عدد المشاهدات:
أنوار التحقيق
في
وصول
أهل الطريق
لفضيلة الشيخ
محمد
على سلامة
مدير
أوقاف بورسعيد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي اصطفي من عباده أحبابا له جلَّ جلاله، فجعلهم خزائن أسراره وكنوز
أنواره، ورحمة بعباده. أشهدهم جماله العلي وكماله القدسي، وأقامهم ورثة لرسله صلوات الله وسلامه
عليهم أجمعين يهدون الخلق إلى الله، سر قوله سبحانه: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئمَّةً
يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾. [24، السجدة]. وسر قوله سبحانه: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ
الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم
مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾.[32، فاطر].
والصلاة والسلام على نور الله الدال بالله على
الله، ونعمة الله العظمى المفاضة من الله على جميع خلق الله، ورحمة الله الواسعة التي
وسعت جميع عوالم الله. ورضوان الله الأكبر يغشى أهل معيته صلى الله عليه وسلم من
صحابته وذريته وورثته والتابعين لهم إلى يوم الدين.
ونسأل الله عزَّ
وجلَّ أن يتنزل على روضة الفرد الوارث الإمام أبى العزائم بواسع رحمته
ومغفرته ورضوانه، إنه سميع قريب مجيب.
وبعد
فلقد طلب مني الخاصة من إخواني، ومن هم أحب
إليَّ من نفسي أن أكتب لهم رسالة متواضعة، تبين لهم وتوضح لهم، معاني الوصول إلى
الله عزَّ وجلَّ،
وحقيقة القرب منه جلَّ جلاله،
التي ذكرها مولانا السيد محمد ماضي أبو العزائم مجملة في كتابه (معارج المقربين)
تحت عنوان (الوصول).
ولما كان الإمام رضي الله عنه، قد تحدث في هذا الموضوع لأهل
القرب من الله وأهل المعارج التي يرتقون عليها إلى الله عزَّ وجلَّ، وهى عبارات من غيب القدس الأعلى،
تخاطب قلوب خاصة الخاصة من عباد الله، وكأن الإمام رضي الله عنه جعلها من العلم المضنون به على
غير أهله، وتكلم بها لمن ذاقوا حلاوة القرب من الله عزَّ وجلَّ، ولذة الوصل منه، ونعيم الأنس به جلَّ جلاله.
فكانت هذه العبارات، وكأنها سر من سر، وغيب من
غيب، يحتاج أمثالي من أخواني إلى التعرف عليها، واستجلاء غوامضها، وكشف معانيها،
وبيان حقائقها، فطلبت من الله سبحانه المعونة فأعانني، واستجبت لرغبتهم الملحة
فكتبت لنفسي ولأخواني، ما أفاض الله على به، وما الهمني به، وما علمني إياه، في
توضيح معاني عبارات الإمام رضي الله عنه،
ليكون ضوءًا كاشفًا لهذه الحقائق العالية التي كتبها الإمام رضي الله عنه في كتاب (معارج المقربين).
وإني أرجو من وراء هذا العمل، الذي أعانني الله
عليه، أن يهديني وأخواني سواء السبيل، وأن ينفعني وإياهم بما أنطق الله به لساني،
وأن يغفر لي ذنوبي وأوزاري، ما قدمت منها وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أعلمه
وما لا أعلمه، وما هو سبحانه به أعلم وأن يدخلني وجميع أخواني وأهلي في عباده
الصالحين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى الله وصحبه وسلم.
لا الله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين
فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين، اللهم كما استجبت له فاستجب لنا
وكما نجيته من الغم فنجنا يا رب العالمين. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى الله
وصحبه وسلم.
اللهم إنك أمرتنا بأن ندعو لمن أسديت لنا نعمة
على يديه، فنسألك أن تجازي أستاذنا أبا العزائم عنا خير الجزاء بمغفرة ورضوان وخير
في الدنيا والآخرة، وتمنحنا وإخواننا أين كانوا وكيف كانوا العمل بالسنة والتوفيق،
والحفظ من معاصيك سبحانك، ومن الشر والأشرار، ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة
المسيخ الدجال وأسبغ علينا نعمك ظاهرة وباطنة يا مجيب الدعاء، وصلى الله على سيدنا
محمد وعلى الله وصحبه وسلم، ورضي الله عن أصحاب رسول الله أجمعين.
﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ
الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
.
الفقير إلى الله تعالى
محمد على سلامة
بسم الله
الرحمن الرحيم
حقيقة
الوصُول إلى الله
الوصول هو بلوغ الغاية، والانتهاء إلى المقصد الذي
يطلبه الإنسان. وقد يكون المقصد حسياً، كالظفر بنيل الأغراض والأموال والمطامع
والشهوات والحظوظ، والوظيفة والسلطان والرياسة، وغيرها من الأمور المادية التي يجد
الإنسان في طلبها، ويسعى ويكدح لنوالها في هذه الحياة الدنيا.
وقد يكون المقصد معنويا، كالعلم والشهرة،
والجاه والمنزلة بين الناس وغير ذلك.
وقد يكون المقصد والمطلوب دينيًا وروحانيًا،
كرضاء الله ورحمته ومغفرته والعلم بالله وبأيامه وبأحكامه وبحكمة أحكامه، وغير ذلك
من الحكمة العالية، وكشف الغيب المصون، ورفع الحجب عن النفس حتى تستكمل النفس
معارفها الربانية.
وقد يكون المطلوب الوصول إلى الله عزَّ وجلَّ، والقرب منه والأنس به جل جلاله، ومعية سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة. وهذا
هو المقصد الأعظم.
والمؤمن الكامل مقصده الوصول إلى هذه الكمالات،
وبغيته الحصول على تلك الجمالات، حتى يستنير في نفسه، ويتأنس بهذه المقامات، ويكون
نوراً لإخوانه ورفاقه، يهتدون به في ظلمات هذه الحياة وفي الدار الآخرة، لأن
العلماء بالله سرج الدنيا ومصابيح الآخرة كما ورد ذلك في الحديث النبوي الشريف.
وقد ذكر الإمام أبو العزائم رضي الله عنه وأرضاه، حقيقة الوصول إلى الله
سبحانه، وبينه بياناً شافياً للعقول التي تعقل عن الله ورسوله، وكشفه كشفاً صريحا
للقلوب المستنيرة، ونوراً هادياً للنفوس المستبصرة.
والإمام رضي
الله عنه إذا علمنا شيئا من علومه فإنما يريد أن يرفعنا
لمستواه رضي الله عنه،
وأن يأخذنا معه إلى المقامات التي أكرمه الله بها، واللطائف التي أشهده الله إياها،
حتى يكون قد بلغنا ما يحبه الله ويرضاه من العلم النافع لنا في الدنيا والآخرة، عملا
بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:
{خيركم من تعلم العلم وعلمه}.[1]
وهذا بيانه رضي الله عنه لحقيقة الوصول، كما
ورد في كتاب (معارج المقربين) صحيفة (22 ) (2).[
الطبعة الثانية لسنه 1395 هـ ـ 1975 م ( مشيخة
السادة العزمية].
( الوصول: وجدان باعث الوله
إلى التخلق بأخلاق الربوبية، بعظيم المجاهدة في التخلي عن الفطر والأخلاق الحيوانية
والإبليسية مع اللذة بالآلام والطرب عند فوات ما يلائم تلك القوى مما حرصت على
نيله، وبذله عند نواله فرحاً بمفارقته، مسروراً بما استعاضه عنه حتى تنمو المشابهة،
وتتم الفطرة على ألفة ما ينافره والرغبة فيما يؤلمه مع وجدان الباعث على طلبه
والداعي له من توفر الشهوة ووجود القدرة على تنجيز ما يلائم ولو كان ضرورياً،
فيكون مع الرغبة فيه راغبًا عنه، ومع الاحتياج إليه غنيا عنه، وبهذا يكون قائماً
بمعاني القرآن بالمشابهة محفوظا بالمجاهدة، وهو وصول السالكين، فيكون جهادهم
التحفظ بسور الحفظ عن تعدى حدود المكانة لا حدود الأحكام، لأنهم محفوظون من تعدى
حدود الأحكام بنص قوله تعالى: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾.
[42، الحجر].
وهو بداية للمقربين الذين
كوشفوا بتلك المعاني في أنفسهم وفي السموات والأرض، أشرقت أنوار لطائف سريرتهم على
الجوارح العاملة فسلبت ظلال الوهم وأفياء الهوى والحظ، فجهادهم عن مشاهدة التوحيد
بالتوحيد، فهم بعيون السريرة غرقوا في عين الوحدة، وبأبصارهم شهدوا سر الحكمة،
وبينهما برزخ لا يبغيان، فلا عباب مشاهد التوحيد يبغى على برزخ الحكمة فيفنى حقيقة
العبودة، ولا مكفوف موج الحكمة يبغى على مسجور القدرة فيحجب أنوار التحقيق، وهو
الجهاد الأكبر لأنه في ذات الله تعالى، وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو
الفضل العظيم ).
* * *
وبتوفيق من الله سبحانه
وتعالى، وبمعونة منه جلَّ جلاله،
وبهداية من جنابه العلى، وبنظرات وتوجهات من سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وباستمداد من روحانية
الإمام أبى العزائم رضي الله تعالى عنه،
نأخذ في شرح وبيان هذه الحقائق التي ذكرها الإمام رضي
الله عنه في حقيقة الوصول إلى الله عزَّ وجلَّ مبتدئين ببيان الفقرة الأولى وهى
قوله رضي الله عنـه:
الشوق إلى الله
( 1 ) (الوصول وجدان باعث
الوله إلى التخلق بأخلاق الربوبية).
ومعنى هذه العبارة، أن
العبد السالك في طريق الله تعالى، إنسان انكشفت له حقيقة هذه الحياة الدنيا، فأيقن
بزوالها، وأنه راجع إلى الله كادح في العودة إليه، وأنه يقطع أنفاسه بسرعة مرور
الزمن في الإسراع إلى لقائه جل شأنه،
فاشتدت رغبة هذا الإنسان، بل وألحت عليه ضرورة الرجوع إلى الله، في أن يتعرف على
الله، وأن يطلب الله وأن يجاهد نفسه في معرفة أخلاق الله، وآداب الله وصفات الله،
وأسماء الله، وبعد معرفته لله سبحانه وتحققه بكمال رأفته وشفقته وعظيم حنانته ورحمته
جلَّ جلاله بالإنسان
فعند ذلك يحصل له وجدان وشوق، وإحساس قوى، يبعث في نفسه الوله والاحتراق، والعشق
الشديد إلى التخلق بمعاني أخلاق الله وصفاته الكريمة وأسمائه الحميدة ليكون فيه من
صفات الله ما يتقرب به من الله، وما يتحبب به إلى جناب الله، لأن الله سبحانه وتعالى يحب في العبد المؤمن أخلاقه
وصفاته جلَّ جلاله،
ولا يحب طول الإنسان وعرضه، ومظهر الإنسان وشكله وقوام الإنسان وجسمه، سر قوله صلى الله عليه وسلم: {إن
الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم}.[2]
ومعنى هذا الحديث الشريف أن نظر الله لنا ليس هو رؤية الله للعبد فإن الله لا تخفي
عليه خافية في الأرض ولا في السماء، ولا تغيب عنه مثقال ذرة ولا أصغر في عالم
الملك والملكوت، فهو يرى كل شيء ويسمع كل شيء، ولكن المقصود بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد من نظره جلَّ شأنه للإنسان المؤمن، هو حبه جلَّ جلاله، وإقباله على العبد بمعاني وداده
ورأفته وحنانته، ليواجه سبحانه بصفاته العلية هذا العبد المتصف بهذه الصفات، فإنه
أهل لنظر الله، وأهل لمواجهة الله، وأهل لمحبة الله، لأنه تخلق بأخلاق ربه، ولذلك
قال الإمام رضي الله عنه:
(وجدان
باعث الوله إلى التخلق بأخلاق الربوبية).
فقوله بأخلاق الربوبية،
يعنى اتصف العبد بمعاني صفات الربوبية من التربية والإمداد، والإحسان والإكرام،
والشفقة والرحمة، والعطف والمودة، والحنان والهداية، والنصح والإرشاد، والتوجيه
والتعليم، والصبر والرضا، وجميع الأخلاق التي هي من معاني الربوبية، ما عدا الخلق
والإيجاد، والتصوير والإبداع من العدم فإنها خاصة بذات الرب جلَّ جلاله.
وهنا يحلو للعبد الفرق في
مقام الجمع، فيكون العبد جامعاً بين مكانته العبدية من الذل والخضوع والانكسار
والافتقار، وبين معاني صفات الربوبية من الرحمة والشفقة والإحسان والود وغيرها،
ويكون العبد فارقاً بين رتبته العبدية والمكانة القدسية العلية. وهذا هو كمال
التنزيه لله جلَّ جلاله،
فالعبد عبد وإن خلع الله عليه من معاني صفاته وأخلاقه حلل الجمال والكمال، وإن
ناجاه وقربه إلى مقامات الأنس والوصال، والرب رب وإن تنزل إلى العبد فواجهه وكلمه
وناجاه، والعبد عبد وإن رفعه الله فوق العرش وأدناه.
والعبد الكامل لا يغرق في
هذه البحار، وإنما يغوص فيها لاستخراج كنوز الحقائق ودرر المعاني، لينتفع بها في
نفسه، وينفع بها أهله وإخوانه، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل
العظيم.
والسالك يسير على الصراط
المستقيم، ويقطع المسافات والمراحل حتى يصل إلى معرفة الله وحبه لله، والواصل
متخلق بأخلاق الله ومجاهد نفسه للتأدب بآدابه، حتى ينال المحبة والقرب من الله عزَّ وجلَّ، والمقرب مطلوب العناية الإلهية
ومجذوب الولاية الرحمانية، فان عن نفسه وعن عمله، وعن علمه وعن جهاده، محمول على
رفارف الفضل، محفوظ من الفتنة والزيغ. وذلك معنى قول الله عزَّ وجلَّ في الحديث القدسي:﴿ من
طلبني وجدني، ومن وجدني عرفني، ومن عرفني عشقني ومن عشقني قتلته، ومن قتلته كنت
ديته، ومن كنت ديته كان لا فرق بيني وبينه﴾.
ومعنى ﴿لا فرق بيني وبينه﴾، لا أجعل بيني وبينه حجاباً ولا
مسافة ولا زمانًا بل يكون عند الله والله عنده، بلا زمان ولا مكان، لأن الله من
وراء الزمان والمكان، ومن وراء كل شيء، ومن كان عند الله ترك كل شيء يشغله عن الله،
وفات كل شيء يبعده عن الله، ليكون مع الله بلا قيد في وسعة الإطلاق الإلهية من
وراء جميع العوالم العلوية والسفلية، وكان الله سبحانه عوضاً له من كل شيء.
ومعنى قول الله في الحديث
القدسي﴿ومن عشقني قتلته﴾.يعنى أفنيته عن نفسه وعن شهوته،
وعن حظه وعن طمعه، وعن حرصه وعن أمله، وعن حبه لغيره سبحانه، فلم يكن فيه شيء لغير
الله عزَّ وجلَّ، وهذا هو قتيل الغرام، وشهيد
المحبة والعشق والهيام الإلهي، لأن العشق نار معنوية تستعر في الضلوع والأحشاء
فتهيجها إلى المحبوب والمعشوق، وتشدها إلى الله ورسوله شداً قوياً. قال الإمام أبو
العزائم رضي الله عنه:
نار الغرام سعيرها أحيا الهـوى
حتى تمنيت الشهود لـدى اقتراب
لم أقو والجبل الشديد اندك من
برق التجلي والفتى الفاني أنـاب
الشوق صولته وقدري عبـده والأنس
فوق الروح بل لب اللباب
ومعنى قول الله تعالى في
الحديث القدسي ﴿ومن قتلته كنت ديته﴾.أن
الله سبحانه وتعالى
لما أفنى العبد عن كل ما تقدم ذكره، أبدله الله أنساً يجد لذته في نفسه، وقرباً
يجد نعيمه في قلبه، وعطفاً ووداً يجد سروره في فؤاده. زالت عنه الوحشة وبعدت عنه
الغربة، واضمحلت في نظره الدنيا وزخارفها، وصار الله مراده ووجهته وقصده، يطلبه في
كل شيء، ويتعرف عليه في كل أمر وشأن، ويعشقه في كل ظاهر وباطن، وأصبح الله منه على
بال وصار الحق جل جلاله
معالماً بين عينيه لا يغيب، وحاضراً لديه وفي كل نفس قريب.
وهذا هو الوجدان الذي يبعث
الوله والغرام في نفس طالب الوصول إلى الله عزَّ
وجلَّ، والراغب في رضوانه الأكبر ورضاء رسـوله صلى الله عليه وسلم، حتى يتحلى هذا العبد
بمعاني صفات الله عزَّ وجلَّ
ويتخلق بأخلاقه الكريمة، ويكون بينه وبين الله نسب ويقربه إليه وحب يوصله إليه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:{أحبوا
الله لما يغذوكم به من النعم والآلاء، وأحبوني لحب الله، وأحبوا آل بيتي لحبي}.[3]
وقال الإمام رضي الله عنه
مبيناً معنى الحب لله ورسوله:
الحب حبان حب عن مواجهة بالاجتــلاء
وهذا للأقلينـــا
أو فهم أسرار آيات منزلــة
بها الوصول إلى روضات عالينــا
وقال أيضاً:
الحب ما الحب نور الله يمنحه
أهل الصفا بدوام الود والحال
ولا يتحقق الحب إلا بعد
معرفة المحبوب، ومشاهدة جمالاته وكمالاته ومحاسنه وأخلاقه، وهذا هو حب الأفراد
المقربين والمصطفين المحبوبين، الذين واجههم الله بمعانيه الحسان، وأخلاقه العظام.
ومن دون ذلك حب من أجل الأيادي والنعم، والعطايا والمنن، وهو حب السالكين الذين
عرفوا فضل الله عليهم، وتحققوا بإحسان الله إليهم، وشهدوا نعمه سبحانه التي أمدهم
بها وأسبغها عليهم ظاهرة وباطنة، فأحبوه سبحانه لذلك، وأحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل أنه باب لفضل الله عزَّ وجلَّ، وسبب لرضوان الله، ووسيلة عظمى
لنوال كل خير في الدنيا والآخرة. وهذا هو حب المؤمنين السالكين لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما حب المقربين لرسول الله
صلى الله عليه وسلم
فهو حب ذاتي. بمعنى أنهم تحققوا بأنه صلى
الله عليه وسلم هو رحمة
الله بهم، وعناية الله بهم، ونعمة الله لهم، وفضل الله عليهم، وأنه صلى الله عليه وسلم
أولى بهم من أنفلسهم وأرحم بهم من أنفسهم، ومن آبائهم وأمهاتهم وأزواجهم فأحبوه صلى الله عليه
وسلم حباً جعل الواحد منهم يتمنى أن يموت نصرة له صلى الله عليه وسلم وفداء لمبادئه صلى الله عليه
وسلم، بل يتمنى الواحد منهم أن يقتل ولا يسمع أن أحدا ً أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم
بكلمة. وذلك الحب ناتج عن مواجهة رسول الله صلى
الله عليه وسلم لهم بأسراره وأنواره وعلومه
ونظراته وتوجهاته صلى الله عليه وسلم.
جِهَاد النفسْ
(
2 ) قوله رضي الله عنه:
( بعظيم المجاهدة في التخلي عن الفطر والأخلاق
الحيوانية والإبليسية )
قد بين الإمام رضي الله عنه بهذه الفقرة، أن التخلق بأخلاق
الربوبية لا يكون إلا بعظيم المجاهدة، وفادح المكابدة، وبذل كل ما في الوسع في ترك
صفات البهائم وأخلاق الشياطين، حتى يتحقق الإنسان بإنسانيته، وأن له مركزاً خاصاً
بين العوالم، ومكانة رفيعة فوق كل المخلوقات، وهو مقام الإنسان الذي خلقه الله في
أحسن تقويم، وكذلك يعتقد الإنسان أن الله قد ابتلاه بأخلاق البهائم وأوصاف
الشياطين، ليحوز شرف الجهاد الدائم في ذات الله تعالى، ويكون له بجهاده هذا مقام
لا يصل إليه ملك مقرب ولا ذي روح من الأرواح العالية.
وأخلاق البهائم، شهوة الأكل
والشرب، والنكاح والراحة، وغيرها من الصفات الخاصة بالحيوانات العجماوات، كالجور
والتعدي. وهذه الصفات وإن كان يشترك الإنسان فيها مع البهائم، لكن الإنسان المؤمن
جاهد نفسه في تهذيبها وتزكيتها والتوسط والاعتدال فيها، فأخذ من هذه الصفات ما هو
ضروري لحياته، ولبقاء نوعه الإنساني، فيكون أكله ضرورة، وشربه ضرورة، ونومه ضرورة،
ونكاحه ضرورة، فلا تكون هذه الأشياء مقصودة لذاتها، ولا مطلوبة لملائمتها للميول
ولأهواء، وموافقتها لطبيعة النفس، ولكن يأخذ المؤمن منها بقدر حاجته بحيث يتفرغ
لمهمته العظمى، ورسالته الكبرى التي جاء من أجلها، وهى معرفة الله وعبادته، وحبه
سبحانه، والتقرب إليه جلَّ جلاله،
والمسارعة فيما يحبه ويرضاه، والبعد عما يبغضه الله ويكرهه، والقيام بعمارة هذه
الحياة بالخير والعدل، والتسامح والصفاء والحب، والزراعة والتجارة والصناعة ونحوها.
وطالب الوصول إلى كمال
معرفة الله، لا بد له من التخلي عن هذه الفطر التي فطر الإنسان عليها، وابتلاه
الله بها، حتى يتخفف من تلك الأعباء التي تثقل كاهله عند مسارعته في محاب الله
ومراضيه. وقد قال الإمام أبو العزائم رضي
الله عنه في بيان فطرة البهائم وطبيعتها:
وابتهاج الحيوان أكل وشرب
ونكاح وذاك قصد القصي
أما أخلاق الشياطين التي
يجاهد طالب الوصول نفسه في البعد عنها، والإقلاع عنها، فهي الكبر والحسد، والظلم
والكيد والفساد، والعداوة والشحناء والبغضاء، والكراهية والأحقاد والأضغان، والبغي
والتفريق بين الناس، ومحاربة الله ورسوله، كما قال الإمام أبو العزائم رضي الله عنه:
وابتهاج الشيطان حسد وكبر
بفساد وفرقة وبغى
وغير ذلك من صفات الشياطين
والمردة، التي أبتلى بها الإنسان، ليجاهد نفسه في التخلي عنها، وفي تركها جملة
واحدة، حتى يرتفع عن منازعات نفسه وعنادها، ومكرها وسوء أخلاقها، إلى مقامات العبد
الواصل، الطالب لرضوان الله الأكبر، المقبل على الله بكليته، الفار إليه جلَّ جلاله
من كل عائق، المتخلق بـأخلاقه، المتأدب بآدابه، المتشبه بمعاني أسمائه وصفاته.
وهذا هو مقام التشبيه، الذي
تقوى فيه عوامل المشابهة بين العبد وبين معاني صفات ربه، وتزكو فيها دواعي
المقابلة والمواجهة، فإنه لن يواجه عبد ربه بفطره المذمومة، وصفاته الخبيثة، ولكن
يواجهه، ويقابله بما فيه من صفات باريه، وأخلاق سيده ومربيه، ولديها تنمو المشابهة
وتشتد الرغبة في التخلق بأخلاق الله، ولن يصل عبد إلى هذه المنزلة إلا ببذل
المجهود في طلب الوصول إلى الملك المعبود.
وهذا هو حقيقة الوصول إلى
الله عزَّ وجلَّ، وليس الله في مكان يصل عبد إليه،
أو زمان ينتهي العبد إليه، ولكن الله عزَّ وجلَّ
من وراء الزمان والمكان، ومع هذا البعد العظموتي، والكبرياء القدسي، فهو سبحانه
قريب من العبد الطالب له حقا قرب القرابة، بل أقرب إليه من نفسه التي بين جنبيه،
قال الله تعالى: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾.[16، ق].
ومعنى ذلك أن الله سبحانه وتعالى، لا يحل في الأجسام، ولا تحل فيه
الأجسام، ولا يقارب الأجسام ولا يشابهها، ولا تشبهه الأجسام ولا تقاربه، فليس في
الخلق إلا الخلق، وليس في ذات الله إلا الله جل
جلاله. وهذا هو مقام التنزيه.
وأما قربه من العبد، وتنزله
إليه، فهذا قرب معنوي، يكون بمعاني صفات الله، ومعاني أسمائه الحسنى، من الوداد
والعواطف والعوارف، والرحمة والرأفة، والحنان والإحسان، والعبد الواصل قد لا حظ
بسره هذه الحقائق فنزه الله وقدسه عن كل ما يجول بالأوهام والخواطر. نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعلنا من أهل الوصل، وأن
يكتبنا من أهل القرب، إنه سبحانه سميع قريب مجيب، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى الله
وصحبه وسلم.
وعظيم المجاهدة التي يقوم
بها العبد الواصل، إنما تكون بمعرفة الأعداء الذين يجاهدهم الإنسان، ومعرفة قوتهم،
ويجب على المجاهد في هذه الأحوال أن يستعد بكل القوى التي تمكنه من إحراز النصر
على أعدائه. ومن أهم هذه القوى، التزام الإنسان بصحبة الإخوان، وحرصه على
الاستمرار معهم، لأنهم حصن له، وأمان له من الزلل والمعصية، هذا بخلاف ما يتلقاه
الإنسان منهم وما يأخذه عنهم من العلم النافع، والهدى الموصل لمحبة الله ورسوله،
وبخلاف الاستعانة بهم على تقوى الله، والبر والمعروف، ولأن الإخوان صورة كاملة
للأستاذ المرشد رضي الله تعالى عنه،
فكل واحد منهم، أخذ شيئاً من معارفه وعلومه، وسيرته وسلوكه. قال الله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ
يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ
عَيْنَاكَ عَنْهُمْ﴾.[28، الكهف].
ومعنى قول الله تعالى ﴿وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ﴾. أي لا تصرف نظرك عنهم وهذا أمر من
الله لرسوله صلى الله عليه وسلم
بأن يوجه نظره إليهم، وأن يلاحظهم برأفته وحنانته ورحمته صلى الله عليه وسلم، لأن هذا الصنف من عباد
الله المقربين في أمس الحاجة إلى عطفه وشفقته وولايته عليه الصلاة والسلام.
الصدق في الإرادة
( 3 )
قوله رضي الله عنه:
(مع
اللذة بالآلام والطرب عند فوات ما يلائم تلك القوى مما حرصت على نيله )
والذي يلائم هذه القوى، وتلك الأخلاق الحيوانية
والإبليسية، من الحصول على الشهوات واللذات، والحظوظ والمتع الفانية، من المآكل
والمشارب، والملابس والرياش، والأثاث والزينة، واللذة الجنسية، وغيرها مما يلائم
ويوافق الطباع والغرائز البهيمية في الإنسان،وكذلك الشره والحرص، والطمع والأمل،
ومما تفرح بنواله النفس من غريزة حب التملك والتسلط، والسيطرة والرياسة، والتعالي في
الأرض على عباد الله، وكذلك ما يناسب ويوافق القوى الإبليسية في الإنسان، من
الأثرة والأنانية، وكراهية الخير للناس، والتكبر والتجبر، والخيلاء والرياء،
والنفاق والشرك الخفي والأخفى، وحب التغلب والخصام، والجدال والنزاع، والمراء
والغل، والكيد والحسد، والمداهنة والمكر وكل ما يلائم تلك القوى الشريرة، من حب
المال والغنى، والجاه والسلطان وزخرف الحياة الدنيا، فإن أهل الوصول إلى الله عزَّ وجلَّ، عشاق الفضيلة والكمال، المتشوقون
والمتلهفون على التخلق بأخلاق الله ورسوله، إن هؤلاء يتلذذون، ويفرحون ويسرون،
بفوات ما يلائم الطباع الحيوانية والقوى الإبليسية، التي يجاهدونها في أنفسهم،
ويحاربونها في هياكلهم انتصاراً لله ورسوله، متلذذين بما يصيبهم من الآلام الفادحة،
والمجاهدات الكادحة في سبيل قهر هذه القوى وإضعافها، والتغلب عليها، بل وتبديلها
وتغييرها بما هو أحسن وأكرم، وأجل وأعظم، من أخلاق الروحانيين، وآداب الواصلين،
وصفات الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
مع العلم أن القوى الحيوانية والإبليسية، حريصة
كل الحرص، ومتنبهة كل التنبه على تحصيل ما تتلذذ به وتأنس به، من عاجل زهرة الحياة
الدنيا ومتعها الفانية، وشهواتها ولذاتها الزائلة، لأن ذلك يرضي عناصرها، ويوافق
غرائزها، ويحقق مطامعها وآمالها الفانية، ولو كان ذلك على حساب الآخرين، وفي ضرر
الغير، لأن تلك القوى كادحة في غيها، جاهدة في طيشها وغرورها، ولا بد من مجاهدتها،
مجاهدة فوق جهاد الأبطال، حتى ترعوي عن غيها وفسادها، وتستقيم على حفظ مكانتها
ومنزلتها، من القرب من الله تعالى، ومواجهته في دار كرامته وفي هذه الحياة الدنيا،
لأنها مؤهلة للترقي والكمال، والحظوة بنعيم القرب والوصال. قال الحكيم:
والنفس
كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن
تفطمه ينفطـم
فجاهد
هواها وحاذر أن توليــه إن الهوى ما
تولى يصم أو يصم
يصم أي يصمه عن الحق، بحيث يكون في أذنيه صمم
عن سماع الخير ومعنى يصم يشينه ويلحق به العار والهلاك.
قال
الإمام أبو العزايءم رضي الله عنه:
هي
نفس إن طهرت وتزكت تتهنى بحظوة بالـــولي
وهى
حيوان أو أضل سـبيلا إن تسلت عن حسنها
بالدني
وهى
إبليس إن أبت وتعالت وتعامت عن سرها
الآدمي
ولقد فطر الله الإنسان وابتلاه بهذه القوى، لأن
الإنسان هو المخلوق الوسط، الذي جمع الله فيه كل عناصر العوالم العالية، بما فيها
من الجمالات والروحانيات، والبهاء والنور والضياء، والكمال والرحمة، والصفاء
والوفاء، وكل العوالم السافلة بما فيها من العناصر المتضادة، والكثافة والظلام،
والغرائز والشهوات، فهو ملتقى جميع العوالم ومحور ارتكازها، وفلك مدارها، فهو
المخلوق العجيب، والصنع الغريب، الذي أسجد الله له عوالم عالين، وحير فيه عوالم
سافلين، قال الإمام على رضي الله عنه:
وتحسب
أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
وقال الرجل الحكيم:
والذي
حارت البرية فيه حيوان مستحدث من جماد
ومن هنا كانت قضية تكريم هذا الإنسان وتبجيله
واحترامه، وحمله على رفارف العناية الإلهية في البر والبحر، والسهل والوعر، والرمل
والصخر والهواء والأرض.
قال الله
تعالى:﴿وَلَقَدْ
كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم
مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا
تَفْضِيلاً﴾.[70،
الإسراء].
وهذه الآية الكريمة رفعت قدر الإنسان، وكرمته
على سائر مخلوقات الله، ولو لمن ينزل من السماء قرآناً على الإنسان غير هذه الآية،
لكان واجباً على الإنسان وجديراً به، أن يشكر الله عزَّ وجلَّ، ويثني عليه ويذكره ويسبحه ويعظمه،
ويمجده ويكبره، ويقدسه ويحمده آناء الليل وأطراف النهار، قياماً له سبحانه وتعالى ببعض ما يجب عليه لله عزَّ وجلَّ من فرائض الولاء والعبادة والشكر
والوفاء على تكريم الله له، وتشريفه إياه، ورفع مقداره بهذه الآية الشريفة، بل
يتحقق الإنسان بكمال عجزه عن القيام لله بما هو أهله، وبما يستحقه من الشكر
والعرفان على ما أولاه من الرفعة والسناء، بإنزال هذه الآية الشريفة، تبياناً لقدر
الإنسان، وإعلاء لذكره. وقد قال الإمام أبو العزائم:
خل
يا إنسان حظاً شهوة تشهد الوجه الجميل
ترى الدليل
وقال رضي الله عنه:
جاهد
نفوسا فيك بالشرع الأمـين واحذر قوى
الشيطان في القلب كمـين
غل
وكيد من حسود ماكــــر ظلم العباد بنية
في كل حيـــــن
هذا
اللعين به الهلاك فخلـــه أسرع إلى
القرآن في الركن المتيـــن
والنفس
شهوة مطعم أو مشـرب أو ملبس فاحذر بها
الداء الدفيـــن
إلا
الضرورة فالإباحة إن دعـت فيها الضرورة
فاطلبنها من معيـــن
جع
أضعفنها واحذرن من غيها غض الجفون
وحاذرن فتك الكمـين
والنفس
داعية الرياسة فاحذرن فرعونها تنجو من
الداء الدفيـــن
فالإنسان هو المراد لذات الله جل جلاله من بين هذه العوالم، والمطلوب
لحضرته من الوجود كله، ولذلك سخر الله له جميع العوالم وجعلها تسعى إليه بالتسخير
والقهر الإلهي.
والإنسان سيد مطاع، وملك لهذه المملكة، ولكن
جهل الإنسان هذه الحقائق، ونسي نفسه وغفل عن مركزه وشرفه ومكانته، فأدركه الله
بعنايته ورعايته، فأرسل له الرسل، وأنزل له الكتب، وأقام له العلماء وورثة الرسل
حفظاً لرسالات الله في الأرض، ورحمة بهذا الإنسان، وهداه النجدين، فسعد بالتوفيق والهداية
من جاهد نفسه وخالف حظه وهواه، واتبع هدى الله، واقتدى برسل الله وورثتهم من بعدهم،
وشقي والله من عمى عن نور الله واتبع حظه وهواه.
قال الله
تعالى: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا
يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا
وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى
وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ
الْيَوْمَ تُنسَى﴾.[123_126، طه].
قال الشيخ
أحمد بن شرقاوى رضي الله عنه:
يا هادى القلب الكئيب اللاجي
حقق بعذب وصلك ابتهاجي
والواصل إلى الله عزَّ وجلَّ،
والمجاهد لكل ما فيه من الغرائز والقوى والفطر والعادات والصفات البشرية،
والحيوانية والإبليسية، إنما يفرح فرحاً شديداً بل ويطرب ويتلذذ بما فاته من
الأمور التي تعين هذه القوى على تحصيل متعها وشهواتها، وما يناسبها ويلائمها من
زهرة هذه الحياة الدنيا وبهجتها، لأن الواصل في مقام يوجه فيه كل عزمه وهمه
وإرادته، وكل خواطره وملكاته وقواه جميعها في الوصول إلى مقصوده،والحصول على
مطلوبه، وهو تبديل أخلاقه وأحواله وأرضه وسمائه، بصفات الله ورسوله، وآداب الله
ورسوله، حتى يكون عبداً نورانياً قرآنياً، طاهراً زكياً، بل عبدًا ربانيًا يمنح
الخير، ويفيض البر والنفع على أهله ورفاقه، وعلى كل المسلمين، من غير أن يطلب منهم
أجراً ولا شكراً، سر قول الله تعالى: ﴿لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا
شُكُورًا﴾. [9، الإنسان].
وإنما يرجو بذلك رضاء الله ورسوله، والقيام بما
أوجبه الله عليه ووصاه به رسول الله، حبا لله ولرسوله، وإيثاراً لله ورسوله على كل
شيء، والله نسأل أن يكاشفنا بهذه الجمالات، ويمنحنا تلك الكمالات، إنه كريم مجيب.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى الله وصحبه وسلم.
مقامات الرضا
( 4 )
قوله رضي الله عنه:
(وبذله عند نواله فرحاً بمفارقته، مسروراً بما استعاضه عنه )
وفي هذه الفقرة، يبين الإمام أبو العزائم رضي الله عنه، أن العبد الواصل إلى بغيته
ومقصوده من محبة الله ورضوانه عزَّ وجلَّ،
إذا نال شيئاً من متع هذه الحياة الدنيا ولذاتها وشهواتها، بل وطيباتها ومسراتها،
وزخرفتها وزينتها، مما هو مباح شرعاً ولا إثم في نواله والحصول عليه،من مأكل شهى،
ومشرب هني، وفراش ناعم وطي، قام هذا العبد الموصول بالله عزَّ وجلَّ، فبذل كل ذلك وتركه من أجل الله
ورسوله صلى الله عليه وسلم،
برضي وسرور وانشراح صدر وطيب خاطر، وآثر به أخوانه ممن يحتاجون إليه، فرحا
ًبمفارقته هذه الأشياء، سعيداً ببذلها، لأنه قد تخفف منها ومن الشغل بها، ليجد
ويجتهد في الوصول إلى مقامات الرضى عن الله عزَّ
وجلَّ فإن فيها خير العوض وخير الجزاء، وإن فيها كذلك جمالات وصله ونعيم
أنسه، ومسرات قلبه وسعادة روحه.
بل قد يبذل ما هو أكبر من ذلك وأعظم، فيتنازل
عن ضرورياته وحاجاته الملحة، مما لا بد للجسم منه، من راحة ونوم وأكل وشرب، ولباس
ومال وجاه ومنزلة، وغير ذلك من ضروريات الحياة البشرية، كل ذلك عن رضى واطمئنان
وكرم نفس وطهارة وجدان.
بل قد يبلغ مقاماً أرفع من ذلك، فيزهد في هذه
الأشياء. والزهد في الحقيقة هو كراهية الشيء المزهود فيه، والنفور منه، لأن هذا
الشيء صار غير ملائم ولا مناسب لوضعه ورتبته ومقامه. كل هذا من نتائج المجاهدة
الحقة في ذات الله.
وقد ورد في الحكمة (المجاهدة للمشاهدة).
والمشاهدة معناها، مشاهدة الغيب العلي، ورؤية معاني أسماء الله وصفاته، ونور الله
وبهائه، قد أشرق في النفس وفي الآفاق وفي الأنحاء والأرجاء. قال الإمام أبو العزائم
رضي الله عنه:
يا
قلب وجه المنعم الوهاب قد لاح فاشهده
بغير حجاب
ومن أعطى الكل لله، أخذ من الله كل ما يتمناه،
ومن بخل بشيء على مولاه حرم من فضله ورضاه، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله
ذو الفضل العظيم.
وكيف يبخل عبد مملوك لله، بشيء من إنعام سيده
عليه ؟ إن هذا لشيء عجاب، إذ الفضل والبر، والخير والمعروف، والإحسان كله من الله
سبحانه واصل منه جل جلاله
إلى عبده الذي خلقه من العدم وسواه.
قال الأمام
أبو العزائم:
فالواصلون رأوا جمالا ظاهرا
قد أخرج النساك من ظل الظلام
دارت عليهم خمرة الحب التي
قد ووجهوا فيها بوهاب سـلام
اللهم نعمنا بوصلك، وقربنا بفضلك، وأشهدنا جمال
وجهك، يا على يا عظيم أغفر الذنب العظيم، فإنه لا يغفر الذنب العظيم إلا العظيم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى الله وصحبه وسلم.
وبعد بذل المرغوب فيه، والملائم للنفس، يتفضل
الله فيعوض العبد عوضاً لا حد ولا عد، ويمنحه نوراً في نفسه وفي جميع قواه الحسية
والروحية، يرى به الغيب العلى، من كمالات الله وجمالاته، وبهائه وجلاله وتنزلاته،
ويرى وجه ربه عزَّ وجلَّ
في كل شيء، وهذه المشاهد فوق كل ما يتصوره العبد الواصل من النعيم المقيم، قالت
السيدة رابعة:
ولقد جعلتك في الفؤاد محدثي
وأبحت جسمي من أراد جلوس
فالجسم منى للجليس مؤانس وحبيب
قلبي في الفؤاد أنيس
وقال أبو
العزائم:
فالروح في أنس بوجه حبيبها
والجسم في طرب وفي إسعاد
وقالت السيدة رابعة رضي الله عنها:
فيا مدعى حبنا دع الروح
ثم انطـرح
ووحد جمال الحبيب وقل
للعزول استرح
التحلي بأخلاق الله
( 5 )
قوله رضي الله عنه:
(حتى تنمو المشابهة).
وفي هذه
الفقرة، يتحقق التقارب والتناسب، ويقوى وجه الشبه وتعظم المشابهة بين العبد الواصل
وبين عالم الغيب المصون، من عمار قدس الله الأعلى، ومن النبيين والصديقين والشهداء
والمقربين والآلهين والكروبيين والحافين بالعرش العلى. بل تزكو المشابهة وترتفع
درجتها بين الفرد المتمكن وبين معاني صفات الله وأخلاقه وأسمائه، حتى يكون في
العبد من جمالات هذه الصفات، ومعاني هذه الأخلاق، ما يؤهله لأن يكون في معية الله عزَّ وجلَّ، محفوظاً بعناية الله من الزيغ أو
تجاوز الحد أي حد المكانة العبدية، سر قوله تعالى:﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى﴾.[17،
النجم].
وليس المقصود بالمشابهة مشابهة الله سبحانه في
ذاته أو أسمائه أو صفاته أو أفعاله حاشا لله لأن الله عزَّ
وجلَّ على عظيم لا يشابهه ولا يماثله ولا يقاربه شيء في ذاته وأسمائه
وصفاته وأفعاله وأحواله جلَّ شأنه.
قال تعالى:﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ
السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾. [11، الشورى].
ولكن شوق العبد وحبه لسيده وخالقه ومولاه، جعله
يتلمس معانيه الحسان في كل شيء، ويتأدب بها،ويتحلى بحللها، ويتجمل بأخلاقها. فالله
عزَّ وجلَّ رحيم،
فاشتاق العبد لأن يكون له حظ من هذه الرحمة التي لا يبلغ مداها شيء.
والله سبحانه غفور، فحن العبد حنيناً مؤرقاً
لأن يكون له نصيب من هذه المغفرة الواسعة، التي لو أفيضت منها ذرة على جميع
العوالم لأطفأت نار جهنم، ومحت الوعيد والعذاب عن المجرمين، والواصلون لهم قسط
وافر من تلك المغفرة، فهم يسامحون المسيء ويعفون عن الظالم، ويسترون الجاني،
ويدارون الجاهل.
قال الله
تعالى: ﴿قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُون أَيَّامَ
اللَّهِ﴾.[14، الجاثية].
والله سبحانه وتعالى قوى، فجاهد العبد نفسه
ليكون له نصيب من قوة الله، حتى يكون شجاعاًُ قوياً في الدفاع عن الإسلام
والمسلمين، وفي مجاهدة نفسه وشيطانه، ومحاربة حظه وهواه،
وهكذا يكون حال العبد الواصل، الذي تشبه بمعاني
أخلاق الله، وجاهد نفسه في التحلي بها، حتى تنمو المشابهة فيكون عبداً ربانياً
يقول للشيء كن فيكون، بل عبداً رحمانياً تجاوز رتبة كن لشدة انشغاله بالمكون جلَّ جلاله،
ومن كان الله مراده فمقعد الصدق وراء ظهره.
قال
الإمام أبو العزائم رضي الله عنه:
كن جزتها كان المراد لرتبتي
والعين مقصودي وياء أمامي
وقال رضي الله عنه:
في طور كن........... لا
أكون
وقال رضي الله عنه:
إلهي وحيرني لأفنى عن السوى
وهب لي اتحادا كي أرى الله ناظراً
وقال رضي
الله عنه:
إلهي بك اشغلني عن الغير أفنني
إلهي وحصني بحصن الشريعة
ولا تشغلن قلبي بغيرك سيدي ولى
فأفض بحر العلوم الحقيقة
وإنما تنمو المشابهة بعد كمال المعرفة لله سبحانه وتعالى. وبعد شدة الحب له عز شأنه.
قال الله
تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ﴾. [165، البقرة].
والإنسان إذا أحب شيئا تذكره دائماً، بل
واستحضره دائماً، فإذا قويت لواعج الحب، واشتدت نيران الغرام، أفنت المحب في معاني
المحبوب حتى تظهر آثاره عليه، وتلوح أنواره عليه، وتشرق أسراره عليه.
سر قول
الله سبحانه:﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ﴾. [115، البقرة]. الله، الله، الله
وهذه
الآية بيان من الله سبحانه لمقامات الواصلين، ومراتب الأفراد المتمكنين، الذين
استغرقوا في محبة الله، فاختطفهم الله إليه، واقتطعهم لديه، وأقامهم لحضرته بين
يديه.﴿رِجَالٌ
لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ﴾. [37، النور].
وهم في
تجارتهم وبيعهم، وفي أعمالهم وكونهم، وهؤلاء هم الرجال القائمون لله بالحجة
المبينون له سبحانه ولجميع خلقه المحجة بسلوكهم وأخلاقهم وأقوالهم وجهادهم.﴿أُوْلَيءكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم
مُّهْتَدُونَ﴾. [82،
الأنعام]. ﴿رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا
عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾.[8، البينة].
أيها الواصلون هل لكم في ضعيف تحملونه إليكم،
وهذيل ترفعونه لحضرتكم، ويتيم تؤونه لديكم، وبائس ومسكين تعطفون عليه، ومريض وسقيم
تمسحونه بأيديكم علَّ الله يشفيه ويوصله إلى فضله ورضوانه الأكبر لقد تمزقت
الأحشاء، وتقطعت الأعضاء من الشوق إليكم، وقد علمنا إمامنا بقوله رضي
الله عنه مستجديا رسول الله صلى
الله عليه وسلم:
جد
بوصلك يا حبيبي فدمي قد كاد يهدر
يا
رسول الله رفقــا بفتى في الحي يذكر
بخضوع
جاء يسعـى للحمى فعساه ينصر
ومناه
منك وصــلا ورسول الله أخبـر
والمشابهة إنما تكون لتحصل المؤانسة، ويدوم بها
البسط والسرور في معية العزيز الغفور، فتزول الوحشة، وينمحي البين من البين، وتقع
العين على العين، من غير خوف انقطاع ولا زوال، ولا حجاب هناك ولا ريـن ولا أين،
وصارت المقامات القدسية، والجمالات الربانية معالماً بين عينيـه لا تغيب، وحقائقاً
مشهودة لديه ظاهرة لكل مرتاض أديب وأواب منيب.
وبهذه المشابهة وزيادتها في كل لحظة، يدوم سعده،
ويعظم حظه، ويرتفع ذكره، سر قول الله عزَّ
وجلَّ:﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾.[35، فصلت].
قال الشيخ
أحمد بن شرقاوي رضي الله عنه:
عظيم
أعظم فيكموا هيامي وأفنى الحشا عن سايءر
الأوهام
قال الله تعالى: ﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ
يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ﴾.[57، الأنعام].
والإنسان
لا يأنس إلا بما يشابهه ويوافقه، أو يكون فيه شيء من صفاته ومعانيه،فقد يحصل
التنافر والتدابر حتى مع إنسان مثله، لأنه لم يجد فيه شيئا مما يحبه ويألفه، بل
على العكس وجد فيه ما يؤلمه ويحزنه. وقيل لسيدنا سليمان عليه السلام: ما هو العذاب
الشديد الذي توعدت به الهدهد ؟ عندما تغيب عنه وتفقد الطير فلم يجده بينها، فقال عليه السلام:﴿لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا
شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ﴾.[21، النمل].
فلما سئل عن كيفية تعذيبه الهدهد وعن نوع
العذاب الذي توعده به، قال عليه السلام:
أحبسه بين سباع الطيور كالصقر والنسر ونحوه من الطيور الكاسرة فتنهشه وتمزقه.
فوجود الإنسان بين عوالم يجهلها أو تجهله هو من
أشد أنواع العذاب على الإنسان حتى ولو كانوا من أبناء جنسه.
والواصلون رضي
الله عنهم، تأهلوا بخصال عالية، واتصفوا بصفات أهل الله
وخاصته، وتخلقوا بأخلاق الله، وتأدبوا بآداب أهل محبته وقربه ومودته، فلا عجب أن
ينالوا الحظوة الكبرى والنعمة العظمى بالمثول في حضرته والجلوس على بساط أنسه
ومنادمته. فلله درهم، طاب وقتهم، وعلا ذكرهم، ونالوا عزهم ومجدهم.
وهم أهل الحيرة من عظيم المواجهات، وعليِّ
التجليات، وهم الذين ارتشفوا من رحيق قوله عزَّ
وجلَّ: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى﴾.[7، الضحى].
أي حائراً ومتحيراً من توالى المشاهدات وكثرة
التنزلات، وذلك عند تأملاته صلى الله
عليه وسلم في عجائب قدرة الله وبدائع صنع الله،
بل في مواجهة أسماء الله وصفاته سبحانه وتعالى
وهى تتلطف له صلى الله عليه وسلم
وتترفق به وترعاه وتؤنسه في غار حراء في وحدته عليه
الصلاة والسلام.
ومعنى ضالا في الآية الشريفة محبا مستهاما، لأن
الحب إذا قوى واشتد جعل صاحبه يضل في حبه، أي يتجاوز المدى في هذا الحب، فيتنكر
لكل شيء ما عدا محبوبه، وينكر كل شيء إلا حبيبه، ويفنى في حبيبه فلا يحس بشيء غيره
وقد قال الله سبحانه حاكيا ما قاله أبناء سيدنا يعقوب عليه السلام له عندما رأوه لا يسلو يوسف عليه السلام: ﴿إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ
الْقَدِيمِ﴾.[95
الضحى].
يعنى أنت مازلت هائماً في حبك القديم ليوسف، لا
تكاد تنساه فما تزال تذكر يوسف من شدة حبك له، حتى تكون حرضا ً أو تكون من الهالكين.
فهذا الضلال ضلال مخصوص، وهو نيران الحب
المستعرة في الأحشاء ولهيب العشق المتأجج في القلوب، رزقنا الله شميم عبير هذا
الحب حتى نذوق لذة حب الله ورسوله، ولذة القرب من الله ورسوله إنه مجيب الدعاء..
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى الله وصحبه وسلم.
صِبْغة الله
( 6 )
قوله رضي الله عنه:
(وتتم
الفطرة على ألفة ما ينافره والرغبة فيما يؤلمه)
والفطرة هي سجية الإنسان وطبيعته، والحالة التي
عليها الإنسان والفطرة وقت ولادة الإنسان تكون طاهرة نقية، صافية لا تشوبها أية شائبة،
وقابلة لانطباع أي شيء فيها ـ أي الفطرة ـ في ذلك الوقت، كالمرآة المصقولة الصافية،
تظهر فيها وتنطبع فيها كل صورة ترد عليها، من صور الجمال والكمال، والإيمان
والإسلام، أو صور الهزل والضلال والباطل والكفران، وذلك معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: {كل
مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو
ينصرانه أو يمجسانه}. [5]
ولا تزال هذه الفطرة تنمو وتكبر مع الإنسان،
وتتسع لاستيعاب مشاكل الحياة التي يعيش فيها الإنسان، والبيئة التي يحيا بينها،
حتى يتأثر بما حوله ومن حوله إلى أبعد حدود التأثر، فإذا ما شب وأيفع وبلغ سن
الرشد وترعرع، وطولب بتنفيذ أحكام الله، وطاعة أمره واجتناب نهيه، وتزكية نفسه،
وجد نفسه في صراع رهيب بين فطرته، إن لم تكن مستقيمة ومنشأة على الخير، ومتعودة
على البر، وبين القيام بأحكام الله ووصاياه لأنها لا توافق فطرته، ولا تناسب
طبيعته، وكثيرا ما ينحرف الشباب ويضل في هذه الفترة، لأن البيئة والأسرة والمجتمع
الصغير الذي يعيش فيه لم يعوده الخير، ولم يحببه في البر، وإنما أهمله وتركه
للعادات السيئة والأخلاق الذميمة الفاسدة، تسود صحيفة فطرته، وتظلم الطريق أمامه
إلى أن بلغ سن التكليف، فارتبكت عليه حاله، واكفهر الجو أمامه إن لم يتداركه الله
بلطفه، ويرزقه بإخوان صالحين، ورفقة صادقين، وعالم عامل ينقذه مما هو فيه.
والواصلون رضي
الله عنهم، قد اهتدت فطرتهم، ونمت طبيعتهم وسجيتهم على
حب ما يؤلمهم، والأنس بما تنفر منه نفوسهم، من فادح المجاهدات، وعظيم الرياضات،
فيصير ما استوعره غيرهم سهلا لديهم، وما استوحش منه غيرهم مأنوسا لديهم، وما نفر
منه غيرهم مطلوبا ومحبوبا إليهم، وما زهد فيه غيرهم مرغوبا لديهم. انتقلوا من سجن
العادات إلى جمال العبادات والقربات، وفسيح الرياضات والسياحات، واستقامت فطرتهم
على هذه الأحوال، واستجابت أبدانهم وهياكلهم لتلك المجاهدات، وهم في نشوة الأفراح
وفي غمرة الأنوار، لا يكدر صفوهم حال، ولا ينغص عيشهم مآل. قال الله تعالى: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ
النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّم﴾. [30، الروم].
وقال
تعالى: ﴿صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ
مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ﴾.[ 138 البقرة].
وكمال الفطرة، أن تصير الأبدان هينة لينة لأعمال
القربات، والبر والخيرات بعد القيام بالفرائض والواجبات، وأن تصير القلوب حاضرة أو
مستحضرة لمعاني مقامات الحق جلَّ جلاله
على قدرها، وأن تصير الأفكار والعقول سارحة في آيات الله المنبثة في عجائب المخلوقات، وغرائب المصنوعات،
وأن يصير الحس وما فيه من آلات وأدوات ساعيا لمغفرة من الله ورضوان في لحظة وآن.
ولذلك يخرج الإنسان من عوائده ومألوفاته، ويتوب
من أقواله وأحواله وأفعاله، ويستغفر من علمه ومن مجاهداته وقرباته، مفوضا أمره إلى
الله مسلما شأنه لله، ينسب كل خير أكرم به لله،
وكل عمل صالح قام به لله، وكل علم نافع أوتيه لله سبحانه وتعالى، ويرى في نفسه التقصير والقصور،
والعجز والفتور، والقطيعة والجفاء، فيدوم جهاده، ويقوى جلاده، وهذا الحال هو من
حقيقة الوصول لله سبحانه وتعالى.
قال الإمام أبو العزائم رضي الله عنه:(جهاد
العدو ساعة وجهاد النفس إلى قيام الساعة).
يا فتاح يا عليم، يا وهاب يا كريم، هب لنا ما
ينفعنا ولا ينفعك، واكشف عنا ما يضرنا ولا يضرك، إنك سبحانك بنا رؤوف رحيم، وصلى
الله على سيدنا محمد وعلى الله وصحبه وسلم.
والواصل الذي اتحد مع جميع عناصره وقواه،
وملكاته وحقائقه، وتوحدت كل هذه الحقائق في طلب الله سبحانه، وطلب حبه ورضاه، قد
اعتاد على حب ما يخالف حظه وهواه الفاني، وتعود على الرغبة فيما يؤلمه وألفة ما
ينافره. وفق بين الأضداد وجمع بين الأخلاط المتعادية، وصهر كل هذه الحقائق
المتنافرة في بوتقة الجهاد الأكبر الذي يقهر كل معاند ومخالف، على الذل والانقياد
لله ورسوله صلى الله عليه وسلم،
حتى تصطلح هذه القوى مع النفس الملكية والروح القدسية على موالاة الله ورسوله،
ومعاداة ومجاهدة أعداء الله ورسوله في نفس الإنسان وفي أهله وأخوانه والناس أجمعين.
فكل محبوب لله ورسوله فهو حبيبه وأليفه، ومرغوبه ومطلوبه، وكل مكروه لله ورسوله
فهو عدوه، وإن كانت نفسه التي بين جنبيه أو ولده وزوجه وأقرب الأقربين إليه. وبذلك
تتم فطرته، وتستقيم طبيعته، ويتحقق بوصوله إلى الله ورسوله، والله يمن علينا بوصله
وقربه، إنه مجيب الدعاء، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى الله وصحبه وسلم.
الجِهَاد الأكبَر
( 7 ) قوله
رضي الله عنه:
(مع وجدان
الباعث على طلبه والداعي له من توفر الشهوة ووجود القدرة على تنجيز ما يلائم ولو
كان ضرورياً)
قد يكون الإنسان مريضاً أو ضعيفاً، فلا يوجد
لديه أي باعث، ولا أي داعي لطلب شهوة أو لذة، أو متعة أو حظ، أو طمع أو غير ذلك من
متطلبات القوى الحيوانية أو الإبليسية في الإنسان، وذلك لسقم الإنسان وضعفه وانشغاله
بالمرض، أو يكون الإنسان قد طعن في السن وبلغ سن اليأس من تحقيق لذاته وأطماعه،
وذلك لعدم القدرة عليها. فهذا الإنسان المريض والضعيف والكبير في السن، وكذلك
الطفل الذي لا يعرف معنى الشهوات واللذات الجسمانية، لا يقال لهم أنهم أعرضوا عن
المتع واللذات والأخلاق الحيوانية والإبليسية، ولا يقال لهم أنهم يجاهدون أنفسهم في
ترك ما يلائم تلك القوى ولا يقال لهم أنهم زاهدون في هذه المتع، لأن الباعث على
طلبها لم يتوفر عندهم، ولم يوجد لديهم، وإن توفر في بعض الأحيان، فإنهم فقدوا
القدرة على الحصول عليه والقوة والصحة والعافية التي تمكنهم من إنجاز وتحقيق
أغراضهم ولذاتهم التي تراود نفوسهم. وجاء في الحكمة: (من العصمة أن لا تجد).
والإمام أبو العزائم رضي الله عنه، يبين لنا في هذا الشرط، وفي تلك
الفقرة أن الواصلين إلى الله عز شأنه، هم أهل المجاهدة الفادحة، الذين يجاهدون
أنفسهم في كل أنفاسهم وآناتهم، لأن جميع القوى النفسانية والحيوانية والإبليسية قائمة
بأجسادهم، وأن الرغبة والشهوة والحظ والهوى موجود لديهم، وأن الصحة والعافية
والمال وغيره، مما يعين على تحقيق هذه الرغبات، متوفر عندهم، ومع هذا كله فهم
يجاهدون الجهاد الأكبر، ويحاربون هذه النزعات وتلك النزغات، بصبر ومصابرة، وتجلد
ومثابرة، من غير توقف ولا انهزام، لأنهم جندوا جميع ما لديهم في هذه المجاهدة
والمدافعة عن الخير والفضيلة، من أجل الوصول إلى السعادة الأبدية والتخلق بأخلاق
رب البرية، والبعد عن الفطر الحيوانية والأخلاق الإبليسية.
والمجاهدون في الله يمدهم الله سبحانه بمدده، ويعينهم
بقوته، ويؤيدهم بنصره،ويأذن لكل الحقائق أن تكون في خدمتهم،لأنهم قائمون لله بالله
في الله، سر قول الله عزَّ وجلَّ:
﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ
وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾.[7، الفتح].
وفي النهاية يحملهم الله سبحانه في سفينة النجاة الكبرى مع سيدنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم، متنعمين في حصون: ﴿وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن
يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾. [35، محمد]. آنسين
بقول الله تعالى: ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء
عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ
فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا﴾. [29، الفتح].
لا يبتغون الدنيا وزخارفها، ولا يبتغون الجنة
ونعيمها، ولكنهم يبتغون ويطلبون الفضل والرضوان من الله عزَّ وجلَّ.
الوصول وما أدراك ما الوصول، هو الشوق المزعج.
والعشق المحرق إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم،
ليعود العبد الكامل إلى أصله، وليستريح بوصله، وهنالك تناديه كل الهواتف:﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ
الْمُطْمَئنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي
عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾. [
27 ـ 30، الفجر].
ومن ظن أنه يصل إلى الله عزَّ
وجلَّ بالأقدام والخطى فقد وقع في كبائر الإثم وعظيم الذنب والخطأ، لأن
الله على عظيم، ومقتدر كبير، ولكن الوصول إليه بما بينك وبينه من النسب والمشابهة،
والتخلق بأخلاقه،و التشبه بمعاني صفاته. فقد ورد أن الله عزَّ
وجلَّ ينادى يوم القيامة: ﴿اليوم أرفع
نسبى وأضع نسبكم أين المتقون ؟﴾.
إلى آخر الحديث القدسي.
وهنالك يتحقق العبد بالوصول،
ويتهنى بالرضي والقبول وصلى الله على سيدنا محمد وعلى الله وصحبه وورثته وسلم..
آمين.
الفَرار إلى الله
قوله رضي الله عنه:
(ولو كان ضرورياً )
الواصلون إلى الله رضي
الله عنهم، قد يترك الفرد منهم الكثير من ضرورياته من
أكل وشرب،ولباس ونوم، وراحة ونكاح، وذلك بأن يكثر من الصيام والقيام مع حاجة جسمه
الشديدة للطعام والشراب والنوم، وقد يتقلل من الطعام إلا بقدر ما يحفظ عليه حياته،
إقبالاً على رياضة نفسه وتزكيتها، وأملاً في وجه الله الكريم.
وقد يترك ذلك لرفاقه وإخوانه، إيثارا لهم
بالطيبات من الطعام والشراب واللباس، ونحو ذلك، عن رضي وسرور، وفرح بذلك العمل،
وذلك معنى قول الله تعالى:﴿ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي
صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ
كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾. [ 9، الحشر].
وهذه هي صفات أصحاب سيدنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد قال الإمام أبو العزائم رضي الله عنه:
جع أضعفنها واحذرن من غيها
غض الجفون وحاذرن فتك الكمين
وقال أيضاً رضي الله عنه:
والصمت معراج وجوعك طهرة والصمت
رفرف حضرة التواب
وقد بلغ الواصلون مقاماً في
ترك لوازمهم، تشبهوا فيه بحضرة الصمدية حباً وتولهاً إلى كل صفة من صفات الله، وكل
معنى من معاني أسمائه جـل شأنه. ومن معاني الصمدية، التنزه عن كل صفة من صفات
المخلوقين، والتعالي والكبرياء عن كل ما يخطر ببال أي أحد من العالمين، والتقديس
والتعظيم عن جميع الظنون والأوهام. ومن معاني الصمدية، عدم الاحتياج إلى الأكل
والشرب، والنوم والزمان والمكان وعدم الاحتياج لمعونة أو مشورة من أي أحد من عباده،
فهو سبحانه العلي في عظموته، المنزه في رحموته، المقدس في جلال نعموته، لا تأخذه
سنة ولا نوم، ولا يلحقه النقص والعدم واللوم، لا نحصى ثناء عليه كما أثنى هو على
نفسه، عز جاره، وجل ثناؤه، ولا إله غيره، تنزل بحنانته ورحمته فعرف نفسه إلى عباده
ليعرفوه، وتفضل عليهم بفضله وإرسال رسله ليشكروه وسخر كل شيء في السموات والأرض
لهم ليحمدوه ويعبدوه. سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم استغفر الله.
ظهر بهذه المعاني الكريمة
إلى خاصة عباده، فاحترقت قلوبهم من شدة حبه، فأكرمهم وهناهم بنعيم قربه، وكشف عنهم
الأستار حتى تمتعوا بشهوده في الليل والنهار، والعشية والإبكار، والغدو والآصال،
هاموا إليه بشدة الأشواق وقد قال قائلهم:
صبور صبرنا على الأشواق واجعل
حشانا معدن الإشراق
يا مغنى العشاق بالتلاق أعظم
هيامي فيك واشتياق
وقد قال الإمام أبو العزائم:
أذاب الوجد ناسوتي فلاحت
شمس لاهوتي
أنا حرف من غير معنى بل ومعنى عند نعموتي
وقال رضي الله عنه:
يا ساقي القوم خمر الوجد والحـال
أسكرتهم ففنوا عن كل آمــال
هلا مزجت لهم هذا الشراب عسى
أن يمنحوا الحب فهو المشهد العالي
لا تعجب يا أخي من أحوال
الواصلين، فمقاماتهم تكبر عن الحصر والعد، وتجل عن الوصف والحد، فلا تلم إن رأيت
الواحد منهم، يكف ويمتنع من تناول ضرورياته شوقاً إلى المقام العلي، بل إلى وجه
الله الأعلى، فسلم تسلم، وجاهد نفسك تغنم، وتشبه بهم تفز وتنعم.
تشبهوا إن لم تكونوا مثلهم
إن التشبه بالرجال فلاح
والله شكور حليم، ورحيم
كريم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى الله وصحبه وسلم.
فالواصلون رضي الله عنهم
تركوا الضروريات التي بها حياة أجسادهم في هذا الكون شوقاً إلى الوجه العلي وإلى
رسوله صلى الله عليه وسلم،
وهم يعتقدون أنهم باعوا رخيصاً فانياً واشتروا أغلى وأثمن من كل ما تتصوره العقول
وتتخيله الأوهام، حتى أن الواصلين إذا أكرموا في دار النعيم يوم القيامة، وقدمت
لهم الملائكة المآكل الشهية، والمشارب الهنية، واللذات الجسمانية والحسية أعرضوا
عنها، وقالوا: قد تركناها في الدنيا ونحن أحوج ما نكون إليها شوقا إلى وجه الله العلي،
فكيف نتسلى بها اليوم عنه سبحانه ونحن في كمال الغنى عنها. فيقول الله لملائكته:
خلوا بيني وبين عبادي، فقد أبحتهم وصالي وأشهدتهم جمالي، فهناك تقع العين على
العين كما قال تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾. [22-23، القيامة].
وليس
هناك نعيم فوق هذا النعيم الأكبر، ولا لذة وراء هذه اللذة الأبدية.
الغِنى بالله
( 8 )
قوله رضي الله عنه:
( فيكون مع الرغبة فيه راغبا عنه، ومع الاحتياج إليه غنيا عنه )
وهذه الفقرة توضح، أن أهل الوصول إلى الله عزَّ شأنه لهم حالات عجيبة وشئون غريبة، لا
يكاد يصبر أحد عليها إلا هم، لعظيم جهادهم، ودوام قربهم، ولذلك فإنك تراهم يتورعون
عن الحلال خشية استطابته واستمرائه، وخوفا من فتح أبواب الشبهات عليهم. فقد ورد في
الحديث الشريف قوله عليه الصلاة والسلام:{لا
يكون العبد من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به البأس}.[6]
وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتركون سبعين بابا من
الحلال خشية من الوقوع في الحرام، فقد تشتد رغبة الواحد منهم في شيء من الطيبات
والحصول عليه ميسور، ومع هذا فيرغب عنه، ويزهد فيه مسارعة إلى الأمل الباقي
والنعيم الدائم، سر قول الله عزَّ وجلَّ:
﴿وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ
مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ
لِلْمُتَّقِينَ﴾.[133، آل عمران].
والمسارعة إلى المغفرة، إنما تكون بعد معرفتها،
والتحقق منها، ورجاء نوالها والوصول إليها. والمغفرة معنى من معاني أخلاق الله
وصفاته عزَّ وجلَّ..
والمسارعة معناها المبادرة قبل فوات الفرصة، والمسارعة أيضا تحمل معنى المنافسة
بين المتسارعين، حتى لا يسبقني أحد إلى رحمة الله ومغفرته.والجنة قد عرضها الله
علينا في الجمالات واللذات والنعم والمتع والمسرات التي في عالم السموات والأرض،
من كل ما يحبه الإنسان ويتشوق إليه، ويشتهيه ويتمنى الحصول عليه، فجعل الله ما في
هذه الحياة من النعم والخيرات، والسعادة والهناء، مما أحله الله وأباحه للإنسان،
صورة يعرض فيها نعيم الجنات ومسرات الحياة الأبدية، ليشتاق الإنسان إلى النعيم الباقي،
والخلود الدائم،وكذلك جعل الله ما في هذه الحياة من عناء وشقاء،وتعب ونكد، وما
يراه الإنسان من أنواع العذاب والآلام، والوحوش الكاسرة، والآفات السامة وغيرها،
مظهرا وصورة لعذاب الله الأليم في الآخرة فيقشعر جسد الإنسان ويخشى من عذاب تدوم
حسرته في الدار الآخرة، وهذه الأمور رحمة الله بالإنسان، وذلك معنى قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى
وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى﴾.[10ـ12، الأعلى].
وقد يكون العبد الواصل في حاجة ماسة إلى مال أو
طعام أو شراب أو لباس، ولكنه يستغنى عن هذه الأشياء مع حاجته إليها، وذلك أمر غريب
حقاً، لأنهما ضدان قد اجتمعا، حاجة للشيء قائمة وملحة، وغنى عن هذا الشيء في الوقت
نفسه، وهذه هي الهمة العالية، والعزيمة الصادقة في التشبه بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقد ورد أنهم كانوا في غزوة من الغزوات، وأصيب
من أصيب في هذه الغزوة فكان الساقي يمر بالماء على المصابين ليسقيهم وهم يجودون
بآخر أنفاسهم فيذهب بالماء للأول، وهو في شدة الظمأ والالتهاب إلى الماء فيقول:
اسق أخي فهو أشد منى ظمأ، ويقول الثاني والثالث كذلك، حتى إذا انتهى الساق لآخرهم،
قال له أدرك الأول قبل أن يموت، فيذهب إليه فيجده قد مات وكذا الثاني، والثالث،
وباقي الشهداء، رضي الله عنه.
ما هذه الأحوال ؟ هي أحوال أهل القرب، ومشاهدات
أهل الوصل، ومراتب أهل التمكين، حتى في هذه الحالة التي لا يشعر الإنسان فيها إلا
بما هو فيه من بلاء شديد، ومحنة قاسية، يؤثر الإنسان الكامل فيها رفاقه وإخوانه !!
قال أبو
العزائم رضي الله عنه:
سلم أحاديث الحقائق تسلمن
تسقى شراب الحب في أعلى مقام
وهذا الغنى ليس بعرض زائل، أو جاه فان، وإنما
هذا الغنى عن مشاهدات عالية لمعاني أسماء الحق وصفاته، من البر والإحسان، والعطاء
والرحمة، والصبر والرضي، واليقين الحق، وغيره من الكمالات والجمالات الإلهية، وشدة
الشوق للتشبه بها والتحلي بها، حتى في آخر الأنفاس، سر قول الله عز شأنه: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ
صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم
مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾. [23، الأحزاب].
ومن كان غنياً
بالله سبحانه، لا يلحقه فقر، ولا يدركه عوز.
قال
الإمام أبو العزائم رضي الله عنه:
الحب في الله أغناني عن الناس
والأنس بالله معراجي ونبراسي
كم من إنسان ملك هذه الدنيا، وهو في شدة الفقر،
لأنه لم يقنع بما آتاه الله منها، بل هو في عناء وكد متواصل لجمعها، والطمع حتى
فيما في أيدي الفقراء، فقد يكون رجل ثرى وميسور، له من الأموال كذا وكذا، وله جار
فقير يسكن في عشة بجوار منزله، أو له محل يصنع فيه شيئا بجوار قصره، أو قطعة أرض
زراعية يزرعها هو وعياله بجوار أطيانه فيعمل هذا الرجل الغنى على مضايقة جاره
الفقير، بل وإساءته، طمعاً في الحصول على حاجاته وضمها إلى أملاكه فيضطر الفقير
لسوء المعاملة لبيعها له، ولو بثمن بخس لأنه لا يقدر على مناوأته ومنازعته. فهل
بعد هذا فقر واحتياج ؟.
الواصلون إلى الله لا ينازعون أهل الدنيا
دنياهم، ولا ينظرون إليهم إلا بقدر ما يترحمون عليهم، وينعون عليهم حالهم، وإلا
بقدر تذكيرهم وتبصيرهم خوفاً عليهم من الغرق في بحارها، فمن سكر بحب الدنيا لا
يفيق إلا عند الموت وقال صلى الله عليه وسلم:
{إياكم وحب الدنيا فإنها أسحر من هاروت وماروت}.
[7]
وقال
الإمام على رضي الله عنه:
(الدنيا دار من لا دار له، يجمعها من لا عقل له، ويؤثرها على الآخرة من لا دين له).
قال
الإمام أبو العزائم رضي الله عنه:(المؤمنون
مسافرون إلى مقر رحمة الله في دار النعيم المقيم، والمحسنون مسافرون إلى مقعد صدق
عند مليك مقتدر، والموقنون مسافرون فراراً من الكونين إلى المكون جلَّ جلاله، فليتخذ كل واحد من هؤلاء
المسافرون من يعينه في سفره هذا على بلوغ المقصد عملا بالحكمة المأثورة خذ الرفيق
قبل الطريق، والواصلون فروا من الكونين إلى الله عزَّ
وجلَّ)
وقال قائلهم:
فما مقصودهم جنات عدن ولا
الحور الحسان ولا الخيـام
ولكن وجه مولاهم مناهـم وذلك مقصد القوم الكــرام
فليس للدنيا عليهم من سبيل، ولا لنعيم الجنات
عليهم من سلطان، لأنهم أهل الله وخاصته، سر قول الله عز شأنه: ﴿إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ
الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرضي﴾.[20 ـ 21، الليل].
فالواصلون رضي
الله عنهم، يطلبون وجه ربهم سبحانه وتعالى، ووجه ربهم ذاته المقدسة بجميع
أسمائها وصفاتها، وكمالاتها وجمالاتها، وأنوارها وبهائها، وجميع ما يتعلق بها.
ولما كان هذا المطلوب عظيم جداً، بل أجل وأعظم، فبذلوا في نواله الدنيا والآخرة،
مستصغرين ومستقلين ما بذلوا في نوال هذا المطلوب العلى والمقصود الأعظم.
وإذا كان الحق سبحانه
وتعالى، اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم، وعوضهم عن ذلك بالجنة، فيكف
يكون حال عبد لا يرضي بديلا عن الله، ولا يستغنى بالفردوس الأعلى عن وجه الله، فهو
يبذل الجنة والخلود فيها، ويبذل الدنيا والحياة فيها في سبيل الخطوة بنفس واحد في
شهود سيده ومولاه. وأهل هذا المقام متحققون بقوله جل
شأنه: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾. [88، القصص]. وقد
اطلع الله عليهم وقال لهم: أنتم عبادي حقاً، أنتم عبادي حقاً، أنتم لي وأنا لكم لا
أهضمكم حقكم، ولا أبخل عليكم بطلبكم، سر قول النبي صلى الله عليه وسلم:{بل
الرفيق الأعلى من الجنة}.
وكما قال
الإمام أبو العزائم عن نفسه وعن أمثاله:
غريب نعم عن ملكه ملكوته قريب
نعم فضلاً لخير قريب
اللهم جملنا بجماله، وحلنا بكمالك، ونعمنا
بقربك ووصالك وصلى الله على سيدنا محمد وعلى الله وصحبه وسلم.
نهاية السالكين وبداية المقربين
( 9 )
قوله رضي الله عنه:
( وبهذا
يكون قائماً بمعاني القرآن بالمشابهة محفوظا بالمجاهدة، وهو وصول السالكين )
ومعنى هذه الفقرة، أنها بيان لشأن الواصل، وكشف
لمقامه، وتوضيح لحقيقته، حتى يعلم المؤمن أهل الدعاوى والدجل والكذب على الله
ورسوله والمؤمنين ويستيقن بآداب الواصلين رضي
الله عنهم، فيسارع في حبهم وودهم والإقبال عليهم، قال
تعالى: ﴿وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ ﴾.[28، الكهف].
وكيف يكون العبد الواصل قائماً بمعاني
القرآن بالمشابهة؟.
يصل العبد لهذا المقام العلي، عند استظهاره للقرآن، وفقهه لمعانيه،
والتأثر به إلى أبعد الحدود، والتفاعل معه، وكمال يقينه بأن القرآن الكريم هو صفة
الله القائمة بين عباده، وهو مدد الله إليهم، وفضل الله عليهم، ورحمة الله بهم، وهو
كلام الله ومراده، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا مـن خلفه، وأنه حبل الله
المتين الذي تعلق به الواصلون إلى الله، وأتنس به المقبلون على الله.
فكان القرآن وردهم المورود، وكوثرهم المشهود، ونعيمهم المنشود، لأنه
معاني أخلاق الله وصفاته، استوعبوا القرآن في نفوسهم علماً وذوقاً، وكشفاً وشهودا
ً، استعذبوه في قلوبهم، فقامت معانيه بها، فمثلوا القرآن، وقاموا بدوره بين
العوالم، سر قوله صلى الله عليه وسلم:{فدورا
مع القرآن حيث دار}.
والمشابهة يعنى المماثلة، فصار الواصل إلى الله
عبدا قرآنياً، يمثل القرآن ويتشبه بالقرآن، فالقرآن كتاب ناطق، والعبد قرآن متحرك،
فالقرآن كتاب مقروء، والعبد قرآن مشهود، فلا يعمل إلا بالقرآن، ولا يعيش إلا
بالقرآن ولا يحتكم إلا إلى القرآن، ولا يدخل في أمر حتى يسأل القرآن، لأن القرآن
هو الحق المنبلج لقلوبهم، وهو النور الذي يسعى بين أيديهم وبأيمانهم.
سئلت السيدة عائشة رضي الله
عنها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: (كان
خلقه القرآن) يعنى من أراد أن يرى رسول الله حقاً، ويعرفه صدقاً، فليتدبر القرآن
ويفقهه، فهو حقيقة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومشابهة العبد للقرآن، وقيامه بحقيقة القرآن ومعانية،
ذلك هو نعيم القرب من الله سبحانه، وحقيقة الحب من الله جلَّ جلاله،
وكمال الوصول إلى الله محفوظاً بالمجاهدة من الشيطان وشركه، ومن النفوس ونوازعها،
ومن الدنيا وزخارفها، بل ومن الركون إلى غير الله عزَّ وجلَّ نفساً أو أقل.
وشيء غريب جداً، هو أن الواصلين إلى الله يدوم
جهادهم، بل ويقوى هذا الجهاد إلى ما لا يتصوره عقل، لأنهم نالوا شيئاً لم يكن في
الحسبان، وملكوا شيئاً أغلى من السموات والأرض وما فيهن، وهو اللذة الأبدية،
والمتعة السرمدية، وفيها يقول الأمام الجنيد رضي الله عنه:(لو
علم ملوك أهل الأرض ما نحن فيه من لذة لجالدونا عليها بالسيوف).
فلا يظن إنسان أن الواصلين إلى الله قد ناموا
واستراحوا، وإنما هم في جهاد ماض حتى تقوم الساعة، ويكون جهادهم لدوام أنسهم،
ومشاهدة حبيبهم فالمجاهدة في هذا المقام لتدوم المشاهدة، وذلك الحال الكريم هو
وصول السالكين،
والسالكون في الحقيقة هم الذين انكشفت لهم
حقيقة الحياة الدنيا، وعلموا أنهم راجعون إلى الله عزَّ وجلَّ، فأخذوا أنفسهم بالسير على كتاب
الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم،
وهو الصراط المستقيم، والنهج القويم.
والسالك قسم زمنه إلى أوقات، وأعطى كل وقت حقه
من الرعاية والعناية، وقت للعبادة، ووقت للعمل في طلب المعاش، ووقت لراحته وأكله
وشربه وشهوته في حلال، ووقت لطلب العلم النافع الذي تزكو به نفسه، ووقت يتفكر فيه في
مخلوقات الله ومصنوعاته، وهذه الأوقات هو حريص عليها، كإنسان مثلاً يعمل عدة أعمال
في عدة أزمنة، ويأخذ أجراً على كل عمل، فهو يحرص على جميع هذه الأوقات وعلى العمل
فيها، الذي يحقق له مقصوده من الأجر والمكسب الذي يحصل عليه.
فالسالك أعطى لكل ذي حق حقه فيعطى للجسم حقه
وللأهل والصديق حقه، وللمسلم والكافر حقه، والسالك أشد الناس حرصاً على أوقاته،
لأنه اعتقد أن الزمن جزء من عمره وحياته، فهو يغتنمه وينتهزه.
والسالك يمشى على صراط مستقيم، صراط الله الذي
له ما في السموات وما في الأرض. وقد قال الإمام أبو العزائم رضي الله عنه:
السير
سير الســـالك الأواب فوق الصراط
بصحــة الآداب
في
الروض حصـن الشرع يسلك ناظرا للحق لا
لظواهر الأسباب
والسالك في طريق الله أخلص النية لله، وصدق
العزيمة في نوال رضوان الله، وجدد التوبة عن كل مرحلة من المراحل، حتى ينتهي به
الحال والشأن إلى تغيير أحواله، وتبديل شئونه، فيحصل له الشوق والوله والحنين، إلى
التخلق بأخلاق الله عزَّ وجلَّ،
وذلك هو بداية المقربين، ونهاية السالكين. وقد جاء في الحكمة لأبى العزائم رضي الله عنه: (السالك في طريقي هذا، كلما لاحت
له بارقة من بوارق الحقائق، وأراد أن يقف عندها ظاناً أن هذا مقام الوصول، نادته
هواتف الحقيقة قائلة له: لا تقف فالمطلوب أمامك، ونادته مظاهر الكائنات قائلة:
إنما نحن فتنة فلا تكفر).
فالسالك صاحب وقت، فهو يجتهد في مراقبة الأوقات،
ويزن كل وقت بموازين الشرع الشريف، ويعمر كل وقت بواجبه، حتى لا يضيع شيء من عمره في
غير عمل ينفعه في الدنيا والآخرة.
والواصل صاحب حال، والحال هو ما يرد على القلب
من الخواطر والهمم وما يواجه به العبد من شهود المعاني العلية، والغيوب القدسية،
وما يراقبه من مقامات الحق جلَّ جلاله،
تارة يكون في حال بسط، وأخرى في حال قبض وثالثة في حال رغبة،ورابعة في حال رهبة،وهكذا
تتوارد عليه الأحوال.
والمقرب صاحب نفس، فهو يصرف أنفاسه كلها في
الترقي من مقام إلى مقام، ومن مشهد إلى مشهد، من غير نهاية ينتهي إليها، لأن
مقامات القرب من الله لا تنتهي أبداً، وذلك لعدم نهاية المقامات الله سبحانه وتعالى، فلا غاية ولا نهاية، ولا آخر
لكمالات الله، وجمالات الله، وجلالات الله وأنوار الله وبهاء الله. قال تعالى:﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ
وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾. [3، الحديد].
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى الله
وصحبه وسلم.
حصُون الأمن
( 10 )
قوله رضي الله عنه:
( فيكون
جهادهم التحفظ بسور الحفظ عن تعدى حدود المكانة لا حدود الأحكام، لأنهم محفوظون من
تعدى حدود الأحكام بنص قوله تعالى): ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ
عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾. [42، الحجر].
والتحفظ بسور الحفظ هو التحصن بحصون الأمن.
وحصون الأمن هي آداب الشريعة الغراء، من القيام بما أمر الله، والمسارعة إلى ما
يحبه الله والبعد عن كل ما حرمه الله ويكرهه الله، حفظاً لمكانة العبدية، حتى
يتمكن العبد في غمرة وصوله، وفي جمال حضوره، بمقام عبوديته، من التزامه بتنفيذ
الأحكام، لأنه عبد مأمور ومكلف، وإن رفعه الله إلى مقامات الوصول لحضرته جلَّ شأنه.
وتعدى حدود المكانة، هو أن ينس العبد آداب
العبودية في غمرة الوصال ولذة الوصول إلى الكمال، فيغرق في بحار الوصول، ويتعدى
حدود المكانة العبدية من الذل والانكسار، والخشية والفقر والاضطرار، فيفنى عن
حقيقته العبدية، ويترك التكاليف الشرعية، وهنالك غرق خلق كثيرون.
والحصن في هذه المرحلة هو العبد الوارث، والفرد
الكامل الذي يعيد العبد الفاني إلى مقامات الوسط، حفظاً من التطرف والغلو والشطح
والتيه أدباً مع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم،
لأن الذين غرقوا في أوحال التوحيد ضلوا عن معرفة الله، والذين غرقوا في بحار
الوصول، ضلوا عن معرفة أنفسهم فزلت أقدام بعد ثبوتها، ولا حول ولا قوة إلا بالله
العلي العظيم.
فقد يغتر الإنسان بمقامه الذي وصل إليه، ويعتقد
أنه قد أسقطت عنه التكاليف الشرعية التي تحفظ عليه رتبته العبدية، فيترك العمل بها،
وهذا استدراج من الله للمبعودين والمحرومين الذين تمردوا على آداب الله ورسوله
ظناً منهم أنهم في مقام فوق البشرية، وفوق التكاليف الشرعية، وهذا هو الدليل على
سوء الخاتمة، ونعوذ بالله من شر ذلك، فقد أمن هؤلاء مكر الله، قال تعالى: ﴿فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ
إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ﴾. [99، الأعراف]. والحصن هو المرشد في تلك الحيرة،
والمنقذ من هذه الذلة، قال تعالى:﴿ِوَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل
لَّهُ مَخْرَجًا﴾.[2، الطلاق].
وقال تعالى: ﴿وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ
نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ﴾. [40، النور].
وقال تعالى: ﴿وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ
وَلِيًّا مُّرْشِدًا﴾. [17، الكهف].
والواصلون لا يجاهدون أنفسهم في ترويضها على طاعة الله، لأنها لا
تخالفهم إلى معصية الله،وإنما يجاهد الواصل نفسه ليكون عبداً صرفاً لذات الله، لأن
أنوار الربوبية إذا أشرقت عليه بمعانيها، وكوشف بأسرارها، قد تذوب معالم بشريته
فيفنى ولا يفيق إذا لم يكرمه الله بالتثبيت، أو يتراءى له برهان ربه، ولكن في هذه
الحالة، ما عليه من جناح، وهو العبد
الفاني المجذوب، والمحترق المصعوق، وهذا يسلم له حاله، ويترك له شأنه، ولا يجوز
تقليده، ولا يصح الاقتداء به. وليس هذا مقام كمال، وإنما هو حال خاص به لا يقتدى
به ولا يقاس عليه، لأنه لا أرادة له ولا اختيار، فهو مغيب في مشاهده، ويجب على أهل
الصحو تنبيهه لعله يتنبه، ويرفع أمره للمرشد فهو الدواء لهذه الأحوال، وهو الخبير
بالنفوس وما يعتريها من تطورات.
والواصلون محفوظون بعناية الله من تعدى أحكام الشرع الشريف لأن الله سبحانه
وتعالى قهر عنهم
شيطانهم، وأبعد عنهم إبليسهم، لأنهم دخلوا دائرة عباد الله، وعباد الله ليس
للشيطان عليهم من سبيل.
وبمجرد أن يدخل العبد في عباد الله، فقد تحصن من الشيطان وشركه،
وهمزه ولمزه، ووسوسته ونفخه ونفثه، لأن عباد الله حصن أمان لكل من آوى إليهم، حتى
أن الإنسان لو دخل في معيتهم ولو وقتاً يسيراً، كان ذلك الوقت خيرا وبركة على
الإنسان، لأنه لا يستطيع ارتكاب معصية وهو معهم، بل يكتسب علماً وعملاً، وفكراً
وذكراً وطاعة وإقبالاً على الله سبحانه في هذه اللحظة، هذا في وقت يسير تواجد فيه
مع عباد الله، فكيف إذا صار منهم وعاش معهم ولازم صحبتهم؟.
وقد أمر الله المؤمنين بذلك في
قوله جل شأنه:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ
مَعَ الصَّادِقِينَ﴾. [119، التوبة].
فالحفظ من المعصية وأسبابها
للأولياء، بنص الآية الشريفة:﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾. [42، الحجر].
والعصمة
للرسل والأنبياء، قال تعالى: ﴿وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾. [67، المائدة].
وقد ورد في
الحكمة لأبى العزائم:(الواصل من توحد مطلوبه، ورضي بما قدره محبوبه)
ومعنى ذلك، أن الواصل ليس له غير مطلوب واحد،
هو الله الواحد الأحد الفرد الصمد، فهو يطلبه في كل شيء، ويبحث عنه في كل حال،
ويرجوه سبحانه في كل عمل، ويقصده في كل أمل، ويرهبه ويخشاه، ويتحاشى ما يغضبه
ويسارع في ما يحبه، مهما كلفه ذلك من بذل النفوس والفلوس. وقد ورد في الحديث: {إن
الله لا يمكر بطالبه}.
لأن الله سبحانه كريم يستحى أن يرفع إليه عبد
يديه ويردهما خائبين، أو أن يطلبه عبد ويرجعه بخفي حنين.
والواصل لا يستقر له حال حتى يجد مطلوبه، ومعنى
يجده، يتعرف عليه حقيقة المعرفة، قال تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ
خَبِيرًا﴾. [59، الفرقان].
فالواصل في شوق دائم، وفي سؤال حائر، وفي رغبة
جامحة في طلب الله عزَّ وجلَّ.
قال
الإمام أبو العزائم رضي الله عنه:
أنا الخبير فسلني عنه أنبيكا
وسلمن لي إلى العليا أرقيكا
والواصل رضي بما قدره محبوبه، وكيف لا ومحبوبه
هو الله سبحانه ؟ الذي بيده الخلق والأمر، وبيده الخير وهو على كل شيء قدير. تعلقت
به همة الواصل وإرادته، وأحبه لصفاته الكريمة، وأسمائه الحسنى، وأخلاقه الجميلة
وأفعاله الحميدة، ورحمته الواسعة، وفضله الدائم، وبره الهاطل، وخيره العميم. تحير
حبه في هذه المعاني، لأنها فاقت العد والوصف، والبيان والحد، أقبل به حبه على الله
من كل ناحية، فجعله في رضاء تام بكل ما قدره وفرضه وحكم به وأنزله.
والرضا عن الله، أنس أهل الوصل، ونعيم أهل
الفصل، فقد ورد في الحديث القدسي عن الله عزَّ
وجلَّ ما معناه: ﴿من لم يرض بقضاءى، ويصبر على بلاءى،
ويشكر لنعماءى فليخرج من تحت سماءى وليعبد ربا سواى﴾.[8]
والجهاد في مقامات الوصول إلى الله، جهاد من
نوع مخصوص، لأنه تتراءى للواصل أنوار نفسه، وجمالات نفسه، وكمالات نفسه، فيحس أنه
اتصل بعالم الغيب الأعلى، بل وبالمعاني القدسية الربانية، ويأنس بهذه المشاهد،
ويظن أنها غاية الوصول ويقف عندها، ويحجب عن باقي المقامات التي لا نهاية لها،
ولذلك فهو يجاهد في وصوله ليترقى من مشهد إلى مشهد ومن حال إلى حال، ومن معنى إلى
معنى، إلى ما شاء الله. وهذا الجهاد يكون بمعونة الله، ومدد من الله، يقوى به
العبد على استمرار هذا الجهاد، لأنه دائم في كل نفس من أنفاسه، وفي كل حركة من
حركاته، وسكنة من سكناته.
ونتائج هذا الجهاد، التحفظ والتحصن من الهمم
واللمم، والخواطر والواردات التي قد تصاحب أهل هذه المشاهدات، حتى لا تشوبها شائبة،
ولا يكون شيء منها لغير الله، وهذا الجهاد هو الذي يجعل الواصل في دائرة الحفظ الإلهية،
والوقاية الربانية، والعصمة النبوية، قياماً بآداب العبودية في هذه المراتب
والمقامات العلية.
والله أسأل أن يتولانا في جميع أنفاسنا،
ويحفظنا بحفظه الذي حفظ به كمل أوليائه وخواص عباده، إنه مجيب الدعاء. وصلى الله
على سيدنا محمد وعلى الله وصحبه وسلم.
مكاشفات المقربين
( 11 )
قوله رضي الله عنه:
(وهو
بداية للمقربين الذين كوشفوا بتلك المعاني في أنفسهم وفي السموات والأرض).
والوصول الذي بيناه في هذه العجالة، من الشوق
والحنين، والوله إلى التخلق بأخلاق الربوبية، ومجاهدة النفس في ترك الفطر
الحيوانية، والرذائل الإبليسية، هذه الأحوال، وتلك الخصال بداية لأهل القرب من
الله عزَّ وجلَّ.
وأهل القرب من الله، هم الذين ظهرت لهم معاني
الوصول في أنفسهم حتى صارت نفوسهم مرآة صافية، فانكشفت فيها هذه الحقائق، وارتسمت
فيها تلك المعاني، وانتقشت فيها الأخلاق الإلهية، وأصبحت سجية لها وفطرة وطبيعة
لأهل القرب من الله عزَّ وجلَّ.
والقرب هو تفضل الله سبحانه على أهله، بكشف صفاته
ومعاني أسمائه جلَّ جلاله
لهم، والإقبال منه عزَّ وجلَّ
عليهم، ظاهراً لهم بمعانى أسمائه وصفاته، وبهائه وجماله وجلاله، بعد كمال معرفتهم
بربهم جل جلاله حتى تأتنس قلوبهم ببرد هذه التنزلات ونعيم تلك المواجهات.
والقرب هو كشف هذه المقامات الإلهية للمقربين في
أنفسهم وفي السموات والأرض، وفي كل شيء لهم، حتى يتراءى لهم الحق جلياً في الملك
والملكوت وذلك معنى قول الله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي
الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾.[53، فصلت].
والله هو
الحق المبين، ومعنى قوله عز شأنه: ﴿فأينما تولوا فثم وجه الله﴾.
وفي هذا
يقول قائلهم:
يا من يراني أنى أراه
انظر بعين الرضا لحالي
ويقول الإمام أبو العزائم رضي الله
عنه:
جمال الوجه قد لاحــا وداعى
الوصل قد صاحا
وشمس الذات قد ظهرت وفضلاً
ناول الراحــا
ويقول قائلهم:(لو غبت عنه طرفة عين لاحترقت من
ألم البعد والبين).
ويقول
الإمام أبو العزائم في دعائه رضي الله عنه: (اللهم ارزقنا قرباً يمحق
ما بيننا وبينك من البين حتى تقع العين على العين).
والقرب إنما يكون بالمعاني والحقائق، لا
بالمباني والأركان، فمن كان قربه بالقلب لا يبعد أبداً، ولا يملك، ولا يستطيع أحد
أن يبعده عن القلب لأن القلب لا يقدر مخلوق أن يتحكم فيه أو يتسلط عليه، فقد يحب
الإنسان شيئا ما، بعيداً عنه، والحس لا يقوى على الوصول إليه أو رؤيته، ولكن هذا
الشيء المحبوب قريب من القلب، بل وفي سويداء القلب.
وخذ هذا المثال توضيحا للبيان إنسان جالس
بجوارك، ليس له مكان في قلبك، ولا تحبه، وإنسان في آخر الدنيا، بعيد عنك جداً في
المكان، تحبه وتعلق به قلبك، قل لي بربك من القريب إليك منهما؟ ومن البعيد عنك؟.
إن القريب منك قطعاً، هو الإنسان المحبوب الذي انشغل به القلب، واستحضر صورته ومعناه
في النفس، ولو كان بعيد الدار والنسب، وإن البعيد عنك هو الذي يجلس بجوارك وليس في
نفسك اهتمام به ولا ود له. قال تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا
لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾. [43،
العنكبوب].
ومن كان قربه بالجسم، فبعده يكون بمجرد مفارقتك
له، بل هو بعيد في الحقيقة وإن كان يجلس بجوارك، تحدثه ويحدثك. ويقول الإمام أبو
العزائم رضي الله عنه:
خوف
بعدى في القرب نار جحيمي شيب الرأس سره
أعياني
وهذه أمور عجيبة، وشئون غريبة، لا ينكشف الغطاء
عنها إلا لأهلها فكن لبيباً المعياً من أهل الذكرى. ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى
تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾. [55، الذاريات].
قال
الإمام أبو العزائم رضي الله عنه:
فالقرب منه جنتي ومحاسني والبعد
عنه ناره ولهيبهــا
يا لائمين محمداً رفقاً بـه
فهو الذي ذاق الجحيم وحرها
وهذا نسيم من معاني القرب، أوردناه على سمعك،
لعله يجد إلى ذوقك طريقاً يسلكه، وبابا يدخل منه إليك، وإن رذاذ هذه الحقائق إذا
أصاب قلبك، وجدت الروح والريحان، والرضي والرضوان والمسرة والإحسان. كم من قريب
إلى الله سبحانه يتمنى الملأ الأعلى أن يحظى بلحظة واحدة من نعيم القرب الذي يتهنى
فيه، لأن المقام فوق الأرواح العالية، بل فوق عمار الملأ الأعلى، والفضل بيد الله
يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
ما سر سجود الملائكة لآدم ؟ وما سر تعليم آدم
عليه السلام للملائكة ؟ ما سر خلافة آدم في الأرض عن الرب عزَّ وجلَّ؟ ما سر ترشيح الملائكة أنفسهم
لهذا المركز وتقديم أنفسهم وتزكيتها بين يدي الله؟ ما سر اتهامهم لآدم عليه السلام بالإفساد في الأرض وسفك الدماء؟
قبل أن يروا آدم ويعرفوه؟ ما سر رد الله عليهم بقوله جل شأنه: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ
تَعْلَمُونَ﴾.[30، البقرة].
كلها أمور وأسرار، تنكشف للمقربين، وتبين مرتبة
الإنسان بين العوالم العالية، ومكانته في الوجود.
يا إنسان فيك جمال الله، فيك كمال الله، فيك
علم الله، فيك سر الله، فيك نور الله، فيك صفات الله، فيك معاني أسماء الله، فيك
الملك والملكوت، فيك ما ورائهما من حقائق تسكر الأرواح العالية. فلم تملك الملائكة
إلا أن تسجد لك يا إنسان، خضوعاً وتسليماً، وحفظاً لرتبتك ومقامك الكريم، وطاعة
لأمر الله عزَّ وجلَّ،
وذلك بعد انبلاج ما فيك من أسرار باريك للملائكة. وإبليس لما عمى عن شهود تلك
الأنوار، ضل وغوى، واستكبر وكفر، فطرد من رحمة الله وكان فيها، وحقت عليه اللعنة
والغضب، والشقاوة والنكد، وهى ألوان من عذاب الله، أشد وأقوى من عذاب النار أو
الزمهرير.
ولقد كوشف أهل القرب بهذه المعاني، فدامت لهم
الأفراح، ودارت عليهم الأقداح، سر قول الله عزَّ
وجلَّ: ﴿لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ﴾. [64، يونس].
والمعاني التي انكشفت لهم في أنفسهم وفي السموات والأرض، إنما هي
معاني أسماء الله وصفاته، وأسرار الله وأنواره، وآيات الله الكبرى وبيناته، فإذا
نظرت أعينهم إلى شيء ما، رأت بصائرهم وعين سرائرهم، ما في هذا الشيء من معاني
الخالق الباريء المصور، والمبدع والصانع والمكون، ورأوا في هذا الشيء حكمة إيجاده،
وسر إمداده، وكيفية خلقه، وحقيقة تسخيره وتذليله للإنسان ورأوا قيام هذا الشيء
بالله، وإيجاده من الله، ونهايته إلى الله، وأن هذا الشيء لا وجود له من نفسه، ولا
بقاء له في نفسه،ولا حياة له من نفسه.
تحققوا بعد معرفة الأشياء أن الله هو الحق اليقين، وأن كل شيء هالك
وفان إلا الله، وشهدوا في أنفسهم بدايتها ونهايتها، وقيامها بالحي القيوم الذي لا
تأخذه سنة ولا نوم، وأنهم عبيد مقهورون، وعباد مربوبون لا يملكون لأنفسهم ولا
لغيرهم شيئا من الدنيا والآخرة، إلا إذا تفضل المتفضل عليهم فوهبهم شيئاً من فضله
وإحسانه، وبره وعطائه، فيأخذونه شاكرين، ويتناولونه من الله سبحانه
وتعالى ذاكرين
حامدين لله سبحانه وتعالى على نعمه وفضله عليهم، قائمين بحق العبودية لله عزَّ وجلَّ، لا يشغلهم عن ذلك شيء، لأن
العبد لا شغل له إلا بسيده والقيام بطاعته، سر قوله جل شأنه: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ
وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾. [56، الذاريات].
وقوله عزَّ وجلَّ:
﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا
لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ
وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾. [5، البينة].
إشراقات أنوار السرائر
( 12 )
قوله رضي الله عنه:
( أشرقت
أنوار لطائف سريرتهم على الجوارح العاملة، فسلبت ظلال الوهم وأفياء الهوى والحظ).
وهذا البيان يوضح حقيقة المقربين. ولما كانت
سريرتهم محلاً للطائف والعوارف والمعاني القدسية، وكانت هذه السرائر عامرة بأخلاق
الله ومحاسنه وصفاته ومعاني أسمائه، وهذه السرائر قد استغرقت في هذه المشاهد
العالية، وامتلأت بحبها والإخلاص لها والتفاني فيها، واستنارت جوانح النفس بأنوار
القدس الأعلى، أشرقت تلك الأنوار، من الروح ومن السريرة، على جسم الإنسان وعلى
أـعضائه العاملة فاستنارت وانتفعت واهتدت
بذلك النور وانقادت الجوارح بتلك الإشراقات النورانية، وصارت هذه الأعضاء مسارعة
إلى العمل بمحاب الله ومراضيه، ومتفاعلة مع ذلك النور، ومتأثرة به إلى أبعد مدى،
حتى أنك لتكاد ترى ما في بواطنهم وقد ظهر وانطبع على ظواهرهم. وذلك معنى قول الله عزَّ وجلَّ:﴿سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ
أَثَرِ السُّجُودِ﴾. [29، الفتح].
فظهرت العلامات والدلائل على وجوههم، منبئة عما
في قلوبهم من الخشوع والسجود لله عزَّ وجلَّ،
ورأيت في وجوههم المعاني والأسرار التي في قلوبهم، لأن الوجه مرآة ترتسم فيها،
ويظهر فيها ما في الباطن من الحقائق فإذا فرح الإنسان مثلاً، ظهر البشر والسرور
على ملامح الوجه، وإذا غضب الإنسان كذلك، ظهر العبوس على الوجه، وتقطب الجبين،
وإذا حزن الإنسان ظهرت آثار الهم والغم على الوجه، وإذا خاف الإنسان ظهرت آثار
الخوف من الحذر والتحفز والانتباه القوي على الوجه، وإذا مرض الإنسان ظهرت آثار
المرض من الألم والمعاناة على الوجه، وهكذا تظهر على الوجه الصور المعنوية من حب
الله والإخلاص لذاته، والتخلق بأخلاقه، ومراقبته جلَّ جلاله،
ومعيته سبحانه، والإقبال عليه جلَّ جلاله، والقرب منه.
والجوارح الظاهرة هي صورة الإنسان الحقيقي
ومظهره، فهي لا تختلف مع الباطن في الحقيقة، إلا إذا خرج الإنسان من حقيقته
الإنسانية فصار شيطاناً شريراً، يتشكل بأشكال غير حقيقته الإنسانية، من الرياء
والنفاق، والمكر والمداهنة، فيظهر غير ما يبطن. وهذا الإنسان انسلخ من إنسانيته،
وصار شراً وبلاء على المجتمع أضر من الشياطين والمردة.
وعند إشراق السريرة بأنوارها على الجوارح
والمباني، يتحد ظاهر الإنسان المقرب إلى الله مع باطنه، في الوجهة والقصد، والفعل
والترك، والسكون والحركة، فإذا قام العبد بأي عمل من الأعمال، اشتركت في هذا العمل
جميع القوى والحقائق الإنسانية الظاهرة والخفية. وفي هذا يقول الإمام أبو العزائم رضي الله عنه:
لذاك
إذا صليت صليت فانيـا عن اللون
والأكوان والنور ساطع
أحرم
في التكبير مشهد غيـره وأشهد بالتنزيه
إذ أنا راكـــع
وأسجد
عن نفسي وفعلي فانيا وأسجد أخرى عن فنائي
توابـع
وهذا هو مقام الإتحاد، الذي يتكلم عنه العارفون
بالله رضي الله عنهم،
وهو اتحاد الإنسان مع نفسه، فلا ينازع ظاهره باطنه، ولا يختلف باطنه مع ظاهره.ولقوة
هذا الإتحاد يصير العبد روحانياً، بقوة تأثير الروح والمعاني على الهياكل والجوارح
العاملة، بما يتوالى عليها من أنوار الباطن، فيتحد العبد وتتوحد جميع ما فيه من
القوى، في طلب الله ورسوله، والعمل على إرضاء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى:﴿وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن
يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ﴾.[62، التوبة].
وقال
الإمام أبو العزائم رضي الله عنه:
تجذب الروح الهياكـل في
الصفا إلى أعلى المنازل
إن أداروا الراح صرفا أسكرت
عــال وسافل
ثم تقوى هذه الأنوار، فتمحو ظلال الوهم.
والوهم هو الشيء الذي ليس له وجود ولا حقيقة،
وإنما يتوهمه الإنسان بقوة خياله. ومعنى ذلك أن الوهم لا يحوم حول قلوب المقربين،
لأنهم في مقامات اليقين الحق من كل شيء، وكل أمر واضح لديهم، ظاهر أمام أعينهم
لقوة بصائرهم، ولأنهم يحيون في نور من الله، ويعيشون في بينة من أمرهم فليس هناك
مجال للوهم عندهم.
والظلال هي الحجب والكثافات التي تجعل الرؤيا
غير واضحة، أو تحجبها بالكلية لكثافتها، والمقربون إلى الله ليس بينهم وبين الله
حجاب، لقربهم منه جلَّ جلاله،
فسلبت ومحت أنوار سرائرهم المشرقة على هياكلهم رضي
الله عنهم ظلال
الأوهام. و﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ
الْعَظِيمِ﴾. [21، الحديد].
قال
الإمام أبو العزائم رضي الله عنه:
ما توهمته بميزان كسب فهو
مهواة حاطب حيران
وتلك الأنوار المشرقة من قلوبهم، على جوارحهم
العاملة، محت أفياء الحظ والهوى، والفيء هو الميل والعودة إلى الشيء بحب ورغبة.
قال تعالى:﴿وَإِن طَائفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا
بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي
تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ﴾. [9، الحجرات].
يعنى حتى تعود إلى أمر الله، وتميل إليه، راغبة فيه، مقتنعة به،
ومحبة له، حتى تنتهى الشحناء والبغضاء من القلوب، وينحسم النزاع استجابة لأمر الله،
ورغبة في عفوه ومثوبته.
وأفياء الحظ والهوى هي الميول، بل مجرد الميول، ومجرد الخواطر
والرغبات في الحظوظ والأهواء. والحظوظ هي نوال الشهوات المادية والحسية واللذات
الجسمانية. والأهواء هي الشهوات النفسية، والميول والرغبات الباطنية ولم يتم
الحصول عليها ونوالها بالجسم والجوارح.
والمقربون إلى الله رضي الله عنهم، لم تخطر على قلوبهم يوماً شيء
من هذه الحظوظ والأهواء والخواطر، فضلاً عن الوقوع فيها، لانشغالهم بالقدس الأعلى،
وشوقهم إلى رضوان الله الأكبر، وكدحهم في العمل بمحاب الله ومراضيه.
قال الإمام أبو العزائم رضي الله
عنه:
الهي بك
اشغلني عن الغير أفنني الهي وحصني بحصن
الشريعة
ولا تشغلن
قلبي بغيرك سـيدي ولى فأفض بحر العلوم
الحقيقة
وقال بن الفارض رضي الله عنه:
وإن خطرت
لي في سواك إرادة على خاطري يوما حكمت
بردتي
ليس لهم همة في غير الله، وليس لهم خاطر في غير رضاه، وليس لهم إرادة
في أحد سواه، وليس لهم ميل شفي شهوات تقطعهم عن الله أو تبعدهم من نور محياه،
وإنما هم عباد الله حقا، وأهل الله نسباً وقرباً، وخاصته من بين عباده، فازوا
بالحسنيين، وأفلحوا في الدارين، سر قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا
أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾. [17، السجدة].
اطلع الله عليهم، وقال لهم:﴿أنتم عبادي حقا، أنتم عبادي حقا،
أنتم عبادي حقا، اعملوا ما شئتم فقد غفر لكم﴾.
وهذا لكمال أدبهم مع الله ورسوله، ولشدة توقيرهم
لله ورسوله، ولعظم حبهم لله ورسوله، لا يشاءون شيئا غير مراد الله، بل ولا يعملون
شيئا إلا إذا كان هذا الشيء في مرضاة الله ورسوله، لكمال حضورهم مع الله عزَّ وجلَّ ومعيتهم لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذا كان سرهم تنزه عما سوى الله، فكيف يفعلون
شيئا لغير الله؟ أو يتركون شيئا من وصايا الله ورسوله ؟ وهم أهل محبة الله ورسوله،
وأهل القرب من الله ورسوله.
يا أخي أبشر، فقد حباهم الله بفضله، وأكرمهم
بوصله، وآنسهم بقربه مقاماتهم لا تفي بها العبارة، ولا تعينها الإشارة، وإنما نطوى
البساط رحمة بالأحباب، وحفظا لميزان أحوالهم، وصحة أجسادهم، والله يهدينا إلى سواء
السبيل، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى الله وصحبه وسلم.
قال الله
تعالى:﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ
هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ﴾. [17، محمد].
وهذه الآية وعد كريم من الله، وبشارة كبرى لأهل
الإيمان، الذين هدى الله قلوبهم بأنهم على مزيد في كل نفس من هدى الله،ومن نوره،
ومن علمه، حتى يتحققوا بمقام القرب الذي أهلهم الله له. قال تعالى:﴿وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ
التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا﴾. [26، الفتح].
واللطائف جمع لطيفة، وهى ما دق وخفي جداً من
المعاني الروحانية مثل الحب والشوق، والوله والعشق، والفناء والإخلاص، والورع
والزهد، واليقين والخشوع، والذل والنوايا، والقصود والهمم، والإرادات والإنابة،
والتوكل على الله والتفويض. ومثل الرحمة والشفقة، والمودة والعفو والإحسان وغير
ذلك من اللطائف المتعلقة بالسريرة.
والسريرة هي القلب والفؤاد والروح، وهى ما خفي
واستتر من الجوانح والمشاعر الباطنة، وأنوار السريرة هي أنوار معنوية، وليست نوراً
حسياً يشهد بعين الرأس، وهذه الأنوار تشرق بالهداية والعلم، والبيان والرشاد حتى
يتبين الواصل كل شيء على حقيقته، فينمحي الوهم والخيال، والظن والحدس والتخمين
والشك والريب،ويعيش الواصل في مقامات حق اليقين واليقين الحق، حتى أنه لو كشف
الحجاب عن الغيب، فرأته عيون الرأس، ما ازداد العبد يقينا، لأن الغيب كشف له في
نفسه وفي الآفاق على ما هو عليه في الواقع ونفس الأمر، لأن عيون السريرة إذا أبصرت
لا يصيبها رمد ولا مرض ولا عمى، ولا يحجبها زمان أو مكان، لأنها ترى بنور الله الذي
لا حد له ولا منتهى.
وإذا أُكرم العبد الواصل، باتحاد عين رأسه مع
عين سريرته، رأت عين الرأس الغيب لاتحادها بعين السر ولأنها أصبحت نافذة لعين السر
والغيب الذي حجبت عنه عين الرأس هنا في الدنيا، تشهده في الآخرة، لأن الآخرة كشف
فيها عن عين الرأس غطاؤها وحجابها ولبسها.
والمقربون إلى الله رضي الله عنهم، قد كشف عنهم هنا في الدنيا
الغطاء والحجاب واللبس، فلا عجب أن يروا بعيون رؤوسهم ما تشهده عين سرائرهم من
الغيوب والمعاني، والحقائق والأسرار، والأنوار القدسية. وهذا أيضاً مقام في
الإتحاد، لأن عين الرأس اتحدت بعين السر والروح. قال الإمام أبو العزائم رضي الله عنه، مشيراً إلى رؤية عين رأسه لنور
سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
بقوله:
عين
رأسي قد رأتــه في المظاهر لا جناحا
عين
قلبي قد تــراه مشرقاً نوراً صراحا
لم
يغب محبوب قلبـي بعد أن وافي ولاحـا
يا
رسول الله أنــى أرجو كشفاً واتضاحا
في منازل القرب
( 13 ) قوله رضي الله عنه:
( فجهادهم
عن مشاهدة التوحيد بالتوحيد )
ما هذا الجهاد ؟ وفي أي شيء يكون هذا الجهاد؟
وما هي الآلات والمعدات التي تستعمل في هذا الجهاد ؟
هذا الجهاد هو الجهاد الأكبر، ومراتب الجهاد
أربعة: جهاد صغير وجهاد أصغر وجهاد كبير وجهاد أكبر.
أما جهاد المقربين فهو الجهاد الأكبر في ذات
الله تعالى، وهو جهاد للترقي في منازل القرب من الله عزَّ وجلَّ، لأن الله سبحانه ليس لمقاماته
نهاية، ولا لكمالاته غاية، وأن ما يلوح منها لأهل القرب، إنما هو على قدر قواهم،
فإذا ما لاحت لهم بارقة من لوامع هذا الجمال، وأنسوا بها، حنت أرواحهم إلى ما هو
أجمل وأعظم، فجاهدوا في الوصول إليه. وهكذا و لا ينتهي جهادهم، لأن الله لا نهاية
له. وغاية ما في الأمر أنهم يسبحون في الجمالات والكمالات، ويتقلبون في المقامات
إلى ما شاء الله. قال الإمام رضي الله عنه:
إلى
انتهى علم الخلائق كلهم ولا منتهى للواله
الحيران
والمجاهدة في هذا المقام، لتدوم المشاهدة.
ومشاهد التوحيد بالتوحيد غيب مضنون، وسر مكنون، لأن التوحيد الأعلى هو توحيد الله
ذاته بذاته قال تعالى: ﴿شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ الله إِلاَّ هُوَ﴾. [18، آل عمران].
والتوحيد العلى هو توحيد الآلهين عمار الملأ
الأعلى وأولو العلم المقربون، يشهدون أن الله سبحانه قائم بالحق والعدل والخير.
وهذا معنى القسط في قوله تعالى:﴿وَالْمَلاَئكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئمَاً بِالْقِسْطِ﴾.[18، آل عمران]. أي يشهدونه قائماً بالقسط أي بالحق
والعدل في نفسه وبين كافة خلقه، سر قوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ
مُّسْتَقِيمٍ ﴾.[56، هود].
والمقربون يشهدون بالتوحيد الذي في أنفسهم، والذي
وهبه الله لهم، التوحيد الأعلى الذاتي، يشهدونه سبحانه وتعالى
واحدا أحدا، فرداً صمداً في ذاته وفي صفاته، وأسمائه وأفعاله، فتصعق أرواحهم من
عظيم الحيرة في هذا الجناب الأقدس، فيحييهم الحق القيوم، ويقيمهم له سبحانه به بين
يديه داعين به إليه، مقبلين به عليه، دالين به عليه، ليس لهم من الأمر شيء، والأمر
كله لله، ولا يرون أنفسهم لفنائها، ولا يرون أعمالهم لتوفيقه سبحانه لهم بأدائها،
ومعونته جلَّ شأنه التي أمدهم بها، ولا يرون
كونا إلا ويشهدون الله سبحانه وتعالى قبله وبعده ومعه، ويشهدون
قيام هذا الكون به جلَّ جلاله. قال الإمام أبو العزائم رضي الله
عنه:
من
يرى الغير فعالا فمنقطع لأنه مشرك قد
مال للسفل
وقال أيضا رضي الله عنه:
فمن
يشهد الأسباب تفعل فهو في ظلال مبين قاله
القــــرآن
ومن
شهد الأسباب تنبي بأنــها أواسط فيها
الفضل والإحسان
وهذا
شهود العارفين بربـــهم لقد خصهم فضلاً
به الرحـمن
وشهود المقربين لله سبحانه
وتعالى، الذي وضحته الآية الكريمة:﴿شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ الله
إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئمَاً بِالْقِسْطِ ﴾.
هو وقوع عين السر والخفا على جمالات الله، وكمالات الله، ومقامات
الله حتى شهدوه سبحانه في أنفسهم، وفي العوالم كلها، أنه لا اله إلا هو، وأنه قائم
على كل نفس بما كسبت، وأنه سبحانه قائم بالقسط والخير والبر والإحسان.
وهذا الشهود غير الإيمان، لأن الإيمان تصديق هذه الأخبار التي جاءت في
القرآن الكريم، والتي ذكرها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، في بيان معاني أسماء الله
وصفاته، وبيان معرفة الله وتوحيده. فالتصديق بهذه الأخبار هو الإيمان. وقد يقوى
هذا التصديق، وتعلو نسبته حتى يكتب العبد عند الله صديقاً. ثم تقوى ملاحظة هذه
الأخبار التي صدق بها العبد في نفسه، ويتم استحضارها في القلب، حتى يرتفع هذا
الاستحضار إلى مقام الحضور، فتصبح هذه الأخبار مشهودة. وهذا هو مقام المقربين.
والفرق واسع جداً بين مقامات الإيمان ومقامات اليقين وبين مقاما
التصديق ومقامات الشهود والتمكين، والمسافة بين هذه المقامات أكبر مما بين العرش والفرش.
وهذه الملاحظات إنما هي رحيق لأولى الألباب، ومزاج لأهل الحب والأشواق، ونعيم لأهل
القرب والوصال، يتذوقها من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
وإليك بعض الآيات والأحاديث التي تشير إلى مقامات المقربين وتكشف عن
معاملتهم لأنفسهم، وشهودهم لمقامات ربهم جلَّ جلاله.
قال تعالى: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ﴾. [68، القصص].
وقال جلَّ شأنه: ﴿فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾. [16، البروج].
وقال سبحانه:﴿وَمَا تشاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ
اللَّهُ ﴾.[30، الإنسان].
وقال تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾. [96، الصافات].
وفي معنى حديث آخر:{اللهم
لا مانع لما أعطيت، ولا معطى لما منعت، ولا راد لما قضيت، ولا ينفع ذا الجد منك
الجد ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم}.
فالجهاد
الأكبر هو جهاد المقربين، والجهاد الكبير هو جهاد الواصلين، وهو أن يجاهد الواصل
نفسه في تصحيح نواياها وقصودها، وهممها وإراداتها وعزائمها.
وجهاد
الواصلين هو جهاد النفس في التخلي عن فطرها وميولها وعاداتها ورغباتها وحظوظها
وشهواتها.
وجهاد
الواصلين هو مجاهدة أنفسهم في التخلق بأخلاق الروحانيين من عمار الملأ الأعلى، وفي
التحلي بمكارم الأخلاق العالية، التي كملها وتممها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هو الجهاد في التخلق
بأخلاق الله عزَّ وجلَّ
من الرحمة والحلم، والإحسان والود، والجود والكرم، وغيرها من معاني أسماء الله
وصفاته، وهذا هو الجهاد الكبير الذي يجاهد فيه الواصلون.
والجهاد
الأصغر هو جهاد أعداء الإسلام والمسلمين، والجهاد الصغير هو جهاد السالكين أنفسهم في
ترك الكبائر والمحرمات، وفعل الطاعات والواجبات، ولكل مقام مقال.
والسعيد
من أعانه الله، ووفقه للقيام بما أوجبه الله عليه في كل مرحلة من تلك المراحل، حتى
يفوز بأمله، ويصل إلى قصده، والشقي من حرم توفيق الله وتأييده في فترة من فترات
عمره، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.
يا حي يا
قيوم برحمتك أستغيث فأغثني، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا أقل من ذلك ولا أكثر،
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى الله وصحبـه وسلم.
المشهَدْ الأعلى
( 14 )
قوله رضي الله عنه:
( فهم بعيون السريرة غرقوا في عين الوحدة، وبأبصارهم شهدوا سر الحكمة
وبينهما برزخ لا يبغيان).
وعيون
السريرة هي العيون التي وهبت لهم من ربهم، ليروه بها جلَّ جلاله، وهى عيون النفخة القدسية التي
نفخها الله فيهم من روحه جلَّ شأنه،
وهذه العيون تشهد أنوار الواحدية، وأسرار الأحدية، وهو المشهد الأعلى حتى شهدوا
بهذه العيون تصريف الأقدار، وحقائق الأخبار فاستغرقت سرائرهم في هذه المشاهد وتلك
اللطائف والرقائق، أنسا بهذه المشاهدة وفرحا بها، وذلك معنى قول الله عزَّ وجلَّ:﴿قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ
وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾. [58، يونس].
أى خير
مما يجمعونه من الأعمال والأقوال، والأحوال والمجاهدات، لأن فضل الله يمنحه الله
من غير علة من العلل، ومن غير علم ولا عمل، لأنه فضل الله المتفضل، وعطاء الوهاب
المنعم، ورحمة الرحيم الرحمن، وقد قال الإمام أبو العزائم:
والفضل لا يعطى لعلة عامل
نزه إلهك عن سوى ومثال
والفضل فضل الله يعطى منه
بالحب في طه العزيز الغالي
والمقربون
وإن كانوا قد تعلقت سرائرهم بمشاهد التوحيد، بل بعين الوحدة التي هي سر الأحدية،
إلا أنهم شهدوا بأبصارهم أسرار الحكمة وغرائب تصريف القدرة. والأبصار هي العقل الذي
يعقل عن الله، والفكر الذي يتفكر في ألاء الله، والقلب الذي يتقلب في معرفة الله.
والحكمة التي
شهدوا أسرارها بأبصارهم، هي الحكمة في إيجادهم من العدم، وإمدادهم بالآلاء والنعم،
وكونهم عبيدا لله يقومون بتنفيذ أوامره واجتناب نواهيه، حتى تتحقق عبوديتهم له سبحانه وتعالى، لأن العبودية لا تتحقق إلا بطاعة
الأمر، واجتناب النهى، والمسارعة في إرضاء الله عزَّ
وجلَّ وإرضاء رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد خلق
الله بني الإنسان لحكم ثلاث:
الأولى:
خلقهم لمعرفته وعبادته. قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ
وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾. [56، الذاريات].
والثانية:خلقهم
ليتعارفوا ويتآلفوا ويتحاببوا ويتعاونوا.
قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا
خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائلَ
لِتَعَارَفُوا﴾. [13، الحجرات].
والثالثة:
خلقهم ليعمروا هذه الحياة الدنيا، باستخراج كنوز الأرض، واستنزال خير السماء،
وعمارة هذه الحياة على مبادئ العدل والرحمة، والإخاء والمساواة. قال تعالى:﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ
وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾. [61، هود].
أي طلب
منكم عمارتها بالعلوم والمعارف، والصنائع والفنون والاختراعات، وتجويد الإعمال،
واستخراج ما في الأرض من الكنوز، وما في الهواء من منافع وخيرات، وما في الفضاء من
المجرات والأفلاك، وغير ذلك حتى يستعمر الإنسان كل شيء على ظهر هذه الأرض، أو في
باطنها، أو في أجواز الفضاء والأرجاء، وإقامة العدل فيها.
وهذه
الحكم شهدوها بعين العلم والمعرفة، والتفكر والتذكر فالمقربون رضي الله عنهم، أصحاب العينين، عين السر والخفا
وعين البصيرة والوفا، عين تشهد الحق وعين تشهد الخلق. فعين السر والخفا، لشهودها
الحق تعذر الخلق، وتطلب الرحمة من الله لهم، والهداية من الله إليهم. وعين الشريعة
والبصيرة والوفا، تلوم وتحاسب من قصر أو حصل منه بعد وجفاء.
فبالعينين
يبصرون ويشهدون، وعلى ربهم يتوكلون، ويعطون لكل ذي حق حقه. وقد ذكر الله تبارك
وتعالى المقربين في القرآن، وأثنى عليهم ورفع ذكرهم، وامتدحهم تعظيماً لقدرهم،
فقال تعالى:﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي
جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾. [10- 12،
الواقعة].
وضحت هذه
الآية الشريفة أن المقربين هم السابقون. ومعنى كونهم سابقين، أنهم يسبقون غيرهم
إلى كل فضيلة ومكرمة، وإلى كل بر ومرحمة، وإلى كل خلق كريم ومحمدة. لا يصعب عليهم
شيء في ذات الله، ولا يغلبهم أحد إلى رضوان الله. وذلك معنى قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا
وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ﴾. [139، آل عمران].
وبين عيون
السريرة وأبصار الحكمة والفضيلة برزخ لا يبغيان. والبرزخ هو المسافة التي بين
المشهدين، والحاجز الذي يكون بين مشاهد عين الوحدة ولو مع أسرار الحكمة، حتى لا
يبغى مشهد على مشهد، ولا تطغى عيون السريرة بمشاهدها على عيون البصيرة في حكمتها.
وهذه المقامات يكرم بها أهل القرب من الله عزَّ
وجلَّ، لأن الله تولى سياسة أمرهم، وتدبير شأنهم، ولم يتركهم طرفة عين ولا
أقل، بل كان الله لهم ومعهم، يحفظهم ويرعاهم لكمال تسليمهم، وقوة يقينهم، وأصبح
الله ورسوله عوضاً لهم عن كل شيء.
يا الله،
أنت ربى، وأنت حسبي، وأنت وليي، وأنت وكيلي، وأنت على كل شيء قدير، فنعم الرب ربى،
ونعم الحسب حسبي، ونعم الولي وليي ونعم الوكيل وكيلي. وهذا مقام عبد فارق الأغيار،
وأقبل بكليته على العزيز الغفار، ففاز بمطلوبه، وأنس بمحبوبه، وتنعم بقربه، أولئك
لهم الرفيق الأعلى من الجنة على أثر سيدنا رسول الله صلى
الله عليه وسلم. وقد قال الإمام رضي الله عنه:
يا ويحهم مما بهم في دهشــة
وحبيبهم أنواره لا تحجــب
قد كنت أعذلهم فلما ذقت ما
ذاقوا صرت لهم أحن وأرغب
العبودة الحقة
( 15 )
قوله رضي الله عنه:
( فلا عباب مشاهد التوحيد يبغى على برزخ الحكمة، فيفنى حقيقة العبودة،
ولا مكفوف موج الحكمة يبغى على مسجور القدرة، فيحجب أنوار التحقيق )
والعباب
هو شرب الماء أو اللبن ونحوه عباً، بشراهة واستيعاب. والذين يشربون مشاهد التوحيد،
تصير هذه المشاهد تملأ نفوسهم، وتسيطر على سرهم، حتى أنهم يكرعون من هاتيك الحقائق،
وهم في غاية التمكين، فلا تفنيهم ولا تغيبهم هذه المشاهد العلية عن حقيقتهم
العبدية، بل يقومون بجميع ما عليهم من التكاليف وطاعة الأمر، احتراماً لسيدنا رسول
الله صلى الله عليه
وسلم وتأدباً
لله جلَّ جلاله، وحفظاً
لمكانتهم العبدية.
فلا تبغي
مشاهد التوحيد العالية على أسرار الحكمة، فيصير العبد في هذه الحالة روحاً صرفاً،
وملكاً لا يأكل ولا يشرب ولا يتزوج، ولا يقوم بعمارة هذه الحياة الدنيا لعدم حاجته
لشيء منها، بل يكون ممحوقاً فانياً عن نفسه وعن كل ما حوله، لأنه غرق في بحار
التوحيد، بحيث يرى أن العوالم كلها هلكت وفنيت بالفعل، وأن الله سبحانه هو الحي
القيوم، ولا شيء من العوالم كائـن أو موجود، والأزل الأبد قد اتحدا لديه، فلا فرق
بينهما، وعند ذلك يفقد الحكمة التي أقامها الله من أجلها وخلق الكائنات بسببها.
ولما ذهب رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يسألون عن عبادته، فلما
أُخبروا بها كأنهم تقالوها، وقالوا: أين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد غفر الله له ما تقدم
من ذنبه وما تأخر.
وقال
أحدهم: أما أنا فأقوم الليل أبداً، وقال الثانى، وأما أنا فأصوم الدهر أبدا، وقال
الثالث: وأما أنا فلا أتزوج أبداً. فخرج عليهم رسول الله، وقال لهم: أنتم الذين
تقولون كذا وكذا، فقالوا: نعم يا رسول الله. فقال: أما أنا فأصوم وأفطر وأقوم
وأرقد وأتزوج النساء، فمن رغب عـن سنتي فليس منى .
قد ردهم
رسول الله للحالة الوسط، حالة الاعتدال التي تحفظ توازن الإنسان، وتعطى لكل حقيقة
نصيبها من هذه الحياة. فالروح لها حاجتها، والجسم له ضرورياته، والنفس لها فطرها
وعوائدها، والحس له متطلباته. كل ذلك في حدود الشرع الشريف، وفي ظل آداب الإسلام
الحنيف.
وقد أكرم
الله الإنسان بالعقل، الذي هو عين الحكمة، التي تميز بين جميع الأمور، وتضع كل شيء
في نصابه، وهنا تستقيم الفطرة، وتسير الحياة ما أراده الله، من تحقيق خلافة
الإنسان عن ربه في هذه الأرض، وقيامه بواجبات هذه الخلافة عن الله عزَّ وجلَّ، وعن رسله وأنبيائه.
( ولا
مكفوف موج الحكمة يبغى على مسجور القدرة )
ومعنى ذلك
أن أمواج الحكمة إذا توقفت، أو انكفت وصار العبد يخضع كل أمر، ولو كان من الغيوب
القدسية لعقله، ويتسلط عليه بفهمه وإدراكه، ويحكم على قدرة الله عزَّ وجلَّ، ويقف عند الأسباب، غير ناظر إلى
ما وراءها من القوة الإلهية العظمى، التي تفعل بسبب ومن غير سبب، لأن الأسباب
مخلوقة لله عزَّ وجلَّ
مثل المسببات، وقدرة الله فوق الأسباب والمسببات، لا يغلب الله غالب ولا يفوت الله
هارب، ولا يعجزه شيء في السموات والأرض، ولا في الدنيا والآخرة وهو العلى القدير.
فإذا لم
يتخطى العبد هذه العقبات، ووقف عند همته وعلمه، وعقله وفهمه، يحجب عن أنوار
التحقيق، التي تجعل العبد يتحقق ويتيقن، أن قدرة الله عزَّ وجلَّ مطلقة لا قيود عليها من أي أحد،
وأن الله يفعل ما يشاء، بسبب وبغير سبب، وأن الأسباب هي رحمة من الله بنا، حتى لا
يختبرنا الله بما تعيا العقول به من الأمور التي لا تقوى العقول على إدراك الحكمة
منها، ومعرفة المراد منها لله عزَّ وجلَّ.
وهذا هو مقتضى
كمال التنزيه الحناني، والعطف الرباني، وكذلك ما تفعله القدرة من غير سبب، ولم
تظهر فيه سر الحكمة للإنسان، فإن ذلك يعنى عجز الإنسان وجهله بمقامات الربوبية،
وعظمة القدرة العلية، وأسرار العلوم الإلهية، فيدوم قهر الإنسان لقهار قادر، عالم
مريد، خالق مبدع، لا يسأل عما يفعل ولا عما يترك، فله الأمر وله الخلق، وبيده
الملك والملكوت، وهو صاحب العزة والكبرياء والعظموت والجبروت، وكذلك صاحب الرحموت
والنعموت. قال الله عزَّ وجلَّ:﴿وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ
قَدْرِهِ﴾. [91،
الأنعام].
ومعنى
مسجور القدرة، أن الذي يحوم حول بحر القدرة المسجور، يعنى المتأججة ناره، المستعر
لهيبه، لا يلبث لحظة إلا وقد هلك واحترق لأن الأقدار القدسية، لا يخوض فيها أحد
إلا ضل ضلالا بعيداً. وأن القدر بحر لا ساحـل له، ما زلقت فيه قدم أمريء ونجا.
وما
للإنسان وللخوض في بجار الظلمات المتسجرة بنيران القهرمان الجلالي، والإنسان ضعيف،
وأضعف من الضعيف، لو ذبابة أو بعوضة، أو نملة أو بقة، تسلطت عليه لأذته وأقلقته،
وحرمته من راحته واستقراره. ومع هذا الضعف يريد الإنسان أن يفجر أمامه، ويطلع على
غيب العزة والجبروت، ويحكم بعقله المكسوف على من خلقه من العدم.
أفق أيها
الإنسان، وتعرف على نفسك أولا، فقد جهلت تركيبك ولم تعرف كيف تسير الأجهزة والقوى التي
كونك الله منها، وجعل لكل جهاز منها وظيفة يقوم بها بقدر معلوم، وحساب معدود، بحيث
لو اختل أو توقف لهلكت، ولم تقدر أنت ولا غيرك أن تفعل شيئا ً.
يا إنسان
لو عرفت نفسك لعرفت مقام ربك، وقدر ربك، وعظمة ربك، فخشعت لجلاله، وسجدت لعظمته،
وذللت لعزته، وتمسكنت لكبريائه وانكسر قلبك من عظيم هيبته.
لو علمت
أن الله سبحانه عند المنكسرة قلوبهم من أجله، لفررت إلى الله ورسوله من كل شيء يشم
منه رائحة الغرور، من علم أو عمل أو مقام أو رتبة أو جهاد، أو غير ذلك، حتى تتحقق
بأنك أنت العبد الحقير الفقير، المنعم عليه بنعمة الإيمان والإحسان، والإسلام
واليقين، والمؤيد بروح من عند الله عزَّ
وجلَّ، لتقوم بمراسم العبودية الصادقة، وأنت لا فضل لك في أي من ذلك، سر
قول الله عزَّ وجلَّ:﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ
أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ
عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾. [17،
الحجرات].
فالفضل من
الله، وإلى الله يعود، والمنة لله ولرسوله صلى
الله عليه وسلم.
وأنوار
التحقيق، أن يتحقق العبد بمكانته العبدية، من العجز والجهل والاضطرار وأن يتحقق
بمقامات الألوهية، من العظمة والعزة، والجلالة والرحمة، والإحسان والإكرام. وهذا
هو العبد الممنوح العطية، المقرب من رب البرية، سر قول الله جل شأنه:﴿لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ
الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ﴾. [64، يونس].
وسر قوله عز شأنه: ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ﴾. [62- 63، يونس].
والمقربون
رضي الله عنهم، في مقام
خطير، ومركز كبير، لأنهم يحيون بين مشاهد التوحيد العلية، وبين أسرار الحكمة
الروحانية، وهذا من أجل المنازل وأكبر المراتب، فليس فوقه إلا مقام ورثة الرسل عليهم الصلاة والسلام، ثم مقام
رسل الله الذي علا فوق كل مقام.
ومعنى
انكفاف موج الحكمة أي منع الإنسان له من الانسياب في مساره الصحيح. بمعنى أن يفرط في
طلب الحكمة واستعمالها، فلا يبحث عنها في نفسه ولا في غيره، بل يكف نفسه عن البحث
والطلب والاستقصاء في معرفة خواص الأشياء، وسر وجودها، وحكمة أمدادها، ومعرفة ما
يجب أن يقوم بعمله، بشروطه وأركانه، وآدابه وكيفياته، ومالا ينبغى أن يقوم به مما
هو محرم ومكروه، ومعرفة ما يجب عليه أن يؤمن به ويصدق به ويعتقده، حتى تستكمل
النفس معارفها وأعمالها، وأخلاقها وآدابها، وتتمكن من قيادة الجسم وما فيه من
القوى، للعمل النافع في الدنيا والآخرة، والعلم الرافع في الدنيا والآخرة.
والحكمة هي
استكمال النفس للمعارف التي تقوم على أساسها عمارة الدنيا والآخرة. والحكمة هي وضع
الشيء في موضعه بدون تزيد أو انتقاص، بحيث ينصلح كل شيء إلى الكمال والجمال، وذلك
معنى قول الله سبحانه وتعالى:﴿ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ
أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾. [269، البقرة].
والخير
الكثير لا حد له ولا عد. وإذا رأيتم العارفين بالله فأقبلوا عليهم، فإنهم يتلقون
الحكمة من الله ورسوله ويلهمون الفقه في دين الله وفصل الخطاب وقد قال قائلهم:
رب جوهر علم لو أبوح به لقلتم
أنت ممن يعبد الوثنا
ولاستحل قوم صالحون دمى يرون
أقبح ما يأتونه حسنا
والحكمة
لها رجالها وأهلها، وقد ورد في الحديث الشريف:{لا تحرموا
الحكمة أهلها فتظلموهم ولا تعطوها لغير أهلها فتظلموها}.
وقد قال
سيدنا عيسى عليه السلام:
(لا تعلقوا الدر في رقاب الخنازير).
وقال
الإمام أبو العزائم رضي الله عنه:
أخشى على الدر أن يلقى بمزبلة
فيزدرى وأخون الحق والدنيا
فأهل
الحكمة في الحقيقة هم أهل مشاهد التوحيد العالية، بل أهل مشاهد التوحيد بالواحد
الأحد جلَّ جلاله،
فأطلعهم الله على سره، وكاشفهم بغيبه، وهم أمناء الله وورثة رسله،وخلفاء الله وأوصياء
رسله عليهم الصلاة والسلام.
والحكمة
قد أمرنا سيدنا رسول صلى الله عليه وسلم
بطلبها عند أهلها. فقال عليه الصلاة والسلام:
{الحكمة ضالة المؤمن يأخذها أنى وجدها ولا يبالى في أي وعاء خرجت}.
والمقربون
بذلك الحال الكريم، يكونون علماء حكماء عرفاء، كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء،
يحفظون النبوة بين جنوبهم إلا أنه لا يوحى إليهم. اللهم اجعلنا منهم حتى نكون أهلا
لقربك، وأهلا لودادك وعطفك، والصلاة والسلام على نعمتك التي قد أسبغتها علينا
ظاهرة وباطنة وعلى الله وصحبه وسلم.
وحقيقة
الإنسان المقرب، وهى قلبه، ميدان لهذه المقامات وتلك المشاهدات، وساحة لهذه
الأسرار، وأفق لهذه الحكم، لأن القلب هو الذي يتقلب في هذه اللطائف والرقائق،
والمنازل العالية والمراتب القدسية.
والمقربون
عكفوا بقلوبهم على حضرة الحق سبحانه وتعالى،
فطهرها الله لهم، وقدسها الله له، حتى صارت بيتا له جلَّ جلاله، يتنزل فيه بمعاني أسمائه وصفاته،
ومعاني كمالاته وجمالاته، وجلالاته وبهائه وضائه، وقد ورد في الحكمة عن الإمام أبى
العزائم:( القلب بيت الرب فطهره له بالحب )
والمقربون
أشد الناس حباً لله، لكمال يقينهم أنه سبحانه أولى بهم وأرحم بهم، وأحن عليهم
وأقرب إليهم من نفوسهم التي بين جنوبهم، فأحبوه سبحانه حباً روحانيًا معنويًا
قدسياً، لكمال تفضله سبحانه وتعالى
عليهم بالنعم الظاهرة والباطنة، بل بمواجهته لهم وكشف الحجاب عن وجهه الجميل لهم،
فرأوه بلا كيف وحيطات، ولا رسم وهيئات. قال الإمام أبو العزائم:
لاح الجميل لمهجتي بجماله
فتهيجت روحي لوجه الباقي
لمن الحنين يا أولى الأشواق
هذا حنين الروح للخـلاق
الفضل العظيم
16 ـ قوله
رضي الله عنه:
( وهو الجهاد الأكبر لأنه في ذات الله تعالى، وأن الفضل بيد الله
يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم )
هذا
البيان من الإمام رضي الله عنه
هو عين الحكمة، وهو حقيقة العلم اللدني الذي يدار من حضرة القدس الأعلى على قلوب
الورثة، الذين اصطفاهم الله وورثهم علم الكتاب، وعلم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأحل ما
ملك الإنسان من الدنيا مال ورثه عن أحد أبويه، أو أحد أقاربه، فهو يتصرف فيه كيف يشاء
لأنه تملكه بطريق قوى جداً من طرق التملك، وهو الميراث. لا يحتاج فيه الإنسان إلا
أن يثبت قرابته من المورث، ويثبت كذلك أحقيته ونصيبه من الميراث، وقد يكون وارثاً
واحداً منفرداً، يحوز جميع التركة.
فعلوم
الوراثة، هي علوم يتفضل الله بها على خاصة الخاصة من أولياء الله تعالى المقربين
من جنابه العلى، حتى يقوموا لله سبحانه بالحجة البالغة على عباده، يبينون ما خفي
من معالم الدين، وما اندثر من آثار السلف الصالح يمدهم الله بروح من عنده ويلهمهم
الصواب والرشاد في كل شيء، ويجعل لهم نوراً يمشون به في الناس، ويظهرون به آيات
الله وبيناته. وقد قال الإمام على رضي
الله عنه: (اللهم لا تخل الأرض من قائم لك بحجة، إما
ظاهراً مشهوراً وإما باطناً مستوراً، لئلا تبطل حجج الله وبيناته)
والذين
اصطفاهم الله سبحانه وتعالى
لحمل أمانة رسله، إنما هم أفراد، طهرهم الله إليه، وأقبل بهم عليه، وعلمهم ما لم
يكونوا يعلمون، وشرح صدورهم، وأنزل فيها مكنون علمه، وغيوب سره، وأسعدهم بقربه
وآنسهم بحبه، وجعلهم رحمة للناس وهدى ونوراً لأهل التسليم والانقياد.
وهذا
الصنف من عباد الله، هم المقربون، ومع قربهم من الله سبحانه، ومن رسوله صلى الله عليه وسلم. فهم يجاهدون الجهاد
الأكبر في ذات الله تعالى وفي ذات رسوله صلى
الله عليه وسلم. لأن العبء الذي ألقى عليهم ثقيل
جداً، والرسالة التي كلفوا بها شاقة، ونفوسهم لا يأمنون جانبها من الهجوع أو
الفتور، في أداء ما أمرهم الله به من تبليغ رسالات الله، وهداية الخلق إلى الله
نيابة عن رسوله صلى الله عليه وسلم،
ولذلك لا يغفلون إذا غفل الناس، ولا يستريحون إذا نام الناس ولا يطمئنون إذا أمن
الناس، لأن الخطب جسيم، والأمر عظيم جداً، والله من ورائهم محيط، سر قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا
ثَقِيلًا﴾. [5، المزمل].
وهذا
الجهاد الذي يقومون به لله عزَّ وجلَّ
في كل وقت وآن، وصار فطرة لهم وسجية وأصبح شيئاً في دمائهم وحياتهم. قال الإمام
أبو العزائم رضي الله عنه:
(جهاد العدو ساعة وجهاد النفس إلى قيام الساعة).
وقد ورد في
الأثر: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر).
والسلطان
الجائر هو ما يتسلط على الإنسان في الظاهر أو الباطن ويقهره على مخالفة الله
ورسوله.
والجهاد
فرض عين على الورثة الذين أقامهم الله أبدالاً عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ولا يسقط عنهم حتى تقوم الساعة. وأهل القرب يتجدد جهادهم، وتتنوع ميادين جهادهم،
وقد يتعجب الإنسان من عبد مقرب من الله سبحانه
وتعالى، وهو مجهود مكدود، ذلك لأنه كلما عظمت النعم على العبد وكثرت
الأيادي عليه، زادت عليه الفرائض والمسئوليات، وقويت لديه المجاهدات وذلك حتى لا
يظن إنسان، أن المقربين في شغل عن الجهاد بقربهم، كلا، لأن جهادهم ليدوم قربهم،
ويزيد علمهم وأنسهم بربهم، ولهم في كل نفس جهاد وفي كل لحظة رقى وكمال.
وإذا
انتقلوا من الدنيا، فإن رقيهم دائم في عالم البرزخ، لأنهم ماتوا في الجهاد، فهم
شهداء عند ربهم وعند رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومعنى كونهم شهداء، يستمرون في مشاهدهم وشهودهم ورقيهم وأنسهم. قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ
وَرُسُلِهِ أُوْلَئكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ
أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ ﴾. [19، الحديد].
وجهادهم
بالعمل والقول، وبالقلب وبالفكر، وببذل النفس والأولاد والأموال وبذل كل مألوف ومحبوب
ومرغوب فيه، عن طيب نفس وارتياح، وفرح وانشراح لا يضنون على الله ورسوله بشيء، لأنهم
ليس لهم في أنفسهم ولا في أموالهم وأولادهم شيء، ويشهدون أن كل شيء هو ملك لله عزَّ وجلَّ، وهم أمناء الله عليه، يؤدون هذه الأمانات
لله ورسوله، بل يستصغرون ما يبذلونه وما يقومون به من جهاد وأعمال في ذات الله،
فإن الله عزَّ وجلَّ
هو الغنى عن كل شيء ولا يحتاج لأي شيء من مخلوقاته، ولكن العبد المقرب، المحبوب،
يجاهد في التقرب من محبوبه سبحانه، وفي إرضائه عزَّ
وجلَّ بكل ما لديه، ليفوز برضوانه سبحانه
وتعالى.
والعبد
المقرب لا يرى أن جهاده هذا هو الذي يقربه من الله، وإنما يقوم لله بما أوجبه الله
عليه، وبما رغبه فيه، امتثالا لأمره، ومسارعة في طاعته. والقرب الذي مَنَّ الله به
عليه، إنما هو من فضل المتفضل، وعطاء المعطى الوهاب وهو بسابقة الحسنى من الله عزَّ وجلَّ، فكم من طالب للقرب لا يحصل عليه،
وكم من مجد حرم الوصول إليه، لأن السابقية سبقت لأهلها، والفضل من الله وإليه.
وإن العبد
المقرب، لا يشهد إلا فضل الله عليه، قد أكرمه الله به، ويوقن بأن ما أقامه الله
فيه من المقامات الكريمة، والأخلاق الحميدة، والأعمال الصالحة والمجاهدات الفادحة،
إنما هي دلائل الحب من الله، وعلامات الإقبال من الله عليه والقبول والرضا من الله
عنه، فهو يحمد الله على ما أولاه، وقد جاء في الحكمة عن الإمام أبى العزائم رضي الله عنه: (إذا أحببت أن تعرف عند الله
مقامك فانظر فيما أقامك).
وأهل
القرب رضي الله عنهم،
يعملون ويجاهدون لذات الله، وهم في قربهم، فحركتهم وسكونهم لله سبحانه، فلا يطلبون
بعملهم هذا القرب من الله، وإنما يعبدون الله سبحانه مخلصين له الدين. وقد قال
الإمام أبو العزائم رضي الله عنه:
(لا تعبد الله لتنال الأجر فتكون عبدا للأجر، ولا تعبده لتنال القرب فتكون عبدا
للقرب، واعبد الله لذات الله لا طمعاً في ثواب ولا رهبة من عقاب).
قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا
لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ
وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾. [5، البينة].
وأهل
القرب رضي الله عنهم،
يخشون من قربهم، ويرهبون جنابه جلَّ جلاله،
لأنهم في معاينة الحق سبحانه، ومشاهدة جلاله ومقاماته العلية، فكلما اشتد رب العبد
من ربه، كلما اشتد خوفه. قال صلى الله عليه وسلم:[إن
أعلمكم بالله أنا، وإن أقربكم من الله أنا، وإن أخشاكم وأتقاكم لله أنا}.[11]
وأضرب لك
مثلاً يقرب الحقيقة لعينيك، إنسان قريب جداً من السلطان، ويرى بعينه عظمة السلطان
وعزته، وقوته وسلطانه، وإنسان بعيد عن السلطان، ولا يعرف عنه إلا القليل، ويجهل
عنه الكثير، لا يستوي هذان الرجلان في احترام السلطان وتوقيره وتقديره، والخوف من
سلطانه وقوته، بل قد يسب الرجل البعيد السلطان لأنه لا يراه ولا يسمعه. وهذا المثل
لتقريب الحقيقة فقط للعقول، وبالمثال يتضح البيان، قال تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا
لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾. [21، الحشر].
وقد يخاف
أهل القرب من البعد وهم في قربهم، ومعنى ذلك أنهم يخافون أن يعرض الله عنهم، ولا
يقبل بوجهه الكريم عليهم، لأدنى حركة تهمس بها قلوبهم في هذا المشهد العلى، أو أقل
خاطر يخطر عليها، وهم في هذه الحظوة القدسية. قال سيدنا أبو بكر رضي الله عنه: (لا أمان لمكر الله ولو كانت أحدى
رجلي في الجنة).
وقال
الله جل شأنه:
﴿ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ
إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ﴾.[99، الأعراف].
وقال
الإمام أبو العزائم رضي الله عنه:
خوف بعدى في القرب نار جحيمي شيب الرأس سره أعياني
وقال رضي الله عنه: (لا أمان لمكر الله ولو كانت
رجلاي في الجنة، فقد أخرج أبوك آدم منها وقد كان فيها).
وهذا مقام
رهيب، ومركز خطير جداً يبينه الإمام رضي
الله عنه، حتى لا يغتر أحد بعلمه أو عمله، أو قربه أو
مقامه أو جهاده حتى ولو أعطى البشرى ونال الأمان من الله عزَّ وجلَّ، فقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد الناس خوفاً من الله،
وهم المبشرون بالجنة من الله ورسوله.
وذلك
حفظاً على الناموس الإلهي الذي وضعه الله بينه وبين عباده، من الوقوف بالأدب عند
الطلب، والخوف من الحرمان بسبب سوء الأدب، وأن يحرص الإنسان على مكانته العبدية من
دوام الذل والخشية، والخضوع لله عزَّ وجلَّ،
وتلك هي الأخلاق التي ينال العبد بها الحب من الله عزَّ وجلَّ والقرب منه سبحانه.
مولاي أدبنا بالكشف أيدنا
حتى ننال شهود العين بالعبد
والله سبحانه وتعالى متفضل على كل ذرة من ذرات هذا
الوجود بما تحتاجه، من الإيجاد والإمداد، والرعاية والعناية، وقد اختص الله كل عبد
من عباده، من الإنس والجن والملائكة، بقسط من فضله، بحيث يشعر كل منهم بما أمده
الله به، وتفضل عليه، فيقوم بشكر الله عزَّ
وجلَّ على قدر معرفته بفضل الله عليه. وقد وهب الله العظيم فضله لخاصة
الخاصة من كمل أوليائه، وورثة رسله عليهم
السلام حتى استغرقوا في شهود هذا الفضل العظيم، وعجزوا عن الإحاطة به لأنه
عظيم جداً، وقاموا بشكر الله على عظيم لفضله عزَّ
وجلَّ، حتى تحققوا بكمال العجز عن الشكر، وذلك هو عين الشكر.
فتقبل
الله منهم، وأقبل عليهم وواجههم بوجهه الجميل ، وقربهم وأدناهم، وبشرهم وحياهم،
وذلك مقام ليس للعبارة فيه مجال، ولا للإشارة فيه مكان، ولكنه مقام الكشف والذوق
والشهود، والله ذو الفضل العظيم.
يا عظيم
يرجى لكل عظيم، اكشف عنا الحجاب والغين، وقربنا إليك من غير بين ولا أين بجاه
سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم،
إنك سبحانك ذو الفضل العظيم.
واعلم
أيدنى الله وإياك، وهدانا الله جميعاً إلى الصراط المستقيم، أن مقامات الوصول
والقرب من الله عزَّ
وجلَّ، ومن
رسوله صلى الله عليه وسلم،
لا تتوقف على الأعمال والرياضات والمجاهدات فقط، وإنما هي فضل الله يؤتيه من حب من
عباده ويهبه من يشاء من أوليائه..
وقد وهب
الله الإنسان الحياة والرزق، والسمع والبصر، والشم والحس والذوق، وسائر الأعضاء
العاملة في البدن، وكذلك سخر للإنسان جميع ما في السموات وما في الأرض من غير أن
يعلم الإنسان عن ذلك شيئا ومن غير أن يعرف الإنسان مدى حاجته لهذه الأشياء، ومن
غير أن يطلب الإنسان من الله شيئا منها، بل من قبل أن يخلق الله الإنسان، كل ذلك
بمحض الفضل والإحسان من الله عزَّ وجلَّ،
حتى لا ينسب الإنسان لنفسه شيئا من ذلك، لأن الله ذو الفضل العظيم، فقبل أن يوجده
أعد له وجهز له ما لا بد له منه وأزيد. وكذلك مقامات القرب من الله عزَّ وجلَّ،
إنما هي محض فضل منه سبحانه، وإلا كان من الممكن أن يصل إبليس وأمثاله بعلمهم
وعملهم إلى الله عزَّ وجلَّ.
فكم من
عامل حرم القبول، وكم من سالك رد دون الوصول، وكم من طالب للقرب لمن ينل غير
الإبعاد والطرد، وأن الفضل بيد الله ولا حول ولا قوى إلا بالله. وقد قال الإمام
أبو العزائم رضي الله عنه:
ليس الرقى إلى العليا بأعمال
ولا الوصول بأسرار وأحوال
ولا بعلم به تغوى ولا أمـل
ولا جهاد بأبدان وأمــوال
لكنه منة من فضل واهبـه به
تعد جميلا بين أبــــدال
خلق عظيم وإيقان ومعرفة بالله
ذي الفضل والإحسان والوالي
إذا عرفت مقام الله خفت وفي
خوف المقام تنال القرب بوصال
وهذا هو
مقام الفناء عن الأعمال والأحوال والأموال، بحيث لا ينظر العبد إلى هذه الأشياء
عند قيامه بها، ولا ينظر لنفسه، ولا ينسب لها وجود هذه الأعمال لأنه في مقام حق
اليقين واليقين الحق، فلا يشهد إلا الله موفقاً ومعيناً، وهاديا وفاعلاً ومريداً،
وعالماً وبصيراً.
وقد وهب
الله هذه الصفات منه لعبده، فصار بها عبداً مقرباً، قائماً لله بكل ما أوجبه الله
عليه، بمعونة الله، وفضل الله وتأييده، فلا يشهد في قربه إلا القريب، ولا يرى في
فعله وعمله إلا الفاعل المريد، ولا يرى في أحواله إلا الرقيب الحسيب، ولا يرى في
حركته إلا الهادي المعين، ولا يرى في عمله إلا العليم الخبير، ولا يرى في همته
وعزيمته إلا القوى المتين، وتلك هي مكاشفات المقربين، ومواجهات المطلوبين
المحبوبين.
وإذا نظر
الإنسان إلى نفسه وجدها عدماً ولم تكن شيئا مذكوراً، وأنها صارت بالله كل شيء.
﴿الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا
لِهَـذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ﴾. [43، الأعراف].
فالزم
رتبتك تحظ بنوال حاجتك، والله يتولى هداك. وقال الإمام أبو العزائم رضي الله عنه في الحكمة:(من أراد الوصول فعليه
بعبد موصول، وعليه بحفظ الأصول، وأول أصل من الأصول ﴿فَاسْأَلُواْ
أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾. [43، النحل].).
والإنسان
الكامل،والفرد الوارث، إذا أهدانا حكمة من حكمه، فقد باشرت شغاف القلوب، لأنها علم
قريب العهد من بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم،
ولأنها من علوم الكشف والوهب اللدني، وعلم الإلهام والفيض القدسي.
وعلى طالب
الحكمة أن يخضع ويسلم ويقبل بقلب سليم على العبد الذي يفيض الله الحكمة على قلبه،
ويظهرها على لسانه، فهو كما قال الإمام أبو العزائم:
عبد ذات قد تحلى بالمعانى
والرقاق
وقال
أيضاً:
أيها الطالبون سر الألوهــة
بادروا باليقين كي تعلموها
أشرقت شمسها وكادت تغيب أسرعوا
تغنموا جمالا يليها
وطالب
الوصول إلى الله سبحانه، كالغريق في بحر لجي، لأن المطلوب عظيم جداً وهو الوصول
إلى الله. والعبد الموصول هو الذي ينقذ الغرقى من هذا البحر اللجي إلى شاطئ الأمان،
وهو الوصول إلى الله.
وأول واجب
على طالب الوصول، أن يبحث عن العبد المتصل بالله، الموصول بالله ورسوله فهو شاطئ
الأمان، وجودي السلامة والاطمئنان، وإذا أراد الله بعبد خير أكرمه بالعبد الموصول،
ووفقه إليه، وعرفه به، ورزقه كمال اتباعه، لأنه خبير بمقامات الوصول، ومراتب القرب
من الله عزَّ وجلَّ،
فقد قال تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا﴾. [59،
الفرقان].
وقال
الإمام أبو العزائم:
أنا الخبير فسلنى عنه أنبيكا
وسلمن لى إلى العليا أرقيكا
وقال
الإمام أبو العزائم: (يا بني أنا لا أدلك على الله، وإنما أوصلك إلى الله).
وقال
رضي الله عنه في
الحكمة: (من دلك على الدنيا قطعك، ومن دلك
على الآخرة حجبك، ومن دلك على العمل أتعبك، ومن دلك على الله أراحك).
وجاء عنه في
الحكمة رضي الله عنه
أيضاً: (الدنيا أخف حجاب من الجنة، والجنة أخف حجاب من الكرامة، والكرامة أخف حجاب
من كلمة كن، والكل بليته إلا الله).
والعبد
الموصول هو رحمة الله وعنايته لطالب الوصول، ولذلك قال الله تعالى حاكياً عن سيدنا
موسى في طلبه مرافقة الخضر عليه السلام:
﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن
تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾.
وليس هناك
تعبير في التلطف والترفق، والتملق للعبد الموصول فوق هذا التعبير، وهو طلب رسول
كريم، ونبي عظيم من عبد من عباد الله المقربين.
فقد بين
الله بذلك، الآداب التي تجب على طالب الوصول للعبد المقرب الموصول، الذي وهبه الله
العلوم اللدنية، وكاشفه بالغيوب القدسية، وأطلعه على الأسرار الربانية، ومع هذا
كله فإن طالب الوصول، بعد وجود بغيته، وهو العبد الموصول، وارث علوم الرسول صلى الله عليه وسلم،
لا يغفل نفساً عن حفظ الأصول، والمحافظة على الفروض والواجبات، والمسارعة في
النوافل والقربات والحرص على الرغائب والمستحبات، وهذا هو الشرط الثانى لطالب
الوصول.
لأن العبد
إذا تهاون في فرض من فرائض الله، أو تساهل في أصل من الأًصول أو في فرع من الفروع،
فإنه يكون بذلك سقيم النفس، مريض القلب، لا ينهض حاله إلى طلب الوصول، وإنما عليه
أن يصحح إيمانه وإسلامه، ويعالج أمراض قلبه حتى يبرأ من مخالفة الله ورسوله، وعند
ذلك يصح منه طلب الوصول، لأن الوصول في الحقيقة، هو التخلق بأخلاق الله، والتأدب
بآداب رسول الله، والتحلي بهذه المكارم، حتى يفوز بما عند الله من المغانم، وهذا
هو الوصول. وليس الوصول دعوى يدعيها الإنسان، أو كلمات يرتلها ويحفظها الإنسان،
وإنما هو التطهر من منازعات الحظ والهوى، وملابسات الشهوة والطمع، ونار الحرص والأمل
ويلبس لباس التقوى والزهد والورع، ويتجمل باليقين الحق في معاملة الله ورسوله.
وأول أصل
من الأصول، أن يسأل الإنسان الراغب في الوصول أهل الذكر عن ما لا يعلمه، من الأمور
التي تتعلق بتزكية نفسه، وتطهير حاله، وإعلاء همته، لأنه لا يصل إلى الله إلا بعلم
ومعرفة. والعلم والمعرفة التي وهبها الله لأهل الذكر، لا توجد في كتاب، ولا تسطر بمداد. قال صلى الله عليه وسلم: {إن من العلم كهيئة
المكنون، لا يعلمه إلا أهل الخشية من الله، فإذا ذكروه أنكره أهل الغرة بالله
تعالى}.[12]
وقال جل شأنه: ﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن
كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾.[43، النحل].
ولم يقل
سبحانه فاسألوا القرآن، أو اسألوا سنة رسول الله، لأن أهل الذكر لهم إشراقات خاصة،
والهامات ذاتية، وعلم لدنى يفاض عليهم من حضرة القدس الأعلى، لأنهم ذكروا الله في
كل شيء، وعند كل شيء وراقبوه في كل شيء،
وعند كل شيء فذكرهم الله وعلمهم ما لم يكونوا يعلمون.
فسؤال أهل
الذكر، فرض وواجب على كل عبد يطلب النجاة لنفسه ولأهله ورفاقه، فضلا عن طالب
الوصول إلى الله ورسوله. ولأن أهل الذكر لهم الهامات خاصة في فهم كتاب الله وسنة
رسوله، لا توجد في كتاب، وإنما تفاض عليهم من الله ورسوله.
وأهل
الذكر في الحقيقة، الذين أوجب الله علينا سؤالهم، عما لا نعلمه، هم الذين خرجوا من
سجون الغفلة، وقيود اللبس والظلمة، ولم يحجبوا بالخلق الجديد، عن القديم الأول جل جلاله.
ومعنى أهل
الذكر، يعنى أصحابه، المصاحبون له في كل نفس من أنفاسهم وفي كل حال من أحوالهم.
وهذا هو الذكر الأكبر الذي لا جهل معه، ولا غفلة فيه، ولا فتور عنه، وهم المقربون
من الله جل جلاله،
الملهمون منه الحكمة وفصل الخطاب.
اللهم ألهمنا
ذكرك وشكرك وحسن عبادتك يا رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى الله وصحبه
وسلم.
وقد قال
الإمام أبو العزائم رضي الله عنه
في حكمة من حكمة، تحت عنوان [الوصول بحفظ الأصول]:
( تحقق أن
الأعمال البدنية، لم يقم بها العبد عبثا، بل بوازع قلبي وهمة دعته للقيام بها. والهمة
التي توجه كمل الرجال لغايتها، من التربية والهداية، وهى الهمة في تطهير قلب
السالك، من الحظوظ التي تخالط العزيمة الباعثة على العمل، فإن الأعمال البدنية،
نتائج تلك المقاصد القلبية، ولا يكون لله منه إلا ما كان خالصاً لوجهه، لأنه
سبحانه علىُّ عظيم، غنى قادر، لا يحتاج إلى عمل الأبدان، ولا عمل القلوب، ولكنه
يحب من عبده الإخلاص لذاته سبحانه لأنه هو الذي منح العبد كل خير، وأمده بكل نعمة،
فالإخلاص لذاته سبحانه يكون كشكر للمنعم الحقيقي.
وامتزاج
الأعمال البدنية بتلك الحظوظ والأهواء، من الرياء وحب الشهرة وحب مدح الخلق، ونوال
العرض الفاني، وأن يقول الناس فلان مجاهد أو حاج أو صالح أو عالم يعد كشكر لغير
المنعم،وعمل غير خالص للمقصود به فيحرم
العامل بسبب نيته هذه رضا المنعم الحقيقي، وربما عوقب في الدنيا ولم ينفعه عمله
لأنه صدر عن عزم لغير الله تعالى، ونية في غير وجهه الكريم.
مع أن هذا
العامل، لو ذاق حلاوة الإيمان، وتحقق كمال التحقيق، بما يناله من إسباغ النعم،
وتوالى المنن، والرضوان الأكبر. والفوز في الدنيا والآخرة، لأخلص لهذا الرب الكريم،
ولبخل بنفس يتنفسه لغير الله، ولعد نفسه مشركاً عندا يحدث أمراً من صغير الأمور وكبيرها،
بغير نية صادقة، ووجهة صادقة لوجه الله تعالى.
فكيف حال
عامل يعمل بنيته لغير الله تعالى، من نوايا الحظوظ والشهوات الخفية ؟ أترك هذا
الحكم للبصير المتدبر.
فالسالك
طالب الوصول والقرب من الله تعالى، ولا يتنفس نفساً، ولا يتحرك حركة إلا وله نية
صادقة لله تعالى، حتى يكون حاضراً معه سبحانه لا يغيب جسداً ولا عزما. وهذا معنى
قوله صلى الله عليه وسلم:{أكثر
شهداء أمتي أصحاب الفرش، ورب قتيل بين الصفين لا أجر له}.[13]
لأنه قاتل
لا لإعلاء كلمة الله تعالى، بل ليقال أو ليغتنم.
فتدبر
أيها السالك، واحفظ أنفاسك ولحظاتك وأعمالك، وكن حاضر القلب مع الله تعالى، مخلصاً
في النية، فإنها أصل الأصول، ومتى سلم الأصل قبل الفرع وسلم.
والله
سبحانه وتعالى يمنحنا القبول والإقبال، ويحسن سريرتنا، ويجمل حالنا، ويحسن مآلنا،
إنه مجيب الدعاء.
وصلى الله
على سيدنا محمد وعلى الله وصحبه وسلم.
خاتمة
وهذا
الجهد المتواضع، قد تم بتوفيق الله سبحانه
وتعالى وعنايته، وفضله وإحسانه، وقياماً ببعض الواجب على، لأهلي وأخواني
المسلمين الباحثين عن الحقيقة، والراغبين في تزكية نفوسهم، وتطهير قلوبهم،
الطالبين لرضوان الله الأكبر، والفوز بمعية سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الدنيا والآخرة،
والأنس بالله سبحانه وتعالى،
في جميع أطوار حياتهم الكونية والبرزخية والأخروية، المشتاقين إلى الحظوة بمقامات
القرب ومنازل الحب منه سبحانه وتعالى
ومن رسوله صلى الله عليه وسلم.
وليس لي في
هذا العمل من فضل أو علم أو جهد، وأني استغفر الله العظيم ذي الجلال والإكرام، من
ذنوبي وكبائري، وعجلتي ونسياني، وخطأي وزللي وأساله جل جلاله، بجاه حبيبه الأعظم أن يتقبلني
وأخواني وأهلي وأحبابي، بقبول حسن، وأن يمن علينا بمننه التي امتن بها على كمل
أوليائه، وورثة رسوله صلى الله عليه وسلم،
إنه مجيب الدعاء.
وقد قام
أخي وحبيبي في الله ورسوله، الأستاذ فوزي محمد أبو زيد مدرس أول اللغة العربية
بمدرسة ميت حواي الإعدادية مركز السنطة محافظة الغربية، بمراجعة هذا الكتاب وتصحيح
أحاديثه، وطبعه على نفقته هو وأخوته من آل العزائم، إسهاما منهم في نشر هذه اللطائف
والمنن، التي امتن الله بها على العبيد المسكين، على جميع أخوانهم المسلمين، ورغبة
منهم في نوال فضل الله العظيم، وأجره الكبير في الدنيا والآخرة، والله من وراء
القصد وهو غاية الأمل.
وصلى الله
على سيدنا محمد وعلى الله وصحبه وسلم.