عدد المشاهدات:
السلف في اللغة تعني ما تقدمك من الزمان وما مضى وسلف الرجل أبواه أو آباؤه المتقدمون، في القرآن الكريم {..وَأَنْ تَجْمَعُواْ بَيْنَ الْأُخْتَينِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفْ..}[النساء:23] أي ما مضى، {..فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ..}[البقرة:275] هذا المعنى في دلالة اللغة أي أن كل ما سبقك وتقدمك في الزمان ومضى فهو سلف وما يعقبه فهو خلف.
وفي الاصطلاح أصبح مفهوم السلف الصالح المعرف بأل العهدية يطلق على أهل القرون الثلاثة الفاضلة المشهود لها بالخير والإيمان وهم الصحابة والتابعون وتابعو التابعين لأن هذا الجيل يعتبر هو الجيل المؤسس الذي أقام الدين على منهاج النبوة ومزج بين العلم النافع والعمل الصالح فنالوا بهذه الخيرية هذه المكانة التي بوأتهم فهو سلف صالح. ولهذه المسألة مزية انطلقت من مؤشرات شرعية فالنبي صلى الله عليه وسلم قال "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" ثم ورد في القرآن الكريم في الثناء على أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام {وَالْسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنهُ..}[التوبة:100] فتحقق الرضى لأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام وشرط فيمن جاء بعدهم أن يتبعم بإحسان، وصح عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "أصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون" والأمنة جمع أمين، إما أن يكون بمعنى أنهم أمناء على هذا الدين بلاغا وبيانا ونشرا وهداية أو أنهم مؤتمنون عليه وأنهم أمان لهذه الأمة من ظهور الأهواء فإذا سلكت الأمة سبيلهم أمنت وإذا انحرفت وتنكبت طريقهم وقعت في مضلات الأهواء والفتن، هؤلاء هم الصحابة ثم أخذ عن جيل الصحابة التابعون وأخذ عنهم تابعو التابعين، هذا بمجموعه يمثل مصطلح السلف الصالح.
أما الذين جاءوا من بعدهم هم ينتسبون إلى هذا لأنه منهج ممتد ولذلك من جاء بعدهم كالأئمة الأربعة وكسفيان الثوري وسفيان بن عيينة والأوزاعي والليث بن سعد والمبارك وأضراب هؤلاء من أئمة الهدى سلكوا ذات السبيل وانتهجوا هذا المنهج فكانوا أيضا على منوالهم، فليست العبرة فقط بأن هذه الخيرية انقطعت، صحيح أن هذه الخيرية هي خيرية ذكرت لأهل هؤلاء القرون ولكن كل من تلبث بهذا المنهج واستقام عليه فإن الله تعالى يقول {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِيْنَ، وَثُلَّةٌ مِنَ الْآَخِرِينَ}[الواقعة:39، 40]..
وهنالك فرق بين الانتماء إلى هذا المنهج الواسع الرحب الفياض وبين سلفيات حركية أو مذهبية أو حزبية تسمت بهذا الاسم وانتسبت إلى السلف الصالح في جزئية من الجزئيات، فهذه السلفيات أنواع تتعدد ولا تنحصر في جانب واحد، منها سلفيات أخذت جانبا معينا تمثل في بعض قضايا العقيدة بعضهم تمثل في تلك المجابهات التي حصلت بين سلفنا الصالح وبين فرق ومذاهب ضلت وانحرفت عن جادة الطريق وهنالك سلفيات جمدت على كل ما قاله الأقدمون باعتبار أنه ليس بالإمكان أبدع مما كان وهنالك سلفيات إحيائية أخذت المنهج ولكنها بذات المنهج استطاعت أن تعالج قضايا عصرها وقضايا زمانها، فعلينا أن نفرق بين الانتماء إلى السلف كمنهج واسع رحب وبين سلفيات نشأت حملت هذا العنوان أخذت من السلف بعضا وتركت جانبا آخر.
إن السلف الصالح ليس رؤية فقهية واحدة ولا اجتهادا فكريا معينا، السلف الصالح منهج رحب، هم التقوا على الأصول وعلى الكليات وعلى الثوابت وعلى القطعيات وعلى المحكمات وما دون ذلك اختلفوا في الفروع، في فروع العقيدة، هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة المعراج؟ خلاف وقع بين الصحابة أنفسهم، كذلك في مصادر الاستدلال وقع اختلاف في المصادر الفرعية، الاستصحاب، الاستحسان، براءة الأصل، وقع اختلاف في فروع الفقه وما أكثر هذا الاختلاف، وقعوا في علوم التزكية في بعض تطبيقاتها. إذاً حينما نقول الانتماء إلى السلف الصالح نحن نقول انتماء إلى منهج تنوعت فيه الآراء تعددت فيه الأفكار اختلفت فيه بعض المسائل، هذا الانتماء فيه رخص ابن عباس فيه عزائم ابن عمر فيه فقه أبي حنيفة فيه أثرية ابن حنبل فيه مقاصدية الشاطبي فيه ظاهرية ابن حزم فيه رقائق الإمام الجنيد فيه اجتهاد أبي حامد الغزالي وكلهم من رسول الله ملتمس غرفا من البحر أو رشفا من الديم. فلا ينبغي أن نجعل لاجتهادات بعض الأئمة أو بعض الأشخاص من الأقدمين عنوانا للانتماء إلى السلف الصالح ثم نطرح بقية الرؤى وتنوع الأفكار يعتبر خارج إطار هذه السلفية، هذا لون من الحزبية السلفية الضيقة الذي ضيق ما كان واسعا عند سلفنا الصالح، ولذلك كانوا يقولون "إجماعهم حجة قاطعة واختلافهم رحمة واسعة" فاعتبروا أن الاختلاف في الفروع مظهر من مظاهر الرحمة وهذا من التوسعة التي جاءت بها شريعة الإسلام.
تعدد السلفيات وملامح المنهج السلفي الصحيح
منهج السلف الصالح أصابته عند كثير من هذه التيارات ضبابية، هنالك سلفية جهادية تبنت خطا في مجال التكفير أو التفجير أو غير ذلك، هنالك سلفية إحيائية اجتهادية زاوجت بين المقاصد والنصوص بين الأصل وبين العصر، هنالك سلفية اعتبرت نفسها امتدادا لمدرسة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ركزت على محاربة الشرك الشعائري وما رأته من الاختلال في قضايا البدع، هنالك سلفية أرادت أن تزاوج بين هذا وذاك، إذاً هنالك سلفية ما تسمى اليوم بالسلفية العلمية هنالك السلفية الجهادية هنالك السلفية الإحيائية هنالك السلفية التي تمثل امتدادا لمدرسة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، عادت هنالك سلفيات ولذلك أصبح من الضروري أن نحرر مفهوم الانتماء إلى السلف الصالح تحريرا يعطيه السعة والشمول والغنى حتى نقوم بإخراجه من هذه الدوائر الضيقة التي حصرته في هذه الأبواب. فهنالك من جعل مجرد اختيارات الإمام أحمد بن حنبل وشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم وما رآه الشيخ محمد بن عبد الوهاب فقط هذه المحطات الأربعة هي عنوان للانتماء إلى السلف الصالح..
هؤلاء أعلام هدى ولكن ليسوا وحدهم الذين يعبرون فقط عن منهج السلف الصالح، فهذا خلل في هذا المفهوم بني على أن القضايا التي أثيرت في تلك العصور من محاربة الشرك من مواجهة البدع من الحديث عن الفرق هو فقط العنوان لقضية السلف والسلفية ولكن هذه جزئيات لا ينبغي أن تكون وحدها عنوانا للانتماء إلى السلف الصالح،
السلف الصالح اجتهدوا وجاهدوا، أقاموا الدين وعمروا الدنيا فانطلقوا في كل زويا الأرض نشروا هذا الخير فلماذا نعتبر.. اليوم هنالك حركات إحياء إصلاحية انتمت إلى السلف الصالح في زاوية من الزوايا، في البناء التربوي الحركة السنوسية، في البعد الجهادي الحركة المهدية، هنالك الكواكبي هنالك مدرسة المنار الشيخ رشيد رضا، هنالك ابن باديس، هنالك الخطابي هنالك الفاسي هنالك البنا هنالك حركات إحيائية إصلاحية استفادت من هذا التراث في جانب من الجوانب وانتمت إلى السلف الصالح ولكنها لم تدّع الاحتكار لجانب من الجوانب على أنها هي المهيمنة أو الباسطة أو المالكة لمنهج السلف الصالح فهو أوسع من أن تحتركه فرقة أو أن تنتمي إليه طائفة وتخرج بقية المسلمين وسائر الجماعات التي ائتمت بهذا الهدي المبارك من هذه الدائرة.
أبرز ملامح هذا الاتباع أولا صفاء العقيدة لأنها هي الأساس والذي يمثل المدخل الصحيح لسلامة الدين ولذلك قالوا "جماع الدين أصلان، ألا نعبد إلا الله وأن نعبده بما شرع"، تحقيق العبودية لله وأن تكون هذه العبودية بما شرع الله، هذه واحدة. الأمر الثاني مسألة مصادر المعرفة، المزاوجة بين صحة النقل وصراحة العقل فمن الناس من انكفأ بالعقل دون النقل ومن الناس من جعل النقل لا مجال فيه لفهم العقل، إذاً صحة النقل وصراحة العقل هذان يمثلان مرتكزان. المرتكز الثالث مصادر المعرفة أيضا الكتاب المسطور والكون المنظور، فالله سبحانه وتعالى أمرنا أن نتأمل آياته وهذه الآيات نوعان، آيات تنزيلية في كتاب الله المقروء وآيات كونية في صفحة الكون المنظور، لدينا كتاب مسطور وكتاب منظور فالكون هو الذي يمثل مصدر المعرفة الطبيعية والوحي هو الذي يمثل مصدر المعرفة الشرعية، فالكون والوحي مصادر المعرفة والوسائل لهذين المصدرين الحس والعقل {وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئَاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمَعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ..}[النحل:78]. التلازم بين الظاهر والباطن اتباع الحق ورحمة الخلق، إحسان الظن بالمخالف، العدل والإنصاف للمخالفين كذلك، رعاية اختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال والبيئات وهذا ملمح مهم في منهج السلف الصالح، أيضا التأكيد على السكوت عما لا ينبني عليه عمل والتكلم فيما ينبني عليه عمل فهذا أيضا ملمح، الملمح الأخير أن السلف الصالح عاشوا قضايا عصرهم وتحديات زمانهم فليس من السلف الصالح والانتماء إليهم في شيء أن يستدعي الإنسان معارك التاريخ وأن يغفل عن معالجة قضايا العصر وإشكاليات الزمان، ثم النقطة الأخيرة وهي الموازنة بين الائتلاف والاختلاف، تعظيم الجوامع المشتركة والتراحم في قضايا الاختلاف وإعذار المختلف فيه والنأي عن تكفير أهل القبلة، كل من شهد الشهادتين واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا، كل من توضأ فهو مسلم له ما لنا وعليه ما علينا. هذه أبرز الملامح التي كان عليها سلفنا الصالح والذي ينبغي أن نحيي قاعدة التأسي بهم في شمول هذا المنهج لا في جزئيات أقوالهم أو التصدي لبعض مشكلات عصرهم التي تجاوزها الزمن وعفا عليها فـ {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ..}[البقرة:134]
"هل تعتبر الطرق الصوفية من الحركة السلفية؟ وإن كانت كذلك فما هو الفرق بينها وبين الفرق الأخرى؟"
أول قضية علينا أن نؤكد أن هناك شعبة عظيمة من شعب الدين أطلق القرآن الكريم عليها وصف التزكية {.. َيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ..}[البقرة:129]، {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا}[الشمس:9]، {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}[المدثر:4] وأطلقت السنة المطهرة عليها وصف الإحسان "أن تعبد الله كأنك تراه"، وأطلق العلماء عليها فقه الباطن في مقابل فقه الظاهر أو أعمال القلوب في مقابل أعمال الجوارح، هذا القدر مسلم به عند جميع أهل الإسلام. وهذا العلم أصابته في مسيرته شوائب كدرت صفاءه، المطلوب هو أولا أن نحقق هذا التلازم بين الظاهر والباطن، أهل التصوف قديما اعتنوا بقضية أعمال الباطن الحقائق والرقائق والدقائق وبعضهم لم يربطها بقضية الاتباع، السلفيون المعاصرون ركزوا على ظاهر الاتباع، والحقيقة هي المزج بين علم الظاهر والباطن، {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} أخذ منها الفقهاء مشروعية طهارة الثوب وأخذ منها أهل الرقائق مشروعية لطهارة الباطن، والعرب ربما أطلقت الثياب وأرادت بها النفس الباطنة
كما قال عنترة فشككت بالرمح الأصم ثيابه - ليس الكريم على القنا بمحرم
تلازم الظاهر والباطن هو المعادلة التي عالجها السلف وعلى هذا كان المتقدمون من أهل التصوف مثل الإمام بشر الحافي ومعروف الكرخي وأبو سليمان الداراني والسري السقطي والحارث المحاسبي والإمام الجنيد كان يقول "طريقنا هذا مسدود، من لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في علمنا هذا"، عبر عنه حاتم الأصم حين سئل كيف تصلي؟ أعطى الظاهر حقه والباطن حقه قال "أتوضأ فأسبغ الوضوء ثم آتي موضع الصلاة بسكينة ووقار فأكبر تكبيرا بتوقير، أقرأ قراءة بترتيل، أركع ركوعا بخشوع، أسجد سجودا بتذلل" هذا حق الظاهر، حق الباطن "أتمثل الجنة عن يميني والنار عن شمالي والكعبة بين حاجبي وملك الموت فوق رأسي وعين الله ناظرة إلي وذنوبي محيطة بي ثم أتبعها الإخلاص ما استطعت وأسلم وأنا لا أدري أتقبل صلاتي أم ترد علي". مشكلتنا أن بعض التيارات السلفية المعاصرة حولت هذا المعنى إلى التماس الهدي الظاهر دون أن يستصحب معه الهدي الباطن ولذلك قال الإمام ابن الجوزي "تجد أحدهم يقصر ثوبه وفي قلبه كبر فرعون" لأنه هنا التلازم المطلوب أن يتخلى الإنسان عن داء الكبر والخيلاء "من جر ثوبه لا يريد بذلك إلا المخيلة.." فالمزج هو أن نحقق هذا التلازم بين الظاهر والباطن كما فعله الأقدمون، أوجدوا مشروعية الاتباع ولكنهم جعلوا لهذا الاتباع معنى تقوم بها رقائق القلوب. وإذا أردنا أن نجسد بعض الكتابات "مدارج السالكين" بين منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}[الفاتحة:5] "حكم ابن عطاء الله السكندري" نموذج لهذا المزج، ما كتبه شيخنا الشيخ يوسف في رسائله سلسلة السلوك في ضوء الكتاب والسنة كتب منها التوكل والنية والإخلاص والتوبة والزهد والورع والعلم نموذج لهذا. فنحن نحتاج إلى هذا المزج نأخذ من ما أراده السلفيون من الاتباع وما أراده أهل التصوف من تحقيق المعاني الباطنية فهذا هو المزج ولكن للأسف نحن بين السلفية الناطحة والصوفية الشاطحة ضاع هذا المسلك الذي ينبغي أن يعيدنا إلى طريق أسلافنا الذين قدموا هذا العلم نقوه من الشوائب وبسطوه للأجيال وهذا الذي نحتاجه اليوم، أما الذي يقول بأن نلغي كل هذا العلم بما فيه من درر وبما فيه من كنوز فهذا خطأ لا نقبله بجملته ولا نرده بجملته وإنما نعمل على تنقيته من الشوائب وتقديمه سهلا قريبا للأجيال
إذاً لا بد من معالجة الصوفية الشاطحة أيضا بطريقة ما؟ كما نعالج السلفية الناطحة.
نعم. إذاً لا بد أن يكون هناك توازن ما بين الأمرين،
يعني ظاهرة الاختلاف السلف اختلفوا وتحاوروا وتناظروا ولكن كان هناك التراحم فيما بينهم، رأينا إماما مثل الإمام الشافعي أخذ عن الإمام مالك وخالفه وألف كتابا سماه "اختلاف مالك والشافعي" ومع ذلك كان يقول "إذا ذكر العلماء فمالك النجم" "مالك حجة الله على خلقه" "ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مالك" "لولا مالك وابن عيينة لذهب العلم من الحجاز"، جاء الإمام أحمد أخذ العلم عن الشافعي وخالفه في مسائل ومع ذلك قال الإمام أحمد "والله ما بت ليلة ثلاثين سنة إلا ودعوت فيها للشافعي" قال ابنه "لقد سمعتك تكثر الدعاء له، من هذا الشافعي يا أبت؟" قال "يا بني كان الشافعي كالشمس للدنيا وكالعافية للناس، فانظر هل لهذين من خلف أو منهما عوض؟
ومن يكن علم الشافعي إمامه
فمرتعه في باحة العلم واسع"
وبالمقابل غادر الشافعي بغداد ومع مخالفة أحمد له في مسائل قال "لقد تركت بغداد وما خلفت فيها أورع ولا أعلم ولا أهدى من أحمد بن حنبل" ثم قال
قالوا يزورك أحمد وتزوره
قلت المكارم لا تفارق منزله
إن زارني فبفضله أو زرته فلفضله
فالفضل في الحالين له
وقال الإمام أحمد "لم يعبر الجسر مثل إسحق بن راهويه وإن كان يخالفنا في أشياء فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضا" وقال الشافعي لأحدهم "يا فلان ألا يستقيم أن نكون إخوانا وإن لم نتفق على مسألة؟" كان بين السلف الصالح التراحم ولكن للأسف أصبحت اليوم القسوة والغلظة والجفاء والشدة على المخالف بل تبديعه وتفسيقه وتضليله وتجهيله، أشياء مجرد خلاف في الرأي، "السيف المشهور على أهل التبرج والسفور" حينما تقرأ كلمة التبرج والسفور يتبادر إلى ذهنك التبرج وحينما تقرأ الكتاب تجد أن الكتاب يتوجه إلى تضعيف الرأي الذي يقول بأن الوجه والكفين ليسا من العورة، هذا الرأي الذي يقول به الجمهور تحول إلى أن يشرع في وجهه سيف وسيف بتار وسيف مشهور! هل مجرد القضية الفرعية تستأهل أن نشرع فيها كل أنواع الأسلحة الفتاكة بما يذهب رحم الأخوة ورحم العلم ورحم الإيمان؟ هذا الذي خالفنا به منهج سلفنا الصالح الذين اختلفوا ورحم بعضهم بعضا، وأختم برجل وقف مع عبد الله بن المبارك لأن عبد الله خالف أبا حنيفة في مسألة فوجد فرصة يريد أن ينتقص منها من قدر أبي حنيفة فقال له ابن المبارك
يا ناطح الجبل العالي ليكلمه أشفق
على الرأس لا تشفق على الجبل
فمنهج السلف الصالح كان هو التراحم وما أحوجنا أن نحيي هذا الرحم رحم العلم بين أهله.
التيارات الإسلامية المعاصرة ومنهج السلف الصالح
كل انتماء صحيح للسلف الصالح لا بد أن يكون دعوة تجديدية وكل تجديد ينطلق من أصول الإسلام لا بد أن ينتسب إلى منهج السلف الصالح، فالسلفية ليس معناها مجرد عودة إلى الوراء، السلفية الحقة هي دعوة متجددة والتجديد الحق لا بد أن ينتمي إلى السلف الصالح لأن السلف عاشوا قضايا عصرهم ولذلك حينما نعيش قضايا عصرنا ونقدم أجوبة وحلولا لمشكلات هذا الزمن فنحن ننتمي إلى سلفنا الصالح وحينما نستعيد معارك التاريخ الجهمية، المعتزلة، المعطلة، أمثال هؤلاء ولا نعيش قضايا العصر ولا تحديات الزمن ولا نقدم حلولا لهذا العصر فبهذا المعنى لا نكون قد انتسبنا إلى السلف، فالسلفية والتجديد صنوان يكمل بعضهما بعضا، السلفية الحقة هي دعوة إلى التجديد والإحياء والإبداع والتجديد الحق ليس نقضا للثوابت ولا هدما للمسلمات وإنما هو ارتباط بالأصل واتصال بالعصر، هذه هي المعادلة التي نريد أن نحياها تماما، وكثير من الحركات الإحيائية الإصلاحية زاوجت بين كونها قدمت مشروعا حضاريا لنهضة الأمة وفي ذات الوقت انطلقت مما كان عليه سلفنا الصالح، أما الذي يفهم بأن السلفية هي الوقوف فقط عند جزئيات أقوال علمائنا وآرائهم التي بنوها على اختلاف الزمان وتطور البيئات وانتهى إلى هذا فنقول له هذا ليس من السلف في شيء لأن السلف كما اجتهدوا لعصرهم علينا أن نجتهد لعصرنا كما عاشوا لقضايا زمانهم علينا أن نعيش لقضايا زماننا بذات المنهج الواسع الذي يحتمل ضروبا من تنوع الرأي واحتمال الفكر.
لابد من المراجعات في المواقف وفي الفكر هذا منهج شرعي، أولا كما قال عمر رضي الله عنه لأبي موسى في كتاب القضاء "فلا يمنعك قضاء قضيته اليوم فهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق فإن الحق قديم لا يبطله شيء ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل" وإذا كان هذا يعتبر سنة لنا "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا" فالمراجعة في الفكر في المنهج في المواقف في الطرائق في الوسائل، في الآليات هذا أمر ينبغي أن يكون عامل إحياء وتصويب لمسيرة العاملين في الحقل الإسلامي. وأعتقد أن كثيرا من هذه الدعوات التي يقف كل منها إلى دائرة التعصب عند ما انتهى إليه من آراء أو من اقتدى به من إمام يعتبر أن هذه غاية الغايات هذا هو التعصب المقيت الذي نهينا عنه، ولذلك هذه الدعوة مطلوبة. ماذا يعني الانتماء إلى السلف؟ ينبغي أن نحوله من مذهبية إلى منهج، أن نحوله من عصبية إلى اقتداء، وبالتالي فأتصور أن قضية الدعوة إلى المراجعات دعوة حق تتوجه إلى كل التيارات إسلامية وأنا أقول من لم يتجدد يتبدد، من لم يتقدم يتقادم، من لم يتطور يتدهور فالماء الراكد يأسن والذي يقف عند جزئيات وعند آراء لا يريد أن يطور فكره ولا آلياته فيها فإن الماء الراكد يأسن والخلايا إذا لم تتجدد تموت، ولكن نعلم أن التجدد المطلوب هو الذي يكون في الوسائل والآليات ويكون في ظنيات الآحكام وفي الاجتهاد المبني على المصالح والعلل والأعراف التي اختلفت باختلاف الأزمنة والأمكنة والبيئات وليس في قطعيات الشريعة ولا في أصولها وثوابتها.
إن تعدد الحركات والتيارات الإسلامية إذا كان هذا التعدد في الجماعات تعدد تنوع وتخصص بمعنى أن الإسلام أشبه بالنهر العظيم وكل هذه روافد كل طائفة تخصصت، هذه في العمل الخيري، هذه في تصحيح المفاهيم، هذه في البناء الاجتماعي، هذه في مقاومة الفكر الوافد، تخصصت في جوانب ولم تعتبر كل طائفة منها أنها هي مالكة لمعايير الصواب والحق وقبلت ما عند الآخرين ومدت جسور التواصل وأحسنت الظن بالدعوات الإصلاحية الأخرى وعظمت المشتركات والجوامع فحينئذ يكون التعدد تعدد تنوع يشكل عامل خصوبة وإثراء، أما إذا تحولت هذه التعددية إلى تكفير وتفسيق وإرجاف واتهامات متبادلة وكل يتسقط عثرات الآخر ويسيء الظن به ويكيل التهم يعني عليه فهذا يكون عامل إضعاف بالنسبة لواقع الأمة الإسلامية، ولذلك هذه الجماعات وسائل وليست غايات حين تتحول إلى غايات وتعتبر أن الانتماء إليها هو انتماء عليه معقد الولاء والبراء، من كان معي قديس، من ليس معي إبليس، من كان معي فمعه الحق المطلق، من ليس معي معه الباطل المطلق، هذا يؤدي إلى حالة التشظي والفرقة والشتات في الأمة، هذه كلها اجتهادات يخطئ ويصيب فيها الإنسان ولكننا نتكامل بمجموع هذه الطاقات وأيضا بالمستقلين الذين يثرون الحياة الإسلامية وليس لديهم انتماء لا لجماعة ولا لحزب ولا لطائفة.
هناك أزمات كثيرة، أولا هناك أزمة متعلقة بوحدة الأمة، وحدة الأمة اليوم تتعرض لأخطر قضية ما يمكن أن يسمى بتجزئة المجزأ أو تقسيم المقسم أو تفتيت المفتت، إما على أساس عرقي كما يقال في دارفور عرب وأفارقة، في شمال أفريقيا عرب وبربر، في العراق عرب وأكراد وتركمان، في الخليج عرب وفرس، أو قضية مذهبية أو على قضية متعلقة بالأقليات الدينية. كيف نحافظ على وحدة الأمة التي قامت على وحدة الجوامع الخمسة، وحدة العقيدة، وحدة الشريعة، وحدة القيم، وحدة الحضارة، وحدة دار الإسلام، هذه إحدى الأولويات الكبرى، الأولوية الثانية كيف تقدم هذه الحركات الإصلاحية نموذجا للإصلاح، الإصلاح في الحكم الرشيد في مقابل الاستبداد، الإصلاح في العدالة الاجتماعية في مقابل الظلم الاجتماعي، الإصلاح في مواجهة حالة التخلف التقني والعلمي والتكنولوجي، كيف ننهض بالأمة، حالة الوهن الأخلاقي، حالة التبعية والاستلاب. هناك أمر آخر من الأولويات الاحتلال الذي جثم على صدر الأمة في مقدساتها وفي كثير من البلاد، ثم جانب آخر كيف تتحرك هذه الدعوات لتقديم مشروع نهضة لنهضة الأمة ينقلها من دائرة الوجود العادل إلى الشهود الفاعل، نهضة تقوم على العقيدة الموافقة للفطرة، على العبادة الدافعة للعمارة، على العقل المهتدي بالوحي، على العلم المرتبط بالإيمان، على الأخلاق المترقية بالإنسان، على العدل المؤيد بالإحسان، على التشريع المحقق للمصلحة، على الفن الملتزم بالقيم، على القوة المقترنة بالحق، على الخير المتوشح بالجمال، لا يوجد مشروع لنهضة الأمة شامل ومشروع إصلاح يحاول أن ينشئ علاقة تنهض بهذه الأمة في كل هذه الجوانب. قضية العولمة وإفرازاتها وتحدياتها، قضية الحداثة وما بعد الحداثة، إشكاليات ضخمة في واقع الأمة، بدل أن نستدعي معارك التاريخ التي عفا عليها الزمان على الدعاة أن يتصدوا لمشكلات العصر وواقع الزمان بعقل نقي بقلب تقي بجهد متضام، بحراك واجتهاد وإحياء حتى نستطيع أن نجيب على هذه الإشكاليات ويكون انتماؤنا انتماء إلى السلف الصالح انتماء منهج وليس انتماء مذهبية ضيقة تعمل على شتات شمل الأمة.
كثيرا ما ترتبط السلفية المعاصرة بشخصي ابن تيمية وابن القيم وكتاباتهما ابن تيمية وابن القيم من أعلام الهدى ومن الأئمة الكبار الذين قادوا حركة تحررية في موضوع الاجتهاد ونبذ التعصب ومحاربة الخرافة والبدع ونحو ذلك، أما أن نعتبر التمركز بالنسبة للسلف الصالح جميعا فقط عند هذين الإمامين ومن قبلهما الإمام أحمد ومن بعدهما الإمام محمد بن عبد الوهاب على جلالة قدر هؤلاء الأئمة فهذا خطأ ليس صحيحا، فهؤلاء من أعلام الهدى لهم ما لهم عليهم ما عليهم اجتهدوا أصابوا في الكثير وهم إن شاء الله بين أجري الإصابة وبين أجر الخطأ الواحد كسائر أعلام الأمة، هم أيضا وقعوا ضحية بين المغالين في التعصب لهم والمغالين في التعصب عليهم، وأنا أعتقد أن الإمام ابن تيمية والإمام ابن القيم هم من أكثر العلماء الذين أنصفوا التصوف والمتصوفة، ابن تيمية له مجلدان "التصوف والسلوك" وابن القيم في "مدارج السلوك" كتب كتابا عظيما وهو في قمة عطائه الروحي ومن آخر ما ألف وكتب، كيف التمس المعاذير للإمام الهروي ويستدرك عليه بعض المسائل وينصفه ويقول "العصمة لم تضمن لأحد بعد النبي عليه الصلاة والسلام". المشكلة أننا لا نتأسى بابن تيمية وابن القيم في منهجهما وإنما نتأسى بهما في جزئيات أقوالهما أي أننا نريد أن نثير القضايا التي أثارها الشيخان وقد لا يكون لهما مقتضى في عصرنا وهذه هي مشكلتنا بين السلفية الحزبية وبين سلفية المنهج، إن الاقتداء بابن تيمية أن نتصدى لقضايا عصرنا كما تصدى ابن تيمية لقضايا عصره لا أن نردد ذات الأقوال، ولذلك هذا هو المنهج الذي ابن تيمية قدمناه على أنه الذي يشهر سيفه في وجه المخالفين لكن لم نقدمه ذلك الإمام الرباني الذي كان يحيي ليلته ويقعد بعد صلاة الفجر ويتعبد حتى يتعالى النهار ويقول "هذه غدوتي لو لم أفعلها سقطت قواي"، هذا الرجل بهذه الروحانية المشرقة، وقد كتبت بحثا أسميته "صفحات مطوية من حياة شيخ الإسلام ابن تيمية"، إنصافه للمخالفين، لماذا لا نقتدي بابن تيمية في إنصافه للمخالفين ونركز فقط على قضايا الخلاف التي أثارها مع علماء عصره؟
وفي الاصطلاح أصبح مفهوم السلف الصالح المعرف بأل العهدية يطلق على أهل القرون الثلاثة الفاضلة المشهود لها بالخير والإيمان وهم الصحابة والتابعون وتابعو التابعين لأن هذا الجيل يعتبر هو الجيل المؤسس الذي أقام الدين على منهاج النبوة ومزج بين العلم النافع والعمل الصالح فنالوا بهذه الخيرية هذه المكانة التي بوأتهم فهو سلف صالح. ولهذه المسألة مزية انطلقت من مؤشرات شرعية فالنبي صلى الله عليه وسلم قال "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" ثم ورد في القرآن الكريم في الثناء على أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام {وَالْسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنهُ..}[التوبة:100] فتحقق الرضى لأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام وشرط فيمن جاء بعدهم أن يتبعم بإحسان، وصح عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "أصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون" والأمنة جمع أمين، إما أن يكون بمعنى أنهم أمناء على هذا الدين بلاغا وبيانا ونشرا وهداية أو أنهم مؤتمنون عليه وأنهم أمان لهذه الأمة من ظهور الأهواء فإذا سلكت الأمة سبيلهم أمنت وإذا انحرفت وتنكبت طريقهم وقعت في مضلات الأهواء والفتن، هؤلاء هم الصحابة ثم أخذ عن جيل الصحابة التابعون وأخذ عنهم تابعو التابعين، هذا بمجموعه يمثل مصطلح السلف الصالح.
أما الذين جاءوا من بعدهم هم ينتسبون إلى هذا لأنه منهج ممتد ولذلك من جاء بعدهم كالأئمة الأربعة وكسفيان الثوري وسفيان بن عيينة والأوزاعي والليث بن سعد والمبارك وأضراب هؤلاء من أئمة الهدى سلكوا ذات السبيل وانتهجوا هذا المنهج فكانوا أيضا على منوالهم، فليست العبرة فقط بأن هذه الخيرية انقطعت، صحيح أن هذه الخيرية هي خيرية ذكرت لأهل هؤلاء القرون ولكن كل من تلبث بهذا المنهج واستقام عليه فإن الله تعالى يقول {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِيْنَ، وَثُلَّةٌ مِنَ الْآَخِرِينَ}[الواقعة:39، 40]..
وهنالك فرق بين الانتماء إلى هذا المنهج الواسع الرحب الفياض وبين سلفيات حركية أو مذهبية أو حزبية تسمت بهذا الاسم وانتسبت إلى السلف الصالح في جزئية من الجزئيات، فهذه السلفيات أنواع تتعدد ولا تنحصر في جانب واحد، منها سلفيات أخذت جانبا معينا تمثل في بعض قضايا العقيدة بعضهم تمثل في تلك المجابهات التي حصلت بين سلفنا الصالح وبين فرق ومذاهب ضلت وانحرفت عن جادة الطريق وهنالك سلفيات جمدت على كل ما قاله الأقدمون باعتبار أنه ليس بالإمكان أبدع مما كان وهنالك سلفيات إحيائية أخذت المنهج ولكنها بذات المنهج استطاعت أن تعالج قضايا عصرها وقضايا زمانها، فعلينا أن نفرق بين الانتماء إلى السلف كمنهج واسع رحب وبين سلفيات نشأت حملت هذا العنوان أخذت من السلف بعضا وتركت جانبا آخر.
إن السلف الصالح ليس رؤية فقهية واحدة ولا اجتهادا فكريا معينا، السلف الصالح منهج رحب، هم التقوا على الأصول وعلى الكليات وعلى الثوابت وعلى القطعيات وعلى المحكمات وما دون ذلك اختلفوا في الفروع، في فروع العقيدة، هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة المعراج؟ خلاف وقع بين الصحابة أنفسهم، كذلك في مصادر الاستدلال وقع اختلاف في المصادر الفرعية، الاستصحاب، الاستحسان، براءة الأصل، وقع اختلاف في فروع الفقه وما أكثر هذا الاختلاف، وقعوا في علوم التزكية في بعض تطبيقاتها. إذاً حينما نقول الانتماء إلى السلف الصالح نحن نقول انتماء إلى منهج تنوعت فيه الآراء تعددت فيه الأفكار اختلفت فيه بعض المسائل، هذا الانتماء فيه رخص ابن عباس فيه عزائم ابن عمر فيه فقه أبي حنيفة فيه أثرية ابن حنبل فيه مقاصدية الشاطبي فيه ظاهرية ابن حزم فيه رقائق الإمام الجنيد فيه اجتهاد أبي حامد الغزالي وكلهم من رسول الله ملتمس غرفا من البحر أو رشفا من الديم. فلا ينبغي أن نجعل لاجتهادات بعض الأئمة أو بعض الأشخاص من الأقدمين عنوانا للانتماء إلى السلف الصالح ثم نطرح بقية الرؤى وتنوع الأفكار يعتبر خارج إطار هذه السلفية، هذا لون من الحزبية السلفية الضيقة الذي ضيق ما كان واسعا عند سلفنا الصالح، ولذلك كانوا يقولون "إجماعهم حجة قاطعة واختلافهم رحمة واسعة" فاعتبروا أن الاختلاف في الفروع مظهر من مظاهر الرحمة وهذا من التوسعة التي جاءت بها شريعة الإسلام.
تعدد السلفيات وملامح المنهج السلفي الصحيح
منهج السلف الصالح أصابته عند كثير من هذه التيارات ضبابية، هنالك سلفية جهادية تبنت خطا في مجال التكفير أو التفجير أو غير ذلك، هنالك سلفية إحيائية اجتهادية زاوجت بين المقاصد والنصوص بين الأصل وبين العصر، هنالك سلفية اعتبرت نفسها امتدادا لمدرسة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ركزت على محاربة الشرك الشعائري وما رأته من الاختلال في قضايا البدع، هنالك سلفية أرادت أن تزاوج بين هذا وذاك، إذاً هنالك سلفية ما تسمى اليوم بالسلفية العلمية هنالك السلفية الجهادية هنالك السلفية الإحيائية هنالك السلفية التي تمثل امتدادا لمدرسة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، عادت هنالك سلفيات ولذلك أصبح من الضروري أن نحرر مفهوم الانتماء إلى السلف الصالح تحريرا يعطيه السعة والشمول والغنى حتى نقوم بإخراجه من هذه الدوائر الضيقة التي حصرته في هذه الأبواب. فهنالك من جعل مجرد اختيارات الإمام أحمد بن حنبل وشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم وما رآه الشيخ محمد بن عبد الوهاب فقط هذه المحطات الأربعة هي عنوان للانتماء إلى السلف الصالح..
هؤلاء أعلام هدى ولكن ليسوا وحدهم الذين يعبرون فقط عن منهج السلف الصالح، فهذا خلل في هذا المفهوم بني على أن القضايا التي أثيرت في تلك العصور من محاربة الشرك من مواجهة البدع من الحديث عن الفرق هو فقط العنوان لقضية السلف والسلفية ولكن هذه جزئيات لا ينبغي أن تكون وحدها عنوانا للانتماء إلى السلف الصالح،
السلف الصالح اجتهدوا وجاهدوا، أقاموا الدين وعمروا الدنيا فانطلقوا في كل زويا الأرض نشروا هذا الخير فلماذا نعتبر.. اليوم هنالك حركات إحياء إصلاحية انتمت إلى السلف الصالح في زاوية من الزوايا، في البناء التربوي الحركة السنوسية، في البعد الجهادي الحركة المهدية، هنالك الكواكبي هنالك مدرسة المنار الشيخ رشيد رضا، هنالك ابن باديس، هنالك الخطابي هنالك الفاسي هنالك البنا هنالك حركات إحيائية إصلاحية استفادت من هذا التراث في جانب من الجوانب وانتمت إلى السلف الصالح ولكنها لم تدّع الاحتكار لجانب من الجوانب على أنها هي المهيمنة أو الباسطة أو المالكة لمنهج السلف الصالح فهو أوسع من أن تحتركه فرقة أو أن تنتمي إليه طائفة وتخرج بقية المسلمين وسائر الجماعات التي ائتمت بهذا الهدي المبارك من هذه الدائرة.
أبرز ملامح هذا الاتباع أولا صفاء العقيدة لأنها هي الأساس والذي يمثل المدخل الصحيح لسلامة الدين ولذلك قالوا "جماع الدين أصلان، ألا نعبد إلا الله وأن نعبده بما شرع"، تحقيق العبودية لله وأن تكون هذه العبودية بما شرع الله، هذه واحدة. الأمر الثاني مسألة مصادر المعرفة، المزاوجة بين صحة النقل وصراحة العقل فمن الناس من انكفأ بالعقل دون النقل ومن الناس من جعل النقل لا مجال فيه لفهم العقل، إذاً صحة النقل وصراحة العقل هذان يمثلان مرتكزان. المرتكز الثالث مصادر المعرفة أيضا الكتاب المسطور والكون المنظور، فالله سبحانه وتعالى أمرنا أن نتأمل آياته وهذه الآيات نوعان، آيات تنزيلية في كتاب الله المقروء وآيات كونية في صفحة الكون المنظور، لدينا كتاب مسطور وكتاب منظور فالكون هو الذي يمثل مصدر المعرفة الطبيعية والوحي هو الذي يمثل مصدر المعرفة الشرعية، فالكون والوحي مصادر المعرفة والوسائل لهذين المصدرين الحس والعقل {وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئَاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمَعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ..}[النحل:78]. التلازم بين الظاهر والباطن اتباع الحق ورحمة الخلق، إحسان الظن بالمخالف، العدل والإنصاف للمخالفين كذلك، رعاية اختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال والبيئات وهذا ملمح مهم في منهج السلف الصالح، أيضا التأكيد على السكوت عما لا ينبني عليه عمل والتكلم فيما ينبني عليه عمل فهذا أيضا ملمح، الملمح الأخير أن السلف الصالح عاشوا قضايا عصرهم وتحديات زمانهم فليس من السلف الصالح والانتماء إليهم في شيء أن يستدعي الإنسان معارك التاريخ وأن يغفل عن معالجة قضايا العصر وإشكاليات الزمان، ثم النقطة الأخيرة وهي الموازنة بين الائتلاف والاختلاف، تعظيم الجوامع المشتركة والتراحم في قضايا الاختلاف وإعذار المختلف فيه والنأي عن تكفير أهل القبلة، كل من شهد الشهادتين واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا، كل من توضأ فهو مسلم له ما لنا وعليه ما علينا. هذه أبرز الملامح التي كان عليها سلفنا الصالح والذي ينبغي أن نحيي قاعدة التأسي بهم في شمول هذا المنهج لا في جزئيات أقوالهم أو التصدي لبعض مشكلات عصرهم التي تجاوزها الزمن وعفا عليها فـ {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ..}[البقرة:134]
"هل تعتبر الطرق الصوفية من الحركة السلفية؟ وإن كانت كذلك فما هو الفرق بينها وبين الفرق الأخرى؟"
أول قضية علينا أن نؤكد أن هناك شعبة عظيمة من شعب الدين أطلق القرآن الكريم عليها وصف التزكية {.. َيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ..}[البقرة:129]، {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا}[الشمس:9]، {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}[المدثر:4] وأطلقت السنة المطهرة عليها وصف الإحسان "أن تعبد الله كأنك تراه"، وأطلق العلماء عليها فقه الباطن في مقابل فقه الظاهر أو أعمال القلوب في مقابل أعمال الجوارح، هذا القدر مسلم به عند جميع أهل الإسلام. وهذا العلم أصابته في مسيرته شوائب كدرت صفاءه، المطلوب هو أولا أن نحقق هذا التلازم بين الظاهر والباطن، أهل التصوف قديما اعتنوا بقضية أعمال الباطن الحقائق والرقائق والدقائق وبعضهم لم يربطها بقضية الاتباع، السلفيون المعاصرون ركزوا على ظاهر الاتباع، والحقيقة هي المزج بين علم الظاهر والباطن، {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} أخذ منها الفقهاء مشروعية طهارة الثوب وأخذ منها أهل الرقائق مشروعية لطهارة الباطن، والعرب ربما أطلقت الثياب وأرادت بها النفس الباطنة
كما قال عنترة فشككت بالرمح الأصم ثيابه - ليس الكريم على القنا بمحرم
تلازم الظاهر والباطن هو المعادلة التي عالجها السلف وعلى هذا كان المتقدمون من أهل التصوف مثل الإمام بشر الحافي ومعروف الكرخي وأبو سليمان الداراني والسري السقطي والحارث المحاسبي والإمام الجنيد كان يقول "طريقنا هذا مسدود، من لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في علمنا هذا"، عبر عنه حاتم الأصم حين سئل كيف تصلي؟ أعطى الظاهر حقه والباطن حقه قال "أتوضأ فأسبغ الوضوء ثم آتي موضع الصلاة بسكينة ووقار فأكبر تكبيرا بتوقير، أقرأ قراءة بترتيل، أركع ركوعا بخشوع، أسجد سجودا بتذلل" هذا حق الظاهر، حق الباطن "أتمثل الجنة عن يميني والنار عن شمالي والكعبة بين حاجبي وملك الموت فوق رأسي وعين الله ناظرة إلي وذنوبي محيطة بي ثم أتبعها الإخلاص ما استطعت وأسلم وأنا لا أدري أتقبل صلاتي أم ترد علي". مشكلتنا أن بعض التيارات السلفية المعاصرة حولت هذا المعنى إلى التماس الهدي الظاهر دون أن يستصحب معه الهدي الباطن ولذلك قال الإمام ابن الجوزي "تجد أحدهم يقصر ثوبه وفي قلبه كبر فرعون" لأنه هنا التلازم المطلوب أن يتخلى الإنسان عن داء الكبر والخيلاء "من جر ثوبه لا يريد بذلك إلا المخيلة.." فالمزج هو أن نحقق هذا التلازم بين الظاهر والباطن كما فعله الأقدمون، أوجدوا مشروعية الاتباع ولكنهم جعلوا لهذا الاتباع معنى تقوم بها رقائق القلوب. وإذا أردنا أن نجسد بعض الكتابات "مدارج السالكين" بين منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}[الفاتحة:5] "حكم ابن عطاء الله السكندري" نموذج لهذا المزج، ما كتبه شيخنا الشيخ يوسف في رسائله سلسلة السلوك في ضوء الكتاب والسنة كتب منها التوكل والنية والإخلاص والتوبة والزهد والورع والعلم نموذج لهذا. فنحن نحتاج إلى هذا المزج نأخذ من ما أراده السلفيون من الاتباع وما أراده أهل التصوف من تحقيق المعاني الباطنية فهذا هو المزج ولكن للأسف نحن بين السلفية الناطحة والصوفية الشاطحة ضاع هذا المسلك الذي ينبغي أن يعيدنا إلى طريق أسلافنا الذين قدموا هذا العلم نقوه من الشوائب وبسطوه للأجيال وهذا الذي نحتاجه اليوم، أما الذي يقول بأن نلغي كل هذا العلم بما فيه من درر وبما فيه من كنوز فهذا خطأ لا نقبله بجملته ولا نرده بجملته وإنما نعمل على تنقيته من الشوائب وتقديمه سهلا قريبا للأجيال
إذاً لا بد من معالجة الصوفية الشاطحة أيضا بطريقة ما؟ كما نعالج السلفية الناطحة.
نعم. إذاً لا بد أن يكون هناك توازن ما بين الأمرين،
يعني ظاهرة الاختلاف السلف اختلفوا وتحاوروا وتناظروا ولكن كان هناك التراحم فيما بينهم، رأينا إماما مثل الإمام الشافعي أخذ عن الإمام مالك وخالفه وألف كتابا سماه "اختلاف مالك والشافعي" ومع ذلك كان يقول "إذا ذكر العلماء فمالك النجم" "مالك حجة الله على خلقه" "ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مالك" "لولا مالك وابن عيينة لذهب العلم من الحجاز"، جاء الإمام أحمد أخذ العلم عن الشافعي وخالفه في مسائل ومع ذلك قال الإمام أحمد "والله ما بت ليلة ثلاثين سنة إلا ودعوت فيها للشافعي" قال ابنه "لقد سمعتك تكثر الدعاء له، من هذا الشافعي يا أبت؟" قال "يا بني كان الشافعي كالشمس للدنيا وكالعافية للناس، فانظر هل لهذين من خلف أو منهما عوض؟
ومن يكن علم الشافعي إمامه
فمرتعه في باحة العلم واسع"
وبالمقابل غادر الشافعي بغداد ومع مخالفة أحمد له في مسائل قال "لقد تركت بغداد وما خلفت فيها أورع ولا أعلم ولا أهدى من أحمد بن حنبل" ثم قال
قالوا يزورك أحمد وتزوره
قلت المكارم لا تفارق منزله
إن زارني فبفضله أو زرته فلفضله
فالفضل في الحالين له
وقال الإمام أحمد "لم يعبر الجسر مثل إسحق بن راهويه وإن كان يخالفنا في أشياء فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضا" وقال الشافعي لأحدهم "يا فلان ألا يستقيم أن نكون إخوانا وإن لم نتفق على مسألة؟" كان بين السلف الصالح التراحم ولكن للأسف أصبحت اليوم القسوة والغلظة والجفاء والشدة على المخالف بل تبديعه وتفسيقه وتضليله وتجهيله، أشياء مجرد خلاف في الرأي، "السيف المشهور على أهل التبرج والسفور" حينما تقرأ كلمة التبرج والسفور يتبادر إلى ذهنك التبرج وحينما تقرأ الكتاب تجد أن الكتاب يتوجه إلى تضعيف الرأي الذي يقول بأن الوجه والكفين ليسا من العورة، هذا الرأي الذي يقول به الجمهور تحول إلى أن يشرع في وجهه سيف وسيف بتار وسيف مشهور! هل مجرد القضية الفرعية تستأهل أن نشرع فيها كل أنواع الأسلحة الفتاكة بما يذهب رحم الأخوة ورحم العلم ورحم الإيمان؟ هذا الذي خالفنا به منهج سلفنا الصالح الذين اختلفوا ورحم بعضهم بعضا، وأختم برجل وقف مع عبد الله بن المبارك لأن عبد الله خالف أبا حنيفة في مسألة فوجد فرصة يريد أن ينتقص منها من قدر أبي حنيفة فقال له ابن المبارك
يا ناطح الجبل العالي ليكلمه أشفق
على الرأس لا تشفق على الجبل
فمنهج السلف الصالح كان هو التراحم وما أحوجنا أن نحيي هذا الرحم رحم العلم بين أهله.
التيارات الإسلامية المعاصرة ومنهج السلف الصالح
كل انتماء صحيح للسلف الصالح لا بد أن يكون دعوة تجديدية وكل تجديد ينطلق من أصول الإسلام لا بد أن ينتسب إلى منهج السلف الصالح، فالسلفية ليس معناها مجرد عودة إلى الوراء، السلفية الحقة هي دعوة متجددة والتجديد الحق لا بد أن ينتمي إلى السلف الصالح لأن السلف عاشوا قضايا عصرهم ولذلك حينما نعيش قضايا عصرنا ونقدم أجوبة وحلولا لمشكلات هذا الزمن فنحن ننتمي إلى سلفنا الصالح وحينما نستعيد معارك التاريخ الجهمية، المعتزلة، المعطلة، أمثال هؤلاء ولا نعيش قضايا العصر ولا تحديات الزمن ولا نقدم حلولا لهذا العصر فبهذا المعنى لا نكون قد انتسبنا إلى السلف، فالسلفية والتجديد صنوان يكمل بعضهما بعضا، السلفية الحقة هي دعوة إلى التجديد والإحياء والإبداع والتجديد الحق ليس نقضا للثوابت ولا هدما للمسلمات وإنما هو ارتباط بالأصل واتصال بالعصر، هذه هي المعادلة التي نريد أن نحياها تماما، وكثير من الحركات الإحيائية الإصلاحية زاوجت بين كونها قدمت مشروعا حضاريا لنهضة الأمة وفي ذات الوقت انطلقت مما كان عليه سلفنا الصالح، أما الذي يفهم بأن السلفية هي الوقوف فقط عند جزئيات أقوال علمائنا وآرائهم التي بنوها على اختلاف الزمان وتطور البيئات وانتهى إلى هذا فنقول له هذا ليس من السلف في شيء لأن السلف كما اجتهدوا لعصرهم علينا أن نجتهد لعصرنا كما عاشوا لقضايا زمانهم علينا أن نعيش لقضايا زماننا بذات المنهج الواسع الذي يحتمل ضروبا من تنوع الرأي واحتمال الفكر.
لابد من المراجعات في المواقف وفي الفكر هذا منهج شرعي، أولا كما قال عمر رضي الله عنه لأبي موسى في كتاب القضاء "فلا يمنعك قضاء قضيته اليوم فهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق فإن الحق قديم لا يبطله شيء ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل" وإذا كان هذا يعتبر سنة لنا "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا" فالمراجعة في الفكر في المنهج في المواقف في الطرائق في الوسائل، في الآليات هذا أمر ينبغي أن يكون عامل إحياء وتصويب لمسيرة العاملين في الحقل الإسلامي. وأعتقد أن كثيرا من هذه الدعوات التي يقف كل منها إلى دائرة التعصب عند ما انتهى إليه من آراء أو من اقتدى به من إمام يعتبر أن هذه غاية الغايات هذا هو التعصب المقيت الذي نهينا عنه، ولذلك هذه الدعوة مطلوبة. ماذا يعني الانتماء إلى السلف؟ ينبغي أن نحوله من مذهبية إلى منهج، أن نحوله من عصبية إلى اقتداء، وبالتالي فأتصور أن قضية الدعوة إلى المراجعات دعوة حق تتوجه إلى كل التيارات إسلامية وأنا أقول من لم يتجدد يتبدد، من لم يتقدم يتقادم، من لم يتطور يتدهور فالماء الراكد يأسن والذي يقف عند جزئيات وعند آراء لا يريد أن يطور فكره ولا آلياته فيها فإن الماء الراكد يأسن والخلايا إذا لم تتجدد تموت، ولكن نعلم أن التجدد المطلوب هو الذي يكون في الوسائل والآليات ويكون في ظنيات الآحكام وفي الاجتهاد المبني على المصالح والعلل والأعراف التي اختلفت باختلاف الأزمنة والأمكنة والبيئات وليس في قطعيات الشريعة ولا في أصولها وثوابتها.
إن تعدد الحركات والتيارات الإسلامية إذا كان هذا التعدد في الجماعات تعدد تنوع وتخصص بمعنى أن الإسلام أشبه بالنهر العظيم وكل هذه روافد كل طائفة تخصصت، هذه في العمل الخيري، هذه في تصحيح المفاهيم، هذه في البناء الاجتماعي، هذه في مقاومة الفكر الوافد، تخصصت في جوانب ولم تعتبر كل طائفة منها أنها هي مالكة لمعايير الصواب والحق وقبلت ما عند الآخرين ومدت جسور التواصل وأحسنت الظن بالدعوات الإصلاحية الأخرى وعظمت المشتركات والجوامع فحينئذ يكون التعدد تعدد تنوع يشكل عامل خصوبة وإثراء، أما إذا تحولت هذه التعددية إلى تكفير وتفسيق وإرجاف واتهامات متبادلة وكل يتسقط عثرات الآخر ويسيء الظن به ويكيل التهم يعني عليه فهذا يكون عامل إضعاف بالنسبة لواقع الأمة الإسلامية، ولذلك هذه الجماعات وسائل وليست غايات حين تتحول إلى غايات وتعتبر أن الانتماء إليها هو انتماء عليه معقد الولاء والبراء، من كان معي قديس، من ليس معي إبليس، من كان معي فمعه الحق المطلق، من ليس معي معه الباطل المطلق، هذا يؤدي إلى حالة التشظي والفرقة والشتات في الأمة، هذه كلها اجتهادات يخطئ ويصيب فيها الإنسان ولكننا نتكامل بمجموع هذه الطاقات وأيضا بالمستقلين الذين يثرون الحياة الإسلامية وليس لديهم انتماء لا لجماعة ولا لحزب ولا لطائفة.
هناك أزمات كثيرة، أولا هناك أزمة متعلقة بوحدة الأمة، وحدة الأمة اليوم تتعرض لأخطر قضية ما يمكن أن يسمى بتجزئة المجزأ أو تقسيم المقسم أو تفتيت المفتت، إما على أساس عرقي كما يقال في دارفور عرب وأفارقة، في شمال أفريقيا عرب وبربر، في العراق عرب وأكراد وتركمان، في الخليج عرب وفرس، أو قضية مذهبية أو على قضية متعلقة بالأقليات الدينية. كيف نحافظ على وحدة الأمة التي قامت على وحدة الجوامع الخمسة، وحدة العقيدة، وحدة الشريعة، وحدة القيم، وحدة الحضارة، وحدة دار الإسلام، هذه إحدى الأولويات الكبرى، الأولوية الثانية كيف تقدم هذه الحركات الإصلاحية نموذجا للإصلاح، الإصلاح في الحكم الرشيد في مقابل الاستبداد، الإصلاح في العدالة الاجتماعية في مقابل الظلم الاجتماعي، الإصلاح في مواجهة حالة التخلف التقني والعلمي والتكنولوجي، كيف ننهض بالأمة، حالة الوهن الأخلاقي، حالة التبعية والاستلاب. هناك أمر آخر من الأولويات الاحتلال الذي جثم على صدر الأمة في مقدساتها وفي كثير من البلاد، ثم جانب آخر كيف تتحرك هذه الدعوات لتقديم مشروع نهضة لنهضة الأمة ينقلها من دائرة الوجود العادل إلى الشهود الفاعل، نهضة تقوم على العقيدة الموافقة للفطرة، على العبادة الدافعة للعمارة، على العقل المهتدي بالوحي، على العلم المرتبط بالإيمان، على الأخلاق المترقية بالإنسان، على العدل المؤيد بالإحسان، على التشريع المحقق للمصلحة، على الفن الملتزم بالقيم، على القوة المقترنة بالحق، على الخير المتوشح بالجمال، لا يوجد مشروع لنهضة الأمة شامل ومشروع إصلاح يحاول أن ينشئ علاقة تنهض بهذه الأمة في كل هذه الجوانب. قضية العولمة وإفرازاتها وتحدياتها، قضية الحداثة وما بعد الحداثة، إشكاليات ضخمة في واقع الأمة، بدل أن نستدعي معارك التاريخ التي عفا عليها الزمان على الدعاة أن يتصدوا لمشكلات العصر وواقع الزمان بعقل نقي بقلب تقي بجهد متضام، بحراك واجتهاد وإحياء حتى نستطيع أن نجيب على هذه الإشكاليات ويكون انتماؤنا انتماء إلى السلف الصالح انتماء منهج وليس انتماء مذهبية ضيقة تعمل على شتات شمل الأمة.
كثيرا ما ترتبط السلفية المعاصرة بشخصي ابن تيمية وابن القيم وكتاباتهما ابن تيمية وابن القيم من أعلام الهدى ومن الأئمة الكبار الذين قادوا حركة تحررية في موضوع الاجتهاد ونبذ التعصب ومحاربة الخرافة والبدع ونحو ذلك، أما أن نعتبر التمركز بالنسبة للسلف الصالح جميعا فقط عند هذين الإمامين ومن قبلهما الإمام أحمد ومن بعدهما الإمام محمد بن عبد الوهاب على جلالة قدر هؤلاء الأئمة فهذا خطأ ليس صحيحا، فهؤلاء من أعلام الهدى لهم ما لهم عليهم ما عليهم اجتهدوا أصابوا في الكثير وهم إن شاء الله بين أجري الإصابة وبين أجر الخطأ الواحد كسائر أعلام الأمة، هم أيضا وقعوا ضحية بين المغالين في التعصب لهم والمغالين في التعصب عليهم، وأنا أعتقد أن الإمام ابن تيمية والإمام ابن القيم هم من أكثر العلماء الذين أنصفوا التصوف والمتصوفة، ابن تيمية له مجلدان "التصوف والسلوك" وابن القيم في "مدارج السلوك" كتب كتابا عظيما وهو في قمة عطائه الروحي ومن آخر ما ألف وكتب، كيف التمس المعاذير للإمام الهروي ويستدرك عليه بعض المسائل وينصفه ويقول "العصمة لم تضمن لأحد بعد النبي عليه الصلاة والسلام". المشكلة أننا لا نتأسى بابن تيمية وابن القيم في منهجهما وإنما نتأسى بهما في جزئيات أقوالهما أي أننا نريد أن نثير القضايا التي أثارها الشيخان وقد لا يكون لهما مقتضى في عصرنا وهذه هي مشكلتنا بين السلفية الحزبية وبين سلفية المنهج، إن الاقتداء بابن تيمية أن نتصدى لقضايا عصرنا كما تصدى ابن تيمية لقضايا عصره لا أن نردد ذات الأقوال، ولذلك هذا هو المنهج الذي ابن تيمية قدمناه على أنه الذي يشهر سيفه في وجه المخالفين لكن لم نقدمه ذلك الإمام الرباني الذي كان يحيي ليلته ويقعد بعد صلاة الفجر ويتعبد حتى يتعالى النهار ويقول "هذه غدوتي لو لم أفعلها سقطت قواي"، هذا الرجل بهذه الروحانية المشرقة، وقد كتبت بحثا أسميته "صفحات مطوية من حياة شيخ الإسلام ابن تيمية"، إنصافه للمخالفين، لماذا لا نقتدي بابن تيمية في إنصافه للمخالفين ونركز فقط على قضايا الخلاف التي أثارها مع علماء عصره؟