عدد المشاهدات:
نبذ الخلافات بين المسلمين خطبة جمعة لفضيلة الشيخ فوزى محمد ابوزيد
الحمد لله رب العالمين، الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، سبحانه سبحانه خلق الخلق ونَوَّعهم، وقَسَّم الإنس ووزعهم، فجعل هذا أبيض وهذا أسود وهذا أصفر، وهذا عربى وهذا غير عربى، لنعلم علم اليقين أن الأمر فى البدء وفى الميعاد، وفى الأولى وفى الآخرة، يدل على إفراد الله وحده بالقصد، وعلى أنه وحده الفعال لما يريد.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أرسل الرسل مبشرين ومنذرين، وخصَّنا بخاتمهم وهو سيد الأولين والآخرين، وأعطاه الله عزوجل ما لم يُعط أحداً قبله من النبيين، وقال له فى محكم كلامه المبين:
( وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً )[113النساء]
وأشهد أن سيدنا محمداً عَبْدُ الله ورسولُه، ألَّف به الله بين القلوب المتنافرة، فجمع الناس والعرب بعد فُرقة، وأعزَّهم بعد ذلَّة، وجعلهم أخوة متآلفين متكاتفين، وأيَّده ربُّه فقال فى حق المسلمين فى كل وقت وحين، منذ رسالته إلى يوم الدين: ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) [10الحجرات]
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك الحكيم، الذى سمَّيته فى قرآنك الرءوف الرحيم، سيدنا محمد وآله وصحبه، وكل من مشى على هديه، وسار على دربه إلى يوم الدين، وعلينا معهم أجمعين .. آمين .. آمين يارب العالمين.
أيها الأخوة جماعة المؤمنين:
خصَّ الله عزوجل هذه الأُمة بخاتم الأنبياء والمرسلين، وجعله رسولاً للناس كافة منذ زمنه إلى يوم الدين، وجعله نبيًّا رءوفاً ورحيماً، يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وجعل فى شريعته أحكاماً لكل الخلق على اختلاف أزمنتهم وألسنتهم، وبلدانهم وأحوالهم، لأن هذا الدين هو دين الختام، وفيه كل ما يتعلق بكل مصالح الأنام، منذ بعثته إلى يوم الزحام.
فجعل فيه أحكاماً للشباب وأحكاماً للشيوخ، وأحكاماً للنساء وأحكاماً للرجال، وأحكاماً للعرب، وأحكاماً لسكان المناطق الباردة، وأحكاماً لسكان البلدان الحارة، وأحكاماً لأهل زمانه، وأحكاماً لكل أهل زمان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
كل ذلك بيَّنه وفصَّله الحبيب فى زمن بعثته، الذى كان قصير الأمد فى الدنيا، ولكن الله عزوجل منَّ عليه بفضله وجوده وكرمه فأصدر الأحكام التى تتعلق بجميع المكلفين المؤمنين به إلى يوم الدين، فترك ثروة تشريعية فوق طاقة أى فرد من البشر، جمعها الناس من بعده وهم الصحابة والتابعون، وفَصَّصوها ووضحوها وبينوها أبلغ بيان, لكنهم كانوا - كما علَّمهم النَّبِىُّ العدنان - أحرص ما يحرصون عليه أن يكونوا مجتمعين غير متفرقين، متوحدين غير مختلفين، لأننا جميعاً والأولين والمعاصرين والآخرين لا نختلف فى العقيدة، فربُّنا واحد، ونبيُّنا صلى الله عليه وسلم واحد، وكتابنا واحد، والكعبة قبلتنا جميعاً، وفرائض الله عزوجل التى فرضها علينا لا نختلف فى شأنها، فلا يوجد فى جماعات المسلمين من جعل الصلوات ستاً أو أربعاً!! بل الكلُّ يتفق على خمس صلوات وعلى عدد ركعاتها وعلى توقيتاتها، والكلُّ يجتمع على صيام شهر رمضان، والكل يتفق على أنصبة الزكاة، والكل يتفق على حج بيت الله في وقته ومناسكه وكيفيته، لأن ذلك كلَّه وَرَدَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإذا وُجد خلاف - آناً أو أحياناً بين بعض المسلمين - فليس فى أصول هذا الدين، ولا فى عقيدة الإيمان التى يتفق عليها جميع المؤمنين، حتى أن الخلافات لا تصل إلى الفروع، لكنها أمور هامشية ينبغى أن يكون أقوى منها - وأحرص عليها نحن جميعاً - الأُخُوة الإيمانية التى بيننا جماعة المؤمنين.
هذا يرفع يديه فى تكبيرة الإحرام وهذا لايرفع، هذا يبدأ الفاتحة بالبسملة وهذا يبدأها بالحمد لله رب العالمين، هذا يجهر بختام الصلاة وهذا يختمه فى سره، والإثنان يختمان الصلاة.
أمور هامشية لا تستوجب الفُرقة والتشيع بين الأُمة الإسلامية لأن الله حذر من ذلك أبلغ تحذير فقال فى آياته القرآنية: ( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ )[159الأنعام]
هؤلاء خارج الدين وخارج منهج سيد الأولين والآخرين. الصحابة المباركين كانوا يختلفون لكنهم جعلوا شعارهم: (الخلاف لا يُفسد للودِّ قضية)، لا تجريح ولا اعتراض، ولا سب ولا شتم ولا لعن، ولا خروج عن طبيعة الإسلام والإيمان، لأن المسلم قال فيه النبى:
{ لَيْسَ المُؤْمِنُ بالطَّعَّانِ ولاَ اللَّعَّانِ ولا الفَاحِشِ ولا البَذِيِّ }2
والمؤمن يقول فيه صلى الله عليه وسلم: { مَا هُوَ بِمُؤْمِنٍ مَنْ لَمْ يَأْمَنْ جَارُهُ بَوَائِقَهُ }3
كانوا يختلفون ويئتلفون، والخلاف لا يؤدى إلى إعراض هذا عن ذاك، كانوا يخرجون مع نبينا صلى الله عليه وسلم مجاهدين فى الغزو، منهم من يصوم ومنهم من يفطر، لا يعيب الصائم على المفطر ولا يرى أنه بصيامه أفضل عند الله من أخيه المفطر، لأن التقوى محلها القلب، والله وضع قانونها فقال:
( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) [13الحجرات]
قال لهم النبى وهو ذاهب إلى حصار بنى قريظة فى أمر صريح:
{ لا يُصَلِّينَّ أَحدٌ العصرَ إِلاّ في بني قُرَيظةَ. فأَدركَ بعضَهمُ العصرُ في الطريقِ، فقال بعضُهم: لا نُصلِّي حتى نأْتِيَها، وقال بعضُهم: بل نُصلِّي، لم يُرَدْ منا ذلكَ. فذُكِرَ للنبيِّ صلى الله عليه وسلّم فلم يُعَنِّفْ واحداً منهم }4
فَقِهَ قوم من حديث رسول الله أن يبدأوا أولاً بصلاة العصر ثم يتجهوا إلى بنى قريظة، وفهم آخرون أنهم يؤخرون صلاة العصر حتى يذهبون إلى بنى قريظة، لا هؤلاء اعترضوا على هؤلاء ولا هؤلاء سفَّهوا هؤلاء لأن الاثنين معاً صلوا العصر، هؤلاء صلوا العصر فى أول وقته، وهؤلاء صلوا العصر فى آخر وقته، والكل استجاب وذهب حيث ينفذ أمر النبىصلى الله عليه وسلم.
وهكذا كان أمرهم فى كل الخلافات التى تنشأ بينهم، ويرجعون بعد ذلك إلى علمائهم ليحكموا بينهم، وليوفقوا بينهم، المهم أن تكون الأُمة الإسلامية كلها فى نظرهم عاملة بقول الله جلَّ وعلا:
( وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ ) [103آل عمران].
انظروا معى إلى أمر غريب: سنَّ النبى صلى اله عليه وسلم لأصحابه يوم عرفة أن يُصلى الحجيج على عرفة الظهر قصراً ركعتين وبعده مباشرة العصر قصراً ركعتين، وظلَّ المسلمون على هذا العهد سائرون، ثم فطن عثمان بن عفان رضى الله عنه إلى أن الإسلام دخل فيه أناس كثيرون جدد لا يفقهون حقيقة الدين وربما ظنوا أن صلاة الظهر والعصر ركعتين فى يوم عرفة فريضة ومن تركها فقد خالف النبى الأمين، فصلى يوم عرفة الظهر أربع ركعات والعصر أربع ركعات، أى صلاهما كهيئتهما المعتادة بدون قصر، رأى ذلك بعض المنافقين فذهبوا مسرعين إلى عبد الله بن مسعود رضى الله عنه وقالوا له: أرأيت ما فعل عثمان اليوم؟
قال: وماذا فعل؟ قالوا: صلَّى الظهر أربعاً والعصر أربعاً
قال: لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حجة الوداع ركعتين ركعتين، وصليت مع أبى بكر فى خلافته ركعتين ركعتين، وصليت مع عمر فى خلافته ركعتين ركعتين، وصليت مع عثمان فى صدر خلافته ركعتين ركعتين، فتلكأ هؤلاء خارج الخيمة لينظروا ماذا يصنع، فإذا به يقوم ويصلى الظهر أربعاً والعصر أربعاً، فقالوا له: لِمَ صليت الظهر والعصر أربعاً أربعاً؟ قال: الخلاف شر - لأن نبينا شدَّد على عدم الخلاف بين المسلمين.
فتركوه وذهبوا إلى أبى ذر الغفارى رضى الله عنه ونقلوا له نفس الحوار، ورد عليهم بنفس الرد الذى رده عبد الله بن مسعود، فانتظروا خارج الخيمة يرون ما يفعل، فإذا به يقوم ويُصلى الظهرأربعاً والعصر أربعاً، فقالوا له: لِمَ صليت الظهر والعصر أربعاً أربعاً؟ قال: الخلاف أشد، لأن الله عزوجل منع المسلمين عن الخلاف.
لماذا نُسمى أنفسنا بأسماء ونترك الإسم الذى اختاره الله لنا فى خير كتاب وسمانا به إبراهيم الخليل: (سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ ) [78الحج]!!؟
فيُسمى قوم أنفسهم سلفيين والآخرين صوفيين والآخرين أنصار سُنة والآخرون جمعية شرعية. إذا كانت أسماء اصطلاحية فلا بأس بها، لكن ينبغى ألا توجِد خلافاً بين المسلمين، نحن جميعاً على اختلاف الطوائف مسلمين آمنا بالله رباً وبمحمد نبياً وبالقرآن كتاباً ولا نختلف فى أى بند من بنود العقيدة ولا فى أى أصل من أصول الدين، لماذا نثير هذه الخلافات الفرعية الهامشية ونجعلها هى المحك الذى يفصل بين المسلمين؟!! وهذه الجماعة تنتمى إلى الشيخ فلان وهذه الجماعة تنتمى إلى الشيخ فلان!!.
أصحاب النبى قال فيهم رضى الله عنهم أجمعين: { حكماء فقهاء علماء كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء }5.
كان لكل رجل منهم تلاميذ، لعلىّ بن أبى طالب تلاميذ، ولعبد الله بن مسعود مريديه، ولأبى ذر الغفارى المتعلقين به ... وكل رجل من أصحاب رسول الله كان له من يقتدى بهديه ويأخذ بهداه لكنه لا يتعدى على غيره ولا يسب أحداً من الآخرين ولا يدَّعى أنهم جماعة وأنهم أفضل المسلمين وأن غيرهم أقل منهم شأناً عند الله وأقل منهم علماً فى دين الله لأن الله عزوجل جعل المقياس بين المؤمنين أجمعين هو التقى وقال فيه:
( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) [13الحجرات]
ولما سألوا النبى عن التقوى أشار إلى صدره وقال: { التَّقْوَى هَاهُنَا، التَّقْوَى هَاهُنَا، يَقُولُ : أيْ فِي الْقَلْبِ }6
أى لا يعلم التقى إلا مولاه ولا يطلع على ما فى الصدور إلا حضرة الله، والمؤمن ينبغى عليه ألا يُفرق بين المسلمين وإنما نحن جميعاً كما قال الله:
( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) [10الحجرات]
نحن جميعاً إخوان مسلمين لأننا إخوان فى الإيمان ومسلمين للرحمن، ونحن جميعاً سلفيين لأننا نتبع سلفنا الصالح ونمشى على هداهم ونمشى على منهجهم ونعمل بقول الله جل فى علاه:
( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) [16التغابن].
كل واحد يحاول أن يقتدى بهَدْى السلف الصالح على حسب استطاعته، وكلنا صوفيين لأننا ننشد الصفاء فى القلوب والخشوع لحضرة علام الغيوب، إذن لماذا الخلاف؟!! علينا جماعة المؤمنين أن نخرج من ذلك كله ونتمسك بقول الله جل فى علاه:
( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ) [143البقرة]
نتمسك بالوسطية التى اختارها لنا الله والتى صار عليها حبيب الله ومصطفاه والتى كانت هديه فى كل أحواله، فكان يتوسط فى صلاته ويتوسط فى طعامه ويتوسط فى نومه ويتوسط فى ملبسه ويتوسط فى كل أمر من أموره ويقول لنا:
{ عَلَيْكُمْ بِالنَّمَطِ الأَوْسَطِ الَّذِي يَرْجِعُ إِلَيْهِ العَالي وَيَرْتَفِعُ إِلَيْهِ التَّالِي }7
وعندما رأى بعض شباب الإسلام المندفعين وذهبوا إلى بيوت النبى وسألوا زوجاته عن عبادة النبى، وكأنهم تقالوا هذه العبادة، وقالوا: أين نحن من رسول الله وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟!
فقال الأول: أما أنا فأقوم الليل كله أبداً، وقال الثانى: وأما أنا فأصوم الدهر كله أبداً، وقال الثالث: وأما أنا فلا أتزوج النساء، فخرج النبى صلى الله عليه وسلم وهو الرءوف الرحيم الحكيم الذى علَّمه الكريم وقال:
{ أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا وَاللَّهِ إِنِّى لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ،
لَكِنِّى أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّى وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ،
فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِى فَلَيْسَ مِنِّى }8
لأنه يدعوا إلى الوسطية التى جاءت بها هذه الديانة الإسلامية، يدعوا المرء لعمارة الدنيا بشرع الله، وتدعوه لعبادة الله التى جاء بها حبيب الله ومصطفاه، فلا يترك الدنيا سعياً للآخرة ولا يترك الآخرة انهماكاً فى شهوات الدنيا، بل يُعطى للدنيا حقها ويُعطى للآخرة نصيبها:
( وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ) [77القصص]
هكذا علَّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نكون أمة وسطاً فى هذه الحياة، قال صلى الله عليه وسلم:
{ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ
إِذَا اشْتَكَى عُضْوٌ مِنْهُ تَدَاعَى لَه سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى }9.
أو كما قال: { ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة }.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، الذى أكرمنا بهداه، ورزقنا متابعة حبيبه ومصطفاه، وجعلنا من خير أمة أخرجت للناس، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، انفرد بالملك والملكوت والسلطان والعزة والجبروت، له الحكم فى الدنيا وله الحكم فى الآخرة لأنه وحده هو الحى الذى لا يموت، وأشهد ان سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، مؤلف القلوب ومطهرها من العيوب، ومُزَكى النفوس وجاعلها كلها تتجه بالكلية لارضاء الملك القدوس، اللهم صلى وسلم وبارك على سيدنا محمد وارزقنا هداه، ووفقنا لحسن الاقتداء بهديه أجمعين يا الله.
أيها الأُخوة جماعة المؤمنين: علينا فى هذه الأيام العصيبة أن نسعى جهدنا إلى جمع شمل المسلمين، وأن يكون الخطاب بين أى مسلم ومسلم بما أمر رب العالمين:
( وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ ) [24الحج]
وأن يكون الخطاب بيننا وبين سائر الناس الذين لا يؤمنون برب الناس كما قال الله لنا فى القرآن:
( وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً ) [83البقرة]
وأن يكون التعامل فيما بيننا بما علَّم الله به نبينا فقال له ولنا:
( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ) [159آل عمران]
علينا أن نظهر للعالم كله جمال هذا الدين، وجمال هذا الدين ليس فى الشكليات ولكن فى الأخلاق والقيم الباقيات، علينا أن نظهر لهم ما قال النبى لنا:
{ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ
إِذَا اشْتَكَى عُضْوٌ مِنْهُ تَدَاعَى لَه سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى }10
نُظهر المودة بين المسلمين والتراحم بين الأغنياء والفقراء والمساكين، وصلة الأرحام والمودة بين جموع المؤمنين، احترام الصغير للكبير، وعطف الكبير على الصغير، وغيرها من الاخلاق الإلهية الإسلامية التى كان عليها سلفنا الصالح رضى الله عنهم أجمعين، فإذا تجملنا بهذه الصفات فإن جمال الإسلام سيدعوا إليه كل من على هذه البسيطة ولن يبقى على ظهر الأرض رجل إلا ويدخل فى دين الله الحق، لأنهم يريدون أن يرون أخلاق الإسلام وقيم الإسلام بين المسلمين، لكنهم عندما يرون جموع المسلمين إن كانوا علماء أو أتباع العلماء والعصبية التى بينهم والشراسة فى طبعهم والحدة فى كلامهم والغلظة فى أفعالهم وتجاوز الحد فى تسفيه بعضهم وسب بعضهم وشتم بعضهم!!! كيف ينظر العالم الآن إلى الإسلام والمسلمين؟!!
ونحن نمثل الإسلام وينظرون للإسلام من خلال حركاتنا وأفعالنا وسكناتنا، إننا نُظهر لهم صورة قبيحة لهذا الدين جعلت كما ترون العالم كله يقول إن الإسلام دين الإرهاب، لأنهم لا يرون إلا الفزاعة وإلا الشدة وإلا استخدام القوة فى اجبار الناس على آراء الإسلام مع أن الله قال فى القرآن:
( لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ) [256البقرة]
لا إكراه لإنسان على الدخول فى دين الله، دخل سلفنا الصالح إلى هذا البلد الآمن المطمئن، لو أكرهوا أهله على الدخول فى الإسلام ما وُجد فى بلدنا واحد يدين بغير الإسلام، لكنهم علموا علم اليقين أن الدين لله وأن الله عزوجل هو الهادى لمن يحبه بهداه وأن الهُدى هُدى الله، فدعوا الخلق بأخلاقهم وأعمالهم وأحوالهم وتركوا لهم حرية الإختيار:
( فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ ) [29الكهف].
أما إذا حدث خلاف بينهم فى أمر من أمور الدين، ما دام الأمر وارد عن رسول الله والكل يأخذ من سُنة حبيب الله ومصطفاه لِمَ الخلاف بيننا؟!!
أخذتَ جانباً وأخذتُ أنا جانب آخر، العلماء أصحاب المذاهب كانوا مختلفين فى هذه الهوامش لأن كل واحد منهم أخذ ما ارتضاه من الذى ورد إليه من رسول الله، ولكننا لم نسمع أنه حدث بينهم خلاف أو حدث بينهم صدام أو حدث بينهم مشاحنات، ولكنهم كانوا يُعظمون بعضهم ويُقدمون بعضهم لأنهم علموا أن ذلك كله من دين الله عزوجل.
الإمام الشافعى رضى الله عنه صاحب المذهب كان عنده القنوت أى الدعاء فى صلاة الصبح بعد القيام من الركوع، والإمام أبو حنيفة عنده القنوت فى صلاة الوتر فى الركعة الثالثة، ذهب الإمام الشافعى ليصلى الفجر فى مسجد أبى حنيفة بعد موته فترك القنوت فى صلاة الصبح، فقالوا له: لِمَ تترك القنوت مع أنه واجب فى مذهبك؟! قال: (تأدباً مع صاحب المذهب فى مسجده)!!
هكذا كان أدبهم مع العلماء، لم يكن بينهم لا سباب ولا شتم ولا لعن ولا عصبية لأنها كلها واردة عن خير البرية r، مادام الرأى الذى تهواه أنت له أصل فى السُنة والرأى الذى أهواه أنا له أصل فى السُنة لِمَ العصبية؟!
ولماذا يعتقد الإنسان أن رأيه هو الأفضل وهو صاحب المزية؟!
هذه هى سر الخلافات التى تحدث بيننا فى هذه القضايا، ما دام ليس بيننا خلافات فى الأصول، ولا فى العقيدة، علينا أن نتحفظ على كل الخلافات فى الفروع والهوامش حتى نُبقى على وحدة صف المسلمين، وعلى جماعة المؤمنين، ولا نسمح لأى مُغرض يُعكر صفو الجماعة الإسلامية ويُفرق شملها، ونطرده من بين صفوفنا، حرصاً على جماعة وأُلفة المؤمنين التى ارتضاها لنا الله عزوجل.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
فضيلة الشيخ فوزى محمد ابوزيد
(1) المعادى – خطبة الجمعة 3 من جماد الثانى 1432هـ 6/5/2011م
(2) مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي وصحيح ابن حبان عن عبدالله بن مسعود.
(3) مصنف ابن أبى شيبة عن أنس بن مالك رضى الله عنه.
(4) صحيح البخارى عن ابن عمر رضى الله عنه.
(5) أحاديث الإحياء العراقي – كتاب الصبر.
(6) المسند الجامع عن الحسن رضى الله عنه.
(7) أخرجه أبو عبيد عن علي رضى الله عنه.
(8) صحيح البخارى عن أنس بن مالك.
(9) جامع المسانيد والمراسيل عن النعمان بن بشير.
(10) جامع المسانيد والمراسيل عن النعمان بن بشير.
الحمد لله رب العالمين، الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، سبحانه سبحانه خلق الخلق ونَوَّعهم، وقَسَّم الإنس ووزعهم، فجعل هذا أبيض وهذا أسود وهذا أصفر، وهذا عربى وهذا غير عربى، لنعلم علم اليقين أن الأمر فى البدء وفى الميعاد، وفى الأولى وفى الآخرة، يدل على إفراد الله وحده بالقصد، وعلى أنه وحده الفعال لما يريد.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أرسل الرسل مبشرين ومنذرين، وخصَّنا بخاتمهم وهو سيد الأولين والآخرين، وأعطاه الله عزوجل ما لم يُعط أحداً قبله من النبيين، وقال له فى محكم كلامه المبين:
( وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً )[113النساء]
وأشهد أن سيدنا محمداً عَبْدُ الله ورسولُه، ألَّف به الله بين القلوب المتنافرة، فجمع الناس والعرب بعد فُرقة، وأعزَّهم بعد ذلَّة، وجعلهم أخوة متآلفين متكاتفين، وأيَّده ربُّه فقال فى حق المسلمين فى كل وقت وحين، منذ رسالته إلى يوم الدين: ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) [10الحجرات]
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك الحكيم، الذى سمَّيته فى قرآنك الرءوف الرحيم، سيدنا محمد وآله وصحبه، وكل من مشى على هديه، وسار على دربه إلى يوم الدين، وعلينا معهم أجمعين .. آمين .. آمين يارب العالمين.
أيها الأخوة جماعة المؤمنين:
خصَّ الله عزوجل هذه الأُمة بخاتم الأنبياء والمرسلين، وجعله رسولاً للناس كافة منذ زمنه إلى يوم الدين، وجعله نبيًّا رءوفاً ورحيماً، يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وجعل فى شريعته أحكاماً لكل الخلق على اختلاف أزمنتهم وألسنتهم، وبلدانهم وأحوالهم، لأن هذا الدين هو دين الختام، وفيه كل ما يتعلق بكل مصالح الأنام، منذ بعثته إلى يوم الزحام.
فجعل فيه أحكاماً للشباب وأحكاماً للشيوخ، وأحكاماً للنساء وأحكاماً للرجال، وأحكاماً للعرب، وأحكاماً لسكان المناطق الباردة، وأحكاماً لسكان البلدان الحارة، وأحكاماً لأهل زمانه، وأحكاماً لكل أهل زمان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
كل ذلك بيَّنه وفصَّله الحبيب فى زمن بعثته، الذى كان قصير الأمد فى الدنيا، ولكن الله عزوجل منَّ عليه بفضله وجوده وكرمه فأصدر الأحكام التى تتعلق بجميع المكلفين المؤمنين به إلى يوم الدين، فترك ثروة تشريعية فوق طاقة أى فرد من البشر، جمعها الناس من بعده وهم الصحابة والتابعون، وفَصَّصوها ووضحوها وبينوها أبلغ بيان, لكنهم كانوا - كما علَّمهم النَّبِىُّ العدنان - أحرص ما يحرصون عليه أن يكونوا مجتمعين غير متفرقين، متوحدين غير مختلفين، لأننا جميعاً والأولين والمعاصرين والآخرين لا نختلف فى العقيدة، فربُّنا واحد، ونبيُّنا صلى الله عليه وسلم واحد، وكتابنا واحد، والكعبة قبلتنا جميعاً، وفرائض الله عزوجل التى فرضها علينا لا نختلف فى شأنها، فلا يوجد فى جماعات المسلمين من جعل الصلوات ستاً أو أربعاً!! بل الكلُّ يتفق على خمس صلوات وعلى عدد ركعاتها وعلى توقيتاتها، والكلُّ يجتمع على صيام شهر رمضان، والكل يتفق على أنصبة الزكاة، والكل يتفق على حج بيت الله في وقته ومناسكه وكيفيته، لأن ذلك كلَّه وَرَدَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإذا وُجد خلاف - آناً أو أحياناً بين بعض المسلمين - فليس فى أصول هذا الدين، ولا فى عقيدة الإيمان التى يتفق عليها جميع المؤمنين، حتى أن الخلافات لا تصل إلى الفروع، لكنها أمور هامشية ينبغى أن يكون أقوى منها - وأحرص عليها نحن جميعاً - الأُخُوة الإيمانية التى بيننا جماعة المؤمنين.
هذا يرفع يديه فى تكبيرة الإحرام وهذا لايرفع، هذا يبدأ الفاتحة بالبسملة وهذا يبدأها بالحمد لله رب العالمين، هذا يجهر بختام الصلاة وهذا يختمه فى سره، والإثنان يختمان الصلاة.
أمور هامشية لا تستوجب الفُرقة والتشيع بين الأُمة الإسلامية لأن الله حذر من ذلك أبلغ تحذير فقال فى آياته القرآنية: ( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ )[159الأنعام]
هؤلاء خارج الدين وخارج منهج سيد الأولين والآخرين. الصحابة المباركين كانوا يختلفون لكنهم جعلوا شعارهم: (الخلاف لا يُفسد للودِّ قضية)، لا تجريح ولا اعتراض، ولا سب ولا شتم ولا لعن، ولا خروج عن طبيعة الإسلام والإيمان، لأن المسلم قال فيه النبى:
{ لَيْسَ المُؤْمِنُ بالطَّعَّانِ ولاَ اللَّعَّانِ ولا الفَاحِشِ ولا البَذِيِّ }2
والمؤمن يقول فيه صلى الله عليه وسلم: { مَا هُوَ بِمُؤْمِنٍ مَنْ لَمْ يَأْمَنْ جَارُهُ بَوَائِقَهُ }3
كانوا يختلفون ويئتلفون، والخلاف لا يؤدى إلى إعراض هذا عن ذاك، كانوا يخرجون مع نبينا صلى الله عليه وسلم مجاهدين فى الغزو، منهم من يصوم ومنهم من يفطر، لا يعيب الصائم على المفطر ولا يرى أنه بصيامه أفضل عند الله من أخيه المفطر، لأن التقوى محلها القلب، والله وضع قانونها فقال:
( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) [13الحجرات]
قال لهم النبى وهو ذاهب إلى حصار بنى قريظة فى أمر صريح:
{ لا يُصَلِّينَّ أَحدٌ العصرَ إِلاّ في بني قُرَيظةَ. فأَدركَ بعضَهمُ العصرُ في الطريقِ، فقال بعضُهم: لا نُصلِّي حتى نأْتِيَها، وقال بعضُهم: بل نُصلِّي، لم يُرَدْ منا ذلكَ. فذُكِرَ للنبيِّ صلى الله عليه وسلّم فلم يُعَنِّفْ واحداً منهم }4
فَقِهَ قوم من حديث رسول الله أن يبدأوا أولاً بصلاة العصر ثم يتجهوا إلى بنى قريظة، وفهم آخرون أنهم يؤخرون صلاة العصر حتى يذهبون إلى بنى قريظة، لا هؤلاء اعترضوا على هؤلاء ولا هؤلاء سفَّهوا هؤلاء لأن الاثنين معاً صلوا العصر، هؤلاء صلوا العصر فى أول وقته، وهؤلاء صلوا العصر فى آخر وقته، والكل استجاب وذهب حيث ينفذ أمر النبىصلى الله عليه وسلم.
وهكذا كان أمرهم فى كل الخلافات التى تنشأ بينهم، ويرجعون بعد ذلك إلى علمائهم ليحكموا بينهم، وليوفقوا بينهم، المهم أن تكون الأُمة الإسلامية كلها فى نظرهم عاملة بقول الله جلَّ وعلا:
( وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ ) [103آل عمران].
انظروا معى إلى أمر غريب: سنَّ النبى صلى اله عليه وسلم لأصحابه يوم عرفة أن يُصلى الحجيج على عرفة الظهر قصراً ركعتين وبعده مباشرة العصر قصراً ركعتين، وظلَّ المسلمون على هذا العهد سائرون، ثم فطن عثمان بن عفان رضى الله عنه إلى أن الإسلام دخل فيه أناس كثيرون جدد لا يفقهون حقيقة الدين وربما ظنوا أن صلاة الظهر والعصر ركعتين فى يوم عرفة فريضة ومن تركها فقد خالف النبى الأمين، فصلى يوم عرفة الظهر أربع ركعات والعصر أربع ركعات، أى صلاهما كهيئتهما المعتادة بدون قصر، رأى ذلك بعض المنافقين فذهبوا مسرعين إلى عبد الله بن مسعود رضى الله عنه وقالوا له: أرأيت ما فعل عثمان اليوم؟
قال: وماذا فعل؟ قالوا: صلَّى الظهر أربعاً والعصر أربعاً
قال: لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حجة الوداع ركعتين ركعتين، وصليت مع أبى بكر فى خلافته ركعتين ركعتين، وصليت مع عمر فى خلافته ركعتين ركعتين، وصليت مع عثمان فى صدر خلافته ركعتين ركعتين، فتلكأ هؤلاء خارج الخيمة لينظروا ماذا يصنع، فإذا به يقوم ويصلى الظهر أربعاً والعصر أربعاً، فقالوا له: لِمَ صليت الظهر والعصر أربعاً أربعاً؟ قال: الخلاف شر - لأن نبينا شدَّد على عدم الخلاف بين المسلمين.
فتركوه وذهبوا إلى أبى ذر الغفارى رضى الله عنه ونقلوا له نفس الحوار، ورد عليهم بنفس الرد الذى رده عبد الله بن مسعود، فانتظروا خارج الخيمة يرون ما يفعل، فإذا به يقوم ويُصلى الظهرأربعاً والعصر أربعاً، فقالوا له: لِمَ صليت الظهر والعصر أربعاً أربعاً؟ قال: الخلاف أشد، لأن الله عزوجل منع المسلمين عن الخلاف.
لماذا نُسمى أنفسنا بأسماء ونترك الإسم الذى اختاره الله لنا فى خير كتاب وسمانا به إبراهيم الخليل: (سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ ) [78الحج]!!؟
فيُسمى قوم أنفسهم سلفيين والآخرين صوفيين والآخرين أنصار سُنة والآخرون جمعية شرعية. إذا كانت أسماء اصطلاحية فلا بأس بها، لكن ينبغى ألا توجِد خلافاً بين المسلمين، نحن جميعاً على اختلاف الطوائف مسلمين آمنا بالله رباً وبمحمد نبياً وبالقرآن كتاباً ولا نختلف فى أى بند من بنود العقيدة ولا فى أى أصل من أصول الدين، لماذا نثير هذه الخلافات الفرعية الهامشية ونجعلها هى المحك الذى يفصل بين المسلمين؟!! وهذه الجماعة تنتمى إلى الشيخ فلان وهذه الجماعة تنتمى إلى الشيخ فلان!!.
أصحاب النبى قال فيهم رضى الله عنهم أجمعين: { حكماء فقهاء علماء كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء }5.
كان لكل رجل منهم تلاميذ، لعلىّ بن أبى طالب تلاميذ، ولعبد الله بن مسعود مريديه، ولأبى ذر الغفارى المتعلقين به ... وكل رجل من أصحاب رسول الله كان له من يقتدى بهديه ويأخذ بهداه لكنه لا يتعدى على غيره ولا يسب أحداً من الآخرين ولا يدَّعى أنهم جماعة وأنهم أفضل المسلمين وأن غيرهم أقل منهم شأناً عند الله وأقل منهم علماً فى دين الله لأن الله عزوجل جعل المقياس بين المؤمنين أجمعين هو التقى وقال فيه:
( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) [13الحجرات]
ولما سألوا النبى عن التقوى أشار إلى صدره وقال: { التَّقْوَى هَاهُنَا، التَّقْوَى هَاهُنَا، يَقُولُ : أيْ فِي الْقَلْبِ }6
أى لا يعلم التقى إلا مولاه ولا يطلع على ما فى الصدور إلا حضرة الله، والمؤمن ينبغى عليه ألا يُفرق بين المسلمين وإنما نحن جميعاً كما قال الله:
( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) [10الحجرات]
نحن جميعاً إخوان مسلمين لأننا إخوان فى الإيمان ومسلمين للرحمن، ونحن جميعاً سلفيين لأننا نتبع سلفنا الصالح ونمشى على هداهم ونمشى على منهجهم ونعمل بقول الله جل فى علاه:
( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) [16التغابن].
كل واحد يحاول أن يقتدى بهَدْى السلف الصالح على حسب استطاعته، وكلنا صوفيين لأننا ننشد الصفاء فى القلوب والخشوع لحضرة علام الغيوب، إذن لماذا الخلاف؟!! علينا جماعة المؤمنين أن نخرج من ذلك كله ونتمسك بقول الله جل فى علاه:
( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ) [143البقرة]
نتمسك بالوسطية التى اختارها لنا الله والتى صار عليها حبيب الله ومصطفاه والتى كانت هديه فى كل أحواله، فكان يتوسط فى صلاته ويتوسط فى طعامه ويتوسط فى نومه ويتوسط فى ملبسه ويتوسط فى كل أمر من أموره ويقول لنا:
{ عَلَيْكُمْ بِالنَّمَطِ الأَوْسَطِ الَّذِي يَرْجِعُ إِلَيْهِ العَالي وَيَرْتَفِعُ إِلَيْهِ التَّالِي }7
وعندما رأى بعض شباب الإسلام المندفعين وذهبوا إلى بيوت النبى وسألوا زوجاته عن عبادة النبى، وكأنهم تقالوا هذه العبادة، وقالوا: أين نحن من رسول الله وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟!
فقال الأول: أما أنا فأقوم الليل كله أبداً، وقال الثانى: وأما أنا فأصوم الدهر كله أبداً، وقال الثالث: وأما أنا فلا أتزوج النساء، فخرج النبى صلى الله عليه وسلم وهو الرءوف الرحيم الحكيم الذى علَّمه الكريم وقال:
{ أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا وَاللَّهِ إِنِّى لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ،
لَكِنِّى أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّى وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ،
فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِى فَلَيْسَ مِنِّى }8
لأنه يدعوا إلى الوسطية التى جاءت بها هذه الديانة الإسلامية، يدعوا المرء لعمارة الدنيا بشرع الله، وتدعوه لعبادة الله التى جاء بها حبيب الله ومصطفاه، فلا يترك الدنيا سعياً للآخرة ولا يترك الآخرة انهماكاً فى شهوات الدنيا، بل يُعطى للدنيا حقها ويُعطى للآخرة نصيبها:
( وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ) [77القصص]
هكذا علَّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نكون أمة وسطاً فى هذه الحياة، قال صلى الله عليه وسلم:
{ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ
إِذَا اشْتَكَى عُضْوٌ مِنْهُ تَدَاعَى لَه سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى }9.
أو كما قال: { ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة }.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، الذى أكرمنا بهداه، ورزقنا متابعة حبيبه ومصطفاه، وجعلنا من خير أمة أخرجت للناس، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، انفرد بالملك والملكوت والسلطان والعزة والجبروت، له الحكم فى الدنيا وله الحكم فى الآخرة لأنه وحده هو الحى الذى لا يموت، وأشهد ان سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، مؤلف القلوب ومطهرها من العيوب، ومُزَكى النفوس وجاعلها كلها تتجه بالكلية لارضاء الملك القدوس، اللهم صلى وسلم وبارك على سيدنا محمد وارزقنا هداه، ووفقنا لحسن الاقتداء بهديه أجمعين يا الله.
أيها الأُخوة جماعة المؤمنين: علينا فى هذه الأيام العصيبة أن نسعى جهدنا إلى جمع شمل المسلمين، وأن يكون الخطاب بين أى مسلم ومسلم بما أمر رب العالمين:
( وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ ) [24الحج]
وأن يكون الخطاب بيننا وبين سائر الناس الذين لا يؤمنون برب الناس كما قال الله لنا فى القرآن:
( وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً ) [83البقرة]
وأن يكون التعامل فيما بيننا بما علَّم الله به نبينا فقال له ولنا:
( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ) [159آل عمران]
علينا أن نظهر للعالم كله جمال هذا الدين، وجمال هذا الدين ليس فى الشكليات ولكن فى الأخلاق والقيم الباقيات، علينا أن نظهر لهم ما قال النبى لنا:
{ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ
إِذَا اشْتَكَى عُضْوٌ مِنْهُ تَدَاعَى لَه سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى }10
نُظهر المودة بين المسلمين والتراحم بين الأغنياء والفقراء والمساكين، وصلة الأرحام والمودة بين جموع المؤمنين، احترام الصغير للكبير، وعطف الكبير على الصغير، وغيرها من الاخلاق الإلهية الإسلامية التى كان عليها سلفنا الصالح رضى الله عنهم أجمعين، فإذا تجملنا بهذه الصفات فإن جمال الإسلام سيدعوا إليه كل من على هذه البسيطة ولن يبقى على ظهر الأرض رجل إلا ويدخل فى دين الله الحق، لأنهم يريدون أن يرون أخلاق الإسلام وقيم الإسلام بين المسلمين، لكنهم عندما يرون جموع المسلمين إن كانوا علماء أو أتباع العلماء والعصبية التى بينهم والشراسة فى طبعهم والحدة فى كلامهم والغلظة فى أفعالهم وتجاوز الحد فى تسفيه بعضهم وسب بعضهم وشتم بعضهم!!! كيف ينظر العالم الآن إلى الإسلام والمسلمين؟!!
ونحن نمثل الإسلام وينظرون للإسلام من خلال حركاتنا وأفعالنا وسكناتنا، إننا نُظهر لهم صورة قبيحة لهذا الدين جعلت كما ترون العالم كله يقول إن الإسلام دين الإرهاب، لأنهم لا يرون إلا الفزاعة وإلا الشدة وإلا استخدام القوة فى اجبار الناس على آراء الإسلام مع أن الله قال فى القرآن:
( لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ) [256البقرة]
لا إكراه لإنسان على الدخول فى دين الله، دخل سلفنا الصالح إلى هذا البلد الآمن المطمئن، لو أكرهوا أهله على الدخول فى الإسلام ما وُجد فى بلدنا واحد يدين بغير الإسلام، لكنهم علموا علم اليقين أن الدين لله وأن الله عزوجل هو الهادى لمن يحبه بهداه وأن الهُدى هُدى الله، فدعوا الخلق بأخلاقهم وأعمالهم وأحوالهم وتركوا لهم حرية الإختيار:
( فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ ) [29الكهف].
أما إذا حدث خلاف بينهم فى أمر من أمور الدين، ما دام الأمر وارد عن رسول الله والكل يأخذ من سُنة حبيب الله ومصطفاه لِمَ الخلاف بيننا؟!!
أخذتَ جانباً وأخذتُ أنا جانب آخر، العلماء أصحاب المذاهب كانوا مختلفين فى هذه الهوامش لأن كل واحد منهم أخذ ما ارتضاه من الذى ورد إليه من رسول الله، ولكننا لم نسمع أنه حدث بينهم خلاف أو حدث بينهم صدام أو حدث بينهم مشاحنات، ولكنهم كانوا يُعظمون بعضهم ويُقدمون بعضهم لأنهم علموا أن ذلك كله من دين الله عزوجل.
الإمام الشافعى رضى الله عنه صاحب المذهب كان عنده القنوت أى الدعاء فى صلاة الصبح بعد القيام من الركوع، والإمام أبو حنيفة عنده القنوت فى صلاة الوتر فى الركعة الثالثة، ذهب الإمام الشافعى ليصلى الفجر فى مسجد أبى حنيفة بعد موته فترك القنوت فى صلاة الصبح، فقالوا له: لِمَ تترك القنوت مع أنه واجب فى مذهبك؟! قال: (تأدباً مع صاحب المذهب فى مسجده)!!
هكذا كان أدبهم مع العلماء، لم يكن بينهم لا سباب ولا شتم ولا لعن ولا عصبية لأنها كلها واردة عن خير البرية r، مادام الرأى الذى تهواه أنت له أصل فى السُنة والرأى الذى أهواه أنا له أصل فى السُنة لِمَ العصبية؟!
ولماذا يعتقد الإنسان أن رأيه هو الأفضل وهو صاحب المزية؟!
هذه هى سر الخلافات التى تحدث بيننا فى هذه القضايا، ما دام ليس بيننا خلافات فى الأصول، ولا فى العقيدة، علينا أن نتحفظ على كل الخلافات فى الفروع والهوامش حتى نُبقى على وحدة صف المسلمين، وعلى جماعة المؤمنين، ولا نسمح لأى مُغرض يُعكر صفو الجماعة الإسلامية ويُفرق شملها، ونطرده من بين صفوفنا، حرصاً على جماعة وأُلفة المؤمنين التى ارتضاها لنا الله عزوجل.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
فضيلة الشيخ فوزى محمد ابوزيد
(1) المعادى – خطبة الجمعة 3 من جماد الثانى 1432هـ 6/5/2011م
(2) مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي وصحيح ابن حبان عن عبدالله بن مسعود.
(3) مصنف ابن أبى شيبة عن أنس بن مالك رضى الله عنه.
(4) صحيح البخارى عن ابن عمر رضى الله عنه.
(5) أحاديث الإحياء العراقي – كتاب الصبر.
(6) المسند الجامع عن الحسن رضى الله عنه.
(7) أخرجه أبو عبيد عن علي رضى الله عنه.
(8) صحيح البخارى عن أنس بن مالك.
(9) جامع المسانيد والمراسيل عن النعمان بن بشير.
(10) جامع المسانيد والمراسيل عن النعمان بن بشير.