عدد المشاهدات:
أصول التصوف
- يمثِّل التصوُّف نزعة إنسانية، تعاقَب ظهورُها في حضاراتٍ مختلفة، بصور متفاوتة في التعبير عن شوق الرُّوح للتطهُّر والزُّهد فيما يتسابَق عليه الناس من خضرة ونضرة الدنيا، ورغبة في التعالي عن شهوات المادة، ونَبْذ حُطام اللذات؛ بُغية الارتقاء في سُلَّم الصفاء الرُّوحي، والتسامي في مراتب الكمال الخُلقي.
و هو ما فعله سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذاته، عندما كان يخرج كل عام في شهر رمضان ليختلي بغار حراء، وتجهز له زوجته الصفية التقية النقية السيدة خديجة رضى الله عنها: زاداً يكفيه الشهر.
وكان يختلي في هذا الغار مع الله، تارة يتفكر، وتارة يتدبر، وتارة يذكر الله، وتارة يتعبَّد على الملة الحنيفية - ملة إبراهيم عليه السلام - حتى قال أهل مكة في شخصه صلى الله عليه وسلم- قبل نزول الرسالة- لقد عشق محمدٌ ربه، وذلك من شدة
ولَم يكن المسلمون بِدْعًا في نزوع طائفة منهم - فُرادى وزَرافات - لنَبْذ زُخرف الدنيا، والسعي نحو زخرف الرُّوح، بيد أنَّ لكلٍّ خصائصَ تُميِّزه عنْ غيره مِن اختلاف وسائل، ومفارقة في الغايات، فيصير لكلِّ حضارة هُويَّتها في إبراز تلك النزعة الإنسانيَّة، بأن تَصبغَها بلغة ومُفردات وعقائد، تُناسِبُ نَسقها العام الديني والحضاري.
وكان سندهم في ذلك أن النبى صلى الله عليه وسلم أسس أول مدرسة في الصفاء السلوكي والعملي في دار الأرقم بن أبى الأرقم، وكانت قريبة من الصفا الآن، وكان يجتمع فيها مع أحبابه الثلة المباركة ... وكانوا لا يتجاوزون الأربعين
فمكث مع أصحابه في دار الأرقم بن أبى الأرقم؛ يؤهلهم ، ويجهزهم للعطاءات الربانية ؛ التى اختص الله تعالى بها عباده المؤمنين،
وأمر التصوُّف كأصلٍ له أبعاد وجذورٌ تاريخية ، أمَّا كظاهرةٍ بيِّنة للعِيان، تتميَّزُ عن غيرِها، ويمتاز أهلها بها، ، يقول ابنُ خلدون في كلامِه عن التصوُّف: "هذا العلمُ من العلومِ الشرعيَّة ، وأصلُه أنَّ طريقَ هؤلاء القوم لَم تَزَل عند سلفِ الأمَّة وكبارها من الصحابة والتابعين ومَن بعدهم، طريقة الحقِّ والهداية، وأصلُها العكوف على العبادةِ والانقطاع إلى الله تعالى، والإعراض عن زُخرف الدنيا وزينتها، والزُّهد فيما يُقبلُ عليه الجمهور من لذَّةٍ ومال وجاهٍ، والانفراد عن الخَلْقِ في الخَلوة للعبادة، وكان ذلك عامًّا في الصحابة والسلف، فلمَّا فشَا الإقبالُ على الدنيا في القرن الثاني وما بعده، وجَنَح الناسُ إلى مخالطة الدنيا، اخْتُصَّ المُقبلون على العبادة باسم الصوفيَّة والمتصوِّفة
- نشأت التصوف
- وتعدَّدت الأقوالُ حول بدايات ودواعي نشأة التصوُّف على عدَّة آراء:
ذهب بعض أهل العلم أن نشأت التصوف ترجع نسبه إلى أهل الصفة . وأهْلُ الصَّفَّة هم فقراء المسلمين من أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذين لم تكن لهم منازل يسكنونها، فكانوا يأوون إلى هذا المكان المظلّل في المسجد النبوي بالمدينة المنورة، وعُرفوا بأضياف الإسلام
- وللباحثين أقوال في تحديد زمن ظهور التصوُّف بين المسلمين، وهي:- (150 هـ ــــ 189هـ.)
والمؤثِّر الرئيس الأول في بزوغ بذرة التصوُّف، هو الحياة الاجتماعية للفرد، فلازَم بروز نزعة التصوُّف الشعور بتغيُّر الأحوال وسَيْرها من سيِّئ إلى أسوَأ، والاستدلال بفساد الظاهر على فساد الباطن، والنكير على طلاق العلم للعمل، فكان الزُّهد والنسك والتعبُّد - وهي من أساسيات مفهوم التصوُّف - في واقعها ثورةً نفسية على سوءِ سعي الناس في الدنيا، وانصرافهم عن الآخرة، وأخذ زُمرة العلماء والفقهاء صدارة المجالس للتفكُّه بالعلوم.
وقيل أنَّ التصوُّف نشَأ وترعْرَع في العراق بالبصرة؛ حيث برَزت أسماء كبرى أسهمَت في تأسيسه؛ منها: إبراهيم بن أدهم، وداود بن نصير الطائي، رابعة العدويَّة، معروف الكرخي، السري السقطي، الجنيد البغدادي، وبشر بن الحارث الحافي، أبو الحسين أحمد بن محمد بن عبدالصمد النوري، وأبو سعيد أحمد بن عيسى الخراز،وابن عطاء البغدادي، وابن عثمان المكي[1]، وغيرهم خَلق عظيم.
وقيل أولُ مَن بنى دويرة الصُّوفية بعضُ أصحاب عبدالواحد بن زيد[2]، وعبدالواحد من أصحاب الحسن البصرى، وكان في البصرة من المبالغة في الزُّهد والعبادة والخوف ونحو ذلك، ما لَم يكن في سائر أهل الأمصار؛ ولهذا كان يُقال: فقه كوفي، وعبادة بصريَّة"[3].
وأوَّلُ مَن عُرِف باسم صوفي في المجتمع الإسلامي: أبو هاشم الصوفي (150هـ)[5]، وكان ممن يُجيدُ الكلام[6]، قبل منتصف القرن الثاني الهجري، وأمَّا صيغة الجمع (الصُّوفية)، فقيلَ: ظَهَرت عام 199هـ.
وأوَّل من نقَل التكلُّم بلفظ "التصوُّف" في أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع الهجري - فقد تكلَّم به غيرُ واحدٍ من الأئمَّة والشيوخ - كأحمد (ت241هـ)، وأبي سليمان الداراني (ت215هـ)، وسفيان الثوري، والحسن البصري.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله -: "في أواخر عصر التابعين حدَث ثلاثة أشياء: (الرأي، والكلام، والتصوُّف)، فكان جمهورُ الرأي في الكوفة، وكان جمهورُ الكلام والتصوُّف في البصرة، فإنه بعد موت الحسن وابن سيرين، ظهرَ عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء، وظهَر أحمد بن علي الهجيمي (200هـ)، تلميذ عبدالواحد بن زيد، تلميذ الحسن البصري
يقول ابنُ الجوزي: "كانت النسبة في زمنِ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى الإيمان والإسلام، فيُقال: مسلمٌ ومؤمن، ثم حدَث اسمُ زاهد وعابد، ثم نشَأ أقوامٌ تعلَّقوا بالزُّهد والتعبُّد، فتخلَّوا عن الدنيا، وانقَطَعوا إلى العبادة، واتَّخذوا في ذلك طريقةً تفرَّدوا بها، وأخلاقًا تخلَّقوا بها، ورَأَوا أنَّ أول مَن انفرَد بخدمة الله تعالى عند بيته الحرام، رجلٌ يُقال له: "صوفة"[8]، واسمُه: الغوث بن مر، فانتَسَبوا إليه لمشابهتِهم إيَّاه في الانقطاع إلى الله، فسُمُّوا بالصوفيَّة".[9]
وقال ابنُ تيمية: "وعُرِف أنَّ مَنشأ التصوُّف كان من البصرة، وأنه كان فيها مَن يَسلكُ طريقَ العبادة والزُّهد، مما له فيه اجتهاد، كما كان في الكوفةِ من يَسلكُ من طريق الفقه والعلم ما له فيه اجتهاد، وهؤلاء نُسبوا إلى اللبسة الظاهرة؛ وهي لباسُ الصوف، فقيل في أحدهم: صوفي، وليس طريقُهم مُقَيَّدًا بلباسِ الصُّوف، ولا هم أوْجَبوا ذلك، ولا عَلَّقوا الأمرَ به، لكن أُضيفوا إليه؛ لكونِه ظاهر الحال".
- أوائل أئمة الصوفية
و أوائل أئمة الصوفية ، الذين عاصروا السلف، وأخذوا عنهم العلم، وقد ذكر أبو القاسم القشيري أئمة الصوفية المتقدمين ومشائخهم فعدَّ منهم: إبراهيم بن أدهم، والفضيل بن عياض، ومعروف الكرخي، وسري السقطي، وبشر الحافي، والحارث المحاسبي وسهل التستري، والجنيد بن محد، وعمرو بن عثمان، وغيرهم إلى أن انتهى بأبي عبد الله بن أحمد بن عطاء الروذباري المتوفى سنة ست وتسعين وثلاثمائة[10].
وعلى هذا فأئمة الصوفية هم الذين عاشوا في القرن الثاني والثالث وأوائل الرابع.
- أطوار التصوف
إذا أهمَلنا ظهورَ اللفظ، ونظَرنا إلى حقيقة وأصل قيام التصوُّف، وهو الترفُّع عن الملذَّات والزُّهد في المباحات وتَرف الحياة، والإقبال على العبادة والذِّكر - فنستطيع أن ندخلَ عصر الصحابة - رضي الله عنهم - في ذلك، فيكون هو الطَّور الأول، وهذا مذهب أئمَّةِ الصُّوفية ممن بنَوا مناهجهم على الكتاب والسنَّة، وسيرة الصحابة ومَن تَبِعَهم.
يقولُ ابن خلدون في كلامه عن علم التصوُّف: "هذا العلمُ من العلوم الشرعيَّة الحادثة في المِلَّة، وأصلُه أنَّ طريقَ هؤلاء القوم لَم تَزَل عند سلفِ الأمَّة وكبارها من الصحابةِ والتابعين، ومَن بعدهم - طريقة الحقِّ والهداية، وأصلها العكوف على العبادة، والانقطاع إلى الله تعالى، والإعراض عن زُخرف الدنيا وزِينتها، والزُّهد فيما يُقبلُ عليه الجمهور من لذَّة ومالٍ وجاهٍ، والانفراد عن الخَلق في الخَلوة للعبادة، وكان ذلك عامًّا في الصحابة والسَّلف، فلمَّا فشَا الإقبالُ على الدنيا في القرن الثاني وما بعده، وجنَح الناسُ إلى مخالطة الدنيا، اختُصَّ المُقبلون على العبادة باسم الصُّوفية والمتصوِّفة"[53].
فكان هدي الصحابة هو الأساس الذي نظَر إليه أئمَّة الصُّوفية والفقراء في تأصيلِ مناهج الزُّهد والنسك، وتطهير الرُّوح مما لَحِقَها من ترف الحضارة، حين فُتِحت الدنيا على المسلمين، وبعدت طوائفُ منهم عن نسكِ مَن سلَف، وغَلَبت رِقةُ الدِّين على الأفراد، وكَثُر الشِّبَع، وفشا الكسلُ والتَّواكُل، وانغمَسَت الناسُ في مَلَذَّات الدنيا، وكان بادئ هذا الأمر النصف الثاني من القرن الثاني الهجري
يبدأ في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري، وامتازَ هذا الطورُ بالحرص على الاتِّباع دون الابتداع، وعلى رأس هذا الطَّور ظهَر إبراهيمُ بن أدهم (ت 161 هـ)، وهو يغزو في بلاد الروم، وأبو سليمان داود بن نصر الطائي (ت 165هـ)، وقد انشغلَ بالعلم والفقه، واشْتَهرَ بالخَلوة والعبادة، ورابعة بنت إسماعيل العدوية البصريَّة، أمُّ الخير المشهورة بالزُّهد والصلاح (ت 185هـ)، والفُضيل بن عياض (ت 187هـ) في مكة، وشقيق البلخي (ت 194هـ)، وأبو حفص عمر بن مسلمة الحدَّاد (ت 260هـ)، كان أحدَ أئمَّة الصُّوفية، من أقواله: "المعاصي بريدُ الكفر، كما أنَّ الحُمَّى بريدُ الموت"، وقال: "مَن لَم يَزِن أفعالَه وأحواله في كلِّ وقتٍ بالكتاب والسُّنة، ولَم يتَّهم خواطرَه؛ فلا تَعدَّه في ديوانِ الرجال"[54].
وقد امتدَّ من القرن الثالث إلى أواسط القرن الرابع؛ حيث ظهرَ في هذا الطور أبو يزيد البسطامي (ت 261هـ)، وهو أوَّلُ مَن تكلَّم في الفناءِ والمُكاشفة[66]، ،
ومن رجال هذا الطور أبو محمد سهل التستري (ت 283هـ)، وكان زاهدًا معروفًا،
في القرن الخامس الهجري وما بعده، والزوايا، ويُرجِّحُ توفيق الطويل أنَّ الطرقَ ظَهَرت بعد انتشار الخوانك والربط[78]، ومن أبرزِ أعلام هذه الحقبة محي الدِّين عبدالقادر الجيلاني الجيلي (ت 561هـ)، أحمد بن أبي الحسين الرِّفاعي من بني رفاعة،
وظهَرت بعد ذلك الشَّاذلية، ومؤسِّسُها هو أبو الحسن علي بن عبدالله بن عبدالجبار الشاذلي، نسبةً إلى شاذلة في تونس (ت 656هـ)[79]، وانتشَرت طريقتُه في مصر واليمن، ومراكش وغرب الجزائر.
وظهَرت بعد ذلك الشَّاذلية، ومؤسِّسُها هو أبو الحسن علي بن عبدالله بن عبدالجبار الشاذلي، نسبةً إلى شاذلة في تونس (ت 656هـ)[79]، وانتشَرت طريقتُه في مصر واليمن، ومراكش وغرب الجزائر.
- أقوال أئمة الاسلام في التصوف
■ الإمام الشافعي (توفي 204 هـ):
قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: (صحبت الصوفية فلم استفد منهم سوى حرفين، وفي رواية سوى ثلاث كلمات: قولهم: الوقت سيف إن لم تقطعه قطعك. وقولهم: نفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل. وقولهم: العدم عصمة). المصدر "تأييد الحقيقة العلية" للامام جلال الدين السيوطي
■ الإمام أبي القاسم القشيري (توفي سنة 465 هـ):
قال الإمام أبوالقاسم القشيري رحمه الله تعالى في مقدمة رسالته المشهورة "الرسالة القشيرية" متحدثا عن الصوفية: (جعل الله هذه الطائفة صفوة أوليائه، وفضلهم على الكافة من عباده بعد رسله وأنبيائه صلوات الله وسلامه عليهم، وجعل قلوبهم معادن أسراره، واختصهم من بين الأمة بطوالع أنواره، فهم الغياث للخلق، والدائرون في عموم أحوالهم مع الحق بالحق. صفاهم من كدورات البشرية، ورقاهم إلى محل المشاهدات بما تجلى لهم من حقائق الأحدية، ووفقهم للقيام بآداب العبودية، وأشهدهم مجاري أحكام الربوبية، فقاموا بأداء ما عليهم من واجبات التكليف، وتحققوا بما منه سبحانه لهم من التقليب والتصريف، ثم رجعوا إلى الله سبحانه وتعالى بصدق الافتقار ونعت الانكسار، ولم يتكلوا على ما حصل منهم من الأعمال أوصفا لهم من الأحوال، علما بأنه جل وعلا يفعل ما يريد، ويختار من يشاء من العبيد، لايحكم عليه خلق، ولا يتوجه عليه لمخلوق حق، ثوابه ابتداء فضل وعذابه حكم بعدل، وأمره قضاء فصل).
■ الإمام النووي (توفي سنة 676 هـ):
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في رسالته "مقاصد الإمام النووي في التوحيد والعبادة وأصول التصوف": (أصول طريق التصوف خمسة:
. تقوى الله في السر والعلانية. اتباع السنة في الأقوال والأفعال. الإعراض عن الخلق في الإقبال والإدبار. الرضى عن الله في القليل والكثي. الرجوع إلى الله في السراء والضراء)
■ الإمام أبوحامد الغزالي (توفي سنة 505 هـ):
وها هوذا حجة الاسلام الامام أبوحامد الغزالي رحمه الله تعالى يتحدث في كتابه "المنقذ من الضلال" عن الصوفية وعن سلوكهم وطريقتهم الحقة الموصلة إلى الله تعالى فيقول:
(ولقد علمت يقينا أن الصوفية هم السالكون لطريق الله تعالى خاصة وأن سيرتهم أحسن السيرة وطريقتهم أصوب الطرق وأخلاقهم أزكى الأخلاق...ثم يقول ردا على من أنكر على الصوفية وتهجم عليهم: وبالجملة فماذا يقول القائلون في طريقة طهارتها- وهي أول شروطها- تطهير القلب بالكلية عما سوى الله تعالى، ومفتاحها الجاري منها مجرى التحريم من الصلاة استغراق القلب بالكلية بذكر الله، وآخرها الفناء بالكلية في الله).
ويقول أيضاً بعد أن اختبر طريق التصوف ولمس نتائجه وذاق ثمراته: (الدخول مع الصوفية فرض عين، إلا يخلوأحد من عيب إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام).
■ الإمام فخر الدين الرازي (توفي سنة 606 هـ):
قال العلامة الكبير والمفسر الشهير الامام فخر الدين الرازي رحمه الله تعالى في كتابه (اعتقادات فرق المسلمين والمشركين": "الباب الثامن في أحوال الصوفية: اعلم أن أكثر من حصر فرق الأمة لم يذكر الصوفية وذلك خطأ، لأن حاصل قول الصوفية أن الطريق إلى معرفة الله تعالى هوالتصفية والتجرد من العلائق البدنية، وهذا طريق حسن.. وقال أيضا: والمتصوفة قوم يشتغلون بالفكر وتجرد النفس عن العلائق الجسمانية، ويجتهدون ألا يخلوسرهم وبالهم عن ذكر الله تعالى في سائر تصرفاتهم وأعمالهم، منطبعون على كمال الأدب مع الله عز وجل، وهؤلاء هم خير فرق الآدميين
■ جلال الدين السيوطي رحمه الله:
قال العلامة المشهور جلال الدين السيوطي رحمه اله تعالى في كتابه (تأييد الحقيقة العلية): إن التصوف في نفسه علم شريف، وإن مداره على اتباع السنة وترك البدع، والتبري من النفس وعوائدها وحظوظها وأغراضها ومراداتها واختياراتها والتسليم لله والرضى به وبقضائه، وطلب محبته واحتقار ما سواه.. وعلمت أيضا أنه قد كثر فيه الدخيل من قوم تشبهوا بأهله وليسوا منهم، فأدخلوا فيه ما ليس منه، فأدى ذلك إلى إساءة الظن بالجميع، فوجه أهل العلم للتمييز بين الصنفين ليعلم أهل الحق من أهل الباطل، وقد تأملت الأمور التي أنكرها أئمة الشرع على الصوفية فلم أر صوفيا محققا يقول بشيء منها، وإنما يقول بها أهل البدع والغلاة الذين ادعوا أنهم صوفية وليسوا منهم.
تعريف الصوفي عند ابن تيمية في ( مجموع الفـتاوى ) (11/16) :
[هو ـ أي الصوفي ـ في الحقيقة نوع من الصديقين فهو الصديق الذي اختص بالزهد والعبادة على الوجه الذي اجتهدوا فيه فكان الصديق من أهل هذه الطريق كما يقال : صديقو العلماء وصديقو الأمراء فهو أخص من الصديق المطلق ودون الصديق الكامل الصديقية من الصحابة والتابعين وتابعيهم فإذا قيل عن أولئك الزهاد والعباد من البصريين أنهم صديقون فهو كما يقال عن أئمة الفقهاء من أهل الكوفة أنهم صديقون أيضاً كل بحسب الطريق الذي سلكه من طاعة الله ورسوله بحسب اجتهاده وقد يكونون من أجلّ الصديقين بحسب زمانهم فهم من أكمل صديقي زمانهم والصديق من العصر الأول أكمل منه والصديقون درجات وأنواع ولهذا يوجد لكل منهم صنف من الأحوال والعبادات حققه وأحكمه وغلب عليه وإن كان غيره في غير ذلك الصنف أكمل منه وأفضل منه ]
قال ابن تيبمية في مجموع الفتاوى (جزء 12 – صفحة 36 )
(وأما جمهور الأمة وأهل الحديث والفقه والتصوف فعلى ما جاءت به الرسل وما جاء عنهم من الكتب والاثارة من العلم وهم المتبعون للرسالة اتباعا محضا لم يشوبوه بما يخالفه ) .
التصوف تكلم به الامام أحمد ابن حنبل وسفيان الثوري والداراني وغيرهم
قال ابن القيم في كتابه طريق الهجرتين (ص261-260)
[ومنها أن هذا العلم (التصوف) هو من أشرف علوم العباد وليس بعد علم التوحيد أشرف منه وهو لا يناسب إلا النفوس الشريفة ].
قال ابن القيم في مدارج السالكين (1/ 499)
[الدين كله خلق , فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين , وكذلك التصوف .
قال أبو بكر الكتاني : " التصوف خُـلـق فمن زاد عليك في الخُلق زاد عليك في التصوف ".
وقيل : التخلي من الرذائل والتحلي من الفضائل [.
الي ان قال : قال شيخ الاسلام (أي شيخ الاسلام الهروي الصوفي) : (واجتمعت كلمة الناطقين في هذا العلم : أن التصوف هو الخلق , وجميع الكلام فيه يدور على قطب واحد وهو: بذل المعروف وكف الاذى) .
قلت : (ومن الناس من يجعلها ثلاثة : كف الاذى واحتمال الاذى وايجاد الراحة ومنهم من يجعلها اثنين – كما قال الشيخ بذل المعروف وكف الاذى . ومنهم ومن يردها الي واحدة بذل المعروف والكل صحيح )اه.
قال ابن القيم في مدارج السالكين (ج3 ص334)
(فالعارف – عندهم -أي الصوفية , من عرف الله سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله , ثم صدق الله في معاملته , ثم اخلص له في مقصوده ونياته ى, ثم انسلخ من أخلاقه الرديئة وآفاته , ثم تطهر من أوساخه ومخالفاته , ثم صبر على احكام الله في نعمه وبلياته , ثم دعا على بصيرة بدينه وآياته , ثم جرد الدعوة إليه وحده بما جاء به رسوله , ولم يشبها باراء الرجال واذواقهم ومواجيدهم ومقاييسهم ومعقولاتهم , ولم يزن بها ماجاء به الرسول عليه من الله أفضل صلواته . فهذا الذي يستحق اسم العارف على الحقيقة – اذا سمى به غيره على الدعوى والاستعارة ).
قال ابن القيم في مدارج السالكين (ج3 ص128)
(قال الشافعي رضي الله عنه : صحبت الصوفية فما انتفعت منهم الا بكلمتين , سمعتهم يقولون : الوقت سيف فإن قطعته والا قطعك , ونفسك إن لم تشغلها بالحق وإلا شغلتك بالباطل .
قلت : يالهما من كلمتين , ماأنفعهما وأجمعهما وأدلهما على علو همة قلئلها ويقظته , ويكفي في هذا ثناء الشافعي على طائفة أي السادة الصوفية . هذا قدر كلماتهم .
- منهج التصوف
في هذا الزمن حكّموا الناس عقولهم وتركوا نقولهم في كل شئونهم، فتعالت الصيحات للاعتراض على السادة الصوفية وأنهم على غير السنن المرضية، وليس لهم أصل في مآخذهم من الشريعة الإلهية ونكاد نجد دوى هذا الفكر وهذا الكلام في كل مكان.
لكن الحقيقة لمن أرادها أن السادة الصوفية هم أكمل الناس إتباعا لحبيب الله ومصطفاه في سننه الظاهرة وأحواله الباطنة.
فإن كان غيرهم يزعم أنه يتابع الرسول صلى الله عليه وسلم في سننه فإنهم ما زادوا عن متابعته في هيئته لكن ما شموا رائحة من أحواله ولا تنسّموا بارقة من أنواره ولا مرّ على قلوبهم وأرواحهم شيئاً من باطن أحواله صلى الله عليه وسلم
أما السادة الصوفية :..فهم الذين تشبهوا به ظاهراً وأفاض عليهم ببركة التشبه به أحواله باطناً فكانوا صورة على قدرهم لظاهره وباطنه صلوات ربى وسلامه عليه، ولو بحثنا في أصولهم وكل أحوالهم وأفعالهم نجدهم أسسوها على أصل ركيز من هدى نبيهم، ومن سنة حبيبهم صلى الله عليه وسلم.
وسلوا إن شئتم عن أي أمر أو شأن يفعله السادة الصوفية المتبعون، وليس المتصوفة المبتدعون، تجدون له ركنا ركيناً في شرع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم واضحاً ومبين
فقد قال إمام الطائفة الجنيد رضى الله عنه
علمنا هذا مشيد بالقرآن والسنة.علم الصوفية كله عن القرآن والسنة.وكان إمامنا أبو العزائم رضى الله عنه يقول لأحبابه: حافظ على السنة ولو بشرت بالجنة!
ومنهج الاسلام أن النبى صلى الله عليه وسلم أسس أول مدرسة في الصفاء السلوكي والعملي في دار الأرقم بن أبى الأرقم، وكانت قريبة من الصفا الآن، وكان يجتمع فيها مع أحبابه الثلة المباركة ... وكانوا لا يتجاوزون الأربعين
فمكث مع أصحابه في دار الأرقم بن أبى الأرقم؛ يؤهلهم ، ويجهزهم للعطاءات الربانية ؛ التى اختص الله تعالى بها عباده المؤمنين،
وبعد انتقال النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، زاد هذا الخير.
فتأسست جامعة الصفة:وكان مسجد حضرة النبي صلى الله عليه وسلم ، ليس به سقف، بل كان جدار يحيط به من الخارج، وكانوا يصلون على الأرض..لأنه لم يكن به فرش، وأجسادهم معرضة للسماء، والأسقف عارية، فهم الذين وظفهم الله في اقتباس الهدى من حبيبه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم ، ليقوموا بعد ذلك بنشره في ربوع الأرض بين عباد الله.
هؤلاء القوم كان منهم بلال بن رباح، وسلمان الفارسى، وأبوهريرة، وصهيب الرومى، وأنس بن مالك، وغيرهم كثيرون، فكانوا حوالى تسعين رجلا، تفرغوا تفرغا كاملا لله ورسوله.
ولكنها إرادة الله: فقد فرَّغهم الله، وكأنه أخذهم في بعثة رسمية إلهية - بإقامة كاملة - لنقل علوم خير البرية، وهى الموجودة الآن في أنحاء العالم كله ... والرسول صلى الله عليه وسلم حضهم على ذلك، وحثهم على ذلك، وقال لهم في ذلك..فيما روى عن ابن عباس رضى الله عنه قال:
{ وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحاب الصُفة فرأى فقرهم وجهدهم، وطيب قلوبهم، فقال: ابشروا يا أصحاب الصفة، فمن بقى من أمتي على النعت الذي أنتم عليه، راضيا بما فيه فإنه من رفاقي في الجنة }
وهذا الذي جعل التابعين، وتابعى التابعين والصالحين، يتأسون بأعمال هؤلاء القوم !!..لأنهم يريدون مرافقة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
فبدءوا حياتهم الإيمانية؛ وكان أساس اجتماعهم ودخولهم إلى هذه الجامعة النبوية: الزهد، والزهد ليس معناه ألا يكون في يد الإنسان شئٌ، لكن حقيقة الزهد ألا يسكن قلبُ الإنسان لشيء.
فكان هو الذي وضع هذه الأسس.ومن هنا امتد هذا النسق، وهذا النهج، إلى يومنا هذا...على يد العلماء العاملين، والحكماء الربانيين في كل وقت وحين.
ولذلك كان بداية التصوف: أن الرجل الصالح كان يبنى زاوية. ومن ثم يجمع فيها خلاصة أصحابه. ويصنع معهم ما كان الحبيب يصنع مع أهل الصفة. ويتكرر نفس المشهد، فمنهم من يذكر الله، ومنهم من يتفكر، ومنهم من يقرأ القرآن، ومنهم من يعلّم، ومنهم من يتعلم، ومنهم من يصوم النهار، ومنهم من يقوم الليل. ويتعهد الرجل الصالح هذا أبنائه وأتباعه فيعطى لكل رجل منهم ما يلائم قواه، وما تميل إليه نفسه من العمل الصالح الذي يقرِّبه إلى الله، وذلك لأن النفوس مختلفات، وكل نفس تميل إلى عمل يقربها إلى الله، فيعطيه لكل منهم ما تميل إليه نفسه وما يصلح به حاله ليتقرب به إلى ربه عزوجل؛ فيفيض الله عزوجل عليهم المنح والعطاءات التي أفاضها من قبل على أحباب الحبيب المصطفى من أهل الصُفَّة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.
وهذا هو الأساس الذي سار عليه الصوفية الصادقون، والأولياء، والمتقون، والحكماء الربانيون، متَّبعين أحوال أهل الصُفَّة في أحبابهم وفى مريديهم ولذلك تجد لديهم حلقات الذكر، وحلقات العلم، وحلقات الفكر، وحلقات قراءة القرآن.
وكذلك تجد بينهم: التحابب، والتوادد، والتآلف لأنهم يشترطون فيمن يدخل بينهم، ويشاركهم أمرهم، ألاّ يكون في قلبه: ضغينة أو حقد أو حسد، وألاّ يكون في نفسه أدنى ميل إلى الدنيا؛ لأنهم يجتمعون على الله، ويريدون وجه الله جلَّ في علاه.ومن أجل ذلك يكرمهم الله تعالى بالمنح والعطاءات الإلهية منهج التصوف هو منهج رسول الله في تربيه اصحابه
ظهور المدارس الصوفية
بدأ ظهور المدارس الصوفية بمدرستين صوفيتين، اعتصمتا بالكتاب والسنة، واتخذتا من سيد المرسلين إماماً وقدوة، وجعلتا من أشواق الحب الإلهي، ومن إلهامات الروح القرآني، ومن مثاليات الخلق المحمدي، منهجاً في المعرفة، وطريقا في السلوك ومعراجاً للوصول.
فقدمتا للعالمين، أروع وأقوى روحانية إيمانية معتصمة مهتدية، قدمتا التصوف الإسلامي :مشرقاً مبيناً فيه هدى، وفيه نور يرسم الطريق المستقيم المضيء، طريق المخبتين المتبتلين، الذين أحالوا الكون، محاريب للمناجاة والطاعات، وجعلوا من مشاهده صفحات ناطقات ملهمات، الطريق المضيء الصاعد إلى رضوان الله وقربه، وأنسه وحبه، وهداه وعلمه وفيضه، مدرستان، هما قلب التصوف ولسانه وبيانه وإليهما الفتوى والفيصل في مناهجه وقواعده، وسلوكه ومعارجه.
مدرستان تميزتا بالمعرفة الكاملة الصادقة، النابعة من الكتاب والسنة، لم تتفرق بهما السبل، ولم تجنح بهما الأذواق، والأشواق، قلما يعترفا أبدا بالسبحات الفلسفية، والشطحات المترنحة، والكلمات الغامضة، التي تسربت إلى الأفق الصوفي، وحاولت أن تنتسب إليه !، وأن تتستر بأشواقه!، وأذواقه!!.
أما المدرسة الأولى :
فهي مدرسة الإمام أبو القاسم الجنيد ببغداد، وهي مدرسة اتخذت من المساجد منابر لدعوتها، وجعلت من حلقاتها معاهد لتخريج الرجال.الرجال الذين تموج بهم كتب الأصول الصوفية، كأعلام تضيء كلماتهم الطريق وترسمه وتحدده.
والمدرسة الثانية :
هي مدرسة الإمام أبو نصر السراج الطوسى بنيسابور، وهي مدرسة اتخذت من الكتب منابر لبيان دعوتها، وشرح رسالتها، ونشر علومها وأذواقها ومعارفها ومعارجها. وجعلت من صفحات هذه الكتب معاهد لتخريج الفحول من الرجال، وخزائن خالدة تحفظ للأجيال هذا التراث المضيء العظيم.
- حاجة المسلم إلى المعرفة الصوفية
إن الطرق الثابتة والتي يحصّل الإنسان بها العلوم والمعارف هي: السماع أو القراءة والإطلاع أو النظر بعين الفكر.
ولكن الصالحين لهم طريق آخر للحصول على المعارف:وهو القلب والفؤاد.
لأن الله خلق الانسان مادتين مادة ظاهر به حواس يتعرف بها على الحقائق المحسوسة والملموسه يتعامل مع عالم الظاهر.
ومادة باطنة غيبية يتوقف عليها انسجام الحياة الآدمية والتوافق النفسي. إن كان عقلاً أو قلباً أو روحاً أو سراً أو غيرها من الحقائق اللطيفة العالية: يتعامل مع عالم الألطاف الخفية التي أخبرنا بها الوحي - ولا سبيل إلى معرفتها إلا عن طريق الوحي. فالوحي هو الذي أخبرنا عن : الدار الآخرة : لأننا لا نستطيع أن نحسها أو نلمسها كاعوالم الجنة، وعوالم النار، وعوالم العرش، وعوالم الكرسي، وعوالم اللوح، وعوالم القلم، وعوالم الملائكة وغيرها من عالم الغيب لا تراها عين الحس ولا يستطيع الإنسان أن يتعرف عليها بحواسه، وإنما سمعها الإنسان واعتقدها وأيقنها عن طريق الوحي الذي نزل به الأنبياء والمرسلين.و العلماء أن يقنعوا بها عوام المؤمنين عن طريق الدليل والبرهان!، ولا دليل ولا برهان في هذه الحقائق إلا من السنة والقرآن.
إذن كيف يصل المسلم الى المعرفة اليقينية
إذن لابد من وسيلة ولا سبيل له ولا وسيلة له: إلا إذا فتح عين بصيرته فيرى بها هذه الحقائق الغيبية، فيعاين عالم الألطاف الخفية، ويرى هذه الحقائق الغيبية لأنها لا ترى بكيفية عينية، ولكنها ترى بحقائق ذاتية
ولا سبيل لهذه الحقائق إلا من هذا طريق فتح عين البصيره.ومن هنا كانت أحوال الصالحين والصوفية الصادقين في كل زمان ومكان تنقسم إلى شقين :
. جهاد لتطهير النفس وتصفية القلب وفتح عين البصيرة.
. ثم بعد ذلك مشاهدة بعين البصيرة لما يغيب عن العين ولا يراه إلا الأخيار والأطهار والمصطفين .
فكان مقتضى الأمر أن الصوفية عندهم في بواطنهم وفي قلوبهم ظمأ إلى المعرفة اليقينية، لا يكتفون بتحصيل المعارف الظاهرة ولا يقفون عند الدليل والبرهان ولكن يريدون أن يشهد القلب والجنان كل ما تحدث به عالم القرآن
فيلزم للإنسان أن يصل لهذا المقام، لكي يرتقي لمقام التحقيق.وهذا ما يسميه الصوفية: التحقيق، فالتحقيق يعني: أن يرى الحقائق الغيبية التي تحدث عنها القرآن وأخبر عنها النبي العدنان، بعين القلب وبعين الإيقان،
كيف يراها؟ وهل يستطيع وصفها ؟
فلذلك لا يستطيع الإنسان أن يدرك حقائق الصوفية إلا إذا عاشها وتلقاها من رجل حي عارف بالله تعالى،
هذا لمن يريدون أن يصلوا إلى معرفة الحقائق القرآنية بالأذواق القلبية والمكاشفات الروحانية، وهذا لمن عنده قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.لمن عنده هذا الاستعداد.، وله هذا الإمداد.، والذي عنده هذا الاستعداد
وهذه أحوال الصوفية يريدون أن يروا الكيفية والأنوار العلية، ويريدون أن يروا التجليات الربانية المنبثة في الأكوان، لأنها متاحة لمن صفا ووفا وفتح الله عزوجل له هذا الميدان، كما فتحه للأنبياء والمرسلين والصديقين والشهداء والصالحين في كل وقت وحين.
أن الناس في الإيمان درجات: فيهم العوام المؤمنين لأنهم ولدوا من أباء وأمهات مؤمنين ومسلِّمين، وهناك العلماء الذين لا يؤمنون إلا بالأدلة والبراهين، وهؤلاء على قدرهم !، وهناك الأفذاذ والأكابر الذين يؤمنون عن شهود !، لا عن دليل أو برهان !، وإنما عن شهود بعين أوجدها فيهم الرحمنعزوجل، وهذه العين موجودة في القلب
فمنهج التصوف يدور حول هذه الحقيقة :
أن الصوفية يريدون المعرفة الذوقية، أو إن شئت قلت المعرفة العينية، أو إن شئت قلت المعرفة الشهودية للحقائق الغيبية القرآنية التي جاء بها القرآن ونزل بها الوحي على النبي العدنان صلى الله عليه وسلم
فالطريق تقديم المجاهدة، ومحو الصفات المذمومة، وقطع العلائق كلها، والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى، ومهما حصل ذلك كان الله المتولي لقلب عبده، والمتكفل له بتنويره بأنوار العلم.
وإذا تولى الله أمر القلب فاضت عليه الرحمة، وأشرق النور في القلب، وانشرح الصدر، وانكشف له سر الملكوت، وانقشع عن وجه القلب حجاب الغرة بلطف الرحمة، وتلألأت فيه حقائق الأمور الإلهية، فإذا ما حصل ذلك كانت المشاهدة.
هل يصدق العقل بإمكانية ذلك؟
نعم، ولم لا، وعجائب الرؤية الصادقة تُنبئ عن ذلك، فإن الرؤية الصادقة التي يراها الناس في المنام وتتحقق في اليقظة: إنما هي قبس من عالم الغيب، يراه الإنسان عند نومه وتتحقق له في عالم اليقظة
طرق معرفة الغيب عند الصوفية
الغيب في الإسلام هو: كل ما غاب عن حس الإنسان سواء بقى سرا مكتوما يعجز الإنسان عن إدراكه بحيث لا يعلمه إلا اللطيف الخبير ، وأن الله قد يطلع من شاء من خلقه ، على ما شاء من أمور الغيب ؛ وحينئذ : يعلم الغيب ، ما أعلمه به ربه ، ، وقد أطلع الله انبياءه ورسله والصالحين على الامور الغيبية قوله: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ) روى البخاري (418) ومسلم (424) عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ( هَلْ تَرَوْنَ قِبْلَتِي هَا هُنَا ، فَوَاللَّهِ مَا يَخْفَى عَلَىَّ خُشُوعُكُمْ وَلاَ رُكُوعُكُمْ ، إِنِّي لأَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي ) .
يقول ابن القيم عن الكشف في كتابه (مدارج السالكين) ج 3 ص178:
(إذا بلغ العبد مقام المعرفة إلى حد كأنه يطالع ما اتصف به الرب سبحانه من صفات الكمال ونعوت الجلال، وأحست روحه بالقرب الخاص الذي ليس هو كقرب المحسوس من المحسوس، حتى يشاهد رفع الحجاب بين روحه وقلبه وبين ربه ـ فإنه حجاب نفسه ـ وقد رفع الله سبحانه عنه ذلك الحجاب بحوله وقوته، أفضى القلب والروح حينئذ إلى الرب، فصار يعبده كأنه يراه، فإذا تحقق بذلك وارتفع حجاب النفس وانقشع عنه ضبابها ودخانها، وكشطت عنه سحبها وغيومها،
وقد أخبر عن كشف شيخه ابن تيمية رضى الله عنه
(ولقد شاهدت من فراسة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أمورا عجيبة ..أخبر أصحابه بدخول التتار الشام (سنة 699)وأن جيوش المسلمين تكسر ,وأن دمشق لايكون بها قتل عام ولاسبي عام ,وأن كلَب الجيش وحدته في الأموال :وهذا قبل أن يهم التتار بالحركة .
ثم أخبر الناس والأمراء (سنة702)لما تحرك التتار وقصدوا الشام :أن الدائرة والهزيمة عليهم ,وأن الظفر والنصر للمسلمين .وأقسم على ذلك أكثر من سبعين يمينا .فيقال له :قل إن شاء الله .فيقول (إن شاء الله تحقيقا لاتعليقا )وسمعته يقول ذلك ,قال :فلما أكثروا علي .قلت :لاتكثروا .كتب الله تعالى في اللوح المحفوظ :أنهم مهزومون في هذه الكرة .وأن النصر لجيوش الإسلام .قال :وأطعمت بعض الأمراء حلاوة النصر قبل خروجهم إلى لقاء العدو.)
(مدارج السالكين ج2ص192)
ومن طرق" الكشف " الفراسة" الرؤية الفِراسة بكسر الفاء : النظر والتثبّت والتأمل للشيء والبصر به. وتفرسّ فيه الشيء : توسّمه، وتفرست فيه الخير : تعرفته بالظن الصائب، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : (اتقوا فراسة المؤمن).
يرى ابن القيم أن الفراسة على ثلاثة أنواع:
النوع الأول: ( الفراسة الإيمانية وحقيقتها أنها خاطر يهجم على القلب ينفي ما يضاده يثبت على القلب) وسمي بهذا الاسم تشبيها له بوثوب الأسد على فريسته وسبب هذا النوع: نور يقذفه الله في قلب العبد يكون من نتائجه أن يفرق بين الحق والباطل والصادق والكاذب وغيرها وهي بحسب الإيمان قوة وضعفا فكلما قوي الإيمان قويت وكلما ضعف ضعفت فمن كان أقوى إيمانا كان أقوى فراسة .
النوع الثاني: الفراسة الرياضية :
وهي تكون بالمران والتكرار وتحمل المشاق من الجوع والسهر والتخلي وسببها أن النفس إذا تجردت مما يثقلها صار لها كشف بحسب ذلك التجرد وهذا النوع لا يختص بأهل الإيمان بل هو حاصل للمؤمن والكافر فهي مشتركة بين الناس وقوتها تبعا لسببها .
ولا دلالة فيها على إيمان ولا ولاية ولا يستفاد منها الكشف عن الحق ولا عن طريق مستقيم فهي تحصل للولاة والأطباء وأرباب الحرف بحسب معرفتهم بوظائفهم وتمكنهم منها .
النوع الثالث: الفراسة الخلقية وهي الاستدلال بالخلق الظاهر على الخلق الباطن لما بينهما من ارتباط اقتضته حكمة الله كأن يستدل بزرقة العينين على الدهاء والخبث وبسعة الصدر على سعة الخلق والحلم ونحو ذلك وهي أيضا كسابقتها لا يستدل بها على إيمان ولا كفر ولا ولاية ولا عداوة
- الرؤيا.
قال القاضي أبو بكر بن العربي : (الرؤيا إدراكات علقها الله تعالى في قلب العبد على يدي ملك أو شيطان إما بأسمائها أي حقيقتها وإما بكناها أي بعباراتها وإما تخليط ونظيرها في اليقظة الخواطر فإنها قد تأتي على نسق في قصة وقد تأتي مسترسلة غير محصلة وهذا حاصل قول الأستاذ أبي إسحاق )لكل أحد بحسبه) ويدل على ما ذكره ابن القيم من أنواع الرؤيا بقوله صلى الله عليه وسلم: الرؤيا ثلاثة: رؤيا من الله ، ورؤيا تحزين من الشيطان ، ورؤيا مما حدث به الرجل نفسه في اليقظة فيراه في المنام .
والرؤيا هي مبدأ الوحي وقد كان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة ، وأصدق الناس رؤيا أصدقهم حديثا وصدقها عند اقتراب الزمان لا يكاد يخطئ وذلك لبعد الناس عن عصر النبوة وآثار النبوة فيعوض الله المؤمن بالرؤيا الصالحة . وأما في زمان النبوة فلم تكن الحاجة إليها ملحة لاستغناء الناس بنور النبوة عن أي شيء آخر ولذا فهي من نظير الكرامات التي تخرج على أيدي الصالحين من عباد الله فهي في عصر الصحابة أقل من سواه لاستغنائهم بقوة الإيمان واحتياج غيرهم لضعفه عندهم قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه: (رؤيا المؤمن كلام يكلم به الرب عبده في المنام) وقال صلى الله عليه وسلم: لم يبق من النبوة إلا المبشرات قيل وما المبشرات يا رسول الله؟ قال: الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له رواه البخاري
- الالهام
والإِلهام إِما أن يكون من قِبَلِ الله تعالى، أو من قبل ملائكته، يُفْهَم منه أمر أو نهي أو ترغيب أو ترهيب..
أما الذي من قِبل الله تعالى:
فحكى لنا حضرةُ الله تعالى في كتابه عن مريم رضي الله عنها حينما أوتْ إِلى شجرة النخل في أيام الشتاء، فخاطبها بإِلهام ووحي من دون واسطة وقال لها: {وهُزِّي إليكِ بجذْعِ النَّخلة تُساقِطْ عليكِ رُطَباً جَنياً . فكُلِي واشرَبي وقرِّي عيناً} [مريم: 25].
قال الإِمام فخر الدين الرازي رحمه الله تعالى عند تفسير هذه الآية: (إِنَّ ذلك كان على سبيل النفث في الروع والإِلهام والإِلقاء في القلب، كما كان في حق أُم موسى عليه السلام في قوله: {وأوحينَا إلى أُمِّ موسى} [القصص: 7] ["التفسير الكبير" للإِمام فخر الدين الرازي ج2. ص669
أما الإِلهام من قبل الملائكة:
فالمَلَك يحدِّث الإِنسانَ، كما قال صلى الله عليه وسلم: "..وأما لَمَّةُ الملك فإِيعادٌ بالخير وتصديقٌ بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله" [رواه الترمذي في كتاب التفسير، تفسير سورة البقرة عن ابن مسعود رضي الله عنه وقال: حديث حسن غريب. واللمة: الهمة والخطرة تقع في القلب. كما في غريب الحديث].
- الكشف
الكشف الذي يحصل للمرء أنواع ، فمنه النفساني وهو مشترك بين المسلم والكافر ، ومنه الرحماني وهو الذي يكون عن طريق الوحي والشرع ، ومنه الشيطاني وهو ما يحصل عن طريق الجن .
الكشف الجزئي مشترك بين المؤمنين والكفار والأبرار والفجار كالكشف عما في دار إنسان أو عما في يده أو تحت ثيابه أو ما حملت به امرأته بعد انعقاده ذكراً أو أنثى وما غاب عن العيان من أحوال البعد الشاسع ونحو ذلك فإن ذلك يكون من الشيطان تارة ، ومن النفس تارة ، ولذلك يقع من الكفار كالنصارى وعابدي النيران والصلبان
والكشف الرحماني من هذا النوع هو مثل كشف أبي بكر لما قال لعائشة رضي الله عنهما إن امرأته حامل بأنثى ، وكشف عمر رضي الله عنه لما قال يا سارية الجبل – أي إلزم الجبل - وأضعاف هذا من كشف أولياء الرحمن .
" مدارج السالكين " ( 3 / 227 ، 228 ) .
وما حدث مع عمر بن الخطاب رضي الله صحيح ثابت عنه ، فقد قال نافع أن عمر بعث سريَّة فاستعمل عليهم رجلاً يقال له " سارية " ، فبينما عمر يخطب يوم الجمعة ، فقال : " يا ساريةُ الجبلَ ، يا ساريةُ الجبلَ " ، فوجدوا " سارية " قد أغار إلى الجبل في تلك الساعة يوم الجمعة وبينهما مسيرة شهر " .
رواه أحمد في " فضائل الصحابة " ( 1 / 269 )
ولا شك أن تلك الأسرار الروحية، لا تُدرك بمجرد الكلام، فمن لا نصيب له في شيء منها لا يضره أن يكلها إِلى أربابها، وأن يعطي القوس باريها:
فللكثافةِ أقوامٌ لها خُلقوا وللمحبةِ أكبادٌ وأجفان
وأدنى النصيب من هذا العلم التصديق به وتسليمه لأهله، وأقل عقوبة مَنْ ينكره أن لا يُرزق منه شيئاً. وهو علم الصديقين والمقربين (وفي الإِحياء للغزالي بحث مستفيض في الموضوع فليُرجع إِليه)
.
- يمثِّل التصوُّف نزعة إنسانية، تعاقَب ظهورُها في حضاراتٍ مختلفة، بصور متفاوتة في التعبير عن شوق الرُّوح للتطهُّر والزُّهد فيما يتسابَق عليه الناس من خضرة ونضرة الدنيا، ورغبة في التعالي عن شهوات المادة، ونَبْذ حُطام اللذات؛ بُغية الارتقاء في سُلَّم الصفاء الرُّوحي، والتسامي في مراتب الكمال الخُلقي.
و هو ما فعله سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذاته، عندما كان يخرج كل عام في شهر رمضان ليختلي بغار حراء، وتجهز له زوجته الصفية التقية النقية السيدة خديجة رضى الله عنها: زاداً يكفيه الشهر.
وكان يختلي في هذا الغار مع الله، تارة يتفكر، وتارة يتدبر، وتارة يذكر الله، وتارة يتعبَّد على الملة الحنيفية - ملة إبراهيم عليه السلام - حتى قال أهل مكة في شخصه صلى الله عليه وسلم- قبل نزول الرسالة- لقد عشق محمدٌ ربه، وذلك من شدة
ولَم يكن المسلمون بِدْعًا في نزوع طائفة منهم - فُرادى وزَرافات - لنَبْذ زُخرف الدنيا، والسعي نحو زخرف الرُّوح، بيد أنَّ لكلٍّ خصائصَ تُميِّزه عنْ غيره مِن اختلاف وسائل، ومفارقة في الغايات، فيصير لكلِّ حضارة هُويَّتها في إبراز تلك النزعة الإنسانيَّة، بأن تَصبغَها بلغة ومُفردات وعقائد، تُناسِبُ نَسقها العام الديني والحضاري.
وكان سندهم في ذلك أن النبى صلى الله عليه وسلم أسس أول مدرسة في الصفاء السلوكي والعملي في دار الأرقم بن أبى الأرقم، وكانت قريبة من الصفا الآن، وكان يجتمع فيها مع أحبابه الثلة المباركة ... وكانوا لا يتجاوزون الأربعين
فمكث مع أصحابه في دار الأرقم بن أبى الأرقم؛ يؤهلهم ، ويجهزهم للعطاءات الربانية ؛ التى اختص الله تعالى بها عباده المؤمنين،
وأمر التصوُّف كأصلٍ له أبعاد وجذورٌ تاريخية ، أمَّا كظاهرةٍ بيِّنة للعِيان، تتميَّزُ عن غيرِها، ويمتاز أهلها بها، ، يقول ابنُ خلدون في كلامِه عن التصوُّف: "هذا العلمُ من العلومِ الشرعيَّة ، وأصلُه أنَّ طريقَ هؤلاء القوم لَم تَزَل عند سلفِ الأمَّة وكبارها من الصحابة والتابعين ومَن بعدهم، طريقة الحقِّ والهداية، وأصلُها العكوف على العبادةِ والانقطاع إلى الله تعالى، والإعراض عن زُخرف الدنيا وزينتها، والزُّهد فيما يُقبلُ عليه الجمهور من لذَّةٍ ومال وجاهٍ، والانفراد عن الخَلْقِ في الخَلوة للعبادة، وكان ذلك عامًّا في الصحابة والسلف، فلمَّا فشَا الإقبالُ على الدنيا في القرن الثاني وما بعده، وجَنَح الناسُ إلى مخالطة الدنيا، اخْتُصَّ المُقبلون على العبادة باسم الصوفيَّة والمتصوِّفة
- نشأت التصوف
- وتعدَّدت الأقوالُ حول بدايات ودواعي نشأة التصوُّف على عدَّة آراء:
ذهب بعض أهل العلم أن نشأت التصوف ترجع نسبه إلى أهل الصفة . وأهْلُ الصَّفَّة هم فقراء المسلمين من أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذين لم تكن لهم منازل يسكنونها، فكانوا يأوون إلى هذا المكان المظلّل في المسجد النبوي بالمدينة المنورة، وعُرفوا بأضياف الإسلام
- وللباحثين أقوال في تحديد زمن ظهور التصوُّف بين المسلمين، وهي:- (150 هـ ــــ 189هـ.)
والمؤثِّر الرئيس الأول في بزوغ بذرة التصوُّف، هو الحياة الاجتماعية للفرد، فلازَم بروز نزعة التصوُّف الشعور بتغيُّر الأحوال وسَيْرها من سيِّئ إلى أسوَأ، والاستدلال بفساد الظاهر على فساد الباطن، والنكير على طلاق العلم للعمل، فكان الزُّهد والنسك والتعبُّد - وهي من أساسيات مفهوم التصوُّف - في واقعها ثورةً نفسية على سوءِ سعي الناس في الدنيا، وانصرافهم عن الآخرة، وأخذ زُمرة العلماء والفقهاء صدارة المجالس للتفكُّه بالعلوم.
وقيل أنَّ التصوُّف نشَأ وترعْرَع في العراق بالبصرة؛ حيث برَزت أسماء كبرى أسهمَت في تأسيسه؛ منها: إبراهيم بن أدهم، وداود بن نصير الطائي، رابعة العدويَّة، معروف الكرخي، السري السقطي، الجنيد البغدادي، وبشر بن الحارث الحافي، أبو الحسين أحمد بن محمد بن عبدالصمد النوري، وأبو سعيد أحمد بن عيسى الخراز،وابن عطاء البغدادي، وابن عثمان المكي[1]، وغيرهم خَلق عظيم.
وقيل أولُ مَن بنى دويرة الصُّوفية بعضُ أصحاب عبدالواحد بن زيد[2]، وعبدالواحد من أصحاب الحسن البصرى، وكان في البصرة من المبالغة في الزُّهد والعبادة والخوف ونحو ذلك، ما لَم يكن في سائر أهل الأمصار؛ ولهذا كان يُقال: فقه كوفي، وعبادة بصريَّة"[3].
وأوَّلُ مَن عُرِف باسم صوفي في المجتمع الإسلامي: أبو هاشم الصوفي (150هـ)[5]، وكان ممن يُجيدُ الكلام[6]، قبل منتصف القرن الثاني الهجري، وأمَّا صيغة الجمع (الصُّوفية)، فقيلَ: ظَهَرت عام 199هـ.
وأوَّل من نقَل التكلُّم بلفظ "التصوُّف" في أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع الهجري - فقد تكلَّم به غيرُ واحدٍ من الأئمَّة والشيوخ - كأحمد (ت241هـ)، وأبي سليمان الداراني (ت215هـ)، وسفيان الثوري، والحسن البصري.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله -: "في أواخر عصر التابعين حدَث ثلاثة أشياء: (الرأي، والكلام، والتصوُّف)، فكان جمهورُ الرأي في الكوفة، وكان جمهورُ الكلام والتصوُّف في البصرة، فإنه بعد موت الحسن وابن سيرين، ظهرَ عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء، وظهَر أحمد بن علي الهجيمي (200هـ)، تلميذ عبدالواحد بن زيد، تلميذ الحسن البصري
يقول ابنُ الجوزي: "كانت النسبة في زمنِ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى الإيمان والإسلام، فيُقال: مسلمٌ ومؤمن، ثم حدَث اسمُ زاهد وعابد، ثم نشَأ أقوامٌ تعلَّقوا بالزُّهد والتعبُّد، فتخلَّوا عن الدنيا، وانقَطَعوا إلى العبادة، واتَّخذوا في ذلك طريقةً تفرَّدوا بها، وأخلاقًا تخلَّقوا بها، ورَأَوا أنَّ أول مَن انفرَد بخدمة الله تعالى عند بيته الحرام، رجلٌ يُقال له: "صوفة"[8]، واسمُه: الغوث بن مر، فانتَسَبوا إليه لمشابهتِهم إيَّاه في الانقطاع إلى الله، فسُمُّوا بالصوفيَّة".[9]
وقال ابنُ تيمية: "وعُرِف أنَّ مَنشأ التصوُّف كان من البصرة، وأنه كان فيها مَن يَسلكُ طريقَ العبادة والزُّهد، مما له فيه اجتهاد، كما كان في الكوفةِ من يَسلكُ من طريق الفقه والعلم ما له فيه اجتهاد، وهؤلاء نُسبوا إلى اللبسة الظاهرة؛ وهي لباسُ الصوف، فقيل في أحدهم: صوفي، وليس طريقُهم مُقَيَّدًا بلباسِ الصُّوف، ولا هم أوْجَبوا ذلك، ولا عَلَّقوا الأمرَ به، لكن أُضيفوا إليه؛ لكونِه ظاهر الحال".
- أوائل أئمة الصوفية
و أوائل أئمة الصوفية ، الذين عاصروا السلف، وأخذوا عنهم العلم، وقد ذكر أبو القاسم القشيري أئمة الصوفية المتقدمين ومشائخهم فعدَّ منهم: إبراهيم بن أدهم، والفضيل بن عياض، ومعروف الكرخي، وسري السقطي، وبشر الحافي، والحارث المحاسبي وسهل التستري، والجنيد بن محد، وعمرو بن عثمان، وغيرهم إلى أن انتهى بأبي عبد الله بن أحمد بن عطاء الروذباري المتوفى سنة ست وتسعين وثلاثمائة[10].
وعلى هذا فأئمة الصوفية هم الذين عاشوا في القرن الثاني والثالث وأوائل الرابع.
- أطوار التصوف
إذا أهمَلنا ظهورَ اللفظ، ونظَرنا إلى حقيقة وأصل قيام التصوُّف، وهو الترفُّع عن الملذَّات والزُّهد في المباحات وتَرف الحياة، والإقبال على العبادة والذِّكر - فنستطيع أن ندخلَ عصر الصحابة - رضي الله عنهم - في ذلك، فيكون هو الطَّور الأول، وهذا مذهب أئمَّةِ الصُّوفية ممن بنَوا مناهجهم على الكتاب والسنَّة، وسيرة الصحابة ومَن تَبِعَهم.
يقولُ ابن خلدون في كلامه عن علم التصوُّف: "هذا العلمُ من العلوم الشرعيَّة الحادثة في المِلَّة، وأصلُه أنَّ طريقَ هؤلاء القوم لَم تَزَل عند سلفِ الأمَّة وكبارها من الصحابةِ والتابعين، ومَن بعدهم - طريقة الحقِّ والهداية، وأصلها العكوف على العبادة، والانقطاع إلى الله تعالى، والإعراض عن زُخرف الدنيا وزِينتها، والزُّهد فيما يُقبلُ عليه الجمهور من لذَّة ومالٍ وجاهٍ، والانفراد عن الخَلق في الخَلوة للعبادة، وكان ذلك عامًّا في الصحابة والسَّلف، فلمَّا فشَا الإقبالُ على الدنيا في القرن الثاني وما بعده، وجنَح الناسُ إلى مخالطة الدنيا، اختُصَّ المُقبلون على العبادة باسم الصُّوفية والمتصوِّفة"[53].
فكان هدي الصحابة هو الأساس الذي نظَر إليه أئمَّة الصُّوفية والفقراء في تأصيلِ مناهج الزُّهد والنسك، وتطهير الرُّوح مما لَحِقَها من ترف الحضارة، حين فُتِحت الدنيا على المسلمين، وبعدت طوائفُ منهم عن نسكِ مَن سلَف، وغَلَبت رِقةُ الدِّين على الأفراد، وكَثُر الشِّبَع، وفشا الكسلُ والتَّواكُل، وانغمَسَت الناسُ في مَلَذَّات الدنيا، وكان بادئ هذا الأمر النصف الثاني من القرن الثاني الهجري
يبدأ في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري، وامتازَ هذا الطورُ بالحرص على الاتِّباع دون الابتداع، وعلى رأس هذا الطَّور ظهَر إبراهيمُ بن أدهم (ت 161 هـ)، وهو يغزو في بلاد الروم، وأبو سليمان داود بن نصر الطائي (ت 165هـ)، وقد انشغلَ بالعلم والفقه، واشْتَهرَ بالخَلوة والعبادة، ورابعة بنت إسماعيل العدوية البصريَّة، أمُّ الخير المشهورة بالزُّهد والصلاح (ت 185هـ)، والفُضيل بن عياض (ت 187هـ) في مكة، وشقيق البلخي (ت 194هـ)، وأبو حفص عمر بن مسلمة الحدَّاد (ت 260هـ)، كان أحدَ أئمَّة الصُّوفية، من أقواله: "المعاصي بريدُ الكفر، كما أنَّ الحُمَّى بريدُ الموت"، وقال: "مَن لَم يَزِن أفعالَه وأحواله في كلِّ وقتٍ بالكتاب والسُّنة، ولَم يتَّهم خواطرَه؛ فلا تَعدَّه في ديوانِ الرجال"[54].
وقد امتدَّ من القرن الثالث إلى أواسط القرن الرابع؛ حيث ظهرَ في هذا الطور أبو يزيد البسطامي (ت 261هـ)، وهو أوَّلُ مَن تكلَّم في الفناءِ والمُكاشفة[66]، ،
ومن رجال هذا الطور أبو محمد سهل التستري (ت 283هـ)، وكان زاهدًا معروفًا،
في القرن الخامس الهجري وما بعده، والزوايا، ويُرجِّحُ توفيق الطويل أنَّ الطرقَ ظَهَرت بعد انتشار الخوانك والربط[78]، ومن أبرزِ أعلام هذه الحقبة محي الدِّين عبدالقادر الجيلاني الجيلي (ت 561هـ)، أحمد بن أبي الحسين الرِّفاعي من بني رفاعة،
وظهَرت بعد ذلك الشَّاذلية، ومؤسِّسُها هو أبو الحسن علي بن عبدالله بن عبدالجبار الشاذلي، نسبةً إلى شاذلة في تونس (ت 656هـ)[79]، وانتشَرت طريقتُه في مصر واليمن، ومراكش وغرب الجزائر.
وظهَرت بعد ذلك الشَّاذلية، ومؤسِّسُها هو أبو الحسن علي بن عبدالله بن عبدالجبار الشاذلي، نسبةً إلى شاذلة في تونس (ت 656هـ)[79]، وانتشَرت طريقتُه في مصر واليمن، ومراكش وغرب الجزائر.
- أقوال أئمة الاسلام في التصوف
■ الإمام الشافعي (توفي 204 هـ):
قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: (صحبت الصوفية فلم استفد منهم سوى حرفين، وفي رواية سوى ثلاث كلمات: قولهم: الوقت سيف إن لم تقطعه قطعك. وقولهم: نفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل. وقولهم: العدم عصمة). المصدر "تأييد الحقيقة العلية" للامام جلال الدين السيوطي
■ الإمام أبي القاسم القشيري (توفي سنة 465 هـ):
قال الإمام أبوالقاسم القشيري رحمه الله تعالى في مقدمة رسالته المشهورة "الرسالة القشيرية" متحدثا عن الصوفية: (جعل الله هذه الطائفة صفوة أوليائه، وفضلهم على الكافة من عباده بعد رسله وأنبيائه صلوات الله وسلامه عليهم، وجعل قلوبهم معادن أسراره، واختصهم من بين الأمة بطوالع أنواره، فهم الغياث للخلق، والدائرون في عموم أحوالهم مع الحق بالحق. صفاهم من كدورات البشرية، ورقاهم إلى محل المشاهدات بما تجلى لهم من حقائق الأحدية، ووفقهم للقيام بآداب العبودية، وأشهدهم مجاري أحكام الربوبية، فقاموا بأداء ما عليهم من واجبات التكليف، وتحققوا بما منه سبحانه لهم من التقليب والتصريف، ثم رجعوا إلى الله سبحانه وتعالى بصدق الافتقار ونعت الانكسار، ولم يتكلوا على ما حصل منهم من الأعمال أوصفا لهم من الأحوال، علما بأنه جل وعلا يفعل ما يريد، ويختار من يشاء من العبيد، لايحكم عليه خلق، ولا يتوجه عليه لمخلوق حق، ثوابه ابتداء فضل وعذابه حكم بعدل، وأمره قضاء فصل).
■ الإمام النووي (توفي سنة 676 هـ):
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في رسالته "مقاصد الإمام النووي في التوحيد والعبادة وأصول التصوف": (أصول طريق التصوف خمسة:
. تقوى الله في السر والعلانية. اتباع السنة في الأقوال والأفعال. الإعراض عن الخلق في الإقبال والإدبار. الرضى عن الله في القليل والكثي. الرجوع إلى الله في السراء والضراء)
■ الإمام أبوحامد الغزالي (توفي سنة 505 هـ):
وها هوذا حجة الاسلام الامام أبوحامد الغزالي رحمه الله تعالى يتحدث في كتابه "المنقذ من الضلال" عن الصوفية وعن سلوكهم وطريقتهم الحقة الموصلة إلى الله تعالى فيقول:
(ولقد علمت يقينا أن الصوفية هم السالكون لطريق الله تعالى خاصة وأن سيرتهم أحسن السيرة وطريقتهم أصوب الطرق وأخلاقهم أزكى الأخلاق...ثم يقول ردا على من أنكر على الصوفية وتهجم عليهم: وبالجملة فماذا يقول القائلون في طريقة طهارتها- وهي أول شروطها- تطهير القلب بالكلية عما سوى الله تعالى، ومفتاحها الجاري منها مجرى التحريم من الصلاة استغراق القلب بالكلية بذكر الله، وآخرها الفناء بالكلية في الله).
ويقول أيضاً بعد أن اختبر طريق التصوف ولمس نتائجه وذاق ثمراته: (الدخول مع الصوفية فرض عين، إلا يخلوأحد من عيب إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام).
■ الإمام فخر الدين الرازي (توفي سنة 606 هـ):
قال العلامة الكبير والمفسر الشهير الامام فخر الدين الرازي رحمه الله تعالى في كتابه (اعتقادات فرق المسلمين والمشركين": "الباب الثامن في أحوال الصوفية: اعلم أن أكثر من حصر فرق الأمة لم يذكر الصوفية وذلك خطأ، لأن حاصل قول الصوفية أن الطريق إلى معرفة الله تعالى هوالتصفية والتجرد من العلائق البدنية، وهذا طريق حسن.. وقال أيضا: والمتصوفة قوم يشتغلون بالفكر وتجرد النفس عن العلائق الجسمانية، ويجتهدون ألا يخلوسرهم وبالهم عن ذكر الله تعالى في سائر تصرفاتهم وأعمالهم، منطبعون على كمال الأدب مع الله عز وجل، وهؤلاء هم خير فرق الآدميين
■ جلال الدين السيوطي رحمه الله:
قال العلامة المشهور جلال الدين السيوطي رحمه اله تعالى في كتابه (تأييد الحقيقة العلية): إن التصوف في نفسه علم شريف، وإن مداره على اتباع السنة وترك البدع، والتبري من النفس وعوائدها وحظوظها وأغراضها ومراداتها واختياراتها والتسليم لله والرضى به وبقضائه، وطلب محبته واحتقار ما سواه.. وعلمت أيضا أنه قد كثر فيه الدخيل من قوم تشبهوا بأهله وليسوا منهم، فأدخلوا فيه ما ليس منه، فأدى ذلك إلى إساءة الظن بالجميع، فوجه أهل العلم للتمييز بين الصنفين ليعلم أهل الحق من أهل الباطل، وقد تأملت الأمور التي أنكرها أئمة الشرع على الصوفية فلم أر صوفيا محققا يقول بشيء منها، وإنما يقول بها أهل البدع والغلاة الذين ادعوا أنهم صوفية وليسوا منهم.
تعريف الصوفي عند ابن تيمية في ( مجموع الفـتاوى ) (11/16) :
[هو ـ أي الصوفي ـ في الحقيقة نوع من الصديقين فهو الصديق الذي اختص بالزهد والعبادة على الوجه الذي اجتهدوا فيه فكان الصديق من أهل هذه الطريق كما يقال : صديقو العلماء وصديقو الأمراء فهو أخص من الصديق المطلق ودون الصديق الكامل الصديقية من الصحابة والتابعين وتابعيهم فإذا قيل عن أولئك الزهاد والعباد من البصريين أنهم صديقون فهو كما يقال عن أئمة الفقهاء من أهل الكوفة أنهم صديقون أيضاً كل بحسب الطريق الذي سلكه من طاعة الله ورسوله بحسب اجتهاده وقد يكونون من أجلّ الصديقين بحسب زمانهم فهم من أكمل صديقي زمانهم والصديق من العصر الأول أكمل منه والصديقون درجات وأنواع ولهذا يوجد لكل منهم صنف من الأحوال والعبادات حققه وأحكمه وغلب عليه وإن كان غيره في غير ذلك الصنف أكمل منه وأفضل منه ]
قال ابن تيبمية في مجموع الفتاوى (جزء 12 – صفحة 36 )
(وأما جمهور الأمة وأهل الحديث والفقه والتصوف فعلى ما جاءت به الرسل وما جاء عنهم من الكتب والاثارة من العلم وهم المتبعون للرسالة اتباعا محضا لم يشوبوه بما يخالفه ) .
التصوف تكلم به الامام أحمد ابن حنبل وسفيان الثوري والداراني وغيرهم
قال ابن القيم في كتابه طريق الهجرتين (ص261-260)
[ومنها أن هذا العلم (التصوف) هو من أشرف علوم العباد وليس بعد علم التوحيد أشرف منه وهو لا يناسب إلا النفوس الشريفة ].
قال ابن القيم في مدارج السالكين (1/ 499)
[الدين كله خلق , فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين , وكذلك التصوف .
قال أبو بكر الكتاني : " التصوف خُـلـق فمن زاد عليك في الخُلق زاد عليك في التصوف ".
وقيل : التخلي من الرذائل والتحلي من الفضائل [.
الي ان قال : قال شيخ الاسلام (أي شيخ الاسلام الهروي الصوفي) : (واجتمعت كلمة الناطقين في هذا العلم : أن التصوف هو الخلق , وجميع الكلام فيه يدور على قطب واحد وهو: بذل المعروف وكف الاذى) .
قلت : (ومن الناس من يجعلها ثلاثة : كف الاذى واحتمال الاذى وايجاد الراحة ومنهم من يجعلها اثنين – كما قال الشيخ بذل المعروف وكف الاذى . ومنهم ومن يردها الي واحدة بذل المعروف والكل صحيح )اه.
قال ابن القيم في مدارج السالكين (ج3 ص334)
(فالعارف – عندهم -أي الصوفية , من عرف الله سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله , ثم صدق الله في معاملته , ثم اخلص له في مقصوده ونياته ى, ثم انسلخ من أخلاقه الرديئة وآفاته , ثم تطهر من أوساخه ومخالفاته , ثم صبر على احكام الله في نعمه وبلياته , ثم دعا على بصيرة بدينه وآياته , ثم جرد الدعوة إليه وحده بما جاء به رسوله , ولم يشبها باراء الرجال واذواقهم ومواجيدهم ومقاييسهم ومعقولاتهم , ولم يزن بها ماجاء به الرسول عليه من الله أفضل صلواته . فهذا الذي يستحق اسم العارف على الحقيقة – اذا سمى به غيره على الدعوى والاستعارة ).
قال ابن القيم في مدارج السالكين (ج3 ص128)
(قال الشافعي رضي الله عنه : صحبت الصوفية فما انتفعت منهم الا بكلمتين , سمعتهم يقولون : الوقت سيف فإن قطعته والا قطعك , ونفسك إن لم تشغلها بالحق وإلا شغلتك بالباطل .
قلت : يالهما من كلمتين , ماأنفعهما وأجمعهما وأدلهما على علو همة قلئلها ويقظته , ويكفي في هذا ثناء الشافعي على طائفة أي السادة الصوفية . هذا قدر كلماتهم .
- منهج التصوف
في هذا الزمن حكّموا الناس عقولهم وتركوا نقولهم في كل شئونهم، فتعالت الصيحات للاعتراض على السادة الصوفية وأنهم على غير السنن المرضية، وليس لهم أصل في مآخذهم من الشريعة الإلهية ونكاد نجد دوى هذا الفكر وهذا الكلام في كل مكان.
لكن الحقيقة لمن أرادها أن السادة الصوفية هم أكمل الناس إتباعا لحبيب الله ومصطفاه في سننه الظاهرة وأحواله الباطنة.
فإن كان غيرهم يزعم أنه يتابع الرسول صلى الله عليه وسلم في سننه فإنهم ما زادوا عن متابعته في هيئته لكن ما شموا رائحة من أحواله ولا تنسّموا بارقة من أنواره ولا مرّ على قلوبهم وأرواحهم شيئاً من باطن أحواله صلى الله عليه وسلم
أما السادة الصوفية :..فهم الذين تشبهوا به ظاهراً وأفاض عليهم ببركة التشبه به أحواله باطناً فكانوا صورة على قدرهم لظاهره وباطنه صلوات ربى وسلامه عليه، ولو بحثنا في أصولهم وكل أحوالهم وأفعالهم نجدهم أسسوها على أصل ركيز من هدى نبيهم، ومن سنة حبيبهم صلى الله عليه وسلم.
وسلوا إن شئتم عن أي أمر أو شأن يفعله السادة الصوفية المتبعون، وليس المتصوفة المبتدعون، تجدون له ركنا ركيناً في شرع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم واضحاً ومبين
فقد قال إمام الطائفة الجنيد رضى الله عنه
علمنا هذا مشيد بالقرآن والسنة.علم الصوفية كله عن القرآن والسنة.وكان إمامنا أبو العزائم رضى الله عنه يقول لأحبابه: حافظ على السنة ولو بشرت بالجنة!
ومنهج الاسلام أن النبى صلى الله عليه وسلم أسس أول مدرسة في الصفاء السلوكي والعملي في دار الأرقم بن أبى الأرقم، وكانت قريبة من الصفا الآن، وكان يجتمع فيها مع أحبابه الثلة المباركة ... وكانوا لا يتجاوزون الأربعين
فمكث مع أصحابه في دار الأرقم بن أبى الأرقم؛ يؤهلهم ، ويجهزهم للعطاءات الربانية ؛ التى اختص الله تعالى بها عباده المؤمنين،
وبعد انتقال النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، زاد هذا الخير.
فتأسست جامعة الصفة:وكان مسجد حضرة النبي صلى الله عليه وسلم ، ليس به سقف، بل كان جدار يحيط به من الخارج، وكانوا يصلون على الأرض..لأنه لم يكن به فرش، وأجسادهم معرضة للسماء، والأسقف عارية، فهم الذين وظفهم الله في اقتباس الهدى من حبيبه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم ، ليقوموا بعد ذلك بنشره في ربوع الأرض بين عباد الله.
هؤلاء القوم كان منهم بلال بن رباح، وسلمان الفارسى، وأبوهريرة، وصهيب الرومى، وأنس بن مالك، وغيرهم كثيرون، فكانوا حوالى تسعين رجلا، تفرغوا تفرغا كاملا لله ورسوله.
ولكنها إرادة الله: فقد فرَّغهم الله، وكأنه أخذهم في بعثة رسمية إلهية - بإقامة كاملة - لنقل علوم خير البرية، وهى الموجودة الآن في أنحاء العالم كله ... والرسول صلى الله عليه وسلم حضهم على ذلك، وحثهم على ذلك، وقال لهم في ذلك..فيما روى عن ابن عباس رضى الله عنه قال:
{ وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحاب الصُفة فرأى فقرهم وجهدهم، وطيب قلوبهم، فقال: ابشروا يا أصحاب الصفة، فمن بقى من أمتي على النعت الذي أنتم عليه، راضيا بما فيه فإنه من رفاقي في الجنة }
وهذا الذي جعل التابعين، وتابعى التابعين والصالحين، يتأسون بأعمال هؤلاء القوم !!..لأنهم يريدون مرافقة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
فبدءوا حياتهم الإيمانية؛ وكان أساس اجتماعهم ودخولهم إلى هذه الجامعة النبوية: الزهد، والزهد ليس معناه ألا يكون في يد الإنسان شئٌ، لكن حقيقة الزهد ألا يسكن قلبُ الإنسان لشيء.
فكان هو الذي وضع هذه الأسس.ومن هنا امتد هذا النسق، وهذا النهج، إلى يومنا هذا...على يد العلماء العاملين، والحكماء الربانيين في كل وقت وحين.
ولذلك كان بداية التصوف: أن الرجل الصالح كان يبنى زاوية. ومن ثم يجمع فيها خلاصة أصحابه. ويصنع معهم ما كان الحبيب يصنع مع أهل الصفة. ويتكرر نفس المشهد، فمنهم من يذكر الله، ومنهم من يتفكر، ومنهم من يقرأ القرآن، ومنهم من يعلّم، ومنهم من يتعلم، ومنهم من يصوم النهار، ومنهم من يقوم الليل. ويتعهد الرجل الصالح هذا أبنائه وأتباعه فيعطى لكل رجل منهم ما يلائم قواه، وما تميل إليه نفسه من العمل الصالح الذي يقرِّبه إلى الله، وذلك لأن النفوس مختلفات، وكل نفس تميل إلى عمل يقربها إلى الله، فيعطيه لكل منهم ما تميل إليه نفسه وما يصلح به حاله ليتقرب به إلى ربه عزوجل؛ فيفيض الله عزوجل عليهم المنح والعطاءات التي أفاضها من قبل على أحباب الحبيب المصطفى من أهل الصُفَّة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.
وهذا هو الأساس الذي سار عليه الصوفية الصادقون، والأولياء، والمتقون، والحكماء الربانيون، متَّبعين أحوال أهل الصُفَّة في أحبابهم وفى مريديهم ولذلك تجد لديهم حلقات الذكر، وحلقات العلم، وحلقات الفكر، وحلقات قراءة القرآن.
وكذلك تجد بينهم: التحابب، والتوادد، والتآلف لأنهم يشترطون فيمن يدخل بينهم، ويشاركهم أمرهم، ألاّ يكون في قلبه: ضغينة أو حقد أو حسد، وألاّ يكون في نفسه أدنى ميل إلى الدنيا؛ لأنهم يجتمعون على الله، ويريدون وجه الله جلَّ في علاه.ومن أجل ذلك يكرمهم الله تعالى بالمنح والعطاءات الإلهية منهج التصوف هو منهج رسول الله في تربيه اصحابه
ظهور المدارس الصوفية
بدأ ظهور المدارس الصوفية بمدرستين صوفيتين، اعتصمتا بالكتاب والسنة، واتخذتا من سيد المرسلين إماماً وقدوة، وجعلتا من أشواق الحب الإلهي، ومن إلهامات الروح القرآني، ومن مثاليات الخلق المحمدي، منهجاً في المعرفة، وطريقا في السلوك ومعراجاً للوصول.
فقدمتا للعالمين، أروع وأقوى روحانية إيمانية معتصمة مهتدية، قدمتا التصوف الإسلامي :مشرقاً مبيناً فيه هدى، وفيه نور يرسم الطريق المستقيم المضيء، طريق المخبتين المتبتلين، الذين أحالوا الكون، محاريب للمناجاة والطاعات، وجعلوا من مشاهده صفحات ناطقات ملهمات، الطريق المضيء الصاعد إلى رضوان الله وقربه، وأنسه وحبه، وهداه وعلمه وفيضه، مدرستان، هما قلب التصوف ولسانه وبيانه وإليهما الفتوى والفيصل في مناهجه وقواعده، وسلوكه ومعارجه.
مدرستان تميزتا بالمعرفة الكاملة الصادقة، النابعة من الكتاب والسنة، لم تتفرق بهما السبل، ولم تجنح بهما الأذواق، والأشواق، قلما يعترفا أبدا بالسبحات الفلسفية، والشطحات المترنحة، والكلمات الغامضة، التي تسربت إلى الأفق الصوفي، وحاولت أن تنتسب إليه !، وأن تتستر بأشواقه!، وأذواقه!!.
أما المدرسة الأولى :
فهي مدرسة الإمام أبو القاسم الجنيد ببغداد، وهي مدرسة اتخذت من المساجد منابر لدعوتها، وجعلت من حلقاتها معاهد لتخريج الرجال.الرجال الذين تموج بهم كتب الأصول الصوفية، كأعلام تضيء كلماتهم الطريق وترسمه وتحدده.
والمدرسة الثانية :
هي مدرسة الإمام أبو نصر السراج الطوسى بنيسابور، وهي مدرسة اتخذت من الكتب منابر لبيان دعوتها، وشرح رسالتها، ونشر علومها وأذواقها ومعارفها ومعارجها. وجعلت من صفحات هذه الكتب معاهد لتخريج الفحول من الرجال، وخزائن خالدة تحفظ للأجيال هذا التراث المضيء العظيم.
- حاجة المسلم إلى المعرفة الصوفية
إن الطرق الثابتة والتي يحصّل الإنسان بها العلوم والمعارف هي: السماع أو القراءة والإطلاع أو النظر بعين الفكر.
ولكن الصالحين لهم طريق آخر للحصول على المعارف:وهو القلب والفؤاد.
لأن الله خلق الانسان مادتين مادة ظاهر به حواس يتعرف بها على الحقائق المحسوسة والملموسه يتعامل مع عالم الظاهر.
ومادة باطنة غيبية يتوقف عليها انسجام الحياة الآدمية والتوافق النفسي. إن كان عقلاً أو قلباً أو روحاً أو سراً أو غيرها من الحقائق اللطيفة العالية: يتعامل مع عالم الألطاف الخفية التي أخبرنا بها الوحي - ولا سبيل إلى معرفتها إلا عن طريق الوحي. فالوحي هو الذي أخبرنا عن : الدار الآخرة : لأننا لا نستطيع أن نحسها أو نلمسها كاعوالم الجنة، وعوالم النار، وعوالم العرش، وعوالم الكرسي، وعوالم اللوح، وعوالم القلم، وعوالم الملائكة وغيرها من عالم الغيب لا تراها عين الحس ولا يستطيع الإنسان أن يتعرف عليها بحواسه، وإنما سمعها الإنسان واعتقدها وأيقنها عن طريق الوحي الذي نزل به الأنبياء والمرسلين.و العلماء أن يقنعوا بها عوام المؤمنين عن طريق الدليل والبرهان!، ولا دليل ولا برهان في هذه الحقائق إلا من السنة والقرآن.
إذن كيف يصل المسلم الى المعرفة اليقينية
إذن لابد من وسيلة ولا سبيل له ولا وسيلة له: إلا إذا فتح عين بصيرته فيرى بها هذه الحقائق الغيبية، فيعاين عالم الألطاف الخفية، ويرى هذه الحقائق الغيبية لأنها لا ترى بكيفية عينية، ولكنها ترى بحقائق ذاتية
ولا سبيل لهذه الحقائق إلا من هذا طريق فتح عين البصيره.ومن هنا كانت أحوال الصالحين والصوفية الصادقين في كل زمان ومكان تنقسم إلى شقين :
. جهاد لتطهير النفس وتصفية القلب وفتح عين البصيرة.
. ثم بعد ذلك مشاهدة بعين البصيرة لما يغيب عن العين ولا يراه إلا الأخيار والأطهار والمصطفين .
فكان مقتضى الأمر أن الصوفية عندهم في بواطنهم وفي قلوبهم ظمأ إلى المعرفة اليقينية، لا يكتفون بتحصيل المعارف الظاهرة ولا يقفون عند الدليل والبرهان ولكن يريدون أن يشهد القلب والجنان كل ما تحدث به عالم القرآن
فيلزم للإنسان أن يصل لهذا المقام، لكي يرتقي لمقام التحقيق.وهذا ما يسميه الصوفية: التحقيق، فالتحقيق يعني: أن يرى الحقائق الغيبية التي تحدث عنها القرآن وأخبر عنها النبي العدنان، بعين القلب وبعين الإيقان،
كيف يراها؟ وهل يستطيع وصفها ؟
فلذلك لا يستطيع الإنسان أن يدرك حقائق الصوفية إلا إذا عاشها وتلقاها من رجل حي عارف بالله تعالى،
هذا لمن يريدون أن يصلوا إلى معرفة الحقائق القرآنية بالأذواق القلبية والمكاشفات الروحانية، وهذا لمن عنده قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.لمن عنده هذا الاستعداد.، وله هذا الإمداد.، والذي عنده هذا الاستعداد
وهذه أحوال الصوفية يريدون أن يروا الكيفية والأنوار العلية، ويريدون أن يروا التجليات الربانية المنبثة في الأكوان، لأنها متاحة لمن صفا ووفا وفتح الله عزوجل له هذا الميدان، كما فتحه للأنبياء والمرسلين والصديقين والشهداء والصالحين في كل وقت وحين.
أن الناس في الإيمان درجات: فيهم العوام المؤمنين لأنهم ولدوا من أباء وأمهات مؤمنين ومسلِّمين، وهناك العلماء الذين لا يؤمنون إلا بالأدلة والبراهين، وهؤلاء على قدرهم !، وهناك الأفذاذ والأكابر الذين يؤمنون عن شهود !، لا عن دليل أو برهان !، وإنما عن شهود بعين أوجدها فيهم الرحمنعزوجل، وهذه العين موجودة في القلب
فمنهج التصوف يدور حول هذه الحقيقة :
أن الصوفية يريدون المعرفة الذوقية، أو إن شئت قلت المعرفة العينية، أو إن شئت قلت المعرفة الشهودية للحقائق الغيبية القرآنية التي جاء بها القرآن ونزل بها الوحي على النبي العدنان صلى الله عليه وسلم
فالطريق تقديم المجاهدة، ومحو الصفات المذمومة، وقطع العلائق كلها، والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى، ومهما حصل ذلك كان الله المتولي لقلب عبده، والمتكفل له بتنويره بأنوار العلم.
وإذا تولى الله أمر القلب فاضت عليه الرحمة، وأشرق النور في القلب، وانشرح الصدر، وانكشف له سر الملكوت، وانقشع عن وجه القلب حجاب الغرة بلطف الرحمة، وتلألأت فيه حقائق الأمور الإلهية، فإذا ما حصل ذلك كانت المشاهدة.
هل يصدق العقل بإمكانية ذلك؟
نعم، ولم لا، وعجائب الرؤية الصادقة تُنبئ عن ذلك، فإن الرؤية الصادقة التي يراها الناس في المنام وتتحقق في اليقظة: إنما هي قبس من عالم الغيب، يراه الإنسان عند نومه وتتحقق له في عالم اليقظة
طرق معرفة الغيب عند الصوفية
الغيب في الإسلام هو: كل ما غاب عن حس الإنسان سواء بقى سرا مكتوما يعجز الإنسان عن إدراكه بحيث لا يعلمه إلا اللطيف الخبير ، وأن الله قد يطلع من شاء من خلقه ، على ما شاء من أمور الغيب ؛ وحينئذ : يعلم الغيب ، ما أعلمه به ربه ، ، وقد أطلع الله انبياءه ورسله والصالحين على الامور الغيبية قوله: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ) روى البخاري (418) ومسلم (424) عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ( هَلْ تَرَوْنَ قِبْلَتِي هَا هُنَا ، فَوَاللَّهِ مَا يَخْفَى عَلَىَّ خُشُوعُكُمْ وَلاَ رُكُوعُكُمْ ، إِنِّي لأَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي ) .
يقول ابن القيم عن الكشف في كتابه (مدارج السالكين) ج 3 ص178:
(إذا بلغ العبد مقام المعرفة إلى حد كأنه يطالع ما اتصف به الرب سبحانه من صفات الكمال ونعوت الجلال، وأحست روحه بالقرب الخاص الذي ليس هو كقرب المحسوس من المحسوس، حتى يشاهد رفع الحجاب بين روحه وقلبه وبين ربه ـ فإنه حجاب نفسه ـ وقد رفع الله سبحانه عنه ذلك الحجاب بحوله وقوته، أفضى القلب والروح حينئذ إلى الرب، فصار يعبده كأنه يراه، فإذا تحقق بذلك وارتفع حجاب النفس وانقشع عنه ضبابها ودخانها، وكشطت عنه سحبها وغيومها،
وقد أخبر عن كشف شيخه ابن تيمية رضى الله عنه
(ولقد شاهدت من فراسة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أمورا عجيبة ..أخبر أصحابه بدخول التتار الشام (سنة 699)وأن جيوش المسلمين تكسر ,وأن دمشق لايكون بها قتل عام ولاسبي عام ,وأن كلَب الجيش وحدته في الأموال :وهذا قبل أن يهم التتار بالحركة .
ثم أخبر الناس والأمراء (سنة702)لما تحرك التتار وقصدوا الشام :أن الدائرة والهزيمة عليهم ,وأن الظفر والنصر للمسلمين .وأقسم على ذلك أكثر من سبعين يمينا .فيقال له :قل إن شاء الله .فيقول (إن شاء الله تحقيقا لاتعليقا )وسمعته يقول ذلك ,قال :فلما أكثروا علي .قلت :لاتكثروا .كتب الله تعالى في اللوح المحفوظ :أنهم مهزومون في هذه الكرة .وأن النصر لجيوش الإسلام .قال :وأطعمت بعض الأمراء حلاوة النصر قبل خروجهم إلى لقاء العدو.)
(مدارج السالكين ج2ص192)
ومن طرق" الكشف " الفراسة" الرؤية الفِراسة بكسر الفاء : النظر والتثبّت والتأمل للشيء والبصر به. وتفرسّ فيه الشيء : توسّمه، وتفرست فيه الخير : تعرفته بالظن الصائب، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : (اتقوا فراسة المؤمن).
يرى ابن القيم أن الفراسة على ثلاثة أنواع:
النوع الأول: ( الفراسة الإيمانية وحقيقتها أنها خاطر يهجم على القلب ينفي ما يضاده يثبت على القلب) وسمي بهذا الاسم تشبيها له بوثوب الأسد على فريسته وسبب هذا النوع: نور يقذفه الله في قلب العبد يكون من نتائجه أن يفرق بين الحق والباطل والصادق والكاذب وغيرها وهي بحسب الإيمان قوة وضعفا فكلما قوي الإيمان قويت وكلما ضعف ضعفت فمن كان أقوى إيمانا كان أقوى فراسة .
النوع الثاني: الفراسة الرياضية :
وهي تكون بالمران والتكرار وتحمل المشاق من الجوع والسهر والتخلي وسببها أن النفس إذا تجردت مما يثقلها صار لها كشف بحسب ذلك التجرد وهذا النوع لا يختص بأهل الإيمان بل هو حاصل للمؤمن والكافر فهي مشتركة بين الناس وقوتها تبعا لسببها .
ولا دلالة فيها على إيمان ولا ولاية ولا يستفاد منها الكشف عن الحق ولا عن طريق مستقيم فهي تحصل للولاة والأطباء وأرباب الحرف بحسب معرفتهم بوظائفهم وتمكنهم منها .
النوع الثالث: الفراسة الخلقية وهي الاستدلال بالخلق الظاهر على الخلق الباطن لما بينهما من ارتباط اقتضته حكمة الله كأن يستدل بزرقة العينين على الدهاء والخبث وبسعة الصدر على سعة الخلق والحلم ونحو ذلك وهي أيضا كسابقتها لا يستدل بها على إيمان ولا كفر ولا ولاية ولا عداوة
- الرؤيا.
قال القاضي أبو بكر بن العربي : (الرؤيا إدراكات علقها الله تعالى في قلب العبد على يدي ملك أو شيطان إما بأسمائها أي حقيقتها وإما بكناها أي بعباراتها وإما تخليط ونظيرها في اليقظة الخواطر فإنها قد تأتي على نسق في قصة وقد تأتي مسترسلة غير محصلة وهذا حاصل قول الأستاذ أبي إسحاق )لكل أحد بحسبه) ويدل على ما ذكره ابن القيم من أنواع الرؤيا بقوله صلى الله عليه وسلم: الرؤيا ثلاثة: رؤيا من الله ، ورؤيا تحزين من الشيطان ، ورؤيا مما حدث به الرجل نفسه في اليقظة فيراه في المنام .
والرؤيا هي مبدأ الوحي وقد كان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة ، وأصدق الناس رؤيا أصدقهم حديثا وصدقها عند اقتراب الزمان لا يكاد يخطئ وذلك لبعد الناس عن عصر النبوة وآثار النبوة فيعوض الله المؤمن بالرؤيا الصالحة . وأما في زمان النبوة فلم تكن الحاجة إليها ملحة لاستغناء الناس بنور النبوة عن أي شيء آخر ولذا فهي من نظير الكرامات التي تخرج على أيدي الصالحين من عباد الله فهي في عصر الصحابة أقل من سواه لاستغنائهم بقوة الإيمان واحتياج غيرهم لضعفه عندهم قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه: (رؤيا المؤمن كلام يكلم به الرب عبده في المنام) وقال صلى الله عليه وسلم: لم يبق من النبوة إلا المبشرات قيل وما المبشرات يا رسول الله؟ قال: الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له رواه البخاري
- الالهام
والإِلهام إِما أن يكون من قِبَلِ الله تعالى، أو من قبل ملائكته، يُفْهَم منه أمر أو نهي أو ترغيب أو ترهيب..
أما الذي من قِبل الله تعالى:
فحكى لنا حضرةُ الله تعالى في كتابه عن مريم رضي الله عنها حينما أوتْ إِلى شجرة النخل في أيام الشتاء، فخاطبها بإِلهام ووحي من دون واسطة وقال لها: {وهُزِّي إليكِ بجذْعِ النَّخلة تُساقِطْ عليكِ رُطَباً جَنياً . فكُلِي واشرَبي وقرِّي عيناً} [مريم: 25].
قال الإِمام فخر الدين الرازي رحمه الله تعالى عند تفسير هذه الآية: (إِنَّ ذلك كان على سبيل النفث في الروع والإِلهام والإِلقاء في القلب، كما كان في حق أُم موسى عليه السلام في قوله: {وأوحينَا إلى أُمِّ موسى} [القصص: 7] ["التفسير الكبير" للإِمام فخر الدين الرازي ج2. ص669
أما الإِلهام من قبل الملائكة:
فالمَلَك يحدِّث الإِنسانَ، كما قال صلى الله عليه وسلم: "..وأما لَمَّةُ الملك فإِيعادٌ بالخير وتصديقٌ بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله" [رواه الترمذي في كتاب التفسير، تفسير سورة البقرة عن ابن مسعود رضي الله عنه وقال: حديث حسن غريب. واللمة: الهمة والخطرة تقع في القلب. كما في غريب الحديث].
- الكشف
الكشف الذي يحصل للمرء أنواع ، فمنه النفساني وهو مشترك بين المسلم والكافر ، ومنه الرحماني وهو الذي يكون عن طريق الوحي والشرع ، ومنه الشيطاني وهو ما يحصل عن طريق الجن .
الكشف الجزئي مشترك بين المؤمنين والكفار والأبرار والفجار كالكشف عما في دار إنسان أو عما في يده أو تحت ثيابه أو ما حملت به امرأته بعد انعقاده ذكراً أو أنثى وما غاب عن العيان من أحوال البعد الشاسع ونحو ذلك فإن ذلك يكون من الشيطان تارة ، ومن النفس تارة ، ولذلك يقع من الكفار كالنصارى وعابدي النيران والصلبان
والكشف الرحماني من هذا النوع هو مثل كشف أبي بكر لما قال لعائشة رضي الله عنهما إن امرأته حامل بأنثى ، وكشف عمر رضي الله عنه لما قال يا سارية الجبل – أي إلزم الجبل - وأضعاف هذا من كشف أولياء الرحمن .
" مدارج السالكين " ( 3 / 227 ، 228 ) .
وما حدث مع عمر بن الخطاب رضي الله صحيح ثابت عنه ، فقد قال نافع أن عمر بعث سريَّة فاستعمل عليهم رجلاً يقال له " سارية " ، فبينما عمر يخطب يوم الجمعة ، فقال : " يا ساريةُ الجبلَ ، يا ساريةُ الجبلَ " ، فوجدوا " سارية " قد أغار إلى الجبل في تلك الساعة يوم الجمعة وبينهما مسيرة شهر " .
رواه أحمد في " فضائل الصحابة " ( 1 / 269 )
ولا شك أن تلك الأسرار الروحية، لا تُدرك بمجرد الكلام، فمن لا نصيب له في شيء منها لا يضره أن يكلها إِلى أربابها، وأن يعطي القوس باريها:
فللكثافةِ أقوامٌ لها خُلقوا وللمحبةِ أكبادٌ وأجفان
وأدنى النصيب من هذا العلم التصديق به وتسليمه لأهله، وأقل عقوبة مَنْ ينكره أن لا يُرزق منه شيئاً. وهو علم الصديقين والمقربين (وفي الإِحياء للغزالي بحث مستفيض في الموضوع فليُرجع إِليه)
.