشة من كل رجل يتعرض لها إلا لحاجة شرعية ، والحدة على كل أمرأة تذكر أمامها غير زوجها, أو تذكرلها أجنبياً, والعفاف بتعصب أعمي والغيرة على كل عضو من أعضائها أن يراه غير زوجها ومحرمها.

أما زبيدة المصرية : فهي رمز للمرآة المسلمة, بعد أن خدعوها فسلبوها ثوب العفة, وخلعوا عنها رداء الحياء, وجردوها من الآداب الإسلامية, فصارت كاسية عارية,  وأضحت مصدراً للإغواء, وباب من أبواب الشيطان, وسبباً رئيسياً في إفساد شباب الأمة .

ولا علاج لهذه الأزمة إلا بأن نبين للمرأة ما يجب عليها أن تتعلمه, ونوضح لها قيمتها في ظل الإسلام ،حتى تعود للفضائل والآداب الإسلامية, كما عادت ( زبيدة المصرية ) في هذه القصة لارتداء ثوب العفة والفضيلة .





العالم والتاجر والفلاح

من عجائب الاتفاق ، أن عالماً مالت نفسه إلى أن ينشطها بعد الملل من مزاولة الدروس, بمفارقة المباحث والعمل, ففارق مصره وأنكر قدره وجد في السري راغبا في سكنة القرى, حتى دخل قرية تدل آثارها على عيشة البداوة ، فقال : أعيش مع هؤلاء عيشة العاقل مع الجهلاء, فأنسى الدواة واليراع ، والمناظرة والنزاع, وأتفكه بتلك الأفكار السقيمة والأخلاق الذميمة,  ونزل على ماء وخضرة بين رجلين فحياهما ، فاستقبلاه ببشاشة وأجلساه بجانبهما, وقدما له  خبزًا قديدًا وملحًا جريشًا, وهشا وبشا, فسألهما عن عملهما, فقال أحدهما : إني رجل فلاح, وقال الآخر وأنا تاجر . فسأل الفلاح قائلاً : هل تعرف ربك؟

الفلاح: إن كنت أجهل كل شيء فأنا أعرف ربي.

العالم: كيف عرفته؟

الفلاح: هو عرفني بنفسه, الأرض اللي أنت قاعد عليها قالت لي إن ربنا قادر, بعد إن كنت ميتة أحياني بالزرع والميه اللي قدامك دي قالت لي ربنا هو اللي أنزلني من السماء وكل شيء يشوفه الواحد منا بيتكلم عن ربنا .

العالم: تعرف تصلي ؟

الفلاح: إذا كنت أنا بشوف الأرض والميه والبهائم والشمس والقمر والنجوم تملي بتخدمني جعلها لي ربنا كيف أنا ما عرفش أصلي للي خلقني ورزقني هو أنا بهيم بس آكل وأشرب ما عرفش ربنا وما عرفش أن العبد يطاوع سيده ؟! .

الفلاح: أمال أنا أسالك إذا كان الإنسان ما ياكلش يجرى له إيه ؟

العالم: يمرض وبعدين يموت .

الفلاح: طيب إذا كان المسرجة ما تحطش لها زيت بعدين يجرى لها إيه ؟

العالم: بعدين تنطفي .

 الفلاح: بقى عرفت إن جسمنا عاوز الأكل علشان يعيش والمسرجة عاوزة الزيت علشان تنور, فالصلاة الزيت اللي بينور الروح بتاعتنا ويخلينا تملي نفتكر ربنا ولا ننساهش .

العالم– خجل وسكت .

التاجر– قال للفلاح - : الناس اللي بيقعدوا في بلاد البندر بينسوا ربنا علشان تملي قلبهم مشغول بحاجات الدنيا الفانية, ولا يفتكروش ربنا إلا عند المصايب, شوف الواحد منا كل شغله يفكره ربنا .

الفلاح: يخويا دا ربنا عطاهم الأكل والشرب والراحة لكن همه ضيعوا عمرهم في الحاجات البطالة .

التاجر: يعني إيه ؟ .

الفلاح: يغيبوا طول الليل وطول النهار يتكلموا في الشيء اللي ما ينفعش, زي الهدوم والحسد والشهرة والوظايف وهناك حاجة كمان تانية يسموها السياسة يقوموا يتكلموا فيها ومحدش يعرف همه عاوزين إيه .

التاجر: أنت رحت مصر ؟

الفلاح: رحت, كان معاي شويت سمن, فت على الجوامع لقيتها كلها مقفولة حتى مصلتش الضهر إلا مع العصر, ولقيتهم كلهم قاعدين في السكك على القهاوي سمعتهم يقولوا يحيا سعد زغلول, وجماعة ثانين يقولوا يحيا عدلي, أنا افتكرت أن الناس دول بنوا مساجد أو وقفوا أطيان كتيرة للفقره خدت السمن بتاعي ورحت أسأل عن بيتهم, لما رحت هناك لقيت زحمة سألت : بتأخذوا إيه من هنا ؟ قالوا مافيش حاجة إحنا جيين نثبت الثقة بالرئيس .

التاجر: إنت ما تعرفش الكلام ده, سياسة غويطة, دا سعد زغلول عامل سياسة هو وعدلي يعارضوا بعضهم قدام الناس ولكن هم متفقين ويا بعض وما تصدقش إن راجل زي سعد زغلول في آخر عمره يجهل إن شطارته ما تظهرش إلا إذا كان الرجال العقلا اللي يحبو الخير للمسلمين يكونوا وياه, كمان ياخويا عدلي ده اسمه من زمان كويس, وما يصحش إنه يجي في الوقت اللي احنا محتاجين له, وعلشان حاجة ما تضرش ولا تنفع يعمل عداوه لا بد ياخويا إنهم بيعلموا كده بالقصد .

العالم, صغرت علومه ونفسه في نظره وعجب من تأويل الفلاح والتاجر البسيطين فسأل التاجر قال له : إيه رأيك في الناس دي الوقت ؟

التاجر: الناس اللي ما يكنش ربنا معهم مين ينصرهم ؟ اللي عاوز ربنا ينصره هو ينصر ربنا, لأني أنا سمعت سيدنا وهو بيقرأ كلام ربنا ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ﴾.

العالم: كيف ننصر ربنا ؟

الفلاح– بسرعة : ربنا غني عنا واحنا محتاجين له والنصرة بتاعتنا له طاعتنا لأمره واتباعنا للنبي اللي أرسلو لنا, وحبنا لبعضنا .

التاجر– وكمان حاجة, إن كل واحد منا يحب للمسلمين اللي يحبه لنفسه .

العالم– والناس اللي بيمشوا في الشوارع ويزعقوا دول والعساكر يضربوهم وهمه يضربوا العساكر رأيك فيهم إيه ؟

التاجر : أنا كمان مشيت وياهم, ولكن ده فعل ربنا لما ربنا يريد ماحدش يمنعه إحنا كنا زمان نحب البرطانيين دول أكتر من الحكام المسلمين وكنا نخاف منهم كتير خالص ولكن اليوم ما بقناش نحبوهم ولا نخاف منهم بقى دا فعلنا ولا فعل ربنا ؟

ولا سعد ولا عدلي يقدروا يحببونا ولا يكرهونا لكن الناس ما يعرفوش لما المطر ينزل مين يقدر يحوشه أن كنت فقي قوم ادن لنا الظهر خلينا نفتكر ربنا وبلاش كلام ...





مواضع العبرة والعظة في هذه القصة

في قصة ( العالم والتاجر والفلاح ) ...يبين الإمام المجدد أبو العزائم          uطريق معرفة الله, وهل تكون بالعقل أم بالقلب ؟!

كما يوضح أيضا أن المعرفة لا تتوقف على التحصيل العلمي والقدرة العقلية فقط .. بل هناك معارف وهبية لا كسبية تقذف في القلب كما قال تعالى : ﴿وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ﴾.

فالعالم : في هذه القصة رمز لعلماء الكلام, الذين اعتقدوا أن طريق معرفة الله هو العقل وأنكروا العلوم الوهبية والمعارف اللدنية وقد أخطأوا في ذلك لأن معرفة الله تعالى لو كانت بالعقل وحده لفاز بها الأوربيون والأمريكان واليابانيون وغيرهم من أهل العقول التي اخترعت الصناعات والفنون والحرف المدهشة ..

ولكنهم فاقوا إبليس كيدا في محاربة الحق والمسارعة إلى إطفاء نوره بقوة عقولهم .

أما التاجر والفلاح : فهما رمز لمن عرف الله بالقلب الذي صفا من الأغيار فصار بيتا معموراً بالأنوار فكان سلوكهما مصداقاً لقوله تعالى : ﴿وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ﴾ وقوله سبحانه : ﴿إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً﴾ والقلب إذا واجه الملكوت الأعلى, لا يحتاج إلى العقل لأنه صار عقلاً يعقل عن الملكوت, ويمد الخيال بصور من الكمالات الملكوتية ولهذا قال الإمام المجدد أبو العزائمuفي مواجيده :





ٱلْفِقْهُ فِي ٱلْقَلْبِ نُورٌ مِنْ لَدَى ٱلرَّبِّ

وَلَيْسَ فِي صُحُفٍ تُتْلَىٰ لِذِي حَجْبِ



ولهذا يأتي الأمام المجدد في هذه القصة بالعالم المعجب بعلومه العقلية ، ليجلس مع " التاجر والفلاح "  اللذين وهبا الفقه القلبي فيكشف " العالم " أنه ليس إلا خزانة علوم وأما " التاجر والفلاح " فهما خزانة للفهوم فقد تحدثا في معرفة الله ومعرفة النفس وفى السياسة وفى الاجتماع وصدق رسول الله
﴿ rوآله﴾: ( رب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ) رواه الترمذي عن زيد بن ثابت وهو معنى قوله تعالى :   ( ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ) سورة القصص أية 5

















المقتصد والمسرف والفاسق

        شاب مقتصد من صغره ، حريص على توفير أكثر ما يصل  ليده من المال ، وكان له أخ يصرف كل ما وصل إليه ، حتى أعتاد على تبذير ما معه ، وكان لهم جار اعتاد عمل الشر .

المسرف: قال للمقتصد : أعطني ريالا أرده إليك يوم الجمعة.

المقتصد: لم احتجت ؟ قال : اشتريت بمالي لعبا وتكسرت ورايح اشتري غيرها .

المقتصد: أنا لا أحب أن أضيع مالي في لعب .

المسرف : أنا رايح ارسم نفسي .

المقتصد: ليه ادفع مالي في الرسم هو ليه فايده ؟ اللعب تتكسر ، والصور تتقطع ، والمال يروح ، والواحد يرجع يذل نفسه لغيره زيك . أنا أحفظ مالي وأبقى عزيز غني عن الناس ، والناس تحتاج لي أحسن ، شوف أنت جيت لي ذليل محتاج ولو كنت ما ضيعتش مالك في اللعب والصور لم تحتاج لي.

المسرف: يوم الجمعة أرد لك الريال بس هاته .

المقتصد : أحسن أصبر من غير دين ليوم الجمعة .

المسرف: خطف من جيبه ريال وطلع يجري.

المقتصد: رمح وراه يبكي فلقيهما فاسق فقبض على المسرف .

الفاسق: قال للمقتصد أخذ منك إيه؟.

المقتصد: ريال .

الفاسق: قبض على يد المسرف ليأخذ الريال .

المقتصد: قال للمسرف : لا تعطيه وأحسن نرجع إلى البيت .

الفاسق: أرجعه لك منه .

المسرف, خاف أخوه يأخذ الريال منه بالقوة فأعطاه للفاسق وقال : أمسكه معك .

الفاسق: أخذ الريال وفر المقتصد وراءه .

المسرف: قال : إن شاالله ما رجع  .

المقتصد : رمح ورا الفاسق حتى اختفي عنه فمشي وراءه يسأل عنه حتى استدل عليه في بيت من بيوت العهارة, فدخل فوجده يشرب الخمر مع عاهرة.

الفاسق: لما رأي المقتصد, فر هاربا .

المقتصد: أسرع فقبض عليه, وقال له : أنا أترك لك الريال إن سمعت كلامي .

المقتصد: ليه أنت هربان مني ؟

الفاسق: خجلت لما شفتني أشرب الخمر .

المقتصد: أنا ولد صغير, وإذا كان فيك قوة الشعور أن تستحي من ولد صغير كيف لا تخاف من الله وأنت تسمع الفقهاء يقرءون القرآن ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾ ؟

الفاسق: أنا مصدق, ولكني شفتك بعيني وربنا لا تراه الأبصار .

المقتصد: الإنسان يشوف بعين قلبه زي ما يشوف بعين رأسه .

الفاسق: هل كل الناس عين قلبهم تشوف ؟

المقتصد: الذي لا ينظر بعين قلبه يقلد غيره .

الفاسق: الناس صاروا بطالين.

المقتصد: أنت سمعت كثيرا الفقهاء والعلماء يخوفون من النار, لازم تصدق وتبعد عن فعل الشر, وتعتقد أن ربنا حاضر مع الإنسان وينظر إليه ويعلم به .

الفاسق: بكى

المقتصد: الحمد لله, تب أحسن لك وأنا أسامحك في الريال .

الفاسق: ياليتنيخطفت الريال من زمان .

العاهرة: ضربت المقتصد.

المقتصد: بكي من ألم الضرب وقال : أنا أسعى في الخير وأنت تعملين الشر !.

العاهرة: أنت وأبوك والناس كلهم جاءوا من أين ؟

الفاسق: الحلال بيِّن والحرام بيِّن, وهذا الولد كلامه يرقق القلب وصحيح ياجنينة ( اسم العاهرة ) أن الإنسان بكره يموت ويحاسبه ربنا وكل الشهوات دي تنتهي ونتعذب عليها وأحسن نتوب إلى الله قبل الموت .

العاهرة: هذا الولد من أين ؟

التائب : هذا من عند ربنا وكلامه حق, أنت شفتي المرأة مارتا وفريزة وكنتوشة حصل لهن إيه ؟

العاهرة : أتشوهوا وأتقطع لحمهم وبعدين ماتوا في الأوده وقعدوا عشرة أيام من غير ما يعرفهم أحد .

جنينة: والله ياكعبور ( اسم الفاسق )  كلام الولد ده حلو .

المقتصد : إذا كان تاب يتزوجك .

جنينة : أخذت زجاجة الخمر كسرتها, جنينة وكعبور اغتسلوا .

المقتصد: سمع منادي يقول : ياولاد الحلال ولد تلميذ اسمه شفيق تايه وحلاوته جنيه .

المقتصد : هم بالخروج .

جنينة: أقعدته وقالت : اصبر حتى نتوجه معك للعالم .

المقتصد: هذا المنادي يفتش عليَّ ونظر في الساعة فوجدها أربعة عربي ليلا .

المسرف: بعد أن أخذ الفاسق الريال منه رجع إلى البيت ولم يخبر والدته عن أخيه, فسألته عنه فأنكر حتى جاء والده .

الوالدة: أخبرته بغياب ابنها .

الوالد: سأل المسرف عن أخيه .

المسرف: خاف من والده فأخبره بالحقيقة .

الوالد: قال : زمان الحرامي قتل الولد ، عند ذلك الوالدة قامت تبكي وتضرب المسرف .

الوالد: خرج مسرعا إلى القسم يسأل عن ابنه فلم يجده فأرسل المنادي ينادي عليه .

المقتصد, خرج مع كعبور وجنينة إلى بيت العالم المشهور في مصر, وأخبره بالحادثة, فأرسل العالم بسرعة  رسولا إلى بيت المقتصد ليطمئن أهله ووعظ الفاسق والعاهرة حتى تابا على يديه, وزوج المرأة للرجل, وعندها حضر الوالد والوالدة يبكون فلما رأوا ابنهم زال ما عندهم .

المسرف, ندم على جميع فعله, وعزم على أن يقتدي بجميع فعل العالم .

الفاسق التائب, رأى في بيت العالم يفطة مكتوب فيها :



إِنَّ مَنْ يَرْتَكِبُ ٱلْفَوَاحِشَ سِرًّا
كَيْفَ يَخْلُو وَعِنْدَهُ كَاتِبَاهُ

حِينَ يَخْلُو بِسِرِّهِ غَيْرُ خَالِ
شَاهِدَاهُ وَرَبُّهُ ذُو ٱلْجَلاَلِ؟!





               



                 



مواضع العبرة والعظة في هذه القصة

يعمل أعداء الإسلام دائماً على إضعاف المجتمعات الإسلامية بضرب القوة الاقتصادية للمسلمين وإفساد الحياة الاجتماعية لأبناء الأمة وكان ضرب القوة الاقتصادية عن طريق البنوك الربوية وكان إفساد الحياة الاجتماعية بإشاعة الخمور والبغاء والملاهي والمسارح ودور السينما وأندية الفيديو والمجلات الهابطة وغيرها, ونشروا ذلك في البداية عن طريق الأقليات الغير مسلمة الباقية في البلاد الإسلامية.

 ولذلك نجد بالدراسة الفاحصة أن أول من فتح دور اللهو والمسارح وأول من أقام الاستوديوهات لإنتاج وإخراج الأفلام الماجنة وأول من رخص صحفاً تحمل أفكاراً خبيثة, كانوا هم اليهود والنصارى في بلاد المسلمين والإمام المجدد أبو العزائم u, كعادته يلقي الضوء على هذه المشكلات في قصة ( المقتصد والمسرف والفاسق) .

( فالمقتصد ) : في هذه القصة يرمز إلى المسلم الكامل الذي تربى على أيدي العلماء الربانيين, فحفظ نفسه وماله ووقته وصحته وحياته .. وكان تجسيدا لقوله تعالى : ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً﴾.

( والمسرف ) : يرمز للمبذرين, الذين لم يستوعبوا رسالة المال في أمة الإسلام, والذين أنبأ عنهم القرآن المجيد في قوله تعالى ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ﴾ . ولذا نجد أن المسرف ( المبذر ) هو مصدر التمويل الدائم لكل فاسق !! والمتتبع لنشأة الفساد في المجتمع الإسلامي يجد أن مصدره دائما كان ينبع من أصحاب الثروات المسرفين, مثل بعض باشاوات العهد الماضي, وبعض رجال الأعمال في وقتنا الحالي .

( أما الفاسق ) فهو يرمز للمسلم الخارج على أحكام دينه المتعدي لحدود الله المستحل لحرمات الله الذي يستغل صداقته للمسرفين من المثرين وأصحاب الملايين لقضاء ملذاته وشهواته !!

ولكن هؤلاء ( المسرفين والفاسقين ) في حاجة دائمة إلى من يأخذ بأيديهم إلى طريق النجاة, ولا يأتي ذلك إلا ( بالمقتصد ) الذي يجسد لنا المسلم الكامل الذي تربي على أيدي الربانيين, فيجذبهم بالرحمة الإلهية, والمحبة الربانية .



الجبان والمتوسط والمتطرف

 المؤتمر الشرقي العام

شرف الشرق :

خلق الله الإنسان حراً مريداً ، فلا ينام إلا لمرض ولا يذل إلا لغرض ،  فإذا نام لا توقظه إلا الحوادث العظام, وإذا ذل لا يشجعه إلا شديد الآلام، فإذا قام من نومه أبى أن ينام إلا إذا كان مريدا حرًا ،وإذا نفض تراب الذل عنه أبى أن يضام ولو قهر, أو إذا نام الشرق وما كان له أن ينام ،واستكان وما كان له أن يضام, وهو الأفق الذي أشرقت فيه شموس رسل الله وطلعت فيه بدور أنبياء الله وانتشرت منه في الأقطار أنوار الحكم ،وتفجرت ينابيع الفضائل والنعم .

بل هو الأرض التي أنبتت الإنسان وهبط إليها من أسجد الله له ملائكته وجعله صورته, بل وأظهر الله فيه عجائب قدرته وغرائب حكمته فأظهر فيه رسله وأنزل فيه ملائكته وخصه بوحيه فكان مهبط ملائكة الله, ومقر رسل الله, ومبعث أنوار الرحمة والحكمة والعلم والعدالة والاجتماع الإنساني الفاضل حتى كأن الله تعالى لشرف الشرق خصه بفضله وكرمه وأثني على أهله المقبلين عليه وحاسب على ما أودعه فيه من الخيرات والبركات من أبى وتكبر.

ولم يسمع أن الغرب خص بميزة روحانية, ولا بنعمة ملكوتية فكان الغرب ومجهولات أفريقيا وسكان أمريكا, كأن الله خلقهم كمستودعات لاستحضار ما يحتاج إليه الشرق ، فمجهولات أفريقيا لتطهير الهواء وخزن المياه الهاطلة من السماء لمنفعة الشرق, وكأن أوروبا لتربية المعادن والحاصلات المفيدة كالفحم وأخشاب الأشجار الضخمة وتلطيف الهواء الحار, الذي يأتي من الشمال على بلاد الشرق مارا على الثلوج والبحار ،ولذلك لم تذكر في الكتب المقدسة .

ومن نظر بعين بصيرته إلى ما فيه الغرب يظهر له أن أهله حرموا من القوة التي بها علو الهمة وقبول العلم بالله ،ولذلك ترى أكثر سكان الغرب يعبدون إنسانا ولده الشرق أو يجحدون من أوجدهم وبإحسانه أمدهم، أو ينكرون وجود الإنسان الذي خلقه الله, وسخر له جميع الكائنات, وأعد له النعيم المقيم, يوم لا ينفع الإنسان مال ولا بنون فيعتقدون أن الإنسان أصله قرد وينكرون الفضائل الإنسانية, فينحطون إلى أدنى مراتب الوجود, فتراهم كالحيوانات في الغابة, يفترس القوي الضعيف, وليس كذلك الإنسان .

يقظة الشرق :

لما كان أهل الشرق هم الناس الذين أعتنى الله بهم وأكرمهم بالنبوة والرسالة والحضارة والاجتماع الإنساني, ولم يخل مجتمع من المفسدين ظهر فيه الفساد فعم, فسلط الله عليهم من أدبهم بهم, حتى اشتد الظلم, وعظم الطغيان, وتوالت الحوادث, فحس النائم بلهب النار وكاد التساهل أن يذوب بالشرار تيقظ فرأي من يأنس بهم وحوشا كاسرة, ومن يميل إليهم أمراضا قاهرة, واشتد على الشرق الأثر, فاقتضى الحال للمؤتمر .

المؤتمر فوق جبال القمر :

انعقد المؤتمر بعد السمر في دار الحكمة النظرية, على جناح السرعة للحكمة العملية .

جلس الرئيس وأمامه الجبان والمتوسط والمتطرف .

الرئيس– قال بعد البسملة : ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعملو الصالاحات ليستخلفنهم في الارض كما استخلف الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً﴾ سورة النور آية 155, ثم بكى فأبكي وقال : السماء هي السماء, والأرض هي الأرض, ولكن ما سر التغير ؟ ثم استرجع وقال : قال الله تعالى : ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ سورة الرعد أية 11 . ثم التفت إلى الجالسين فقال  الشرق هو الشرق, وأهله هم أهله, لم تنمسخ الأجسام ولم تنعكس القامة نعم ولكن أين تلك الهمم وذاك الشمم ؟ وأين تلك الحمية والغيرة التوحيدية والعزيمة الإسلامية والنشوة الروحانية التي كانت تضمحل أمامها الملاذ البهيمية وتتضاءل الحظوظ الشهوانية ؟ فيكره الإنسان حياته إذا رأى الباطل أو أهله, غيرة للحق ونصرة للفضيلة ما هذا الذي فرق بعد الاجتماع ؟ وأضعف بعد القوة ؟ وأذل بعد العزة ؟ وسلب الحياة الروحانية ؟.

بينوا لي إخوتي ووضحوا لي سادتي, أيموت الإنسان مرتين : موت لضميره وعقله, وموت لجسمه وحسه, فيكون بموت ضميره بهيما مذللا يقاد ولا يحس بالهوان ؟ أم تمرض نفسه فلا يحس بالذل لنظيره, فيداوى وتعود له الصحة الإنسانية التي يعرف بها قدره وحكمة إيجاده ويعلم مصيره ؟ .

الجبان– أجاب قائلا : ما هي حياة الضمير ؟ الخلق كلهم يتعبون ليحصلوا حوائجهم, ويعيشون ليأكلوا, وما دام الإنسان بطنه معمورة وعورته مستورة كان فى حياة مشكورة, أنا طننت عند بكائك أن السماء انخسفت على الأرض, وقد جهلت ما تقول, كل واحد منا عنده أكله وشربه, وهدومه, وينام بالليل, ويقوم بالنهار يشتغل, هل منعنا من الأكل والشرب ؟ أم من النوم ؟ فهمني ما الذي تريده ؟ أليس الله مدح الحلم في كتابه, وقال سبحانه : ﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾ سورة البقرة آية 195 وهل لي رأسان فأجود بواحدة وأبقي الأخرى ؟! أنا أرى البهائم وهي أقوى منا أجساما في عيشة لذيذة و لا تحس بالذل والهوان, قال الشاعر :



سَأُلْزِمُ نَفْسِي ٱلصَّفْحَ عَنْ كُلِّ مُذْنِبٍ

وَلَوْ عَظُمَتْ مِنْهُ عَلَىَّ ٱلْجَرَائِمُ

وقال رسول الله﴿ rوآله﴾: " إن الله ليحب الحليم الحيي ويبغض الفاحش البذيء " أنا ظننت أن هذا الاجتماع على مائدة شهية أو لنيل عطية .

الرئيس : ( قاطعه قائلا ) : سكت عيا ونطقت غيا, اعلم أن حب الذات أصل البليات والحرص على الحياة عين الممات, استشهدت بقول الشاعر وجهلت مراده وبقول رسول الله ﴿ rوآله﴾ولم تحكم إيراده, وذكرت الحلم على غير علم و ليس الحلم انخلاعا عن الكمال الإنساني بالذل لظالم شيطاني إنما الحلم إمساك النفس عند الاستشاطة في الغضب و وربط الجأش عند هيجان الحرج  وملك الجوارح عند اتقاد جمرة الشهوة والشر والسكون عند الحركة للانتقام مع القدرة على ذاك فإن الحليم أطاع ربه وملك إربه, رحمة بالنظراء والضعفاء, لشرف النفس وعلو الهمة وحب مكارم الأخلاق, وليس الحلم ضعف الهمة واحتمال المهنة, وقال الشاعر:

وَلاَ خَيْرَ فِي حِلْمٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ
وَلاَ خَيْرَ فِي جَهْلٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ

بَوَادِرُ تَحْمِي صَفْوَهُ أَنْ يُكْدَّرَا
حَلِيمٌ إِذَا مَا أَصْدَرَ ٱلأَمْرَ أَصْدَرَا



اجلس أيها الجبان  فقد كدت تميت الشجاعة والشرف,  وتحي الذل والتلف و ثم التفت فقال :يجب علينا أن نعالج النفوس حتى تعافي من أمراض الرذائل وأسقام الدنايا, ليعافي الأسافل .

المتوسط: يجب علينا أن نبحث عن سبب هذا الخير وعن موجب هذا الضرر ،لنعلم كيف صار الشجاع جبانا, والعزيز مهانا, ولديها نركب للداء الدواء بأناة وروية, وقد سئل رسول الله ﴿ rوآله﴾عن الإيمان فقال : " هو الصبر" وقال الشاعر:

لاَ يُدْرِكُ ٱلْمَجْدَ أَقْوَامٌ وَإِنْ كُرِمُوا
وَيَصْفَحَوا عَنْ كَثِيرٍ مِنْ إِسَاءَتِهِمْ


حَتَّىٰ يُذَلُّوا وَإِنْ عَزُّوا لأَِقْوَامِ
لاَ صَفْحَ ذُلٍّ وَلَـٰكِنْ صَفْحَ أَحْلاَمِ





                               



 

الرئيس: واجب الوقت أن نعمل لا أن نتكلم فبين رأيك .

المتوسط : تعلم ياسيدي أن الغاضب لا يرد ما وضع يده عليه بحجة لسانيه, ولا بمفاوضة بيانية ، حتى يهدد بقوة تخيفه وبصولة ترهبه, لكي يتحقق أنه إن أبطأ في رد المغصوب يؤخذ منه قهرا, وبدون تهديد لا ننتفع بوعوده .

الرئيس: بين لنا طرق التهديد من غير ترديد .

المتوسط: يعلم سيدي أن المغصوب منا السيادة والأموال ، فالقوة التي نسترجع بها السيادة من هذا الغاصب أن نتحد متحابين ، ونتعاون على الخير متحدين ، وأن نصلح ذات بيننا في كل الحوادث بأنفسنا, فلا نحتاج إلى هذا الغاصب أن يدفع ظلم بعضنا البعض, وأن نعز أنفسنا من أن تذل بالتقريب منه, والإكرام له, حتى نتباعد بالكلية عنه .

فإنما سادنا بقهر بعضنا ببعض, فإن بعضنا تدعوه السفاهة إلى نيل شهوته وحظه بأذية قومه, فيستعين بالغاصب على أحب الناس إليه, وأقربهم منه, وإنا والحمد لله ديننا حق, جمع لنا ما به سعادتنا في الدنيا والآخرة, فلنرجع إليه في معاملتنا, ونتوب إلى الله مما جنته علينا نفوسنا من مخالفة الله تعالي, فنكره ما كرهنا فيه ومن كرهنا فيهم, ونحب ما رغبنا الله فيه ومن أمرنا بحبه, وبذلك نسلب سيادتنا منهم ونحيا في أوطاننا أعزاء نجدد آدابنا وفنوننا وصناعاتنا, أما استرجاع المال من يد الغاصب فأمر سهل علينا, وذلك أن نستغني بحاصلات بلادنا, وننافس في صناعاتنا, ونشجع عمالنا .

لأن الشرق مكث أكثر من ستة آلاف سنة وهو منبع الفنون والصناعات, ومصدر الحكمة والخيرات, والغرب في حضيض الأسفلين بل في ذل مهين, فهم ولا يزالون في حاجة إلى الشرق في ضرورياتهم, والشرق غني عنهم فهلم بنا نستغني عن وارداتهم المفسدة للعقول, المضيعة للأموال, المفسدة للأخلاق والآداب, انظر ياسيدي بكم من الملايين يشرب الشرق خمرًا, وبكم يفسد صحته بالعقاقير والمياه المعدنية التي تجلب لأهل الشرق فتفسد أجسامهم لأنهم لم يعتادوا عليها, لا شفاء لكل إقليم إلا بعقاقير أرضه, وبكم من الملايين يرد على الشرق من الأقمشة للرجال والنساء, التي لا يستعملها إلا أهل الخلاعة الذين لا خلاق لهم, مع أن صناعات الشرق مع جودتها ومتانتها تناسب الكمال والمكان, وكم خربوا بيوتا للصناعة, وكم أماتوا صناعا وعمالا كان الشرق يفتخر بهم, وإني لأعجب كيف يقتل المرء نفسه ليحي عدوه, نترك ياسيدي شرب الدخان واستعمال الحشيش والجلوس على البرص التي تنزف ثروة الشرق, ونعود إلى تبادل الزيارات في منازلنا, والاجتماع على أفضلنا, فنسترجع أموالنا المسلوبة, ونعيد صناعاتنا المفقودة, ونجدد المحبة والولاء والصفاء بيننا والوفاء بعد التفرقة والجفاء, فيكون الشرق من المحيط الأطلنطي إلى المحيط الهادي ومن المحيط الهندي إلى المتجمد الشمالي كعائلة واحدة, يجمعها دين حق, ووطن جمع الله لنا فيه أنواع الخيرات كلها, وأغنانا الله به وأحوج إلينا غيرنا .

 هذه ياسيدي هي القوة التي نهدد بها عدونا الآن, فنضطره إلى مفارقتنا أو إلى مسالمتنا, فإذا جمع الله شتاتنا ومنحنا النشاط في تحصيل العلوم النافعة, والفنون الرافعة, عاد لنا مجدنا الماضي, وعدنا للعالم أجمع كما كنا مصدر الرحمة والخير, كما أمرنا الله تعالى ووصانا به رسول الله ﴿rوآله﴾, نعفو عن إساءة المسيئين .

الجبان: ( قام باكيا قائلا ) : إني كنت نائما فتيقظت, غافلا فتنبهت, وإني أعاهد سيدي الرئيس أن أكون أول عامل بتلك الوصية, مجاهداً نفسي بكل غيرة وحمية, وإني أنشر تلك المباديء بين أحبابي وأولادي فترون إن شاء الله جيشاً على الرذائل هاجماً, هذا وإني أري أن يكون تعليمنا بالعمل لا بالقول والأمل, وهلم فليحرق كل واحد منا ما على جسمه أو في حقيبته مما وجد من غير أوطاننا, وكان أكثر ملابس رجال المؤتمر من صناعات مصر ومراكش والهند, فأحرقوا الأحذية والسجاير والشرابات, وأرسلوا الخدم فأحضروا لهم نعالا وشرابات .

الرئيس: الحمد لله الذي منحنا الاتحاد فإن الذي يعمله الفرد يعمله المجتمع.

المتطرف: إن رأي المتوسط حسن ولكنه يحتاج إلى زمان طويل نخشى فيه من العدو أن يخدع من لا بصيرة لهم,  أو يصادر الصناعات بما أتقنه من طرق الانتقام والتشديد, والخبث والتهديد و والرأي عندي أن نهدده بالمظاهرة بالعداء, ونطالب برد كل شيء لا يرضاه ديننا ولا تستحسنه عوائدنا, ونخرج من بلادنا أهل المفاسد المنتشرين لسلب الأموال بالخمر والميسر والفجور, ونطالب بألا يتعين في إدارة شئوننا أجنبي إلا إذا فقد نظيره من الأمة, ونطالب بأن تكون الشركات المستولية على المنافع العمومية للأمة, وأن ينشر التعليم العام الذي يعيد للشرق مجد الصناعات, ويجعل للصناعات قوة الاختراع والتفنن, حتى يزهو الشرق بمجهودات العقول السليمة, وتلك المطالب كلها لا بدلها من ثمن غال, فندفعه سخية به نفوسنا, وها هو هذا الصداق يبذل من نفوس طاهرة بريئة, تحصدها الرشاشات من مياه الهند إلى مراكش ومن لم توقظه من نومه جمرات النار كيف يستيقظ ؟!





مواضع العبرة والعظة في هذه القصة

تناول الإمام المجدد أبو العزائم  uفي قصة ( الجبان والمتوسط والمتطرف ) أو ( المؤتمر الشرقي العام ) قضية مجد الشرق الذي فقده الشرقيون أو بالتحديد كيفية عودة المجد الذي فقده المسلمون, وذلك من خلال عقد المؤتمر الشرقي العام, حيث أدار الإمام المجدد الحوار بين رئيس المؤتمر وكل من ( الجبان والمتوسط والمتطرف ) بكل مهارة واقتدار, واستطاع الإمام المجدد من خلال المؤتمر الشرقي العام تشخيص الداء الذي أصاب الشرق فأضاع مجده وعزته, ثم وضع الدواء لإعادة ذلك المجد المفقود .

( فرئيس المؤتمر الشرقي العام ), يرمز للعالم الرباني, أو إلى المجدد الذي يجدد للأمة أمر دينها, فهو المرجع العلمي والمعرفة لهذه الأمة, ولا سبيل لعودة المجد الإسلامي ولا لكرامة الشرق, إلا بالرجوع إليه .

( وأما الجبان والمتوسط والمتطرف ), فهم يرمزون إلى أحوال أبناء الأمة, على مر العصور, وكر الدهور .

( فالجبان ), هو الإنسان الذي فارق فضائل دينه, وتربى على تعاليم الغرب فما دامت بطنه معمورة, وعورته مستورة, فهو كما قال عن نفسه في عيشة مشكورة تلك هي فلسفة الجبناء في الحياة ، أن يعيشوا لتحصيل حظوظهم, ونيل شهواتهم, وغالباً ما يمثلون الطابور الخامس في بلاد المسلمين, الذين يوالون أعداء الدين ، ولا بد من قهرهم دائماً للعمل بالشريعة, والتمسك بالدين.

( وأما المتوسط), فهو يرمز إلى المسلم الفاهم المدرك ، الذي أجاد تشخيص أزمة الأمة, فأرجع ضياء المجد الذي كان للشرق, إلى اغتصاب السيادة, الذي أدى إلى انهيار الأحوال السياسية, واغتصاب الأموال ، الذي أدي إلى انهيار القوة الاقتصادية وأمة فقدت استقلالها السياسي, وقوتها الاقتصادية, لا يمكن لها نيل الحرية .

( وأما المتطرف ), فهو رمز للمسلم الشجاع الذي يعرف أنه لا يصح أن نطمع فيما في يد المستعمر القوي إلا بالقوة, فالمحتل والمستعمر لن توقفه حجة لسانية, ولن تردعه مفاوضة بيانية... والسبيل هو أن يسترخص المسلم النفس والمال لعودة المجد كما قال قائل:



وَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا

عَلَىٰ أَيِّ جَنْبٍ كَانَ فِي ٱللهِ مَصْرَعِي



                     





المجذوب والسياسي

   سئم ناصر الشهير أعمال السياسة, لأن خديعة الأعداء فوق سياسته ففر إلى زاوية مزوية ليروح نفسه بين الدراويش بحالة خفية, فوجد مسكينا في أسمال ظنه محتالا, وانتقد عليه ولكنه أسرع إليه,  وقال ما أسمك ؟ فأجابه : اسمي أبو تراب, وانتقادك علىَّ عجب عجاب, فظن به السوء وقال : أتقن الحيلة وحصل في النصب الوسيلة, وعزم أن يكشف سره بالسياسة وأتقن وسواسه وقال : أبا تراب ما عملك في النهار ومتى تخرج من الدار ؟ .

أبو تراب: عملي في النهار من كلاب الدنيا الفرار, وبما أشهده الاعتبار.

ناصر:وإلى من تفر وأنت بينهم وفيهم ومنهم ؟

أبو تراب: إلى مشهود بعيون اليقين, قريب من أهل التمكين, إلى رب العالمين .

ناصر: لعل عقلك مختل, وعزمك منحل .

أبو تراب: إن من تيقن الموت, وتحقق عدم الفوت, ونظر فاستبصر يفر إلى الله ولا يتأخر.

ناصر: ما حال الناس اليوم ؟ وما يؤول إليه شأن القوم ؟

أبو تراب: تعني بالناس المسلمين ؟ قد التفتوا عن وليهم, وركنوا إلى عدوهم, فخدعهم بالمحال, ثم أذاقهم الوبال, مكنهم الله في الأرض بالتقوى, وأذل لهم غيرهم  ومنحهم الجدوى، فتفرقوا أيدي سبأ وكم وعظهم في النبأ ،ها هي شواظ النيران تمزق جلودهم والوعود تهدد بلادهم، فأصبحوا بعد أن كانوا سادة أمراء عالة أذلاء وهذا جزاء من التفت عن وليه المعطي الوهاب، و يرغب في المسارح والملاهي عن المحراب, وأدخل الثعبان المنكمش في الشتاء بين جلده والغطاء فليلم المتساهل نفسه ، حيث والى العدو ومنحه أنسه

ناصر: وهل لذلك خلاص ؟ أو ليس منه مناص ؟

أبو تراب: سبب البلايا هذا, وقبض على لسانه ثم مزق ثيابه ووضع يده على بطنه عريانة, وقال إنما مكن العدو هذه, ثم وضع يده على عورته وقال : سبب الذل للعدو هذا, هجموا علينا بالسيوف فقهرناهم بما كنا عليه من الحق، فردوا الكرة علينا بشهوتي البطن والفرج فقهرونا قهر الدابة بالسرج ينادينا الأعداء إلى الذل والبليات فنجيبهم للمعاصي والمخالفات

ناصر – بكى بكاء شديدا وتذكر قول العربي :



تَرَي ٱلرَّجُلَ ٱلْفَقِيرَ فَتَزْدَرِيهِ
وَيُعْجِبُكَ ٱلطَّرِيرَ فَتُبْتَلِيهِ

وَفِي أَثْوَابِهِ أَسَدٌ هَصُورُ
فَيُخْلِفُ ظَنَّكَ ٱلرَّجُلُ ٱلطَّرِيرُ

وقول الآخر :



أَبُنَيَّ إِنَّ مِنَ ٱلرِّجَالِ بَهِيمَةً
فَطِنٌ لِكُلِّ مُصِيبَةِ فِي مَالِهِ

فِي صُورَةِ ٱلرَّجُلِ ٱلسَّمِيعِ ٱلْمُبْصِرِ
وَإِذَا يُصَابُ بِدِينِهِ لَمْ يُبْصِرِ



           



             

ثم بكي بكاء شديدًا واسترجع وقال : صدق الله العظيم في قوله مخبرًا عن الكافرين الذين حقروا أتباع نبيه الكريم ﴿ وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ﴾ سورة هود أية 27 وقال إنا نظن في أنفسنا الحكمة والسياسة ونحتقر النساك ،وإذا بهم هم الرجال، ثم قال لأبي تراب : هل ترضى بي لك خادمًا فقد صرت على تقصيري نادمًا ؟ ولكن ياسيدي بين لي كيف الخلاص من ضيق ما خاص ؟

أبو تراب: أنت الذي جلبت هذا لنفسك, فابك في يومك على أمسك .

ناصر: ( بكى وانتحب وخشع بين يدي الفقير ولزم الأدب وقال ) : ياسيدي ما الرأي والحيلة ؟ وما العمل والوسيلة ؟

أبو تراب: اخلع ثياب ترفك ( وخلع أبو تراب ثيابه ووقف عريانًا ) والبس حلة كفنك فإن الموت عز يدوم والراغب في الحياة ذليل محروم، ثم تناول بوصة طويلة فركب عليها يجرها وراءه وقبض على سيف من خشب كالصبي الذي يلعب وهجم عليه قائلاً :لا يرد الكلام مجداً ولا يؤيد قصدا وعدوك أقوى منك خدعة وسياسة, أحرص منك على المال والرياسة، ثم وقف يكرر مخاطبًا بطنه:

يَا بَطْنُ أَنْتِ عَدُوَّتِي

جُوعِي أَنَلْ أُمْنِيَّتِي



ثم ضربها بالسيف وخاطب ذكره قائلاً

أَنْتَ ٱلْعَدُوُّ تَقُودُنِي

لِلنَّارِ حَالَ ٱلْغَفْلَةِ

ثم ضربه بالسيف وخاطب لسانه

نَعَمْ لِسَانِي قَادَنِي

لِلذُّلِّ بَعْدَ ٱلْعِزَّةِ

وأخرجه وضربه بالسيف ثم نظر وقال :يا ناصر إذا قهرت أعداءك فيك بسيف الشريعة بلغت الدرجة الرفيعة, وعاد لك المجد القديم ، وذل لك العدو الرجيم .

ناصر: فهمت إشارته, وأدركت عبارته, ودنوت منه ففر مني وقال : إليك عني, فرجعت إلى بيتي وقد وضح لي السبيل ، وقام الدليل .

مواضع العبرة والعظة في هذه القصة

في قصة ( المجذوب والسياسي ) .. استطاع الإمام المجدد أبو العزائم uأن يقدم للأمة الإجابة على سؤال هام دائمًا ما يثور ويتردد في كل عصر وجيل وهذا السؤال الهام هو : من الأقدر على قيادة الأمة الإسلامية, والإمساك بدفة السفينة الإسلامية ؟ !

هل هم أهل القداسة ؟! أم أهل السياسة ؟!

أيهما أقدر على الفهم والوعي وحراسة العقيدة وسدانة الرسالة ؟!

( فناصر ) ،في قصة المجذوب والسياسي, هو رمز لأهل السياسة, الذين اعتمدوا على مهارتهم العلمية والعقلية وأساليبهم الماكرة, وطرقهم الدبلوماسية ,ومناهجهم الميكافيلية التي تجعلهم متسلطين على أبناء الأمة ولو بالحديد والنار والسجون والمعتقلات وقوانين الطواريء والدساتير الوضعية ..الخ

( والمجذوب أبو تراب ), يرمز إلى أهل الله من العلماء الربانيين أهل الخشية من الله تعالى والأدب معه, الذين منحهم الله الفقه في دينه, وأعطاهم الحكمة وفصل الخطاب, فكانوا أهل القداسة . وهم الأحق بطهرهم وصفائهم بقيادة الأمة ..  ..  كما قال الإمام على بن أبي طالب u: ﴿ نَحْنُ ٱلشِّعَارُ وَٱلأَصْحَابُ وَٱلْخَزَنَةُ وَٱلأَبْوَابُ وَلاَ تُؤْتَى ٱلْبُيُوتُ إِلاَّ مِنْ أَبْوَابِهَا, وَمَنْ أَتَاهَا مِنْ غَيْرِ أَبْوَابِهَا سُمِّيَ سَارِقًا﴾ .

والأزمة القائمة في الأمة تكمن في غرور أهل السياسة, وابتعادهم عن أهل القداسة, وظنهم الخاطيء أنهم سيحلون مشكلات الأمة بالطرق الدبلوماسية, والمهارة السياسية, في حين أن الطرق الدبلوماسية لم تقهر عدوًا, ولم تعز وطنًا ولم تطرد أبدًا  غاصبًا ولا  محتلاً !!

والإمام المجدد أبو العزائمu يقدم الحل للأمة في قصة المجذوب والسياسي . والحل في نظره يكمن في تسليم أهل السياسة لأهل القداسة, كما كان الخلفاء يفعلون في عهود السلف الصالح . ولذا نجد أن ( ناصر السياسي ) .. في نهاية القصة يعترف بعجزه, ويشهده الله قيمة أهل القداسة فيقول :

( إنا نظن في أنفسنا الحكمة والسياسة, ونحتقر النساك, وإذا بهم هم الرجال).

الصالح واللص والسكري

من عجائب الاتفاق أنه خرج الصالح من بيته في جوف الليل يتهجد في المسجد, فلقيه اللص فظنه خفيرا فرماه بالرصاص, فلما سمع صوت المسكتة " البندقية " قال : ياحفيظ ياسلام, فحفظه الله, فعجب اللص وأعتقد أنها كرامة ودنا من الصالح .

اللص: سامحني أنا ظننتك حرامي  .

الصالح: لست حرامي أنا متوجه إلى المسجد لأصلي ركعتين في جوف الليل .

اللص: خروجك في هذا الوقت خطر .

الصالح: إنما الخطر على من خرج ليغضب الله, وأما الذي يخرج لطاعة الله يحفظه الله, وبينما هما يتكلمان مر بهما سكران أفسد الخمر عقله, وأنهك قوته, وفي جيبه زجاجة خمر, فلما لقيهما أخرجها وناولها للصالح .

الصالح, أخذها منه وقال للص : أنظر ياأخي إلى هذا المسكين كان إنسانا فصار أقل من البهيم .

اللص, أراد أن يأخذ ثياب السكران وماله بحيلة فقال للصالح : هذا عاقل لم ينقص عقله .

الصالح: لا  ، بل هو لا يحس بشيء .

اللص: إذن اسمح لي أن امتحن عقله .

الصالح: لا يحتاج إلى امتحان, الأمر ظاهر .

اللص: دعني أمتحنه . والتفت إلى السكران وقال : هات المال الذي معك, فأعطاه ما معه, فقال : اخلع ثيابك ..... فخلع ثيابه .

الصالح: ( يقول للص ) : لو أن هذا اتقى الله,  هل كان يضيع عقله ويسلم في ماله وثيابه ؟! إن المسلم إذا عصى الله تعالى انتقم منه .

اللص : أنا رأيت كثيراً يفعلون الكبائر ولم يحصل لهم مضرة .

الصالح: المضرة ياأخي أنواع كثيرة : منها العقوبة البدنية, ومنها سلب التوفيق من العبد, ومنها مسخ الإنسان حتى يكون إنسانا في الشكل وهو سبع في الحقيقة يقتل الناس ويفترسهم, أو كلبا يؤذي الناس, أو ثعبانا .

وأنت ترى اللص الذي يخرج في الليل لأجل سرقة الأمتعة وقتل الناس إنسانا ؟ لا – بل هو سبع كاسر مسخه الله, لأنه أغضب الله, وكيف يكون الإنسان الذي يخرج في الليل ليقتل وينهب إنساناً نظيره أو أخاه المسلم من جنس الإنسان؟! لا شك أن الله مسخه وهو لا يشعر بذلك, والسكران هذا لم يضر غيره ولكن أضر نفسه, ولكن اللص أضر نفسه وأضر غيره, فهو عدو نفسه وعدو رسول الله ﴿ rوآله﴾.

السكري: أنا فين ؟ وفين أمال تفيده زوجتي ؟ ثم نظر إلى نور القمر على الأرض فظنه ماء فقال : أنا أغتسل في هذا الماء وأروح نظيف .

الصالح: بكى حزنا عليه فقال : عجبا لمن يبيع عقله وشرفه ويضيع ماله ودينه بشرب شراب غض المذاق ،  سيء البلع ،  ممزق للكبد ،  مفسد للمعدة .

اللص: أنا اعتقد أن الحرامى خير من السكري ، وأحسن نأخذ ثيابه وماله ونتركه.

الصالح:  الإنسان إذا لم يرحم لا يرحمه الله, و أما اللص شيطان ووحش ، لأن هذا السكري أضر نفسه فقط، لكن اللص يخلد في النار والغالب أنه يموت كافرا .

اللص : هو اللص يموت كافر ؟

الصالح: نعم ، لأن الذي يقتل يخلد في النار، وربنا سبحانه وتعالي يعذبه في الدنيا والآخرة لكن الذي يشرب الخمر يعجل له ربنا العقوبة بسرعة وأنت تنظر بعينك ، ضاع عقله وماله وثيابه ودينه وصحته وجاهه ،  وأنا أصحبه رحمة به لما أوصله لحد بيته.

اللص: رق قلبه وأخبر الصالح بحاله.

الصالح: ( قال له ) تب إلى الله وتوجه معه السكران إلى منزله فلما وصلوا المنزل وجدوا الباب مفتوحاً فدخلوا به فوجدوا أمه تبكي وزوجته خرجت تفتش عليه في الخمامير, هي وابنته فزاد حزن الصالح وأسف التائب وسألا أمه فقالت : إنه فلان بن فلان أبقى له أبوه خيراً كثيراُ ،  فاجتمع عليه رجل فاسد فأضاع كل المال ، ولم يبق عندنا ما نقتات به .

مواضع العبرة والعظة في هذه القصة

دائما ما يبدأ أعداء الإسلام بإفساد الحياة الاجتماعية في الأمة الإسلامية ، للوصول إلى أغراضهم السياسية .

وفي قصة ( الصالح واللص والسكري ) . . إشارة إلى هذه الحقيقة فالاستعمار الغربي كان يبدأ الهمجية على كل بلد إسلامي بجيوش من البغايا اللاتي يحملن عضال الأمراض من السيلان ثم الإيدز  .. الخ

وكذا جيوش الخمر والميسر وجميع أنواع الموبقات والمحرمات ، مع تشييد أماكن اللهو والخلاعة, بحيث يصبح المسلمون كالبهائم الراتعة لا حلال ولا حرام ولا دين يعصم النفوس ولا قوة تدفع الرذائل... ولذا نجد أن حملة نابليون بونابرت حين أتت إلى مصر دفعت بعلماء فرنسيين جاءت بهم لينتشروا في كل بقاع مصر، لدراسة الحياة الاجتماعية للشعب المصري ليسهل ضربه وقيادته بعد ذلك، وقدموا تلك الدراسة في كتاب : ( وصف مصر ) .

والإمام المجدد أبو العزائم uيكشف عن هذا الجانب ويبين تلك القضية في هذا الحوار الرائع بين ( الصالح واللص والسكري ).

(فالصالح) في هذه القصة يشير للمسلم الكامل الذي بغيته هداية الخلق وجذبهم إلى حظيرة الحق, وإخراجهم من الظلمات والشهوات إلى نور الإسلام  والإيمان  .

( و السكري ), رمز للمسلم العاصي, المتعدي لحدود ربه, المستحل لحرمات الله الذي خدعه ( اللص ) بما قدمه له من البغايا والخمور والمخدرات وصالات الميسر وأماكن اللهو والخلاعة والأفلام الهابطة والمسلسلات الماجنة المحطمة للروابط الأسرية والأخلاق الإسلامية .

( واللص )هو عدو الإسلام المخادع الذي يغرر بالمسلم الغافل فيسلب منه عقله وماله وثيابه وصحته بل ودينه !! ولا علاج لهذا الفساد الاجتماعي إلا بوجود الصالحين في الأمة فهم سرج الهداية ومصابيح الدلالة الذين يأخذون بأيدي العصاة والمذنبين والغافلين إلى رحاب رب العالمين .



الفلاح المصري

والتاجر الهندي والمخدوع العراقي



إِنَّ ٱلْكَلاَمُ لَفِي ٱلْفُؤَادِ وَإِنَّمَا

جُعِلَ ٱللِّسَانُ عَلَى ٱلْفَؤَادِ دَلِيلاَ

اهتم مؤرخ شهير أن يعلم شيئا عن الهند والعراق ومصر وهو في سفر, فتعرف برجل من كل أمة, فكان المصري فلاحا والهندي تاجرا والعراقي عونا للظلمة, فأحب المؤرخ أن يسمع منهم من غير أن يفتتحهم بسؤال, ليصل إلى الحقيقة من غير تكلف منهم, فإن المسئول ليس كالمتكلم بوجد من غير سؤال .

المخدوع العراقي: كنا نكره هؤلاء ولكنا أحببناهم لما عملوه من الخير انظر إلى الحرية, الواحد منا يسهر طول الليل في أنس وبسط ولذة لا يخاف من المتكبرين فيجلس الفقير مع الغني في القهوة والخمارة ويخرج فيجد أبواب الكراخانات مفتحة, ويجد العساكر واقفة بالسلاح, وإذا احتاج للمال يروح البنك يأخذ كل شيء يريده, وإذا زعله أبوه والا العمدة يروح يوقفه أمام الحاكم يهينه ويحبسه, وبنت أعظم عظيم تطلع على حريتها تروح بيوت الكرخانة, وتروح بيوت السر, لا يقدر أبوها حتى يضربها بيده, بعد أن كانوا زمان إذا بصت البنت من الشباك أو تكلمت بكلمة صغيرة من الكلام اللي يسر النفس، أو أي إنسان يمر عليها ويلقاها ويا رجل آخر يضربها أبوها أو أي واحد ،والإنسان في البلد زي الأسير ما يقدرش يعمل حاجة, وكانت البهائم في حرية عنا, كنت تشوف الجديان والحمير فرحانين ببعض ما فيش حبس حرية, لكن احنا الآن لا يمنعنا الجماعة اللي عاملين نفسهم عقلا من غير حق  .

الفلاح المصري: كل ما عون ينضح ما فيه أنا سمعت إن في الغابة حيوان زي الإنسان من نوع القردة, وكنت لا أصدق لكني الآن صدقت الخبر، والحقيقة أن هذا الرجل العراقي هو ذلك الحيوان اللي سمعت عنه ،يا مسكين الناس الذين تمدحهم وحوش في صورة ثعالب كرهوا الخير لك فسلبوا منك الأسباب التي تنال الخير بها, وهي الدين والعفة والرحمة وجعلوك أدنى من البهائم، مع أن الفرس التي ينظفوها كل يوم مرتين ويطعموها أجود الأكل تحس بالذل عند ركوبهم عليها ،فكيف يفهم الحيوان ضررهم وينفر منهم .

وأنت ياإنسان تجهل ما يريدونه منك ؟!

صحيح زمان كان والدي يضربني إذا أخرت صلاة الصبح، و إذا سمع مني كلمة لا تليق بالأدب، وإذا تأخرت بعد العشاء ولو في مصلحة ،وكانت والدتي إذا رأت أختي تكشف يدها أو تلبس ثوبا ملونا تضربها وتوجعها، وكان الرجل إذا مشي بعد المغرب مع المرأة يعايروه الناس كلهم وكان العمدة بتاع البلد إذا غاب عن صلاة الجماعة في المسجد كل أهل البلد يحقرونه ولا يتوجهون إليه للصلح  .

وكان الذي يشتكي جاره يفضحونه ،وكل أهل البلد يعايروه, ولأنه لم يسامح جاره، وعمري قبل ما نرى هؤلاء الناس لم أر رجلا وزوجته في المحكمة، ولا أخا مع أخيه في المحكمة، ولم أر محضراً حجز على واحد في بلدنا أبدا، ولم أسمع بالربا, وكان الرجل منا يروح بيت جاره فيدخل مخزنه ويأخذ منه التقاوي, حتى كنا نأخذ العيش من بعضنا وكان أكثر أكلنا وشربنا على المساطب برا الباب .

وعادتنا أن الرجل إذا عمل فرح والا محزنة لا يغرم ولا قرش واحد, بل كل جيرانه يقوموا له بلوازمه, فكانت البلد كأنها عائلة واحدة ، إمام المسجد وخطيبه أبوهم, والعمدة خدامه, وكنا نجتمع معه في النهار خمس مرات, نسمع منه العلم, ويقوم الواحد منا يقول لزوجته وأولاده الكلام اللي سمعه من الشيخ, كان الولد الصغير يستحى يكلم الكبير عنه، كنا زمان في أيام الزراعة كلنا نزرع لبعضنا, فيستعمل كل واحد منا حيوانات وآلات إخوته, عمري ما سمعت إن واحد تخاصم مع الثاني لأجل سقية الزرع, وكنا نزرع البرسيم لتأكله حيوانات الفقراء مع حيواناتنا, ولو سمعنا أن رجل أختلى بامرأة لعمل السوء نخرجه من البلد, ونحبس المرأة في بيتها تبقى فضيحة لها ولأهلها تعاير بها قرايبها, فكان أفقر واحد عند غيره مثل أكبر واحد .

لما دخل بلادنا الذين تمدحهم عملوا زي ما عمل نابليون الذي حكى لنا حكايته سيدنا واحنا في الكتاب, قال : إنه لبس ملابس الأولياء هو وقومه ودخلوا المساجد يصلون ،وزاروا العلماء وأعطوا لهم حشيشا كثيرا، وأهل مصر فرحوا بهم وبعدين قاموا دخلوا الأزهر بالخيل وقتلوا العلماء والأطفال وأظهروا المفاسد في النساء والرجال, واحنا نسينا حكاية سيدنا, واغترينا بما أظهروه لنا من الرحمة حتى بالبهائم, قلنا في أنفسنا : ربنا رحمنا بهم, وبعدين نظرنا فوجدناهم زي الميه اللي تحت تبن, توقع الجدران على أهلها من غير ما يشعروا .

أفسدوا العقائد والعوائد والأخلاق, فلو أن سيدنا قام من الطربة ورأى حالتنا لأنكرنا, كان يقول : فين المسلمين ؟ وأين دور النسيج والغزل وصناعة الطرابيش والجلود والصباغة ؟ وأين الحرف والفنون اللي كانت في البلد كثير ؟ وأين أصحاب الأطيان الواسعة ؟ وأين الذين كانوا يجتمعون في المساجد بالليل لقراءة الأوراد ؟ وأين الوجوه الجميلة الإسلامية التي كان الإنسان يراها مجملة باللحية ؟ .

ومالي أرى النساء أصبحن كالإماء ظاهرة عوراتهن ؟ وكنت أمشي في البلد طول النهار لا أري امراة واقفة على بابها, وإني أرى النساء في الأسواق مكشوفات العورات !!

وأين الحياء الذي كان بين الناس ؟! كنا نستحي نأكل في الأسواق, وكان يقول, مالي أرى الناس يخرج الدخان من بطنهم !! لا حول ولا قوة إلا بالله.

فكيف إذا ظهر سيدنا عمر بن الخطاب ورأى حالة البلاد التي فتحها بدم الصحابة ؟!!!

أيها العراقي أيام تمسكك بدينك كنت راقيا هل جهلت أم تجاهلت ؟ ! هل إن يسلب الحرية منك العقل تنحط إلى رتبة البهائم ؟! كنت عزيزا فأذلك المغتصبون وكنت غنيا فسلبوا الغني ونشروا بينك رجالا يقبحون الدين وأظهروا ما تنفر منه نفوس البهائم من العهارة والخمور والميسر والربا وسلبوا العلوم النافعة والآداب الفاضلة بعد سلب الصناعات والسلاح فانظر إلى نفسك وابكي عليها . وبكى الفلاح حتى أبكى الحاضرين وقال : كان عندي خزانة من المال أنفع بها الجيران وكان عندي ميت فدان أعين بها الضيفان فعلمت أبني في المدرسة فقهرني على التمدن فبنى بيتا كبيوتهم وأنفق ماله في بلادهم فأصبح الآن يرعى البهائم عند رجل أفرنجي يعض أصابعه ندما وهو الآن معتقل, لأنه كان مغروراً بهم فانكشفت له نواياهم .

أيها العراقي لا تكن سببا في انتشار الطاعون الاجتماعي بين قومك واعلم أن تبسيمة السباع فاتحة الضياع . بكى الهندي وأبكى .

الهندي: أيها الفلاح المصري إن كل مسلم يحب الناس الذين يكرهون دين الله لابد أن يكون أبوه منهم, وأنت تعلم أن العراقي غش المسلمين, وقام مع العدوين بقتل المسلمين لأجل أن يطفيء نور النبي معهم بمحاربة خليفة النبي عليه الصلاة والسلام, هذا العراقي أحب الكفار وكره المؤمنين لأجل المال والرياسة, والذي يبيع دينه بالدنيا ويسفك دم المسلمين بسيف الكافرين في حرم رب العالمين, ويقوم مع المنافقين يسفك دماء المسلمين ويذل أنصار رب العالمين عند بيت المقدس ولم يخش الله تعالى – لا في الحرم المكي ولا في الحرم الشامي – اسألوا يامصري يافلاح قل له : كنت بتساعد مين على مين ؟ وكنت تقتل مين بسيف مين ؟

هو العراقي أول أمس كان يسفك دماء المسلمين بسيف الكافرين, وأمس كان واقف يقول أنا صديق الإنجليز ويجب على العرب أن يصادقوهم, والعربي الذي لا يصادقهم عدو بلادهم وفي بلادك يافلاح رجال كثيرين مثل العراقي, ولكن الحمد لله الحق يعلو ولا يعلى عليه, إحنا كنا في الهند مغرورين أكثر منكم, وكنا نفتخر بيهم, ولكن بعد ذلك غلب الطبع التطبع .

أنت تسمع في التاريخ علوم الهند وصناعتها وتجارتها وقوة ملكها وكثرة إيراداتها, كل ذلك ذهب وسلبه هؤلاء الناس بسبب مثل هذا العراقي, وبعد أن استخدموهم في ضرر قومهم أذلوهم ذل الكلاب, والحقيقة ظهرت, والعداوة في القلوب تأسست وإحنا والحمد لله قمنا من نوم الغفلة, وصار العراقي وأمثاله معلومين للمجتمع الإسلامي, ولولا أننا محرمون بالحج كنا ريحنا العالم منه ولكن له يوم، وأنا أبشرك يافلاح أننا في بلادنا اتحدنا مع الهندوس على طرد الظلمة، وربنا سبحانه وتعالي نبه كل أمم بلادنا ولم يبق في آسيا كلها إلا العراقي وأبوه وأخوه, ودول ربنا كشف الستر عنهم وكرههم حتى أتباعهم .

وأنت ترى حالة مراكش والجزائر وتونس وطرابلس ومصر والشام, وحركة العراق والحجاز, وتعلم أعمال أنصار الدين في الأناضول وبلاد العجم وأفغانستان وغيرها, وأظنك تسمع أن جزء من بلاد الإنجليز وهو من جنسهم, ودا كله من ظلمهم للعباد .

العراقي لما سمع كلام المصري والهندي دخل في قلبه الرعب, وتذكر أعمال الظالمين, وعلم أن الدنيا فانية, وبكى على نفسه وتحقق أنه ظلم نفسه بفرحه بالدنيا, وسأل الهندي كيف الخلاص ؟ فأجابه الفلاح المصري أبواب الخلاص مفتوحة قدامك الجيش الإنجليزي خرج من عندك، والمسلمين اللي وياك كلهم يحبون الله ورسوله, فانصحهم واجمعهم وارجع إلى ما كنت عليه مع خليفة رسول الله ﴿ rوآله﴾وأنصاره, فإنك تنال العز في الدنيا والسعادة في الآخرة .

أنت ياعراقي مهما بلغت درجتك من القوة والملك لا تخرج عن كونك عبد للإنجليز, أنا شفت بعيني في مصر واحد من المعسكرين الإنجليز عندنا ينفذ كل شيء والحكومة كلها خدامة له, ومصر دولة قديمة قوية من قديم, وأنت يامسكين لم تكن ملكا ولا سلطانا, وهم أعطوك الملك لتكون عبدا لهم مطيعا, كيف تتمنى العز وأنت أذل الناس لهم ؟! تدارك نفسك قبل الموت وانصح قرايبك فإن القهار لا ينام, والظالم لا يأمن نقمة الله تعالي, لأنه سبحانه وتعالي يقول ﴿وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾ سورة هود أية 113.

الهندي: إن الأعداء يبذلون المال ليفرقوا بين المسلمين ﴿يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ سورة البقرة آية 9  أفسدوا الحجاز والعراق والشام واليمن ومصر, عداوة لله ورسوله ولخليفة المسلمين, كما قال الله تعالى : ﴿يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾  سورة التوبة أية 32 . وكل إنسان لا يقبل النصيحة عرض نفسه لنقمة القهار المنتقم, فإن لم يبادر قبل النقمة يندم ولا ينفعه الندم.

وإحنا والحمد لله كلنا رجاء في سرعة إغاثة الله لنا جماعة المسلمين, ومن معنا من أهل الذمة .

المؤرخ عجب لبساطة الثلاثة وجهلهم ولقوة شعورهم, واعتقد أن هذا الشعور أحدثه حوادث مؤلمة, وتبين له أن ظلم أوروبا أغضب الله تعالي, فسلب ما كان لهم من الثقة في قلوب الشرقيين, وتحقق غضب الله على أوروبا, وسرعة نزول النقم بهم  .





مواضع العبرة والعظة من هذه القصة

في قصة ( الفلاح المصري والتاجر الهندي والمخدوع العراقي ), يكشف الإمام المجدد أبو العزائم uعن نوعين من أبناء الأمة, ويبين درجة الفهم لديهما بالنسبة للمخططات الاستعمارية ومكائد أعداء الدين .

( فالمخدوع العراقي ), في هذه القصة رمز لنوع أو لبعض أبناء الأمة الإسلامية, الذين تخدعهم أساليب المستعمرين وأقوالهم . مثل : الإصلاح – تحرير الرقيق – الرفق بالحيوانات – الرحمة بالمرضى – مصر للمصريين – حقوق الإنسان – السلام العالمي – الشرعية الدولية – النظام العالمي الجديد .. تلك هي أقوال المستعمرين وأعداء الإسلام, التي خدعوا بها الجهلاء والذين في قلوبهم مرض من أبناء الأمة, ممن تربوا في جامعات أوربا وأمريكا, فقاموا يروجون أفكار الغرب, مجاهرين بذلك, وهم بين ظهرانينا .

( والفلاح المصري والتاجر الهندي ), في هذه القصة, يمثلان جيل الفهم والوعي والإدراك في هذه الأمة, فهما يعلمان أن شعارات تحرير العبيد – الرفق بالحيوان – الشرعية الدولية – حقوق الإنسان – التي يبثها الغرب, ما هي إلا طليعة المدافع  والطائرات, وجيوش الإدارة والتدمير !!

واسألوا البوسنة والهرسك والصومال وغيرها.

وها هو ( الفلاح المصري ), الفاهم المدرك يبين ( للمخدوع العراقي ) حقيقة هؤلاء المستعمرين قائلاً : ( يامسكين, الناس الذين تمدحهم وحوش في صورة ثعالب, كرهوا الخير لك, فسلبوا منك الأسباب التي تنال الخير بها, وهي الدين والعفة والرحمة, وجعلوك أدنى من البهائم ) .

وما هو ( التاجر الهندي ), يحذر المخدوع العراقي من موالاة الكافرين على حساب المسلمين .

نعم ..مازالت الشعوب الإسلامية تعيش أوهام المخدوع العراقي فأصبح لدينا المخدوع المصري – السوري – الأردني – المغربي – التركي – الباكستاني .....الخ .

والأمل في القلة القليلة من أبناء الأمة الإسلامية الذين فهموا وأدركوا تلك المخططات الاستعمارية, فهم النواة لعودة المجد الذي فقده المسلمون .



الفــلاح والحكيـــم

الفلاح: إلى متى يارباه هذا العسر إذا ما انقضت أزمة تبعتها أخرى, وإذا ما انتهت حرب نشبت حروب, وإذا ما تخلصنا من مأزق تولانا مأزق ضيق عالي, آفة زراعية, أو كربة نفسية .

الحكيم : رويدك ياهذا :



لاَ تَيْأَسَنْ فَبَعْدَ ٱلْعُسْرِ تَيْسِيرُ
إِنَّ ٱلْعِبَادَ لَهُمْ رَبٌّ يُدَبِّرُهُمْ

مِنَ ٱلإِلَـٰهِ وَبَعْدَ ٱلْكَسْرِ تَجْبِيرُ
وَفَوْقَ تَدْبِيرِهِمْ لِلَّهِ تَدْبِيرُ



تقول : توالت الأزمات, وتتابعت الكربات, ومالك لم تذكر نعم الله من أرزاق وأقوات وطيبات وحسنات !!  ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً {19} إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً {20} وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً﴾ صدق الله العظيم سورة المعارج أية 19 . ترفل ياهذا في نعم لا حصر لها, وتنفر بمجرد حصول مالا تأنس إليه !! حقيقة أن الإنسان بطبعه خلق ميالا للكسب, ولوعا بالمسرة, ولكن لابد لهذا من ثمن هو مشاق الحياة وغضاضة العيش .

تشكو أزمات ويشكوها معك بنو آدم, أما دروا أن ذلك ما قرفته أيديهم ومشتهيات نفوسهم من تطوحاتهم في سبل الغرور, وارتمائهم في أحضان الشهوات, ولما لم يصلوا لغاية عاودوا فتناهشوا بعضهم حبا في الاستئثار

 بالنافع, وقاموا وأنت منهم يتذمرون ويشكون وهم المقترفون المتسولون, قال رسول الله ﴿ rوآله﴾" كما تكونوا  يول  عليكم" نبيئه بالغة تخبرنا أنه كيفما يكون عليه الإنسان من الحالة زراعية أو تجارية أو نفسانية كانت أو خيرية يحاسب عليها, فاشك نفسك لنفسك, وفوض أمرك لربك .

الفلاح: قول صحيح وعظة صادقة, ولكنك لو علمت أيها الحكيم أنك تعالج بدنا بعد ما نخرته الأمراض, وتوالت به عليه العلل, وقل معه الأمل, وانقطع فيه الرجاء . تحاول صحيحا ولكن مع غير صحيح, بقولك مسلم, وبنصحك راض, إلا أني لا أمل لي في أن أعالج كثيرا مع هذه الحالة, وكان أولى بك أن تنتشلني من المرض, وبعد ذلك تؤنب ..مثلك أيها الواعظ معي كالسائح الذي أبصر غريقا يتخبط في الماء يطفو به الأمل, ويغوص به اليأس, فأخذ السائح في تقريعه وفي إساءته على أن من لم يحسن السباحة لا يتعرض للبحار . فناداه الغريق بألفاظ يقطعها اليأس : نجني وبعد ذلك لك ما بدا لك, فإنك بذلك تزيد همي وتقرب أجلي, أما كفاك محاربة أمواج ومعاناة أرياح وتقطع أنفاس !! قال له السائح : صدقت, ورجع من حيث أتى فتغلب عليه الماء وكان من المغرقين.  لومك هذا معي كحكاية هذا السائح, ولكن كان الغريق يحارب عدوا واحدا وهو الماء, وأنا أحارب جيشا من فوارس الدهر.

الحكيم: يظهر لي أنك أقدر مني وأحق بالوعظ عني, ولكن ياأخاه ما الذي دهاك وضاعف بلواك ؟ إذا عرفت السبب بطل العجب .

الفلاح : خلقت مع أمثالي من سكان الريف على فطرتي وفطرتهم نرضى بالقليل ونكتفي بالقليل, وكانوا كلما تطوحوا ناحية من التظاهر سرت سيرهم, والمرء بطبعه مقلد, وبفطرته محب لنفسه, فإذا تمكنت أن تستأصل ذلك من طبع بني الإنسان كنت أحق بهذا اللوم وأولى .

 تدرجت كغيري باعا ثم ذراعا, وواصلت السير وما التفت غير بعيد إلا ورأيت صعوبة الرجوع وبعد الشقة, وكان قد حاول دون ذلك ذئاب الإنسانية : من يأكلون أموال الناس بالباطل بين المرابي فلان والراهق فلان والطامع فلان, هذا مع دافع من النفس إلى مواصلة السير, والنفس أعدى عدوك التي بين جنبيك, عصت الله فعذبت نفسها وأطاعت الشيطان فأنت, وأن أبناء هذه النفس .

الحكيم: حسنا تقول, وكل شيء تستحسنه فهو كذلك بما تصنع له من التعليلات, أو تستقبحه فهو كذلك بما تستشهد به من الأسباب, غير أنه لا يستوي الحق والباطل, ولا تستوي الظلمات والنور, فيا أخاه لو لم تغوك الغواية لكنت غيرك الآن . الخير واقع والشر واقع غير أن هناك خلافا بين الأمرين, وتبيانا بين السبيلين, فلو كنت من طبعك توفق لكليهما لبلوته لا محالة, لأني أخاطب الآن مواقفا للخير, لأن النفس بطبعها فيها استعداد كثير لذلك, كما فيها من غيره, والمرء على ما يقوم من نفسه عليه, وهو فرد في مجموع, ومجموع في فرد, وهبه الله قوة مدركة, وعينا بصيرة, فما عذره بعد ذلك ؟!

الفلاح : هبني كما قلت, فما هو الحكم الآن ؟ .

الحكيم: الحكم عندي ياأخاه أن يستعجم عودك فإن كان خلافه ما يطيب لك وهو لا شك كذلك, هان عليك أن تقف وقفة الحازم متدبرا فيما كان وما سيكون, مسكنا لمهيجاتك بما ينفع من صحيح المسكنات, فتسكنه اضطراباتك فتقف معك حالتك ما علمك الدهر, وحسب الدهر ما ترتاح إليه النفس من رواياته الدائمة التمثيل, وفصوله المتتابعة, والتاريخ يعيد نفسه, والليالي بعضها شهود, وأنت بما استأنسته فيك من غزارة المعرفة وبعد النظر, وإن كانت جمحت بك الأيام وشط بك الغرور, فهذا لا يزيدك إلا دراية بما أنت, والاستقامة خير مبدأ, والقرآن خير دليل ، والله ولي الصابرين, فهو رب العالمين وأرحم الراحمين .

الفلاح : ﴿قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ﴾ صدق الله العظيم سورة المائدة أية 100  بقولك هذا أيها الحكيم شفيت علتي, وكأني بتعاليمك هذه أنيب اليوم ولم يسبقك من سبقت نصيحته نصيحتك, ولقد بعثك الله لهدايتي وهو خير الراشدين .

مواضع العبرة والعظة في هذه القصة

في قصة ( الفلاح والحكيم ), بيان للأسلوب الأمثل في الدعوة إلى الله تعالي, وهو الأسلوب الذي بينه القرآن المجيد في قوله تعالى : ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ .

( فالحكيم ), في هذه القصة رمز للدعاة الهداة رواد الدعوة الإسلامية الوسطية, الذين يأخذون بأيدي أبناء الأمة بعيدا عن البغاة والغلاة .

فلقد استطاع ( الحكيم ) .. بكل صبر وحكمة وحلم وأناة, أن يهدي ( الفلاح), الذي يرمز للمسلم الراغب في النجاة والذي يحتاج إلى حكيم يبين له آداب السلوك إلى ملك الملوك, ويكشف له معارج المقربين,  ويسقيه بعد ذلك من الطهور المدار على قلوب الأبرار وهذا ( الفلاح ) ..الذي يمثل المسلم الراغب في الوصول, كغريق يتخبط في ماء البحر, كما عبر عن نفسه, يطفو به الأمل, ويغوص به اليأس, يحتاج إلى من يمد له طوق النجاة لانتشاله من حيرته ...بدلا من لومه وتعنيفه .

إن الأمة الإسلامية اليوم في حاجة إلى أسلوب ( الحكيم ) ومنهجه في الدعوة, خاصة وأن الأمة باتت تعاني من أساليب البغاة والغلاة !! .

( البغاة ), الذين خرجوا على إجماع الأمة وشقوا عصا الطاعة, وصار همهم التكفير والتشريك والتحقير للمسلمين .

( والغلاة ), من المتمصوفة الذين تركوا التكاليف الشرعية, وزعموا الوصول للحقيقة بترك الشريعة .

ولا وصول إلا بمنهج (الحكيم) كما بينه الإمام المجدد أبوالعزائم في قصة (الفلاح والحكيم ) .









السائح في الأرض

والسابح في السماء

اصطحب طالب علم وتلميذ من سن الطفولية, وكان الطالب اسمه متدبر, والتلميذ مفكر, فشب الطالب على التدبر في شئون الكون, وتغيراته, وما يحدث فيه من تغير الأحوال . وشب التلميذ على حب الاستطلاع على الآثار الأرضية, وعلم مراتب الجمادات, والنباتات, والحيوانات . ونما في كل واحد منهما ما هو مفطور عليه, وكان كل واحد يدعو الآخر إلى ما يحبه لنفسه, ثم حصلت المنافسة بينهما, فأدت إلى إقامة كل واحد منهما الحجة على صحة مبدئه ومقصده, وكان متدبر أقواهما حجة, ومفكر أقواهما تمسكا, فعين لهما مجلساً في نهاية كل شهر, يعرض كل واحد منهما على الآخر مباحثه ونتائج مجاهداته .

متدبر: نظر من صغره إلى نفسه فعلم بعد أن تلقى العقيدة الإسلامية, ومباديء أحاكم الشريعة أن الأحكام الشرعية لم يطالب بها هذا الجسم مجردا عن نور فيه زائد على قوي الحيوان, إذ لو كان حيوانا مجردا لما طولب بتلك الأحكام, ولا بلغ تلك المنازل العلية, منازل القرب من الله والحب في الله, والإخلاص والإحسان إلى العالم أجمع, بالرحمة والعاطفة, فنظر بشوق إلى سير هذا النور المودع في الإنسان, وجاهد نفسه حتى تخلصت من الميل إلى مقتضيات الجسم ولوازمه فزكت نفسه, وأنس بلذة في الوحدة حتى ترك طيب الأكل, ولين الثياب, وراحة النوم ، والرغبة في النساء, وسبح بفكره في تلك الآفاق متخيلاً تارة, ومتوهما أخرى .

تجرد عن كل تلك المقتضيات للفيض القدسي, فكانت تشرق عليه أنوار عرفان كالبرق الساطع, لا يلبث سطوعها إلا ريثما تحجب عنه فكان في تلك الأنفاس ينبسط وينقبض, فإذا غشته تلك الأنوار انبسط, وإن حجبت عنه انقبض, وكان قريبا منه عالم عارف بالنفوس, فتوجه إليه وعرض حاله عليه, فأمره بكثرة قراءة القرآن, ومطالعة كتب الحديث, وتراجم العلماء العاملين, وكلفه أن يحضر مجلسه في ليلتي الخميس والاثنين, فداوم على ذلك حتى حصلت له بهجة باستدامة هذا النور المشرق في أوقات صفائه, ثم تذكر صاحبه مفكر فسأل عنه, فقيل : كان غائبا له شهور وحضر أمس, فزاره مفكر .

متدبر: جلس مع مفكر فنظر إليه وقال : ما الذي أحنى ظهرك وأنهك قواك وغير معالم شبابك ؟.

متدبر : بعت رخيصا بغال, واستبدلت فانيا بباق وأقبلت بكليتي لأنال بغيتي التي يدوم بها أنسي, وتبقى بها بهجتي .

مفكر: تبسم مستهزئا ثم بكى آسفا قائلا : الإنسان بعقله, ومن فقد عقله فقد الخير كله, كم نهيتك فلم تنته, ولو استعملت ذكاءك في شيء نافع لانتفعت ونفعت, أضعت عشرين سنة من عمرك أتلفت فيها صحتك, وأفسدت قواك العقلية, ما الذي نلته ؟ وها أنا صار لي مال كثير, وعيال وخدم, وآمال وشهرة واسعة بأعمال, وأقص عليك نبذة من نتائج أبحاثي .    

تعلم أني كنت أعارضك وتعارضني, ولولا عناية الله بي لاتبعتك, ولكن الحمد لله .

تعلم أن نفسي مياله إلى علم تخطيط الأرض, ومعرفة الأنواع التي عليها من النبات والحيوانات, وطبائع المجتمعات الإنسانية, والبحث عن عوائدهم وأخلاقهم من غير طمع في شيء آخر, فصرفت نفائس أوقاتي في كشف تلك الحقائق, حتى وصلت إلى قصدي, ورميت بنفسي في لجج بحر السياحة, تارة يرفعني وآونة يخفضني, متحملا تلك الآلام إلى نيل البغية, ومن جد وجد, فجبت القفار, وقطعت الفيافي, وشهدت عجائب الآثار الطبيعية والصناعية, وعاشرت أكثر المجتمعات الإنسانية, حتى علمت ما هم عليه, وبلغت مبلغاً به أتكلم مع كل مجتمع بلغته وأبين لهم ما هم في حاجة إليه لرقيهم, حتى أحبني جميع الأمم, ووثق بي كل أمير ووزير, وطولبت أن أكون رئيسا لجمهوريات فأبيت إلا أن أتمم سياحتي .

متدبر: ما الذي يقصده غير المسلمين بالمسلمين ؟

مفكر: هذا سؤال ينبغي أن يلقى عليك جوابه في خلوه, فإن ما علمته من تلك الأسرار لا يعمله أحد غيري, إلا ملك أو زير أو أمير من الأمم المناوئة للمسلمين .

متدبر: أمر بانصراف الجالسين, وأغلق باب الحجرة واخذ القلم والدواة, وطلب من مفكر أن يجيبه على سؤاله .

مفكر: تعلم أن الإنسان ميال بطبعه إلى العاجلة, وتعلم أن بشاشة دين الإسلام إذا باشرت تلك القلوب المطهرة من تلك الأطماع ملكتها, وأن حلاوة الإسلام إذا ذاقتها ألسنة العقول سارعت إليها, ما لم يحجبها طمع أو حظ وهوى, وقد ظهرت تلك البشاشة, وانتشرت تلك الحلاوة, حتى عمت مشارق الأرض ومغاربها في سنين تعد على الأصابع, فمحت في تلك المدة الوجيزة عروش الملوك وتيجانهم, وجعلت الإنسان عزيزاً لا يرى له رباً إلا الله, حتى صارت التيجان وأصحابها أحقر من الذباب مهما ارتفع, وأذل من الغبار مهما رفعته الريح, وأصبح الفقير في مزرعته يشعر بالعزة بالإسلام على الملك فوق سريره, هذا لتمسكه بقواعد الإسلام, فانزعجت قلوب أهل التيجان وحفدتهم وأعوانهم, وفكر في إطفاء هذا النور ولكن أبى الله إلا أن يتم نوره .

انتشر هذا النور في آسيا من جبال القوقاز إلى مياه الهند, وفي أفريقيا من مياه البحر الأبيض إلى رأس الصالح ( أخر أفريقيا جنوبا ), وفي أوروبا من مياه البسفور إلى بحر المنش, وعم أكثر جزر البحار شرقاً وغرباً, تغيرت بالإسلام معالم الأرض في طولها والعرض, وأشرقت أنوار العدل حتى صار كل مفكر أو باحث أو حكيم فيلسوفا يسارع إلى اعتناق الإسلام مفتخراً, وإلي العمل به شاكراً, وما نشر الإسلام في تلك الأصقاع إلا بشاشته وحلاوته, وكونه هو الدين الحق, ولم يكن سيف الإسلام إلا لدك أطوار الظلم من طغاة الملوك وظلمة الأغنياء, وسفلة المقلدين الجهلاء, الذين هم أشد من الطاعون ضرراً على بني الإنسان, وقطع عضو لحفظ الجسد أمر معقول ورحمة مشروعة . بقيت بقية من أهل الظلم عاملة سراً على إطفاء هذا النور, ولكن الله غالب على أمره, مكثوا زمنا يعملون في الخفاء, حتى انتهزوا فرصة تفرقة الدولة العباسية وتجزئة ملكها, فقاموا بحملة شعواء مشهورة في التاريخ, أفسدوا في الأرض, وسفكوا الدماء ظلماً, يدعون إلى باطل في صورة حق, وهي الحروب الصليبية, ولكن الحق يعلو ولا يعلى عليه, قاموا ليطفئوا نور الله بالخيبة بعد أن توغلوا في البلاد, ولكنهم تلقوا درسا تحققوا به مقدار نور الإسلام في قلوب المسلمين, الأمر الذي متى بدت منه بادرة, أنسى كل مسلم الحروب والأهواء .

متدبر: أيها المتفكر اجهد في البحث وأنت أيها الباحث ﴿فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ﴾  سورة الملك آيه3 واعلم أن الإنسان أقرب حيوان للتأثر بالظاهرة الكونية, خصوصا إذا كان فارغ الفؤاد من الكمالات الإنسانية التي بها يذوق لذة التفكر في الآثار الكونية, التي ترجع به إلى العلم بمبدئه ونهايته, وتحقق المشهودات والنظر إليها بالفكر العلمي, الذي يشير إلى خواصها المودعة فيها بقوة المبدع لها, والفكرة التي استنتجت فوائد تلك الخواص للانتفاع بها, ويذوق لذة الإيمان بمن وهب المادة وأودع فيها الخاصية ووهب العقل المرشد لعلم تسخيرها, بترتيب أو تركيب أو خلط أو مزج أو غير ذلك, حتى يتحقق كمال التحقق بمكانة الواهب المفيض سبحانه, ويعلم حق العلم أن هذه إنما جعلت ليستخدمها الإنسان في منفعتين : الأولي استعمالها في حفظ حياته وراحته . وشكر المنعم عليها بمساعدة عبيده والتقرب إليهم, ومساواتهم بنفسه, بحيث لو غفل عن إحدى المنفعتين كانت للضرر أقرب منها للنفع .

وإن كان السواد الأعظم تشغلهم المنفعة العاجلة فيزاحمون عليها, ويقفون عند من وهب له الفكر في انكشاف خواصها, مادحين له, شاكرين لفضله وتحصل لهم الدهشة, ويفتخرون بمن وهب له هذا الفكر – ولو كان ممن غضب عليهم الواهب سبحانه – لأنه يهب من يشاء مما شاء لا لعلة ولا لغرض, بل يظهر آياته على يد من يشاء عبرة للعباد وذكرى لآياته, وهذه البحار والهواء والجبال والحيوانات, تحدث ما يدهش العقول ويحير الألباب من المنفعة للنوع الحي, والشمس والقمر وغيرهما من جميع الكائنات  .

وكثير من الناس من اتخذ هذه الأشياء آلهة تعبد من دون المفيض للخير, وكذلك أهل الغرة بالله تعالى – الذين غرتهم الدنيا – يكادون يعبدون من اخترع صنعة أو كشف خبيئة نسيانا للمفيض سبحانه, وغفلة عن الحق, حتى تهوي بهم الغرة إلى جهل الحق وإنكار الدين وإقبال على الزهو والكبر, والتهاون بأمور الدين ﴿ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ﴾   سورة الأنعام آية 44 وليس ذلك إلا من مجالسة أهل الغفلة, المغرورين بعاجل الأمر ،  فلا يشغلك هذا الأمر الذي هو في الحقيقة موجب ليقظة القلب والفكر والتدبر في آيات الله سبحانه وتعالي وكثيرا ما أوجب هذا الأمر الغلو, حتى أنكر المغرور كثيرا من آيات الله وأوامره, حتى أنكر مقام الألوهية, ولم يتمتع إلا قليلا, ثم سيق إلى القبر مغضوبا عليه – والعياذ بالله تعالى – فندم ولات حين ندم, فتنبه أيها الناظر لهذه المظاهر, ولا يشغلك ما به تتقرب إلى الله فتتقرب به إلى النار, والله سبحانه وتعالي الموفق .

مواضع العبرة والعظة في هذه القصة

في قصة ( السائح في الأرض والسابح في السماء ) يبين الإمام المجدد أبو العزائم u, أصول الوصول لمعية الرسول ﴿ rوآله﴾ ويكشف لمريدي الوصول أيسر الطرق وأسهلها وأقربها إلى الله تعالى .

فالسائح في الأرض ( مفكر ) : ينتقل بجسمه من مكان إلى مكان ...

والسابح في السماء ( متدبر ) : ينتقل بقلبه من صفة إلى صفة, ومن مشهد إلى مشهد, وإن لم ينتقل بجسمه خطوة واحدة .

ولذا سئل بعض مشايخ الطرق, فقيل له : هل سافرت؟

فقال : سفر الأرض أم سفر السماء ؟ سفر الأرض ( لا ) ، وسفر السماء (بلى ) . وجاء رجل إلى عارف بالله فقال : قطعت إليك شقة طويلة . فقال له العارف : كان يكفيك خطوة واحدة, لو سافرت عن نفسك . وقال أحدهم : جلسة خير من ألف حجة ...والمراد جلسة تجمع الهم حتى يكاشف بالأفق العلي, فيكون قد انتقل من أفق إلى أفق على وهو في جلسته, لم ينتقل من مكانه ...وهذا هو حال السابح في السماء ( متدبر ), الذي علم العلم النافع, الموصل إلى المقصود الأعظم و أما السائح في الأرض ( مفكر ) ..فقد تلقى العلوم التي بها اعتدال اللسان والسمعة والشهرة والمنافسة في معرفة الأمراء والوزراء, والطمع في الوظائف ومزاحمة كلاب الدنيا ..وشتان بين الطريقين ، وبين المنهجين في الوصول إلى الله تعالى .



الجنة العاجلة ...

 والجنة الآجلة ...

أراد رجل من أهل العراق أن يحج فركب البحر مع رفقة قاموا له بالخدمة طيلة أيام سفره, ولما أوغل في الأقيانوس الهندي, عصفت الريح بالسفين فلم تبق عليها شيئا وضل الربان الطريق وتجهم الزمان واكفهر جو المكان ، وتلبدت الغيوم فارتطمت السفين بالصخور فغرقت السفين وهلك كل من فيها إلا هذا العراقي الذي كانت له دراية في السباحة وقدرة على مقاومة الموج بالصبر الجميل .

وقذفته أمواج البحر العجاج اللجاج على شاطيء جزيرة وجد عليه أقوامًا فرحين مهللين مكبرين ...جاءوا معهم بالطبول والمزامير والعيش الكثير والهوادج ذوات الأثاث الوثير .

وخرج الرجل من البحر عاريا فلا رداء عليه وجوعانا لا يقوى على المشي ، فسرعان ما ألبسوه قميصا موشى بالذهب الإبريز وجبة في أحسن تطريز, وجيء بأخزنة من الطعام عليها ما لذ وطاب ، فأكل وشرب ونام فاستيقظ والقوم بين تهليل وتكبير وفرح ومرح ما له من نظير, حتى كان اليوم السابع لقدومه عليهم فتجمع حوله القوم وألبسوه تاجًا موشى بأغلى الجواهر الحسان ’ واللآلي فوق الجمان, ونادوا به ملكا على هذه الجزيرة الأمر الذي كان لا يحلم في سالف العصر والزمان .

وفكر الرجل وقدر في ما آتاه الله من هذا الحظ الكثير والملك الكبير فاستوزر لديه بعض الحكماء من رجالات القوم المعدود برأيهم, بعد أن مكث طويلاً في تعلم لغتهم فلما تم له تعلم هذا اللسان, وأمكنه أن يخاطبهم بما في الجنان, جمعهم ذات يوم وسألهم عن هذا الحال الذي لاقاه, والحظ الذي وافاه, وهم يكتمون عنه أمرهم فيه, وحرصهم على أن يوافيه, ولكن لما تودد إليهم ووجدوا أن فضله دائما واصل لديهم, وأنه أغرقهم بنعماه, واستطابوا العيش معه قالوا له : أيها الملك العزيز والذهب الإبريز, أننا كل عام نقود ملك هذه الجزيرة إلى الهاوية ، قال : وما الهاوية ؟ قالوا : بئر أعددناه لأمثالك, سحيقة القاع, سيئة المتاع, لها في كل مكان منها أمشاط من الصلب مسنونة, إذا هوي فيها إنسان لا يصل إلى القاع, حتى يتبعثر جسمه في كل مكان, ثم بعد أن نفرغ من هذا العمل الوبيل ، نسرع إلى الشاطئ في فرح ومرح لنستقبل من يلقيه البحر إلينا ، ليكون ذلك الملك الجليل .

فلما أن أخبروه الخبر, وأراد أن يكون منه على حذر, قال لهم : وكيف إذا المفر ؟ فقال له أكبرهم سنا وأعظمهم قدرا أن الله جلت قدرته قد جعل لكل ضيق فرجا, ولكل هم مخرجا, سبحانه, جعل لكل شيء قدرا, وأرى أنه إذا طابت نفس المليك للبقاء, فما عليه إلا أن يأمر بإصلاح هذه البلقاء قال : وما هذه البلقاء ؟ قالوا : جزيرة تبعد عنا مسيرة يومين فليعمرها ويستثمرها, فتكون له مأوى أمين وحصن حصين ، بعيدا عن غوغاء هذه الجزيرة, وهوجاء هذه الفئة الشريرة, التي لا تعرف قدر الملوك ، بل هي تملك كل من جاءها من منبوذ مفلوك.

وصحت عزيمة هذا الملك على استصلاح هذه الجزيرة فأرسل إليها العمال والبناة, فشيدوا له قصرا عظيما ، وأرصد لهذا العمل الجليل أموال الدولة ، فما أن قرب انتهاء العام حتى هرول إلى هذه الجزيرة فوجدها جنة عالية, قطوفها دانية ، تجري من تحتها الأنهار, وتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها العزيز الغفار .

ثم قالuفمن يكون إذا هذا الإنسان ؟ وبماذا ينطق هذا المثل ياأهل العرفان ؟ ثم قال uبعد أن سكت الجميع : أن هذا المثل ليصور لكم حياة الإنسان في دائرة هذا الإمكان, فالسفينة بطن الأم, وتحطيمها على الشاطئ حالة الوضع, والملك المولود الجديد, ألا ترى النساء يزغردن ويضربن بالدفوف والرجال من ورائهن يرقبون البشري وعلى قدم الاشتياق إلى سماعها في صفوف ؟ ثم يخرج الطفل عريانا فيكسونه بكل نفيس وغال، ويطعمونه أشهى ما يكون من الرزق الحلال ،  ثم ما زالوا يكرمونه حتى يبلغ الرشد ويتم له حسن المال, فإن كان شريراً ألقته ذنوبه وآثامه في الهاوية, وإن نشب مفطورا على الخير أنجاه الله من هذه الداهية, فحمد آخرته بعمل صالح في دنياه, ليطيب له العيش فيها ولا ينفك طول وقته ذاكرا شاكرا الله, الذي لا يسأله غير رضاه ، وحسن لقاه .

مواضع العبرة والعظة في هذه القصة

أن قصة ( الحاج العراقي ) , تكشف مسيرة الإنسان في الحياتين والنشأتين, فإن القادر الحكيم سبحانه وتعالي جعل حياة للدنيا فقط وهي حياة الحيوانات ، وحياة للدار الآخرة فقط وهي حياة الملائكة ، وحياة للدنيا والآخرة وهي حياة الإنسان فالإنسان هو المخلوق المؤهل لنيل السعادتين ، فهو يحيا حياتين ..حياة دنيوية, وحياة أخروية . وهاتان الحياتان إما أن تكونا في رغد وسعادة ( كما حدث للحاج العراقي ) ، الذي فهم حكمة إيجاده،  وسر إمداده  أو تكون إحداهما حياة سعيدة ، والأخرى حياة عناء وشقاء . أو كلا الحياتين في شقاء وعناء .

فالإنسان إذا من الله عليه, وجعل له نوراً يذوق به لذة حياة الضمير وحلاوة الحياة الروحانية ، وانكشف له قبح الملاذ الحسية, وآلام الحياة الحسية المجردة عن لذة النفس بحياتها الروحانية ، كان إنساناً كاملاً بمعناه متلذذا بنعيم الحياتين ، متنعما بخيري الدنيا والآخرة  خاصة إذا علم الإنسان أن العمر هو المسافة بينه وبين ربه, وأن الزمن هو المراحل التي ينتقل منها إلى حضرة الرب سبحانه ( أن إلى ربك الرجعي ) .

تم بحمد الله وحسن توفيقه
التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:




شارك فى نشر الخير