- خمرة المباني وخمرة المعاني

عدد المشاهدات:

أنشد رضي الله عنه قائلًا من قصيدة للإمام أبي العزائم قدس الله سره:

من يغني إذا أداروا الشـــــراب       ثم يصغى إذا المقــــــرب طابا

خمر قدس تدار للروح صرفًا       من ذاق حانها عن الكون غابا

حانها الآي والقــداح المعاني       إن أديرت لذي جفــــــــــاء أنابا

هذه خمر لا تغتال العقول، وهنا خمر تُضَيِّعُ العقول، فخمرة القرآن هي المعاني والبيان وهى توجد صحوة لكل المشاعر والأحاسيس، يعصرها العارفون من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويناولها للشاربين، فيبينون الآيات والأحاديث ويستخرجون منها المعاني التي تحي العقول والقلوب والأجسام.

وإن خمرة القرآن يتناولها أهل مقامات الإحسان لأنهم أحسنوا إلى أنفسهم وأحسنوا إلى غيرهم، فأحسن الله إليهم وسقاهم من خمر لذة للشاربين، وهذا بداية مقام الإحسان، ثم يكرم الله من يتناولها فيكشف له الغطاء، فيرى المنازلات الإلهية، ويشهد الواردات الرحمانية، فيُحِسُّ بأيادي المعطي الوهاب قد امتدت إليه من كل ناحية وعواطفِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد غمرته من كل جهة، فيتهنى بالحضرتين، ويسعد بوجوده في المشهدين.

وهذا التناول من خمرة القرآن يَشفي ما في النفس، ويَشفي ما في الجوانح والجوارح، ويحيي كل ذرة من جسد الإنسان قال تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾، [82، الإسراء].

ولقد انتهى نزول القرآن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن التنزيل أصبح اليوم من سماء القرآن فتنزل منه معاني الإحسان واليقين والحكمة والأحكام، وكل المعاني التي تبتهج بها النفس، وتسعد بها الروح، ويطيب بها الحس والجسم.

وإن الذي يتنزل من القرآن هو الشفاء وليس الدواء، فقد قال الله تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾، [82، الإسراء].

ولم يقل الله عز وجل ما هو دواء أو علاج، ولكن قال تعالى: ﴿شِفَاء﴾ لأن الدواء قد يعافه المريض لأي سبب من الأسباب، وقد يتعاطى المريض الدواء لكنه لا يشفيه، وذلك بخلاف الشفاء الذي يتنزل من القرآن فإنه يشفي العلل والأمراض المعنوية، بل والحسية بمجرد تناوله، وذلك إذا قويت عقيدة من يتعاطى هذا الشفاء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(عليكم بالشفائين العسل والقرآن).[1]

وقال الله تعالى في وصف القرآن: ﴿ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء﴾، [44، فصلت].

وعند ذلك تطيب حياة المؤمن في الدنيا وتسعد في الآخرة، قال الله تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾، [97، النحل].

يعني نحييه حياة كريمة طيبة (في الدنيا) والحياة الطيبة ليست في المتاع الكثير ولا في المال الوفير ولا في الجاه العريض، ولكنه في الرضا بما يسر الله من رزق وبما قدر الله من أمر. قال صلى الله عليه وسلم:

(إرض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس).

                                                                                    [رواه ابن عدي في الكامل عن ابن مسعود].

أما جزاء الآخرة فهو أعظم من أن يحيط به البيان أو يخطر على قلب أحد من بني الإنسان.
- خمرة الحب

دارت عليهم خمرة الحب التي      قدا وجهوا فيها بوهاب سلام

فخمرة الحب هي الشراب الذي يدار في مجالس الذكر والعلم، مثل الحال التي نحن فيها الآن، وإن الحب الذي جعله الله في القلوب يعمل في الأبدان نشوة واهتزاز وطربا وشوقا إلى المحبوب جلَّ جلاله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، أكثر من تأثير خمرة الأجسام على الأعضاء والجوارح والعقول، مع العلم أن تأثير هذه الخمرة يكون عكسيًا فيهد الأجسام ويضيع العقول ويهدم كيان الإنسان.

ولكن خمرة الحب التي سقاها الله لأحبابه هي طهور القرآن الكريم. وصافي الحكمة العالية التي منحها الله للحكماء، سر قول الله تعالى: ﴿وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ﴾، [15، محمد]. فقوله تعالى: ﴿أَنْهَارٌ﴾ ولم يقل بحار لأن خمرتها دائما تصب من أماكن عالية إلى أماكن منخفضة، فتظل الخمر متدفقة نقية صبوحًا لا تتغير ولا تفسد لأنها تجري دائما في أنهارها الصافية، شأن كل منهمر من عال إلى منحدر، ومنابعها القرآن المجيد والسنة المطهرة، فنتناولها وهي خمر معنوية ممزوجة ببيان العلماء الربانيين ومشاهدات الورثة الروحانيين فتبتهج بها النفس والفؤاد وينتشي بها الجسم. قال الله تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾، [23، الزمر].

وتتفاعل الأعضاء والجوارح مع المعاني والمشاعر فتحدث منه نشوة وصحوة لمدارك الإنسان، وتلين الأجسام إلى طاعة الله وإلى عمل البر والخيرات والمسارعة في الصالحات والقربات.

والاسم خمر ولكن الله عز وجل يقول أنها ﴿لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ﴾، أما خمر الدنيا ففيها مرارة وطعوم متغيرة تتقزز منها النفس، ويمجها الذوق السليم.

وإن العارفين بالله يعصرون من القرآن ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه الخمر ويناولونها للشاربين فتتهنى به قلوبهم، وتسعد بها أرواحهم، وتهتز بها جوارحهم، في طاعة الله عزَّ وجل وفي ذكره سبحانه وتعالى بالصورة المشروعة.

ومن ضمن خمرة القرآن المحبة التي غمرنا الله بأنوارها فإننا بدون الحب الذي يتفاعل في النفوس ويؤثر في القلوب لما اجتمعنا في هذا الهناء ولما استمتعنا بهذا الصفاء الذي تلقينا فيه من الله ورسوله الحكمة وفصل الخطاب، قال الإمام أبو العزائم رضي الله عنه :

الحب ما الحب نور الله يمنحه      أهل الصفا بدوام الود والحال

وهذا الحب هو الحب في الله ورسوله، والحب بروح الله يقرب البعيد ويوصل الحبيب حتى يتزاوروا ويتآنسوا ويجلسوا معا على حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فيواجههم الحق تبارك وتعالى بعواطفه ولطائفه ويتنزل عليهم بهباته وفيوضاته حتى يكون جل شأنه قريبا منهم قرب القرابة فكأنهم يرونه، أو يعتقدون اعتقادا قويا أنه سبحانه يراهم حيث كانوا وكيف كانوا وفي أي زمان كانوا.

وإن آثار التناول من هذه الخمر هو النظرات المحمدية، والواردات الإلهية، والعطاءات اللدنية وكل ما نتمناه ونرجوه من سعادة الدنيا ونعيم الآخرة. قال الإمام أبو العزائم رضي الله عنه:

الحب في الله نور يشرح الصدرَ      والحب في الله سر يرفع القدرَ

والحب في الله معراج الوصول له      من يعشق الله بالمحبوب قد ظفرَ

---

[1] رواه ابن ماجه وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن عبد الله بن مسعود

منقول من كتاب بريد الى القلوب 

لفضيلة العارف بالله الشيخ محمد على سلامة

مدير اوقاف بورسعيد سابقا

• غرّد
• شارك
• شارك
• شارك
• شارك